كتاب:الحيوان مجلد 6. -أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
ولا يستطيع أعقلُ الناس أن يعملَ عمل أجرإ النَّاس كما لا يستطيع أجرأُ النَّاس أن يعملَ أعمالَ أعقلِ الناس فبأَعمال المجانينِ والعُقلاءِ عرَفنا مقدارهما من صحّة أذهانهما وفسادها وباختلاف أعمالِ الأطفالِ والكهول عرفْنا مقدارَهما في الضعْف والقوَّة وفي الجهل والمعرفة وبمثل ذلك فَصَلنا بين الجماد والحيوان والعالِمِ وأعلمَ منه والجاهلِ وأجْهلَ منهُ ولو كان عند السِّباعِ والبهائم ما عند الحكماء والأدباء والوزَراء والخَلفاء والأمَمِ والأنبياء لأثمرت تلك العقول باضطرارٍ إثمارَ تلك العقول وهذا بابٌ لا يخطئ فيهِ إلاَّ المانِيَّةُ وأصحابُ الجهالات فقط فأَمَّا عوامُّ
الأمم فضلاً عن خواصهم فهم يعلمون مِن ذلك مثلَ ما نعلم وإنما يُتفاضَل بالبيان والحِفظ وبنسق المحفوظ فأَمَّا المعرفة فنحن فيها سواء ولم نعرف العقلَ وعدَمه ونقصانه وإفادته وأقدارَ معارفِ الحيوان إلاَّ بِمَا يظهر منها وبتلك الأدلَّة عرفنا فرقَ ما بين الحيِّ والميت وبين الجماد والحيوان فإن قال الخصم : ما نعرف كلامَ الذِّئب ولا معرفة الغُراب ولا علمَ الهدهد قلنا : نحن ناسٌ نؤمن بأَنَّ عيسى عليه السلام خُلِق من غير ذكرٍ وإنَّما خُلق من أُنثى وأنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ خُلقا من غير ذكرٍ وأنثى وأنَّ عيسى تكلَّم في المهد وأنَّ يحيى بن زكريَّا نطق بالحكمةِ في الصِّبا وأنَّ عقيماً ألقَحَ وأنَّ عاقراً ولدت وبأَشياءَ كثيرةٍ خرجت خارجيةً من نَسَقِ العادة فالسّبب الذي به عرَفنا أنّه قد كان لذلك الهدهد مقدارٌ من المعرفة دونَ ما توهَّمتم وفوق ما مع الهدهد ومتى سأَلتمونا عن الحجَّة فالسبيل واحدة ونحن نقرُّ بأَنّ مَن دخل الجَنة من المجانين والأطفال يدخلون عقلاَءَ كاملين من غير تجاربَ وتمرينٍ وترتيب فمسأَلتكُمْ عما ألهم الهدهد هي المسأَلة عمَّا ألهم الطفل في الجنة
فإن قال
قائل : فإنّ كانَ ذلك القولَ كلَّه الذي كان من الهدهد إنما كان على الإلهام
والتّسْخير ولم يكن ذلك عن معرفةٍ منه فلم قال : لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً
أَوْ لأَذْبَحَنّهُ قلنا : فإنّه قد يتوعَّد الرَّجُلُ ابنَه وَهو بَعْدُ لم يَجر
عَلَيْهِ الأحكامُ بالضَّرب الوجيعِ إن هو لم يأْتِ السُّوق أو يحفظْ سورَةَ كَذَا
وَكَذَا فلا يعنِّفُهُ أحدٌ على ذلك الوعيد ويكذبُ فيضربه على الكذب ويضرب صبياً
فيضربه لأَنه ضربه وهو في ذلك قد حَسُنَ خطّه وجاد حسابُه وشدَا من النَّحو
والعروض والفرائض شدْواً حسناً ونفع أهلَه وتَعلم أعمالاً وتكَلَّم بكلام و أجاب
في الفتيا بكلامٍ فَوْقَ معاني الهدهد في اللّطافة وَالغموض وَهُوَ في ذلك لم
يكمُل لاحتمال الفرض وَالْوَِلاية وَالعَداوَة فإن قال : فهل يجوز لأحدٍ أن يقول
لابنِه : إنْ أنت لم تأتِ السُّوق ذبحتك وَهُوَ )
جادّ قُلنا : لا يجوز ذلك وَ إنَّمَا جاز ذلك في الهدهد
لأنّ سليمان وَمَنْ هو دونَ سليمان من جميع العالم له أن يذبح الهدهدَ والحمامَ
والدِّيك والعَناق والجدْي والذَّبحُ سبيلٌ من سُبُل مناياهم فلو ذبحهُ سليمانُ لم
يكن في ذلك إلاَّ بقدر التَّقديم والتأْخير وإلاَّ بقدْر صَرفِ ما بين أن يموت حتْفَ
أنفِهِ أو يموتَ بالذَّبح ولَعَلَّ صَرْفَ ما بينهما
لا يكون إلاَّ بمقدار ألم عِشرين دِرَّة ولعلَّ نتْف جناحِه يَفي بذلك الضرب وإذا قلنا ذلك فقد أعطينا ذلك الهدهدَ بعينه حقَّ ما دلَّت عليه الآية ولم نجزْ ذلك في جميع الهداهد ولم نَكُنْ كَمَنْ ينكر قدرة اللّه على أن يُرَكِّبَ عصفوراً من العصافير ضرباً من التراكيب يكون أدهى من قيس بن زهير ولو كان اللّه تعالى قد فعل ذلك بالعصافير لظهرت كذلك دلائل على أنَّا لو تأوَّلنا الذَّبحَ على مثالِ تأويلِ قولنا في ذبْح إبراهيم إسماعيلَ عليهما السلام وَإنما كان ذلك ذبحاً في المعنى لغيره أو على معنى قول
القائل :
أمّا أنا فقد ذبحته وضربت عنقَه ولكن السيف خانني أو على قولهم : المِسْك الذَّبيح أو على
قولهم : فجئت وقدْ ذَبَحَنِي العطش لكان ذلك مجازاً ولو أنَّ صَبيّاً مِن صبياننا
سُئل قبل أن يبلُغَ فرضَ البلوغ بساعة وكان رأى مَلِكة سبإٍ في جميع حالاتها لما
كان بعيداً ولا ممتنعاً أن يقولَ : رأيتُ امرأةً مِلكَةً ورأيتها تسجُد للشَّمس من
دون اللّه ورأيتُها تُطيعُ الشَّيطانَ وتَعصِي الرَّحمن ولا سيما إنْ كانَ من
صِبيان الخلَفاء والوُزراء أو مِنْ صبيان الأعراب والدَّليل على أنَّ ذلك الهدهدَ
كان مسخَّراً وميَسَّراً مَضِيُّه إلى اليمن ورجوعُه من ساعته ولم يكن من الطَّير
القواطعِ فرجع إلى وكره والدَّليل على ذلك أنَّ سليمان عليه السلام لم يقل : نعم
قد رأيت كلَّ ما ذكرتَ وأنت لم تعلم حين مضَيت بطّالاً هارباً من العمل أتُكْدِي
أم تنجح أو ترى أُعجوبةً أو لا تراها ولكنَّهُ توعَّدهُ على ظاهر الرَّأي ونافره
القول ليُظهرَ الآيةَ والأعجوبة
.
طعن الدهرية في ملك سليمان ثمَّ طعَن في مُلك سُليمانَ
ومَلِكةِ سبإ ناسٌ من الدُّهريَّة وقالُوا : زعمتم أنَّ سُليمان سأل ربَّه فقال :
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ منْ بَعْدِي
وأنَّ
اللّه تعالى أعطاه ذلك فملَّكه على الجنِّ فضلاً عن الإنْس وعلَّمه منطِق الطَّير
وسخَّر له الرِّيح فكانت الجِنُّ له خَوَلاً والرِّياحُ له مسخرة ثمَّ زعمتم وهو
إمّا بالشَّام وإمَّا بسَوَادِ العِراق أنَّه لا يعرف باليمن مَلِكَةً هذه صفتُها
وملوكُنا اليومَ دونَ سليمانَ في القدْرة لا يخفى عليهم صاحب الخَزَرِ ولا صاحبُ
الروم ولا صاحبُ الترك ولا صاحبُ النُّوبة وكيف يجهل سليمانُ موضِعَ هذه المِلكة
مع قرْبِ )
دارِها واتِّصَالِ بلادها وليس دونَها بحارٌ ولا أوعارٌ
والطريق نهجٌ للخُفِّ والحافر والقدَم فكيف والجنُّ والإنسُ طوعُ يمينه ولو كان
حين خبَّره الهدهدُ بمكانها أضرَب عنها صفحاً لكان لقائلٍ أن يقول : ما أتاه
الهدهدُ إلاّ بأمرٍ يعرفه فهذا وما أشبهَهُ دليلٌ على فساد أخباركم . قُلنا : إنّ
الدُّنيا إذا خلاّها اللّه وتدبيرَ أهلها ومجاريَ أمورِها وعاداتها كان لعمري كما
تقولون ونحن نزعمُ أنَّ يَعْقوبَ بنَ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ كَانَ أنبَهَ أهْلِ
زمانِه لأنّه نبيٌّ ابنُ نبيٍّ وكان يوسُف وزير مَلِكِ مصر من النَّباهة بِالموضع
الذي لا يُدفَع وله البُرُدُ وإليهِ يرجع جوابُ الأَخبار ثمَّ لم يعرِفْ يَعقوبُ
مكانَ يوسُفَ ولا يوسفُ مكانَ يَعقوبَ عَليهما السلام دهراً من الدُّهور مع النَّباهةِ
والقُدْرةِ واتِّصال الدار وكذلك القولُ في موسى بنِ عمرانَ ومَنْ كَانَ معه في
التِّيه فقد
كانوا أمَّةً من الأمم يتَكَسَّعُونَ أربعين عاماً في مقدارِ فراسخَ يسيرةٍ ولا يهتدون إلى المخرج وما كانت بلادُ التِّيه إلاّ من ملاعبهم ومُنْتَزَهاتهم ولا يعدم مثلُ ذلك العسكرِ الأَدلاّءَ والجَمَّالين والمُكارِينَ والفُيُوجَ والرُّسلَ والتّجار ولكنَّ اللّه صَرَفَ أوهامَهم ورفع ذلك الفَصْلَ مِن صدورهم . وكذلك القول في الشَّياطين الذين يسترِقون السّمْعَ في كلِّ ليلة فَنَقُولُ : إنَّهم لو كان كلما أراد مُريدٌ منهم أن يصعَدَ ذَكَرَ أنَّه قد رُجم صاحبُه وأنَّه كذلك منذ كان لم يصل معه أحدٌ إلى استراقِ السَّمْع كان مُحالاً أن يرومَ ذلك أحَدٌ منهم مع الذِّكر والعِيان .
ومثل ذلك أَنّا قد علمْنا أنّ إبْليسَ لا يزالُ عاصِياً
إلى يومِ البَعث ولو كان إبْليسُ في حال المعْصِيَة ذَاكِراً لإخبارِ اللّه تَعالى
أنَّه لا يزالُ عاصياً وهو يَعلم أنّ خَبرَه صِدقٌ كان محالاً أنْ تدعُوَه نفسُه
إلى الإيمانِ ويطمَعَ في ذلك مع تصديقِهِ بأنّه لا يختار الإيمانَ أَبداً .
ومن المحال أن يجمَع بين وجودِ الاستطاعة وعدم الدَّواعي
وجواز الفعل .
ولو أنّ رجلاً عَلِم يقيناً أنّه لاَ يخرُج من بيتِه
يومَه ذلك كان محالاً أن تدعُوَه نفسه إلى الخروج مع علمه بأنّه لا يفعل ولكِن إ
بْليس لما كانَ مصروفَ القَلبِ عن ذِكْر ذلك الخبر دخل في حَدِّ المستطيعين ومثل
ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا بشره اللّه بالظّفرِ وتمام الأمر بشرّ
أصحابَه بالنَّصر ونزولِ الملائكة ولو كانوا لذلك ذاكرين في كلّ حالٍ لم يكن عليهم
مِنَ المحاربة مؤونة وإذا لم يتكلفوا المؤونة لم يؤجَروا ولكِنّ اللّه تَعالى
بنظره إليهم رَفَع ذلك في كثيرٍ من الحالات
عن
أوهامهم ليحتملوا مشقَّة القِتال وهم لا يعلمون : أيغلِبُون أم يُغْلَبون أو
يَقْتُلُونَ أم يُقتلون ومثل ذلك ما رفع من أوهام العَرب وصرف نفوسهم عن
المعارَضَةِ للقرآن بَعْدَ أنْ تحدَّاهم الرَّسولُ )
بنظْمه ولذلك لم نَجِدْ أحَداً طمِع فيه ولو طمِعَ فيه
لتَكلفه ولوتكلف بَعضهُمْ ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شُبهة لعظمت القصَّة على
الأعْراب وأشباه الأعراب والنِّساءِ وأشباه النساء ولأَلقَى ذلك للمسلمين عملاً
ولطَلبوا المحاكمةَ والتراضي ببعض العرب ولكثُر القيلُ والقال فقد رأيتَ أصحابَ
مُسيْلمَة وأصحاب ابن النواحة إنما تَعَلّقُوا بما ألَّف لهُمْ مُسَيلمة من ذلك
الكلام الذي يَعلمُ كلُّ مَن سَمِعه أنَّه إنَّما عَدا على القرآن فسلَبه وأخَذَ
بَعضَه وتَعاطى أن يُقَارِنَه فكان للّه ذلك التَّدبيرُ الذي لا يبلغه العِبَادُ
ولو اجتَمَعوا له فإنْ كان الدُّهريُّ يريدُ من أصحَابِ العِبَادَاتِ والرُّسُلِ
ما يريد من
الدُّهريِّ الصِّرفِ الذي لا يُقِرُّ إلا بما أوجَدَه العِيان وما يَجري مَجرَى العِيان فَقَدْ ظَلَمَ . وقَد علم الدُّهريُّ أنّنا نعتقِد أنّ لنا رَبّاً يخترع الأجسامَ اختراعاً وأنّهُ حَيٌّ لا بحياة وعالمٌ لا بعلم وأنّه شيءٌ لا ينقسم وليس بذِي طُول ولا عرْض ولا عُمق وأنّ الأنبياء تحيي الموتى وهذا كلُّه عنْدَ الدهريِّ مستنكَر وإنَما كان يكون له عَلَيْنَا سبيل لو لم يكن الذي ذكرنا جائِزاً في القِياس واحتجْنا إلَى تثبيت الرُّبوبيَّةِ وتصديقِ الرِّسالة فإذا كان ذلك جائِزاً وكانَ كونُه غيرَ مستنكَرٍ ولا محالٍ ولا ظُلم ولا عيبٍ فلم يبقَ له إلاّ أنْ يسألَنَا عن الأصْلِ الذي دعا إلى التَّوحِيدِ وإلَى تثبيت الرسل وفي كتابِنا المنزّل الذي يدلُّنا على أنّه صِدْقٌ نَظْمُه البدِيع الذي لايقدِر على مثله العباد مَعَ ما سِوَى ذلك من الدّلائِلِ التي جَاء بها مَنْ جَاء به وفيه مسطورٌ أنّ سليمانَ بنَ داودَ غبَرَ حِيناً وهو ميّت معتمِداً على عصاه في الموضع الذي لا يُحْجَب عنه إنْسِيٌّ ولا جِنِّيٌّ والشَّياطينُ مهُمْ المَكْدُودُ بالعَمَل الشديد وَمِنْهُمْ المحبوسُ والمستعبد وكانوا كما قال
اللّه تعالى : يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجَوَابِي وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ وقال وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأَصْفَادِ وَأَنَّهُ غَبَرَ كذلك حيناً وهو تُجاهَ أعيُنِهم فلا هُمْ عرَفُوا سجيَّةَ وُجوهِ الموتَى ولا هو إذْ كان ميِّتاً سقَط سُقوطَ الموتى وثبتَ قائِماً معتمداً على عصاه وعصاه ثابتةٌ قائمةٌ في يده وهو قابضٌ عليها وليستْ هذه الصِّفَةُ صفَة موتانا وقال : فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ ونحنُ دونَ الشَّياطينِ والجِنِّ في صِدْق الحسِّ ونُفوذِ البصر ولوْ كُنَّا مِن بعضِ الموتى بهذا المكان لما خَفَي علينا أَمرُه وكان أدنى ذلك أنْ نظنَّ ونرتاب ومتى ارتابَ قومٌ وظَنُّوا وماجُوا وتكلموا وشاوروا لَقِنُوا وثُبِّتُوا ولا سيَّما إذا كانوا في العذاب ورأوْا تَبَاشِيرَ الفرَج
ولولا الصَّرْفة التي ) يُلقيها اللّه تعالى على قَلْبِ مَنْ أَحَبَّ ولولا أنّ اللّه يقدِرُ على أنْ يشغَلَ الأوهامَ كيف شاء ويذكِّر بما يشاء ويُنَسِّي ما يشاء لما اجتمع أهلُ داره وقصْره وسُورِه ورَبَضِه وخاصَّتُه ومن يخدُمه من الجنِّ والإنْس والشَّياطين على الإطباق بأنَّه حَيٌّ كذلك كان عندهم فحدث ما حَدَثَ من موته فلمَّا لم يشعُروا به كانوا على ما لم يزالوا عليه فعِلمْنا أنَّ الجنَّ والشّياطينَ كانت تُوهِم الأغبياء والعَوَامَّ والحُشْوَة والسِّفلة أنَّ عندهما شيئاً من عِلْمِ الغيب والشياطين لا تعلم ذلك فأراد اللّه أَنْ يكشِف من أمْرهم للجُهَّال ما كان كَشَفَه للعلماء فبهذا وأشباهه من الأمور نحنُ إلى الإقرار به مضطرون بالحجَج الاضطراريَّة فليس لخصومنا حِيلةٌ إلاَّ أن يواقِفُونَا وينظروا في العلَّة التي اضطرتنا إلى هذا القول فإن كانت صحيحةً فالصَّحيحُ لا يُوجِب إلا الصحيح وإنْ كانت سقيمةً علِمْنا أنَّما أُتِينَا من تأويلنا وأما قوله : لأُعَذِّبَنَّهُ فَإنَّ التعذيبَ يكون بالحبس كما قال اللّه
عزّ وجلّ
: لوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا في الْعَذَابِ المُهِينِ
وإنَّما كانُوا مُخَيَّسِينَ وقد يقول العاشق لمعشوقتِه : يا معذِّبتي وقد عذّبتني
ومن العذَابِ ما يكُونُ طويلاً ومِنْه ما يكونُ قصيرَ الوقْت ولو خَسَفَ اللّه
تَعالى بقومٍ في أقلَّ من عُشْر ساعة لجاز لقائل أن يقول : كان ذلك يومَ أحلَّ
اللّه عذابَه ونِقمَتَه ببلاد كذا وكذا .
قوة الخنزير وشدة احتماله وقال أبو ناصرة : الخنزير
ربَّما قتل الأسد وما أكْثرَ ما يَلْحَقُ بصاحب السَّيفِ والرُّمح فيضربُه
بِنابِهِ فيقطَعُ كلّ ما لِقيه من جسَده : من عظمٍ وعصَبٍ حتى يقتلَه وربَّما
احتال أن ينبَطح على وجهِه على الأرض فلا يغني ذلك عنْه شيئاً : وليس لشيءٍ من
الحيوان كاحتمال بدنِه لِوَقْع السهام ونفوذِها فِيهِ .
بعض طباع الخنزير وهو مع ذلك أرْوَغُ من ثعلب إذا أراده
الفارس وإذا عدا أطمَعَ في نفْسه كلّ شيء وإذا طولب أعيا الخيْلَ العِتاق
والخنزيرُ مع ذلك أنْسَلُ
الخلْق
لأنَّ الخِنزيرةَ تَضَعُ عِشرين خِنَّوْصاً وهو مَع كَثرة إنساله مِنْ أقوَى
الفحُول على السِّفاد ومَعَ القُوّة على السِّفاد هو أطولها مُكْثاً في سفادِه
فهْوَ بذلك أجمَعُ للفُحُولة وإذا كانَ الكلبُ والذِّئبُ موصوفَينِ بشدّة القَلْبِ
لطُول الخَطْم فالخنْزِيرُ أولى بذلك وللفِيل نابٌ عجيب ولكِنَّهُ لقصر عنقه لا
يبلغ النَّابُ مبلغاً وإنَّمَا يستعينُ بخُرطومِهِ وخُرطومُهُ هو أنفه والخَطْمُ
غير الخرطوم .
ما قيل في طيب لحمه وإهالته قال أبو ناصرة : وله طيب
وهُو طِيبُ لحمِه ولحمُ أولاده وإذا أرادُوا وصفَ اختلاط ودَك الكُرْكيِّ في مَرَق
طبيخ قا لُوا كأَنَّ إهالتَه إهالة خنزير لأنَّه لا يسرع إليها الجمود وسرعةُ
جمودِ إهالة
الماعز في
الشِّتاء عيب وللضَّأن في ذلك بعضُ الفضيلة على الماعز ولا يلحق بالخنزير .
قبول عظم الخنزير للالتحام بعظم الانسان صوت الخنزير
وإذا ضُرِب فصاح لم يكن السَّامِعُ يفصِلُ بينَ صَوتِه وبينَ صوت صبيٍّ مضروب .
طيب لحمه وفي إطباقِ جميع الأممِ على شهوةِ أكله
واستطابَةِ لحمِه دليلٌ على أنَّ له في ذلِكَ ما ليس لغيْره . 4
زعم المجوس في المنخنقة ونحوها
والمجوس تزعم أنَّ المُنخنقَة والموقُوذَة والمتردِّية وكلَّ ما اعْتُبط ولم يمت حَتْف أنفِه فهو أطْيب لَحْماً وأحلى لأَنَّ دَمَه فِيهِ والدم حُلوٌ
دَسِم
وإنما عافَه مَن عافَه من طَريق العادة والدِّيانة لا من طريق الاستقذار والزُّهْدِ
الذي يكُونُ فِي أصل الطبيعة .
اختلاف ميل الناس إلى الطعام وقد عافَ قومٌ الجِرِّيَّ
والضِّبابَ على مثل ذلك وشُغِف بِهِ آخرون وقد كانت العربُ في الجاهليَّة تأكل دمَ
الفصْد وتفضِّل طَعمه وتُخبر عَمَّا يورثُ من القوَّة قال : وأيُّ شيءٍ أحسَنُ من
الدّم وهل اللَّحمُ إلا دَمٌ استحالَ كما يستحيل اللَّحمُ شحماً ولكنّ الناس إذا
ذَكروا معناه ومن أين يخرج وكيف يخرج كانَ ذلِكَ كاسِراً لهُمْ ومانعاً من شهوتِه .
وكيف حال النَّار في حسنها فإنّه ليس في الأرض جسمٌ لم
يصبغ أحسن منْه ولَوْلاَ معرفتهُمْ بقتْلها وإحْراقِها وإتلافها والألم والحُرْقةِ
المولدين عنها لتضاعف ذلك الحُسْن عِنْدَهُمْ وإنَّهم ليَرَوْنَها
في
الشِّتاءِ بغير العُيونِ التي يرونَها بها في الصَّيف ليس ذلك إلاَّ بقدْر ما
حدَثَ من الاستغناءِ عنها وكذلك جِلاءُ السَّيف فإنَّ الإنسانَ يَستحسِنُ قَدَّ
السَّيفِ وخَرْطَه وَطبْعَهُ وبرِيقَه وإذا ذكر صنيعَه والذي هُيئَ له بَدَا لهُ
في أكثرِ ذلك وتبدَّل في عينه وشَغلَه ذلك عن تأمُّل محاسنه ولولا علْم النَّاس
بعداوة الحيَّاتِ لهم وأنهَها وحشيَّة لا تَأْنَس ولا تقبل أَدَباً ولا تَرْعَى
حقَّ تربِية ثمَّ رأوا شيئاً من هذه الحيَّاتِ البيض المنقّشَةِ الظُّهور لَمَا
بَيَّتُوها ونوّمُوها إلاَّ في المهد مع صِبيانهم .
ردٌّ على من طعن في تحريم الخنزير فيقال لصاحب هذه
المقالة : تحريم الأغذيَةِ إنَّمَا يكونُ من طريق العبادة والمِحْنة وليس أنهَ
جوهَرَ شيء من المأكول يوجِبُ ذلك وإنَّمَا قلنا : إنَّا وجدْنا اللّه تعالى قد
مسَخَ عباداً من عباده في صُوَرَ الخنزير دونَ بقِيَّة الأجْناس فعلمنا أنَّه لم
يَفْعَلْ ذلك إلاَّ لأُمور اجتمعتْ في الخنزِير فكان المسخ على صورته أبلَغ من
التَّنكيل لم نقُلْ إلاّ هذا .
طباع القرد والقرد يَضحَكُ ويَطْرَب ويُقعي ويَحكي
ويتناولُ الطَّعامَ بيديه ويضعُه في فيه ولَهُ أصابعُ وأظفار ويَنقي الجوز ويأنس
الأُنْسَ الشَّديد وَيَلْقَنُ بالتَّلقين الكثير وإذا سقَط في الماء غرِق ولم
يسبَحْ كالإنسانِ قبلَ أنْ يتعلَّمَ السِّباحة فلم تجد النَّاسُ للذي اعترى
القِرْدَ من ذلك دونَ جميعِ الحيوان عِلّةً إلاَّ هذه المعاني التي ذكرتها من
مناسَبة الإنسانِ مِنْ قِبَلِها ويُحكى عنه من شدَّة الزَّواج والغَيرةِ على
الأزواج ما لا يحكى مثلُه إلاَّ عن الإنسان لأنَّ الخنزيرَ يَغَارُ وكذلك الجملُ
والفرَسُ إلاّ أنهَا لا تزاوج والحِمارُ يَغارُ ويحمي عانَتَهُ الدَّهر كُلَّهُ
ويضرِبُ فيها كضربه لو أصابَ أَتَاناً من غيرها وأجناس الحمام تزاوج ولا تَغار
واجتمَع في القرد الزَّواج والغَيرة وهما خَصلتانِ كريمتان واجتماعُهما من مفاخرِ
الإنسان على سائِر الحيوان ونحن لم نَرَ وجْهَ شيءٍ غيرِ الإنسان أشبَهَ صورةً
وشبهاً على ما فيه من الاختلاف ولا أشبَهَ فماً ووجْهاً بالإنسان من القِرْد
ورُبّما رأيْنا وجهَ بَعْضِ الحمر إذا كان ذا خطْمٍ فلا نَجِدُ بَيْنَهُ وبين
القِرْدِ إلاَّ اليسيرَ .
أمثال في القرد وتقول الناس : أكْيسُ من قِشَّة وأمْلَحُ
مِنْ رُبَّاحٍ ولم يقل أحد : أكيس من خِنزير وأملَحُ من خِنّوص وهو قول العامّة :
القرد قبِيحٌ ولكنّه مليح .
وقال النَّاس في الضبِّ : إنه مِسخٌ وقالوا : انْظُر إلى
كفِّه وأصابعه فكَفّ القرد وأصابعُه أَشْبَهُ وأصنَعُ فقدَّمَتِ القردَ على
الخنزير من هذا الوجه .
علة تحريم لحم الخنزير وأمّا القولُ في لحمه فإنَّا لم
نزعمْ أنّ الخنزيرَ هو ذلك الإنسانُ الذي مُسخ ولا هو من نَسله ولم نَدعْ لَحمهُ
من جهة الاستقذارِ لشَهْوته في العَذِرة ونحن نجد الشّبُّوط والجِرّيَّ والدّجاج
والجَرادَ يشاركْنُه في ذلك ولكن للخصال التي عدّدنا من أسباب العبادات وكيف صار
أحقَّ بأنْ تمسخ الأعداءُ على صورته في خلقتِه .
حديث عبيد الكلابي قال : وقلت مَرّةً لعبيد الكلابيِّ
وأظهَرَ مِن حُبِّ الإبل والشّغَفِ بها ما دَعاني إلى أن قلت لَهُ : أبينها وبينكم
قرابة قال : نعم لها فينا خُؤولة إنِّي واللّه ما أعني البَخاتيَّ ولكني أعني العِرَاب
التي هي أعرب قلت لَهُ : مَسَخَك اللّه تعالى بعيراً قال : اللّه لا يمسخُ
الإنسَانَ على صُورةِ كريمٍ وإنما يمسخه على صورةِ لئيم مثل الخنزير ثم القرد فهذا
قولُ أعرابيٍّ جِلْفٍ تكَلم على فِطرتِه .
قول في آية وقد تكلم المخالِفُون في قولِهِ تعالى :
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً
وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأتِيهِمْ كَذلكَ نَبلُوهُمْ بِمَا كانُوا
يَفْسُقُونَ وقد طعَنَ ناسٌ في تأويل هذه الآيَةِ بغِيرِ علمٍ ولا بيانٍ فقالوا :
وكيف يكون ذلك وليس بين أن تجيء في كلِّ هلال فرقٌ ولا بينها إذا جاءت في رأس
الهلال فرقٌ ولا بينَها إذا جاءتْ في رأس السَّنَةِ فرق .
هجرة السمك وهذا بحرُ البَصرةِ والأُبلّة يأتيهم ثلاثةَ
أشهرٍ معلومة معروفة من السنة السَّمكُ الأسْبور فيعرفون وقتَ مجيئهِ وينتَظِرُونه
ويَعرِفون وقتَ انقِطاعِه ومجيءِ غيره فلاَ يمكث بهم الحالُ إلاَّ قليلاً حتَّى
يُقْبِلَ السَّمكُ من ذلك البحر في ذلِكَ الأوان فَلاَ يَزَالونَ في صَيْدٍ
ثَلاَثَةَ أشهرٍ معلومةٍ من السَّنَةِ
)
وذلِكَ في كلِّ سنةٍ مرَّتين لكل جنس ومعلومٌ عندهم أنه
يكون في أحد الزمانين أسمَنَ وهو الجُواف ثمَّ يأتيهم الأسْبور على حساب مجيء
الأسبور والجُوَافِ فأمّا الأَسْبور فهو يقطع إليهم من بلادِ الزِّنج وذلِكَ
مَعْرُوفٌ عند البحْريِّينَ وأنَّ الأَسْبور في الوقت الذي يقطَع إلى دِجلةِ
البصرة لا يوجَد في الزِّنج وفي الوقت الذي يُوجَدُ في الزنج لا يوجد في دِجلة
وربَّما اصطادُوا منها شيئاً في الطريق في وقت قطعِهَا المَعْرُوفِ وفي وقت رجوعها
ومَع ذلِكَ أصنافٌ من
السمك كالإرْبيان والرَّقّ والكَوْسَج والبرد والبَرَستُوج وكلُّ ذلك معْرُوف الزَّمانِ متوقعُ المخرَج وفي السَّمكِ أوابدُ وقواطع وفيها سيّارةٌ لا تقيم وذلك الشبَهُ يُصابُ ولذلك صارُوا يتكلمُونَ بخَمْسةِ السنة يهذُّونها سوى ما تَعَلَّقُوا به من غيرها ثمَّ القواطع من الطير قد تأتينا إلى العِراق منهم في ذلك الإبَّان جماعاتُ كثيرةٌ تَقْطَعُ إلينا ثمَّ تَعُودُ في وقتها .
رد على المعترض قُلْنا لهؤلاء القَوْم : لَقَدْ أَصبتم في
بَعض ما وصفتم وأخْطأْتم في بَعضٍ قال اللّه تعالى : إذْ تَأتِيهمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ
سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأتِيهمْ ويومُ السبتِ يدورُ
مَعَ الأسابيعِ والأَسابيعُ تدور مع شهورِ الْقَمَرِ وهذا لا يكونُ مَعَ استواءٍ
من الزمان وقد يكون السبتُ في الشتاء والصَّيف والخريف وفيما بين ذلك ولَيْسَ هذا
من باب أزمان قواطع السَّمكِ وهَيْجِ الحَيَوان وطلب السِّفاد وأزمان الفلاحَةِ
وأوقاتِ الجزْر والمَدِّ وفي سبيل الأَنواء والشجر كيْفَ يَنْفُضُ الوَرَق والثمار
والحيّاتِ كَيف تَسلُخُ والأيائِلُ كَيف تُلقي قُرونَها والطيرِ كيف تَنطق ومتى
تسكت ولو قال لَنَا قائل : إني نَبِيٌّ وقُلْنَا لَهُ : وما آيتك وعلامتك فقال :
إذا كان في آخر تَشرين َالآخِرِ أقبل إليكم الأسْبُور من جهة البحر ضَحكُوا منه
وسخِروا بِه ولو قال : إذَا كانَ يَوْمُ الجمعَة أو يومُ الأحَد أقبل إلَيكم
الأسْبُور حَتَّى لا يزالُ يصنع ذلك في كلِّ
جمعة
علِمْنا اضطراراً إذَا عايَنَّا الذي ذَكَرَ على نَسَقه أنّه صادق وأنَّه لم يعلمْ
ذلك إلاّ من قِبَلِ خالِق ذلك تعالى اللّه عن ذلك وقد أقرَرْنا بعجيبِ ما نرى من
مطالع النُّجوم ومن تناهي المدِّ والجزْر على قدر امتلاءِ القمر ونُقصانه وزيادته
ومحاقه واستراره وكلُّ شيءٍ يأتي على هذا النَّسقِ من المجارِي فإنَّمَا الآيةُ
فيه لِلَّهِ وحدَه على وحدانيَّته فإذا قال قائلٌ لأهل شريعةٍ ولأهل مُرسًى من
أصحابِ بحرٍ أو نهرٍ أو وادٍ أو عينٍ أو جدولٍ : تأتيكم الحِيتانُ في كلِّ سبت أو
قال : في كلِّ )
رمضان ورمضانُ متحوِّلُ الأزمانِ في الشِّتاءِ والصيف
والرَّبيعِ والخريفِ والسَّبتُ يتحوَّل في جميع الأزمان فإذا كان ذلك كانتْ تلك
الأعجوبةُ فيه دالةً على توحيد اللّه تعالى وعلى صِدقِ صاحب الخبَر وأنَّه رسولُ
ذلك المسخِّر لذلك الصِّنف وكان ذلك المجيءُ خارجاً من النَّسق القائم والعادةِ
المعروفة وهذا الفرقُ بذلك بَيِّنٌ والحمدُ للّه .
شنعة الخنزير والقرد
قال اللّه تعالى : فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ وفي الموضعِ الذي ذكَرَ أنَّه مسَخَ ناساً خنازير قد ذكر القُرُود ولم يذكُرْ أنَّهُ مَسَخَ قوماً خنازير ولم يمسَخْ منهم قروداً وإذا كان الأمر كذلك فالمسخُ على صورة القِرَدة أشنَع إذْ كان المسخُ على صورتهَا أعظمَ وكان العقابُ به أكْبر وإنّ الوقت الذي قد ذكر أنَّه قد مسخ ناساً قروداً فقد كان مسخَ ناساً خنازير فلم يدَعْ ذِكْرَ الخنازير وذَكَرَ القرودَ إلاَّ والقرودُ في هذا الباب أوجَعُ وأشنَع وأعظمُ في العُقوبة وأدلُّ على شدَّة السَّخْطة هذا قول بعضهم .
استطراد لغوي قال : ويقال لموضع الأنف من السِّباع الخطم
والخُرطوم وقد يقال ذلك للخنزير والفِنْطِيسة والجمع الفناطيس وقال الأعرابيّ :
كأنّ فناطيسها كراكِرُ الإبل .
خصائص بعض البلدان وقال صاحب المنطق : لا يكونُ خِنزيرٌ
ولا أيِّلٌ بحريّاً وذكر أنَّ خَنازِيرَ بعض البُلدانِ يكونُ لها ظلفٌ واحد ولا
يكون بأرضِ نهاوَنْدَ حِمَارٌ لشدَّة بردِ الموضع ولأنَّ الحِمار صَرِدٌ .
وقال : في أرضِ كذا وكذا لا يكون بها شيءٌ من الخَلْدِ
وإن نقله إنسانٌ إليها لم يحفر ولم يتَّخذ بها بيتاً وفي الجزيرة التي تسمَّى
صِقِلِّية لا يكُونُ بها صنفٌ من النمل الذي يسمَّى أقرشا .
قول أهل الكتابين في المسخ وأهل الكتابَين يُنكرون أنْ
يكون اللّه تعالى مسخَ النَّاس قروداً وخنازير وإنما مسخ امرأة لوط حَجَراً كذلك
يقولون .
القول في الحيات
اللهمَّ جنِّبنا التكلفَ وأَعِذْنَا من الخطَل واحمِنا من العُجْبِ بمَا يكونُ منَّا والثِّقةِ بمَا عندنا واجعلْنا من المحسنين .
احتيال الحيات للصيد
حدثنا أبو جعفرٍ المكفوفُ النحويُّ العنبريُّ وأخوه رَوحٌ الكاتب ورجالٌ من بني العنْبر أن عندهم في رمال بلْعنبرِ حيَّةٌ تصيد العصَافير وصِغَارَ الطيرِ بأعجبِ صيدٍ زعموا أنها إذا انتصَفَ النهارُ واشتدَّ الحرُّ في رمالِ بلعنبر وامتنَعت الأرض على الحافي والمنتعل ورَمِض الجندب
غمست هذه الحيّةُ ذنبَها في الرَّمل ثم انتصبَتْ كأنها رمحٌ مركوزٌ أو عودٌ ثابت فيجيء الطائِر الصغيرُ أو الجرادةُ فإذا رأى عوداً قائماً وكرِه الوُقُوعَ على الرَّمل لشدَّة حرِّه وقَعَ علَى رأس الحيَّة على أنّها عُود فإذا وقَعَ على رأسها قبضَتْ عليه فإن كان جرادةً أو جُعَلاً أو بَعْضَ ما لا يُشْبعها مثلُه ابتلعته وبقيتْ على انتصابها وإن كان الواقعُ على رأسها طائراً يُشبِعها مثلُه أكلتْهُ وانصرفت وأنَّ ذلك دأبُها ما مَنَعَ الرَّمل جانِبَه في الصَّيفِ والقَيْظ في انتصاف النهار والهاجرة وذلك أنَّ الطائِرَ لا يشكُّ أنَّ الحيَّةَ عودٌ وأَنُه سيقُوم له مقام الجِذْل للحِرْباء إلى أَنْ يسكن الحرُّ ووَهَجُ الرَّمْلِ وفي هذا الحديثِ من العَجَبِ أَنْ تكون هذه الحيَّةُ تَهتَدِي لمثل هذه الحيلة وفيه جَهلُ الطائِرِ بفرقِ ما بين الحيوانِ والعُود وفيه قلةُ اكتراثِ الحيَّة بالرَّمْل الذي عادَ كالجمر وصلحَ أن يكون مَلَّةً وموضِعاً للخبزة ثمَّ أن يشتمل ذلك الرَّمل على ثلث الحيَّة ساعاتٍ من النَّهَار والرملُ على هذه الصفة فهذه أعجوبةٌ من أعاجيب ما في الحيّات .
رضاع الحية وإعجابها باللبن
وزعم لي رِجَالٌ من الصّقالبةِ خصيانٌ وفحول أَنَّ الحيَّة في بلادهم تأتي البقرةَ المحفَّلةَ فتنطوي على فخذيْها ورُكبتيها إلى عراقيبها ثمّ تُشْخص صدرَها نحو أَخلافِ ضَرْعِها حتى تلْتقم الخِلف فلا تستطيع البَقَرَةُ مع قوَّتها أَن تَتَرَمْرَمَ فلا تزا لُ تمصُّ اللبن وكلما مصَّت استرخت فإذا كادت تتلفُ أَرسلتها وزعموا أن تلك البقَرةَ إمّا أن تموتَ وإمّا أَنْ يصيبَها في ضرعها فسادٌ شديدٌ تَعْسُرُ مداواته والحيَّةُ تُعْجَبُ باللبن وإذا وجدت الأفاعي الإناء غير مخَمَّر
كرعت فيه
ورُبَّمَا مجَّت فيه ما صار في جوفها فيصيبُ شاربَ ذلك اللبَنِ أذًى ومكروهٌ كثير
ويقال إنَّ اللبن محتَضر وقد ذهب ناسٌ إلى العمَّار على قولهم إنَّ الثوبَ
المعصْفَر محْتضَر فظنَّ كثيرٌ من العلماء أنَّ المعنى في اللبن إنَما رَجَعَ إلى
الحيَّات .
والحيَّةُ تُعْجَبُ باللُّفَّاح والبِطِّيخ وبالحُرْفِ
والخردل المرْخُوف وتكره ريحَ السذاب والشِّيح كما تكره الوَزَغُ ريحَ الزَّعفَران .
قوة بدن الحية
وليس في الأرض شيءٌ جسمه مثلُ جسم الحيَّةِ إلا والحيّةُ أقوى بدناً مِنه أضعافاً ومن قوَّتها أنها إذا أدخَلَتْ رأسها في جُحْرِها أو في صَدْعٍ إلى صدرها لم يستطعْ أقوى النّاس وهو قابضٌ على ذنبها بكلتَا يديه أنْ يخرجها لشدَّةِ اعتمادها وتَعاونِ أجزائِها وليست بذاتِ قوائم لَهَا أظفارٌ أو مخالبُ أو أظلاف تُنْشِبُهَا في الأرض وتتشبث بها وتعتمد عليها وربما انقطَعَتْ في يدي الجاذِب لها مَعَ أنها لد نَةٌ ملساءُ عَلِكَة فيحتاج الرفيق في أمرها عند ذلك أنْ يُرسلها من يديهِ بعضَ الإرسال ثمَّ ينشطُها كالمختطف والمختلس وربما انقطع ذنبها في يد الجاذب لها فأمَّا أذنابُ الأفاعي فإنها تنبُت
ومن عجيب
ما فيها من هذا الباب أنَّ نابَها يُقطَع بالكاز فينبت حتى يتمَّ نباته في أقلَّ
من ثلاث ليال .
نزع عين الخطاف والخُطَّاف في هذا الباب خلافُ الخنزير
لأنَّ الخطاف إذا قُلمتْ إحدى عينيه رجَعت وعينُ
الاحتيال لناب الأفعى
وناب الأفعى يُحتالُ له بأن يُدخلَ في فيها حُمَّاض أترُجّ ويطبق لحيُها الأعلى عَلَى الأسفل فلا تقتل بِعَضّتها أياماً صالحة والمِغْناطيس الجَاذب للحديد إذا حُكَّ عليه الثُّوم لم يجذب الحديد .
خصائص الأفعى
والأفعى لا تدورُ عينُها في رأسها وهي تلد وتبيض وذلك أنها إذا طَرَّقت ببيضها تحطّمَ في جوفها فترمي بفراخِها أولاداً حتى كأنها من الحيوان الذي يلد حيواناً مثلَه وفي الأفاعي من العجَب أنها تُذبح حتى يُفرَى منها كلُّ ودَج فتبقى كذلك أيَّامًا لا تموت وَأمرتُ الحاويَ فقبض على خَرَزَة عنقها فقلت له : اقبضها من الخَرَزَة التي تليها قبضاً رفيقاً فما فَتَحَ بينها بقدر سَمِّ الإبرة حتَّى بَرَدَتْ ميّتة وزعم أنّه قد ذبحَ غيرَها من الحَيَّاتِ فعاشَتْ على شبيهٍ بذلك ثمَّ إنه فَصَلَ تلك الخَرَزة عَلَى مثالِ ما صنع بالأفعى فماتت بأسرعَ من الطَّرْف .
قوة بدن الممسوح وكلُّ شيءٍ ممسوحِ البدن ليس بِذِي أيدٍ
ولا أرْجُل فإنَّه يكون شديدَ البدن كالسَّمكة والحيَّة حديث في سم الأفعى وزعم
أحمد بن غالب قال : باعني حَوّاءٌ ثلاثين أفعى بدينارين وأهدي إليَّ خمساً اصطادها
من قُبالة القلب في تلك الصحارى على شاطئِ دجلة قال : وأرَدْتها للتِّرياق قال :
فقال لي حين جاءني بها : قل لي : مَن يعالجها قال : فقلت له : فلان الصيدلانيّ
فقال : ليس عن هذا سألتك قل لي : من يذبحها ويسلُخها قال : قلت : هذا الصيدلانيُّ
بعينه قال : أخاف أن يكون مغروراً من نفسه إنَّه واللّه إن أخطأَ موضع المفصِل من
قفاهُ وحركتُه أسرعُ من البرق فإن كان لا يحسن
ولا يدري كيف يتغفله فينقُرُه نَقْرَةً لَمْ يُفْلِحْ بَعدَهَا أَبَداً ولكني سَأَتَطَوَّعُ لك بِأَنْ أعمل ذلك بين يديه قال : فبعثت إليه وكان رأسه إلى الجَوْنة فَيُغْفِلُ الواحدةَ فيقبِض على قفاها بأسرع من الطَّرْفِ ثمَّ يذبحها فإذا ذبحها سال من أفواهها لُعابٌ أبيض فيقول : هذا هو السم الذي يقتُل قال : فجالت يدُه جَوْلةً وقطرت من ذلك اللُّعاب قطرةٌ عَلَى طرَف قميصِ الصيدلانيِّ قال : فَتَفَشَّى ذلك القاطرُ حتَّى صار في قدر الدِّرهم العظيم ثم إنّ الحوّاء امتَحَن ذلك الموضع فتهافت
في يده
وبقيت الأفاعي مُذَبَّحة تجول في الطست ويكدم بعضُها بعضاً حتى أمسينا قال : وبكرت
على أبي رجاء إلى باب الجِسر أحَدِّثه بالحديث فقال لي ودِدْت أنِّي رأيت )
موضع القطْرة من قميص الصَّيدلاني قال : فواللّه
مارِمْتُ حَتَّى مرَّ مَعي إلى الصَّيدَلانيِّ فأَرَيْتُه موضعَه وأصحابُنَا
يزعمون أنَّ لعابَ الأَفاعي لا يَعمَلُ في الدَّم إلاَّ أنّ أَحْمَدَ ابنَ
المثنَّى زعم أنّ من الأفاعي جنساً لا يُضرُّ الفراريج من بينِ الأشياء ولا أدري
أَيُّ الخبرين أبعد : أخبَرُ ابن غالب في تفسيخ الثَّوب أو خبر ابن المثنى في
سلامة الفَرُّوجِ عَلَى الأَفعى ما تضيء عينه من الحيوان وزعم محمد بن الجهم أنّ
العيون التي تضيء بالليل كأَنها مصابيحُ عيُونُ الأسْد والنمورِ والسَّنانيرِ
والأفاعي فبينا نحنُ عندَه إذْ دخل عليه بعضُ من يجلب الأفاعي من سِجسْتان
ويَعْمَلُ التِّرياقات ويبيعها أحياءً ومقتولة فقال له : حَدِّثهم بالذي حَدَّثتني
به من عين الأفعَى قال : نَعَم كنتُ في مَنْزِلِي نائماً في ظلمة وقد كنتُ جمعتُ
رؤوس أفَاع
كنَّ عندي
لأرميَ بها وأغفلتُ تحت السَّرير رأساً واحداً ففتحْتُ عَيني تجَاهَ السَّريرِ في
الظلمةِ فرأيت ضياءً إلاَّ أنَّه ضئيلٌ ضعيفٌ رقيق فقلت : عينُ غولٍ أو بعضِ
أولاءِ السَّعالى وذهبَتْ نفسي في ألوانٍ من المعاني فقمت فقدَحْت ناراً وأخذتُ
المصباح معي ومضيت نحوَ السرير فلم أَجدْ تَحْتَهُ إلاَّ رأسَ أفعى فأطفأتُ
السِّراج ونمتُ وفتحْتُ عيني فإذا ذلك الضوء على حاله فنهضْتُ فصَنعتُ كصنيعي
الأوَّل حتى فعلتُ ذلك مِراراً قال : فقلت آخر مرَّة : ما أرى شيئاً إلاَّ رأسَ
أفعى فلو نحَّيتَهُ فنحَّيتُه وأطفأتُ السِّراج ثمّ رجعْتُ إلى منامي ففتحْت عيني
فلم أ رَ الضَّوء فعلمت أنَّه من عين الأفعى ثمَّ سألتُ عن ذلك فإذا الأمرُ حَقٌّ
وإذا هو مشهورٌ في أهل هذه
علة قوة بدن الحية قال : وربَّمَا قبضَ الرَّجلُ الشديدُ
الأسْرِ والقُوَّةِ القبضةَ على قفا الحيَّة فتلتفُّ عليه فتصرعُهُ وفي صُعودِها
وفي سعيها خلفَ الرَّجلِ الشديدِ الحُضْر أو عند هربِها حتَّى تفوتَ وتسبق وليستْ
بذاتِ قوائِم وإنما
تنسابُ عَلَى بطنها وفي تدافُعِ أجزائِها وتَعاونها وفي حَرَكَةِ الكلِّ من ذاتِ نفسها دليلٌ على إفراطِ قُوَّةِ بدنها ومن ذلك أنها لا تمضَغ وإنما تبتلع فربَّما كان في البَضْعة أو في الشيء الذي ابتلعَتْه عَظْمٌ فتأتي جِذْمَ شجرةٍ أو حَجراً شاخِصاً فتنطوي عليه انطواءً شديداً فيتحطَّم ذلك العَظْم حَتَّى يَصِيرَ رُفَاتاً ثمَّ يُقطعُ ذنبُها فينبت ثمَّ تعيشُ في الماء إن صارت في الماء بَعد أنْ كانَتْ برّيَّة وتعيشُ في البرِّ بَعْدَ أن طال مُكثْها في الماء وصارتْ مائية قال : وَ إنَّمَا أتتْها هذه القُوَّة واشتدَّت فِقَرُ ظهرها هذه الشِّدَّةَ لكثرةِ أضلاعِها وذلك أنَّ لها من الأضلاع عددَ أيَّامِ الشَّهر وهي مع ذلك أطولُ الحيوان عمراً موت الحية ويزعمون أنَّ الحيَّة لا تموتُ حَتْفَ أنفها وإنَّمَا تموتُ بِعَرَضٍ يَعْرِضُ لَها ومع ذلك فإنه ليس في الحيوان شيءٌ هُوَ أصبرُ عَلَى جوعٍ من حَيَّةٍ لأنَّها إن كانَتْ شَابَّةً فَدَخَلَتْ في حائطٍ صخرٍ فتتبَّعُوا موضعَ مَدْخَلَها بوتِدٍ أو بحجر ثمّ هدموا هذا الحائط وجدُوها هنَاك منطوِية
وهي حَيّةٌ فالشّابةُ تُذكر بِالصَّبْر عند هذه العلَّة فإن هَرِمَتْ صغُرت في بدنها وأقنَعَهَا النَّسِيم ولم تشتَهِ الطعم وقد قَالَ الشاعرُ : وهُوَ جَاهليٌّ : ( فابْعَثْ له من بعض أعراض اللَّمَم ْ ** لُمَيْمَةً من حَنَشٍ أعمَى أصمّْ ) ( قَدْ عاشَ حتى هُوَ لا يَمشي بدمّْ ** فكُلَّمَا أَقْصَدَ مِنْهُ الجُوعُ شَمّْ ) وهذا القولُ لهذا المعنى وفي هذا الوجه يقُول الشاعِرُ : ( داهية قَدْ صغُرَتْ من الكِبَرْ ** صِلّ صفاً ما ينطَوي من القِصَرْ )
( طويلة الإطراقِ من غير خَفَر ** كمطرقٍ قد ذهبت به الفِكرْ ) جَاء بهَا الطوفان أيَّامَ زَخَ صَبْرُ الحية على فَقْدِ الطُّعْم ومن أعاجيبهَا أنها وإن كانَتْ مَوْصُوفَةً بالشَّرَهِ والنَّهَم وسرعَةِ الابتلاع فلها في الصّبر في أيَّامِ الشِّتاء ما ليس للزّهِيدِ ثمَّ هي بَعْدُ ممَّا يصير بها الحالُ إلى أن تستغنِيَ عن الطُّعم
النمس والثعابين
ثمّ قَدْ يزعمُون أنَّ بمصرَ دويْبَّةً يقال لها النمس يتَّخذهَا الناطور إذا اشتدّ خوفه مِنَ الثّعَابين لأنَّ هذه الدَّابةَ تنقبضُ وتنضمُّ
تَتضَاءَلُ وتستدقّ حتّى كأَنها قُدَيْدَة أو قطعةُ حبْل فإذا عضَّها الثُّعبان وانطوى عليها زفَرتْ وأخذَتْ بنَفَسها وزَخَرت جوفَها فانتفخ فتفعل ذلك وقد انطوى عليها فتقطعه قِطَعاً من شِدّةِ الزَّخْرة وهذا من أعجب الأحاديث
القواتل من الحيات
والثَّعابينُ إحدَى القواتلِ ويزعُمون أنها ثلاثةُ أجناسٍ لا ينجَعُ فيها رُقيةٌ ولا حِيلة كالثعبان والأفعى والهنديَّة ويقال : إنَّ ما سِواها فإنما يقتُلُ مع ما يُمدُّها من الفزَع فقد يفعل الفَزَع وحْدَه فكيف إذا قارنَ سُمَّهَا وسُمُّهَا إنْ لم يقتُلْ أمرَضَ .
ما يفعل الفزع في المسموم ويزعمون أنَّ رجلاً قال تحتَ
شجرةٍ فتدلَّت عليه حيَّةٌ منها فعضَّت رأسَه فانتبه محمرَّ الوَجْهِ فحكَّ رأسَه
وتَلَفَّتَ فلم يَرَ شيئاً فوضع رأسَه ينامُ وأقام مدَّةً طويلةً لا يرى بأساً
فقال له بَعْضُ مَنْ كان رأى تدلِّيَهَا عليه ثمّ تقلُّصَها عنه وهروبَها منه : هل
علمتَ مِنْ أيِّ شَيءٍ كان انتباهُك تحتَ الشَّجرة قال : لا واللّه ما علمت قال : بلى فإنَّ
الحيَّةَ الفُلانيَّة نزلت عليك حتّى عضَّتْ رأسَك فلما جلست فزعاً تقلَّصتْ عنك
وتراجعَتْ فَفَزع فَزْعَةً وصَرَخَ صرخَةً كانَتْ فيها نَفْسُهُ وكأنهُمْ توّهُموا
أنَّه لما فزِع واضطرَبَ وقد كان ذلك السمُّ مغموراً ممنوعاً فزال مانِعُه وأوغله
ذلك الفَزَعُ حِينَ تفتَّحت منافسُه إلى موضع الصَّميم والدِّماغِ وعمْقِ البدَن
فانحلَّ موضعُ العَقْد الذي انعقدَتْ عليه أجزاؤه وأخلاطُه .
وأنشد الأصمعيُّ : نَكِيثة تنهشه بمنبذ
وأنشدَ
لأبي دُؤادٍ الإياديِّ : ( فأتاني تَقْحِيمُ كَعْبٍ ليَ المن ** طقَ إن النَّكِيثة
الإقْحَامُ )
أثر الفزع في فعل السم قال : فالفزَعُ إمّا أنْ يكونَ
يُوصِل السمَّ إلى المَقاتِل وإمَّا أن يكون معيناً له كتعاون الرَّجُلين على نزع
وتِد فهم لا يجزمون على أنّ الحيَّة من القواتل البتّة إلاَّ أنْ تقتلَ إذا عضَّت
النائِمَ والمغشيَّ عليه والطفلَ الغريرَ والمجنونَ الذي لا يَعْقِلُ وحتّى
تجَرَّبَ عليهِ الأدوية .
الترياق وانقلاب الأفعى
وكنت يوماً عند أبي عبد اللّه أحمد بن أبي دُؤاد وكان عنده سَلَمويه وابن ماسويه وبختيشوع بن جبريل فقال : هل ينفع التِّرياق من نهشة
أفعى فقال بعضهم : إذا عَضَّتِ الأفعَى فأُدركَتْ قبل أن تَنْقَلب نفع الترياق وإن لَمْ تُدْرَك لَمْ يَنْفَعْ لأنهم إنْ قلَّلوا مِنَ التِّرياقِ قتَلهُ السُّمُّ وإن كثّروا مِنْهُ قَتله الفاضلُ عن مقدار الحاجة قلت : فإنَّ ابنَ أبي العجوزِ خبَّرني بأَنها ليست تنقلب لِمجِّ السمِّ وإفراغهِ ولكنَّ الأفعى في نابها عَصَل وإذا عضّت استفرغت إدخالَ النَّابِ كلِّه وهو أحْجَنُ أعْصَل فيهِ مشابه من الشِّصّ فإذا انقلبَتْ كان أسهلَ لنزْعه وسلِّه فأمَّا لصبِّ السّمّ وإفراغه فلا قَالَ : واللّه لعلَّه ما قلت قلتُ : مَا أسْرَعَ ما شككْتَ ثمّ قلت له : فكأَنما وضعوا الترياق واجتلَبُوا الأَفاعيَ وضنُّوا وعزمُوا على أنه لا ينفع إلاّ بدَرْكِ الأَفْعى قبلَ أنْ تَنقلب وكيف صار التِّرياقُ بعد الانقلاب لا يكونُ إلاَّ في إحْدَى منزلتين : إمّا أن يقتل بكثرته وإمَّا ألاّ ينْفَعَ بقلَّته فكأَنَّ الترياقَ ليس نفعُه إلاَّ في المنزلةِ الوسطى التي لا تكون فاضلةً ولا ناقصة ولكني أقولُ لك : كيف يكون نفعه إذا كان الترياقُ جَيِّداً قويَّاً وعُوجل فسُقي المقْدَارَ الأَوسطَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الصَّميمَ ويغوصَ في العُمْقِ وعلى هذا وُضع وهم كانوا أحْزَم
وأحْذَقَ
مِنْ أن يتكلَّفوا شيئاً ومقدارُه من النَّفعِ لا يُوصَل إلى معرفته .
ويقول بعضُ الحُذَّاق : إنَّ سقي التِّرياقِ بعدَ النهش
بساعةِ أو ساعَتين مَوْتُ المنهوش ثم قلت له : وما عَلَّمك وبأيِّ سببٍ أيقنتَ
أنها تمجُّ من جوفِ نابها شيئاً ولعله ليس هنالك إلاَّ مخالطةُ جوهَرِ ذلك
النَّابِ لدم الإنسان أَوَلَسْنَا قد نَجِدُ من الإنسانِ مَنْ يَعَضُّ صاحبَهُ
فيقتُلُهُ ويكونُ معروفاً بذلك وقد تُقِرُّون أنَّ الهنديَّة والثُّعبانَ يقتُلان
إمَّا بمخالطة الرِّيق الدم وإمَّا بمخالطة السِّنِّ الدَّم من غير أن تدَّعُوا
أنَّ أسنانَهما مجوَّفة وقد أجمع جميعُ أصحابِ التجارب أنَّ الحيَّة تُضرَبُ
بِقَصَبَةٍ فتكونُ أشدَّ عليها من العصا وقد يضرَبُ الرجلُ على جسَده بقُضْبان
اللّوْزِ وَ قُضْبَانِ الرُّمان وقُضبانُ اللَّوْزِ أعلَكُ وألْدَن ولكنَّها
أَسلَمُ وقُضبان الرُّمَّان أخفُّ وأسخَفُ )
ولكنها أعطب وقد يطأ الإنسانُ على عَظْمِ حَيّةٍ أو
إبْرَةِ عَقْرَبٍ وهما مَيْتَتان فيلقى الجهد وقد يُخْرَجُ السِّكِّينُ من الكِيرِ
وهو مُحمًى فيغْمَسُ في اللبن
فمتى
خالَطَ الدَّمَ قامَ مقامَ السمّ من غير أن يكون مَجَّ في الدّم رطوبةً غليظَةً أو
رقيقَةً .
وبعض الحجارة يُكْوَى بهاوهو رِخْوالأوْرَامُ حتى
يفَرقها ويُحْمِصهَا من غير أن يكونَ نفذَ إلَيْهَا شيءٌ مِنْهُ وليس إلاّ
الملاقاة قلتُ : ولعلَّ قُوًى قد انفصلَتْ من أنيابِ الأفاعي إلى دماء النَّاس وقد
رَوَوْا أنَّه قيل لجالينوس : إنّ ها هُنا رجلاً يَرقي العقاربَ فتموتُ أو تنحلّ
فلا تعمل فرآه يرقيها ويتفُل عليها فدعا به بحضرةِ جماعةٍ وهو على الرِّيق ودعا
بغَدائه فتغَدّى مَعَه ثمَّ دُعِيَ له بالعقارب فَتَفَل عليها فلم يَجدْ لعابه
يصنَعُ شيئاً إلاَّ أنْ يكون ريقاً وهُوَ حَدِيثٌ يدورُ بينَ أهل الطبِّ وأنت طبيب
فلم أَرَهُ في يومه ذلك قال شيئاً إلاَّ مِن طريق الحَزْر والحَدْس السموم وسمومُ
الحيَّاتِ ذواتِ الأنياب والعقاربِ ذواتِ الإبر إنَما تَعْمَلُ في الدّمِ
بالإجمادِ والإذابة وكذا سمومُ ذواتِ الشعر والقُرُونِ والجُمِّ إنما تَعْمَلُ في
العصب ومنها ما يعمل في الدم .
( شرب المسموم لِلَّبن ) وحدَّثني بعضُ أصحابنا قال : كنتُ إمَّا برماي وإما بباري وهما بلادُ حيّاتٍ وأفاعٍ ونحن في عُرْس إذ أدخَلوا الخِدْرَ العروسَ فأبطؤوا عليه شيئاً فأغفى وتَلوّتْ على ذراعه أفعى فذهبَ ينفضها وَحَجَمَتْ على ذراعه وقد يقال ذلك إذا كانت العضَّة في صورةِ شَرْطِ الحجَّام فصَرَخَ وجاؤوا يتعادَوْن فوجدُوها فقتلوها وسقَوه في تلك اللَّيلةِ لبَن أربعينَ عنزاً كُلَّمَا استقرّ في جوفه قَعْبٌ من ذلك اللَّبَن قاءَ فَيَخْرُجُ مِنْهُ كأمثال طَلْعِ الفُحَّال الأبيض فيه طرائق من دَسَمٍ تعلُوه خُضرة حتى استَوْفَى ذلك اللَّبَن كُله قال : فعندها قال شيخٌ من أهل القرية : إن كنتم أخرَجْتم ذلك السّمَّ فقد أخرجتم نَفْسَهُ معَه قال : فغبَرَ أيَّاماً بأسوإ حالٍ ثمَّ مات قال : وكنتُ أعجَبُ من سُرعةِ استحالة اللَّبَنِ وجُموده .
اكتفاء الحيات والضباب بالنسيم
( سقط : السطر الأول ) قلت : والحيات البرية إذا هرمت تنسمت النسيم فاكتفت به ، وكذلك الضباب إذا هرمت . قال : ولا يكون ذلك للمائيّة من حيَّاتِ الغياضِ وشُطوطِ الأنهار ومناقِع المياه .
الحيات المائية
قال : والحيَّات المائيَّة إمَّا أن تكون برّيَّةً أو جبليَّةً فاكتَسحتها السُّيولُ واحتملَتْها في كثير مِنْ أصناف الحشَراتِ والدَّوابِّ والسِّباع فتوالدت تلك الحيَّاتُ وتلاقَحَتْ هناك وإمَّا أنْ تكون كانت أمهاتُها وآباؤُها في حيَّات الماء وكيف دارت الأمورُ فَإنَّ الحيَّاتِ في أصل الطّبع مائيّة وهي تعيشُ في النَّدَى وفي الماء وفي البرِّ وفي البحر وفي الصَّخر والرَّمل ومن طباعها أن ترقّ وتلطف على شكلين : أحدهما لطول العمر والآخر للبُعد من الرِّيف وعلى حسب ذلك تعظُم في المياه والغياض .
ما أشبه الحيات من السمك
قال : وكلُّ شيء في الماء ممّا يعايش السمك مما أشبه الحيَّات كالمارماهي والأنكليس فإنها كلها على ضربين : فأحدهما من أولاد الحيات انقلبت بما عرض لها من طباع البلد والماء والآخر من نسل سمك وحيات تلاقَحَت إذ كان طِبَاعُ السمك قريباً من طباع تلك الحيّات والحيَّاتُ في الأصل مائيَّة وكلّها كانت حيّات .
قرابة بعض
النبات لبعض
وقد زعم أهلُ البصرة أنّ مُشَان الكوفة قريبٌ من بُرْنيّ
البصْرَة قلبته البلدة ويزعمُ أهلُ الحجاز أنَّ نخلَ النارجيل هو نخل المُقْل
ولكنّه انقلب لطباعِ البلدة وأشباهُ ذلك كثير ويزعمون أنَّ الفيلة مائية الطِّباع
بالجاموسيَّة والخنزيريّة التي فيهاب والنسيم
الذئب والنسيم
قال : والذِّئْبُ أيضاً وإن كان عندهم مِمَّا لا يجتزي بالنَّسيم فإنَّه من
الحيوان الذي يفتح فاه للنَّسيم ليبرد جوفه من اللهيب الذي يعتري السِّباع ولأنَّ
ذلك يمدّ قوَّته ويقطع عنه ببرودته ولطافته الرِّيق فإن كان ذا سُعْر إذا عدا
احتشى ريحاً .
اختلاف صبر الذئب والأسد على الطعام ورّبما جاعَ الأسد
ففعل فِعْلَ الذِّئب فالأسد والذِّئب يختلفان في الجوع والصبر لأنَّ الأسدَ شديدُ
النَّهَمِ رغيبٌ حريص شَرِهٌ وهو مع ذلك يحتمِلُ أنْ يبقى أيّامًا لا يأكلُ شيئاً
والذِّئبُ وإن كان أقفر منزلاً وأقلَّ خِصْباً وأكثَرَ كَدّاً وإخفاقاً فلا بدَّ
له من شيء يُلقِيه في جوفه فإذا لم يجدْ شيئاً استعارَ النسيم . )
حيلة بعض الجائعين والنَّاس إذا جاعُوا واشتدَّ جوعُهم
شدُّوا على بطونهم العمائِم فإن استقلوا وإلاَّ شَدُّوا الحَجَر شعر في الذئب (
كَسِيدِ الغَضَا العَادِي أضلَّ جِراءَهُ ** على شَرَفٍ مُسْتَقْبِلَ الرِّيحِ
يَلْحَبُ ) كأنّه يجمع استِدْخالَ الرِّيحِ والنَّسيم فلعلَّه أن يجِدَ ريحَ
جِرائه .
وقالَ الرَّاجز : ( يَسْتَخْبرُ الرِّيحَ إذا لم
يَسْمَعِ ** بِمِثْلِ مِقْرَاعِ الصَّفَا المُوقَّعِ )
( شمّ الظليم
) والظَّليم يكون على بيضه فيشمُّ ريح القانص من أكثَرَ
من غَلْوَةٍ ويبعُد عَنْ رئالِه فيشمُّ ريحَها من مكانٍ بعيد .
وأنشدني يحيى بن نُجيم بن زَمَعة قال : أشمُّ من هَيَقٍ
وأهْدَى من جَمَلْ وأنشدني عَمْرُو بن كِركِرة : مَا زَالَ يشتمُّ اشتمامَ
الهَيْقِ قال : وإنّمَا جعله ذئبَ غضاً لأنهم يقولون : ذئبُ الخَمر أخبث ويقولون :
شَيْطان الحَماطة : يريدون الحيّة
.
وكلُّ حيّةٍ خفيفةِ الجسم فهي شَيطان والثِّقالُ لا
تنْشط من أرضٍ إلى أرض وتثقُلُ عَمَّا تبلُغُه المستطيلاتُ الخِفاف وقال طرَفة : (
تلاعِبُ مَثْنَى حَضْرَمِيٍّ كَأَنَّهُ
** تَعَمُّجُ شَيْطانٍ بذي خِرْوعٍ قَفْرِ )
الكِرْماني
عن أنَس ولا أدري مَنْ أنسٌ هذا فِي صفة ناقة : ( شَنَاحِيَةٌ فيها شناحٌ كأنّها ** حَبَابٌ بكفِّ
الشَّأْوِ من أسطعٍ حَشْرِ ) والحَباب : الحيّة الذّكر .
بعض المضاف إلى النبات من الحيوان وكما يقولون : ذئب الخَمر
يقولون : أرنب الخلَّة وتيس الرَّبْل وضبُّ السَّحا والسَّحَا بقلةٌ تحسُنُ حالُه
مَنْ أكلها وكذلك يقولون : ما هو إلاّ قُنْفَذُ بُرْقَةَ لأنه يكون أخبثَ له )
وذلك كله على قدر طبائع البلدان والأغذية العاملة في
طبائع الحيوان .
بعض طبائع البلدان ألا ترى أنَّهم يزعُمون أنَّ مَن
دخَلَ أرضَ تُبَّتَ لم يزَلْ ضاحكاً مسروراً من غير عَجَبٍ حتّى يخرجَ منها ومن
أقام بالموصِل حولاً ثم تفقَّد قوَّته وجد فيها فضلاً ومن أقام بالأهواز حَوْلاً
فتفقَّد عقلَه ذُو فِراسةٍ وجد النُّقصانَ فيه بيِّناً كما يقال في حُمَّى خَيبر
وطِحال البحْرين
( كأنَّ نَطاة خَيْبَرَ زَوَّدَتْه ** بَكُورَ الوِرْدِ رَيِّثةَ القُلُوعِ ) وقال أوسُ بن حجَر : ( كأنَّ به إذْ جئتُهُ خَيْبَرِيَّة ** يَعُودُ عَلَيْهِ وِرْدُهَا وقلالُهَا ) وقال آخر : كأنّ حمَّى خَيبر تَمُلُّهُ وكذلك القول في وادي جُحفة وفي مَهْيَعَةَ وفي أصول النخل حيث كان . وقال عبد اللّه بن همام السَّلوليُّ في دماميل الجزيرة :
( أُتِيحَ له مِنْ شُرْطَةِ الحَيِّ جَانِبٌ ** غَلِيظُ الْقُصَيْرَى لحمُهُ مُتَكاوِسُ ) ( تَرَاهُ إذا يَمْضِي يحكُّ كَأَنَّمَا ** به من دَماميل الجَزيرةِ ناخسُ ) فحدَّثني أبو زُفَرَ الضِّراري قال : مات ضِرار بن عمرو وهو ابن تسعين سنةً بالدَّماميل قلت : واللّه إنّ هذا لعجب قال : كلاَّ إنَّمَا احتملها من الجزيرة وكذلك القولُ في طواعِين الشّام قال أحدُ بني المغيرة فيمن مات منهم بِطَوَاعِينِ الشامِ ومن مات منهم بطَعْن الرِّماح أيَّامَ تلك المغازي : ( مَنْ يَنْزِلِ الشَّامَ وَ يَعْرَسْ بِهِ ** فالشَّامُ إنْ لَمْ يُفْنِهِ كَاذِبُ ) ( أفْنى بني رَيْطَةَ فُرسانَهمْ ** عِشرينَ لم يُقْصَصْ لهم شارِبُ ) ( طَعْنٌ وطاعُونٌ مناياهُمُ ** ذلك ما خطَّ لنا الكاتبُ )
قدوم عبد
اللّه بن الحسن على عمر بن عبد العزيز وهشام قال : ولمّا قَدِمَ عبدُ اللّه بن
الحسن بن الحسن رضي اللّه عنهم على عمَرَ بنِ عبد العزيز رضي اللّه عنه في
حَوَائجَ له فلمَّا رأى مكانَه بالشام وعَرَفَ سِنَّه وسمْتَه وعقلَه ولسانَه
وصلاته وصيامه فلم يكنْ شيءٌ أحبَّ إليه من أَلاَّ يراه أحدٌ من أهل الشام فقال له
: إنِّي أخافُ عَلَيكَ طَواعينَ الشَّام فإنَّك لن تُغْنِمَ أهلَك أكثَرَ منك
فالحَقْ بهم فإنَّ حوائجك ستسبِقُك إليهم ثمّ )
قدم على هشامٍ فكره عبدُ اللّه أن يدخل منزل له حتّى
يأتيَه في ثيابِ سفَره مخافة سوء ظنِّه فلما أعلمه الحاجبُ مكانَه ودخل عليه
وعايَنه كره أن يقيم بها طَرْفَة عين قال : اذكر حوائجك قال : أحطُّ رَحْلي وأضَعُ
ثيابَ سفري وأَتذكَّرُ حوائجِي قال : إنَّك لنْ تجِدَني في حالٍ خيراً لك منِّي
الساعة يريد أنّ القُلوبَ أرقُّ ما تكونُ إذا تلاقت العيونُ عن بُعْدِ عَهد وليس
ذلك أراد .
طحال البحرين والعامّة تنشد : ( مَنْ يَسْكُنِ
البَحْرَينِ يعظُمْ طحالُهُ ** وَ يُغْبَطْ بما في بَطْنِهِ وَهُو جَائِعُ ) ونظر دُكينٌ
الرّاجزُ إلى أبي العباس محمَّدِ بنِ ذُويبٍ الفُقَيميِّ الرَّاجز وهو غُلَيِّمٌ
مصفرٌّ مَطحُول جرب الزنج وحدَّثني يوسفُ الزِّنجي أنّه لا بدَّ لكلِّ مَن قدِم من
شِقِّ العراق إلى بلادِ الزِّنج ألاَّ يزالَ جَرِباً ما أقام بها وإنْ أكثَرَ من
شُرْب نبيذِها أو شَراب النَّارَجيل طمَسَ الخُمَارُ على عقله حتَّى لا يكونَ بينه
وبين المعتوه إلاَّ الشَّيء اليسير
.
طبيعة المصيصة وخبَّرني كم شئْتَ من الغُزاة أن مَن
أطالَ الصَّومَ بالمصيصة في أيَّام الصَّيف هاج به المِرار وأنَّ كثيراً منهم قد
جُنُّوا عن ذلك الاحتراق .
طبيعة قصبة الأهواز فأمَّا قصَبَة الأَهواز فإنَّها
قلبَتْ كلَّ مَن نزَلها من بني هاشم إلى كثيرٍ من طِباعهم وشمائلهم ولا بدَّ
للهاشميِّ قبيحَ الوجهِ كانَ أو حسناً أو دميماً كان أو بارعاً رائعاً مِنْ أن
يكون لوجْهه وشمائله طبائعُ يَبينُ بها من جميعِ قريشٍ وجميعِ العرب فلقد كادَتْ
البلْدةُ أن تنقل ذلك فتبدِّله ولقد تَخَيَّفَتْهُ وأدخلَت الضَّيمَ عليه
وبيَّنَتْ أثرَها فيه فما ظنُّك بصنيعها في سائر الأجناس ولفسادِ عُقولِهم ولؤمِ
طبْع بلادِهم لا تراهم مع تلك الأموالِ الكثيرةِ
والضِّياع الفاشية يحبُّون من البنينَ والبناتِ ما يحبُّه أوساطُ أهلِ الأمصار على الثَّروة واليَسار وإن طال ذلك والمال مَنْبَهةٌ كما تعلمون وقد يكتسبُ الرَّجُل من غيرهم المُوَيل اليسير فلا يرضى لولده حتَّى يفرضَ له المؤدِّبين ولا يرضى لنسائه مثل الذي كان يرضاه قبل ذلك وليس في الأرض صناعةٌ مذكورةٌ ولا أدبٌ شريفٌ ولا مذهبٌ محمودٌ لهم في شيءٍ منه نصيبٌ وإن خَسّ ولم أرَ بِهَا ) وَجْنةً حمراءَ لصبيٍّ ولا صبيَّةٍ ولا دمًا ظاهرًا ولا قريبًا من ذلك وهي قتّالَةٌ للغُرَباء وعلى أَنَّ حُمَّاها خاصَّةً ليست للغريب بأسرَعَ منها إلى القريب ووباؤها وحُمَّاها في وقت انكشاف الوَباءِ ونُزوعِ الحمَّى عن جميع البُلدانِ وكلُّ محمومٍ في الأرض فإنَّ حُمَّاه لا تنْزِع عنه ولا تفارِقُه وفي بدنه منها بقيَّة فإذا نزَعَتْ عنه فقد أخَذَ منها عند نفسه البراءةَ إلى أنْ يعود إلى الخلْط وَأنْ يجمعَ في جوفه الفسادَ وليست كذلك الأهواز
لأنها تُعاوِد من نزَعتْ عنه من غير حدَث كما تعاود أصحابَ الحدَث لأنَّهم ليسوا يُؤْتَون من قبل النَّهَم ومن قِبَل الخلْط والإكْثار وإنَّما يُؤتَوْن من عينِ البلدة وكذلك جمعَتْ سوقُ الأهوازِ الأفاعيَ في جبلِها الطَّاعِن في منازلها المطِلِّ عليها والجَرَّاراتِ في بيوتِها ومقابرها ومنابرها ولَو كان في العالَم شيءٌ هو شرٌّ من الأفعَى والجرَّارة لما قصَّرَت قصَبة الأهواز عن توليده وتلقيحه وبَليتُها أنَّها من ورائها سِبَاخٌ ومناقِعُ مياهٍ غليظةٍ وفيها أنهارٌ تشُقها مَسَايلُ كُنُفِهم ومياهُ أمطارهم ومُتَوضَّآتِهِمْ فَإذا طلَعت الشَّمسُ فَطالَ مُقامُها وطالت مقابلتُها لذلك الجبل قبل
بالصَّخْرِية التي فِيه تلكَ وقد تُحدِث تلك السِّباخ وتلك الأنهار بُخَاراً فاسداً فإذا التقى عليهم ما تُحدِث السِّباخُ وما قذفه ذلك الجبلُ فسَدَ الهواء وبفساد الهواء يفسُد كلُّ شيءٍ يشتملُ عليه ذلك الهواء . وحدَّثني إبراهيمُ بن عباس بنُ محمد بن منصورٍ عن مَشْيخة من أهل الأهواز عن القوابل أنهنَّ ربّما قَبِلْنَ الطِّفلَ المولودَ فيجدْنَهُ في تلك السَّاعةِ محموماً يعرِفْنَ ذلك ويتحدَّثْن به .
عيون الحيات والخطاطيف
قال : ويعرِض لفراخِ الحيَّات مثلُ الذي يعرِض لفِراخِ الخَطاطِيف فإنَّ نازعاً لو نزَع عيونَ فراخِ الخطاطيفِ وفراخِ الحيّاتِ لعادتْ بصيرةً .
مفارقة السلحفاة والرق والضفدع للماء وزعم أنَّ
السُّلحفاةَ والرّقّ والضّفدع مّما لا بدَّ له من التنفُّس ولا بدَّ لها من
مفارقةِ الماء وأنَّها تبيض وتكتسب الطعم وهي خارجة من الماء وذلك للِنَّسب الذي
بينها وبين الضّب وإن كان هذا بَرِّيًّا وهذا بحريًّا .
شبه بعض الحيوان البري بنظيره من البحري ويزعموُن أنّ ما
كان في البرِّ من الضبِّ والورَل والحِرباء والحلكاء وشحْمة الأرض والوزَغِ
والعظاء مثل الذي في البحر من السُّلَحفاةِ والرّقّ والتِّمساح والضِّفدع وأنَّ
تلك الأجناسَ البرّيةَ وإن اختلفتْ في أُمورها فإنّها قد تتشابه في أمور وأنّ هذه
الأجناسَ البحرية من تلك ككلب الماء من كلب الأرض .
صوم بعض الحيوان وقد زعم صاحبُ المنطق أنّ الحيَّة وسامّ
أبْرَص من العظاء والتِّمساح تسكنُ في أعشّتها الأربعة أشهر الشديدة البرد لا تطعم
شيئاً وأنّ سائر الحيّاتِ تسكنُ بطنَ الأرض فأمَّا الأفاعي فإنّها تسكن في صُدوع
الصَّخر وليس لشيءٍ من الحيوانِ من الصَّبر عن الطُّعمِ ما لهذه الأجناس وإنَّ
الفيل ليناسبُها من وجهين : أحدهما من طول العمر فإنَّ منها ما قد عاش أربعمائة
سنة والوجه الآخر أنّ الفيلة مائيَّة وهذه الأجناس مائيَّة وإن كان بعضها لا يسكن
الماء .
داهية الغَبَر قال : وسمعتُ يونُس بن حبيبٍ يقول : داهية
الغبر قال : وقيل
ذلك لأنها ربَّما سكنَتْ بقُربِ ماءٍ إمَّا غديرٍ وإما عينٍ فتحْمي ذلك الموضعَ وربما غبر ذلك الماءُ في المنْقَع حيناً وقد حمتْه وقال الكذَّابُ الحرمازيّ : ( يا ابنَ المعلَّى نزلتْ إحدى الكُبَر ** دَاهيةُ الدَّهرِ وصَمَّاءُ الغَبَر ) قال : وسأل الحكم بنُ مروانَ بنِ زنباعٍ عن بني عبد اللّه بن غطفان قال : أفعى إنْ أيقظْتها لسعَتْك وإن تركْتها لم تَضِرْك . )
نادرة تتعلق بالحيات
وذكر عن سعيد بن صخر قال : نُهِش رجلٌ من أهل البادية كثيرُ المال فأشفى على الموت فأتاهم رجلٌ فقال : أنا أَرْقيه فما تُعطوني
فشارطوه
على ثلاثين درهماً فرقاه وسقاه أشياء ببعض الأخلاط فلمَّا أفاقَ قال الرَّاقي
والمداوي : حقي قال الملدوغ : وما حقه قالوا : ثلاثون درهماً قال أُعطيه من مالي
ثلاثينَ درهماً في نفثاتٍ نفثها وَحَمْضٍ سقاه لا تُعطوه شيئاً .
حديث سكر الشطرنجي وحدَّثني بعض أصحابنا عن سكَّرٍ
الشِّطرنجيّ وكان أحمق القاصِّين وأحذقَهم بلعب الشِّطرنج وسألته عن خرق كان في
خَرَمَةِ أنفه فقلت له : ما كان هذا الخرق فذكر أنَّه خرج إلى جَبلَ يتكسَّب بالشِّطْرنج
فقدم البلدةَ وليس معه إلاّ درهمٌ واحد وليس يَدري أينجَح أم يُخْفِق ويَجِدُ
صاحبَه الذي اعتمده أمْ لا يجده فورد على حَوَّاءٍ وبين يديه جُوَن عِظامٌ ٌ فيها
حياتٌ جليلة .
والحيّة إذا عضَّت لم تكنْ غايتُها النَّهش أو العضّ وأن
ترضى بالنَّهش
ولكنَّها لا تعضُّ إلاَّ للأكل والابتلاع وربَّما كانت الحيَّات عِظامًا جدًّا ولا سموم لها ولا تَعْقِر بالعضّ كحيات الجَوْلانِ وفي البادية حيَّة يقال لها الحُفَّاث والحُفَّاث من الحيَّات تأكل الفأر وأشباهَ الفأر ولها وعيدٌ مُنكرٌ ونفخٌ وإظهارٌ للصَّولة وليس وراء ذلك شيء والجاهل ربَّما مات من الفزع منها وربَّما جمعت الحيَّة السَّمَّ وشدَّةَ الجَرْح والعضَّ والابتلاع وحَطْمَ العظم فوقف سُكّرٌ على الحوّاء وقد أخرج من جونتهِ أعظم حَيَّاتٍ في الأرض وادّعى نفوذَ الرُّقيةِ وجودةَ التِّرياق فقال له سُكَّرٌ : خذْ منِّي هذا الدِّرهم وارقني رُقْيةً لا تضرّني معها حيّةٌ أبداً قال : فإنِّي أفعل قال : فأرْسِلْ قبل ذلك حَيَّةً حتّى ترقيني بعد أن تعضَّني فإنْ أفقْتُ علمتُ أنَّ رُقْيتك صحيحة قال : فإنِّي أفعل فاخترْ أيَّتَهنَّ شئت فأشار إلى واحدةٍ ممّا تعضُّ للأكلِ دون السَّمّ فقال : دعْ هذه فإنَّ هذه إن قبضَتْ على لحمك لم تفارقك حتى تقطعك قال : فإنِّي لا أريد غيرها وظنَّ أنّه إنّما زَوَاها عنه لفضيلةٍ فيها قال : أمّا إذْ أبيت إلاَّ هذه فاخترْ موضعاً من جسدكَ حَتَّى أرسلها عليه فاختارَ أنفه فناشده وخوَّفه فأبى إلاَّ ذلك
أو يردَّ
عليه دِرهَمَهُ فأخذها الحّواءُ وطواها على يده كي لا يدعها تنكز فتقطع أنفه من
أصله ثمَّ أرسلها عليه فلما أنشبت أحد نابَيْها في شِقِّ أنفه صَرَخ عليه صَرخةً
جمعتْ عليه أهل تلك البلْدة ثُمّ غُشِي عليه فأُخِذَ الحوّاءُ )
فوُضع في السِّجن وقتلوا تلك الحيَّات وتركوه حتّى أفاقَ
كانّه أجنُّ الخلْق فتطوَّعوا بحمله فحملوه مع المُكاري وردُّوه إلى البصرة وبقِي
أثَرُ نابِها في أنفه إلى أن مات
.
ما يغتصب بيت غيره من الحيوان قال : وأشياءُ من الحشراتِ
لا تتخذ لنفسها ولا لبيضها ولا أولادها بيوتاً بل تظلم كلَّ ذي جُحر جُحرَه فتخرجُه
منه أو تأكلُهُ إنّ ثبتَ لها والعربُ تقول للمُسيء : أَظْلَمُ مِنْ حَيّةٍ لأنَّ الحيّة لا
تتَّخذ لنفسها بيتاً وَكُلُّ بيتٍ قصدَت نحوه هرب أهلُه منه وأخْلَوْه لها .
عداوة الورل والحية
والورَل يقْوَى على الحيَّاتِ ويأكلها أكلاً ذريعاً وكلُّ شِدَّةٍ يلقاها
ذو جُحْر
منها فهي تلقَى مثلَ ذلك من الورَل والورَلُ ألْطفُ جِرْمًا من الضّبّ وزعم
أنَّهُمْ يقولون : أَظْلَمُ مِنْ وَرَل كما يقولون : أظْلَمُ مِنْ حَيّة وكما
يقولون : أظْلَمُ مِنْ ذِئْبٍ ويقولون : من اسْتَرْعى الذِّئْبَ ظلم .
الورل والضبّ وبراثن الوَرل أقوى من براثِنِ الضّبّ
والضِّبابُ تحفر جِحَرتها في الكُدَى والوَرل لا يحفُرُ لنفسه بل يُخْرِجُ الضّبّ
من بيته فتزعم الأعرابُ أنَّه إنما صار لا يحفر لنفسه إبقاءً على براثنه ويمنع
الحيَّةَ أن تحفُر بيتها أنّ أسنانَها أَكَلُّ من أسنان الفأر ومن التي تحفر بالأفواه
والأيدي كالنمل والذّرِّ وما أشبه ذلك والحيّة لا ترى أن تعانيَ ذلك وَحَفْرُ
غيرها ومعاناتُه يكفيها
شعر في ظلم الحية
وفي .
ضَرْبِ المثل بظُلْم الحيّة يقول مضرِّس بن لقيط : ( لعمرك إنى لو أخاصم حيةً **
إلى فقعسٍ ما أنصفتنى فقعس ) ( إذا قلت مات الداء بيني وبينهم ** سعى حاطبٌ منهم
لآخر يقبس ) ( فما لكم طلساً إلى كأنكم ** ذئاب الغضا والذئب بالليل أطلس ) وجعله
أطلس لأنّه حين تشتدُّ ظُلمة اللَّيل فهو أخفى له ويكونُ حينئذٍ أخبث له وأضْرَى .
وقال حَرِيزُ بن نُشْبَة العَدَويّ لبني جعفر بن كلاب
وضَرَبَ جَوْر الحيَّةِ والذِّئْبِ في الحُكْمِ مثلاً فقال :
( كأنني حين أحبو جعفراً مدحى ** أسقيهم طرق ماء غير مشروب ) ( ولو أخاصم أفعى نابها لثقٌ ** أو الأساود من صم الأهاضيب ) ( لكنتم معها ألباً وكان لها ** نابٌ بأسفل ساقٍ أو بعرقوب )
فم الأفعى
قال : والحيَّة واسعةُ الشَّحْوِ والفم لها خطم ولذلك ينفذ نابُها وكذلك كلُّ ذِي فمٍ واسعِ الشَّحو كفم الأسد فإذا اجْتمعَ له سعَةُ الشَّحو وطولُ اللَّحيينِ وكان ذا خَطمٍ وخُرطومٍ فهو أشدُّ له كالخنزير والذِّئب والكلْب ولو كان لرأس الحيَّة عَظْمٌ كان أشدَّ لعضَّتها ولكنَّه جلدٌ قد أطبقَ على عظمين رقيقينِ مستطيلين بفكِّها الأعلى والأسفل ولذلك إذا أهوى الرَّجُلُ بحَجر أو عصًى رأيتها تلوِّي رأسها
وتحتال في ذلك وتمنعه بكلِّ حيلةٍ لأنَّها تعلم وتحسُّ بِضَعْفِ ذلك الموضع منها وهو مَقْتَلٌْ وما أكثر ما يكون في أعناقها تخصيرٌ ولصدورها أغباب وذلك في الأفاعي أعمُّ وذلك الموضعُ المستدقّ إنَّما هو شيءٌ كهيئة الخريطة وكهيئة فم الجِراب مُنْضمُّ الأثْناء مُثَنّى الغضُون فإذا شئت أن تفتح انفتح لك فمٌ واسع ولذلك قال إبراهيم بن هانئ : كان فَتْحُ فمِ الجرابِ يحتاجُ إلى ثلاثة أيدٍ ولولا أنّ الحمالين قد جعلوا أفواههم بدل اليد الثَّالثةِ لقدكان ذلك ممتنعًا حتّى يستعينوا بيدِ إنسان . وهذا ممَّا يعدُّ في مجون ابن هانئ وكذلك حُلوقُ الحيَّاتِ وأعناقها وصدورُها قد تراها فتراها في العين دقيقةً ولا سيَّما إذا أفرطَتْ في الطُّول .
شراهة الحية والأسد
وهي تبتلعُ فِراخ الحمام والحيةُ أنهمُ وأشره من الأسد والأسدُ يبلعُ البَضْعَةَ العظيمةَ من غير مضْعٍ وذلك لما فيه من فَضْل الشرَه وكذلك الحيّة وهما واثقان بسهولةِ وسَعَةِ المخرج . تِنِّين أنطاكية
ومِمَّا عظَّمها وزادَ في فزع النَّاس منها الذي يرويه أهلُ الشام وأهْلُ الْبَحْرَيْن وأهل أنطاكِيَةَ وذلك أنِّي رأيتُ الثلث الأعلى من منارة مسجد أنطاكِية أظهرَ جِدَّةً من الثلثين الأسفلين فقلت لهم : ما بالُ هذا الثلثِ الأعلى أجدَّ وأطْرى قالوا : لأنّ تِنِّيناً تَرَفّعَ مِنْ بَحْرِنا هذا فكان لا يمرُّ بشيءٍ إلاّ أهلكه فمرَّ على المدينة في الهواء محاذياً لرأس هذه المنارة وكان أعلى ممَّا هي عليه فضربه بذنبهِ ضَرْبَةً حَذفت من الجميع أكثرَ من هذا المقدار فأعادوه بعد ذلك ولذلك اختلفَ في المنْظَرِ .
الخلاف في التنين ولم يزل أهلُ البقاع يتدافعون أمْرَ
التِّنِّين ومن العجب أنّكَ تكون في مجلسِ وفيه عِشروُن رَجُلاً فيجري ذكرُ
التِّنِّينِ فينكرهُ بعضهم وأصحاب التثبت يدَّعون العِيانَ والموضع قريب ومَنْ
يعاينهُ كثير وهذا اختلافٌ شديد
.
والأعراب تقول في الأصلة قولاً عجيباً : تزعُمُ أنَّ
الحَّية التي يقال لها الأصَلة لا تمرّ بشيءٍ إلاّ احترق مع تهاويلَ كثيرةٍ
وأحاديثَ شنيعةٍ .
الأجدهاني
وتزعم الفُرْس أنّ الأجدهاني أعظم من البعير وأنّ لها سبعةَ رؤوس ورّبما لَقِيتْ ناساً فتبتلع من كلِّ جهةِ فمٍ ورأْسٍ إنساناً وهو من أحاديث الباعة والعجائز .
الحية ذات الرأسين
وقد زعم صاحبُ المنطق أنّه قد ظهرَتْ حَيّةٌ لها رأسانِ فسألتُ أَعْرَابِيًّا عن ذلك فزَعَمَ أنّ ذلك حَقٌّ فقلت له : فمن أَي جهةِ الرَّأسينِ تسعى ومن أيِّهما تأكلُ وتعَضّ فقال : فأمَّا السَّعْيُ فلا تَسْعَى ولكنّها تَسْعَى إلى حاجتها بالتقلب كما يتقلَّب الصِّبيانُ على الرَّمْل وأَمّا الأكل فإنها تتعشى بفمٍ وتتغدّى بفم وأمّا العضُّ فإنها تعضُّ برأسيها معًا فإذا به أكذبُ البريَّة وهذه الأحاديثُ كلها ممّا يزيد في الرعب منها وفي تهويل أمرها . فُرانق الأسد ومِثْلُ شأنِ التِّنِّين مِثْلُ أمْرُ فُرانِقِ الأسد فإنّ ذكره يجري في المجلس فيقول بعضهم : أنا رأيتهُ
فزع الناس من الحية
وربما زاد في الرعب منها والاستهالة لمنظرها قولُ جميعِ المحدِّثين : إنَّ من أعظم ما خَلَقََ اللّهُ الحيةَ والسَّرطانَ والسّمك
طول عمر الحية
وتقول
الأعراب : إنَّ الحيةَ أطولُ عمرًا من النَّسر وإن الناسَ لم يجِدُوا حَيةً قطُّ
ماتت حتْفَ أنفِها وإنما تموت بالأمر يعرض لها وذلك لأمور منها قولهم : إنَّ فيها
شياطينَ وإنَّ فيها مِنْ مِسخ وإنّ إبليسَ إنما وسوس إلى آدم وإلى حوَّاء من
جَوْفها .
زعم الفضل بن إسحاق وزعم لي الفضلُ بن إسحاقَ أنهُ كان
لأبيه نُخَّانِ وأنّ طولَ كُلِّ نخّ تسعةَ عشر ذراعاً
ضروب الحيات
ومن
الحيَّات الجُرْد والزعْر وذلك فيها من الغالب ومنها ذواتُ شعر ومنها ذواتُ قرون
وإنَّما يتخلق لها في كلِّ عام قشرٌ وغلاف فأما مقادير أجسامهافقط .
انسلاخ جلد الإنسان وأمَّا الجلودُ فإنَّ الأرمينيَّ زعم
أنه كان عندهم رجلٌ ينقَشِر من جلده وينسلخُ في كلِّ شهرٍ مَرَّةً قال فجمع ذلك
فوُجد فيه مِلْءُ جراب أو قال : أكثرُ
.
علة الفزع من الحية
وأمَّا الذي لا أشك في أنه قد زاد في أقدارها في النفوس وعظَّم من أخطارها وهوَّل مِن أمْرها ونبّه على ما فيها من الآية العجيبةِ والبرهانِ النيِّر والحجَّةِ الظاهرة فَمَا في قلب العصا حَيَّة
وفي ابتلاعها ما هوّلَ به القوم وسحَروا من أعْيُنِ النَّاس وجاؤوا به من الإفك قال اللّه عزَّ وجلَّ : وَقالَ مُوسَى يا فِرْعَوْنُ إنِّي رسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين حَقِيقٌ على أن لا أقُولَ على اللّه إلاَّ الحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فأرْسِلْ مَعِيَ بني إسْرائيلَ قال إنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فأْتِ بِها إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقينَ فألْقَى عَصاهُ فإذا هي ثُعبَانٌ مُبِينٌ إلى قوله : فَأَلْقَوا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فإنْ قلت : إنه إنما حَوَّل العصا ثُعباناً لأنهم جاؤوا بحبال وعِصِيٍ فحوَّلوها في أعين الناس كلها حيّات فلذلك قلبَ الله العصَا حَيةً على هذه المعارضة ولو كانوا حين سحرُوا أعيُنَ الناس جَعَلوا حبالهم وعصيَّهُمْ ذِئاباً في أَعْيُنِ الناسِ ونمُورًا لجعلَ اللّهُ عصا مُوسى ذئبًا أوْ نَمِرًا فلم يكن ذلك لخاصَّةَ في بَدَنِ الحيةِ قلنا : الدّليل على باطل ما قلتم قَوْلُ اللّه تعالى : وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى قال هي عَصايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وأَهُشُّ بها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مآرِبُ أُخْرَِى قال أَلْقِها يا مُوسى فألْقَاها فإذا هي حَيَّةٌ تَسْعى وقال اللّه عزَّ وجلّ : إذْ قالَ مُوسى لأهْلهِ إنِّي آنَسْتُ ناراً )
إلى قوله : وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ
كأنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يعُقِّبْ يا مُوسى لا تخفْ إنِّي لا
يخافُ لَدَيَّ المرْسلُونَ فقلبت العصا جانًّا وليس هناك حبالٌ ولا عِصِيٌّ وقال
اللّه : قال لئِنِ اتخَذْتَ إلهاً غَيْري لأَجْعَلَنَّك مِنَ المَسْجُونِينَ قالَ
أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُبين قالَ فأْتِ به إنْ كنت من الصَّادِقينَ فألْقى
عصاهُ فإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ فقلْبُ العصا حَيَّةً كان في حالاتٍ شَتَّى فكان
هذا مِمّا زاد في قدْر الحية وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال في دعائه أن لا
يميتَه اللَّهُ لَديغاً وتأويل ذلك : أنَّه صلى الله عليه وسلم ما اسْتَعَاذَ
باللَّه من أن يموتَ لديغَاً وأنْ تكونَ مِيتته بأكْلِ هذا العدوِّ إلا وهو من
أعداءِ اللَّهِ بل من أشدِّهم عداوة وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أشَدُّ
النّاس عذاباً بومَ القيامةِ مَنْ قتلَ نَبِيًّا أو قَتَلَهُ نبيٌّ كأنَّهُ كان في
المعلوم أنَّ النبيَّ لا يقتلُ أحدًا
ولا يتفَّقُ ذلك إلاَّ في أشْرار الخلْق ويدلُّ على ذلك الذي اتفَّق من قتل أُبيِّ بنِ خلفٍ بيده والنَّضر بن الحارث وعُقبة بن أبي مُعيط ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاصي صبراً .
وحُدِّثت عن عبد اللّه بن أبي هند قال : حدّثني صيفي بن أبي أيُّوب أنه سمع أبا بَشِيرٍ الأنصاريّ يقول : كان رسول صلى الله عليه وسلم يتعوَّذُ من هؤلاء السَّبْع : كان يقول : اللهمَّ إني أعوذُ بك من الهَدْم وأعوذُ بك من التردِّي وأعوذُ بك من الغَمِّ والغرَق وأعوذ بك من الحَرَقِ والهَرَم وأعوذ بك أن يتخبَّطني الشيَّطانُ عند الموت وأعوذ بك من أن أموتَ في سبيلك مُدْبِرًا وأعوذ بك من أن أموت لديغاً . وطلحة بن عمرو قال : حدثني عطاء أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : اللَّهُمَّ إني أعوذُ بك من الأسَد والأسْوَدِ وأعوذ بك من الهَدْم .
استطراد لغوي قال : ويقال للحيَّة : صَفَرَتْ تَصْفِرُ
صفيراً والرجل يصفِر بالطير للتنفير وبالدوابِّ وببعض الطير للتعليم وتتخذ الصَّفّارة
يُصْفَرُ بِها للحمامِ وللطيرِ في المزارع قال أعشى هَمْدان يهجو رَجُلاً : ( وإذا
جثا للزَّرع يوم حَصادِه ** قَطَعَ النَّهارَ تأوُّهاً وصَفِيرا )
لسان الحية
والحيَّة
مشقوقة اللسانِ سوداؤه وزعم بعضهم أن لبعض الحيَّات لسانين وهذا عندي غلطٌ وأظنُّ
أنَّهُ لما رأى افتراقَ طرف اللسان قضى بأنَّ له لسانين .
عجيبة للضب ويقال : إن للضَّبِّ أيْرَين ويسمَّى أير
الضَّبِّ نَزْكاً قال الشاعر :
( سقط : بيت الشعر ) ( كضب له نزكان كانا فضيلة ** على كل حاف في الأنام وناعل ) قَالَ أبو خلف النمريّ : سئل أبو حيّة النميري عن أير الضَّبِّ فزعم أنّ أيرَ الضّب كلسان الحيَّة : الأصل واحدٌ الفرع اثنان
زعم بعض المفسرين في عقاب الحية
وبعض أصحاب التفسيرِ يَزْعُمُ أنّ اللّه عاقب الحيَّةَ حين أدخلت إبليس في جوفها حتى كَلّمَ آدمَ وَحَوَّاءَ وخدعهما على لسانها بعشر خِصال : منها شقُّ اللسان قالوا : فلذلك ترى الحيَّة إذا ضُرِبَتْ للقَتْلِ كيف تخرج لسانها لتُرِيَ الضّارِبَ عقوبةَ اللّه كأنها تَسْترحم وصاحب هذا التفسير لم يقلْ ذلك إلاَّ لحيَّةٍ كانت عنْدَهُ تَتَكَلمُ ولولا ذلك لأنكر آدمُ كلامها وإن كان إبليسُ لا يحتال إلاّ من جهة الحيَّة ولا يحتال بشيءٍ غيرِ مموّهٍ ولا مشبَّه .
استطراد لغوي قال : ويقال : أرضٌ مَحْوَاةٌ وَمَحْيَاة
من الحيَّات كما يقال أرض مَضَبَّة وَضَبِبَة من الضِّباب وفائرة من الفأر .
قولهم : هذا أجل من الحرش وقال الأصمعيُّ في تفسير قولهم
في المثل : هذا أَجَلُّ مِنَ الحَرْش : إنّ الضّبّ قال لابنه : إذا سمعت صَوْتَ
الحرْشِ فلا تخرُجَنَّ قال : وذلك أنّهُم ْيزعمون أن الحرْشَ تحريك اليدِ عندَ
جُحْر الضّبِّ ليخرج إذا ظنَّ أنه حية قال : وسمع ابنهُ صوت الحفْر فقال : يا أَبَهْ هذا
الحرش قال : يا بنيَّ هذا أجلُّ من الحرْش فأرسلها مثلاً .
أسماء ما يأكل الحيات
بين الحيات وبين الخنازير عداوة والخنازيرُ تأكُلها أكلاً ذريعاً
وسمومُ ذواتِ الأنيابٍ من الحيّات وَذوات ِالإبر سريعةٌ في الخنازير وهي تَهْلِكُ عند ذلك هلاكاً وشيكاً فلذلك لا ترضى بقتلها حتى تأكلها وتأكلُ الحيَّاتِ العِقْبانُ والأيائِلُ والأراويُّ والأوعالُ والسَّنانير والشّاهْمُرك والقنفذُ إلاَّ أن القنفذ أكثرُ ما يقصِدُ إلى الأفاعي وإنما يظهر بالليل قال الرَّاجز : قنفذ ليلٍ دائم التَّجْآبِ وهذا الراجز هو أبو محمد الفقعسي القول في القنفذ وكذلك يشبه النَّمَّامُ والمُدَاخِلُ والدَّسِيس بالقنفذ لخروجه بالليل دون النهار ولاحتياله للأفاعي قال عَبْدة بن الطبيب : ( يزجى عقاربه ليبعث بينكم ** حرباً كما بعث العروق الأخدع )
( حران لا يشفي غليل فؤاده ** عسلٌ بماء في الإناء مشعشع ) ( لا
تأمنوا قوماً يشب صبيهم ** بين القوابل بالعداوة ينشع ) وهذا البيت الآخر يضم إلى
قول مجنون بني عامر : ( أتاني هَوَاها قَبْل أنْ أعْرِفَ الهَوَى ** فَصَادَفَ
قَلْباً خَالِياً فَتَمَكنا ) ويضم إليه قول ابْنِ أوْدٍ : الطينة تَقْبَلُ الطبائع ما كانت
لَيِّنَةً .
ثم قال عبْدة بنُ الطَّبيب في صلة الأبياتِ التي ذكر فيها
القنفذَ والنَّميمةَ : ( إنَّ الذين تُرَوْنَهُمْ خُلاَّنَكُمْ ** يَشْفِي صُدَاعَ
رُؤوسهِمْ أنْ تُصْرَعُوا ) ( قومٌ إذا دمسَ الظَّلاَمُ عَلَيْهِمُ ** جَذْعُوا
قَنافِذَ بالنميمة تمزَعُ )
وهذا
الشعر من غُرر الأشعار وهو مِمَّا يحفظ .
وقال الأوديّ : ( كقنفذ القُنِّ لا تخفى مدارِجُهُ **
خبٌّ إذا نامَ عَنْهُ الناس لم ينمِ ) عهد آل سجستان على العرب وفي عهد آل سجستان
على العربِ حين افتتحوها : لا تقتلوا قُنْفُذًا
ولا وَرَلاً وَلاَ تَصِيدُوا لأنها بلادُ أفاعٍ وأكثرُ ما يجتلبُ أصحابُ صنعة الترياق والحواؤون الأفاعي من سجستان وذلك ) كَسْبٌ لهم وحِرْفَةٌ ومَتجرٌ ولولا كثْرَةُ قنافِذِها لما كان لهم بها قرارٌ . 4
أكل القنفذ للحية
والقنفذُ
لا يبالي أيّ موضع قبضَ من الأفعى وذلك أنه إن قبض على رأسها أو على قفاها فهي
مأكولةٌ على أسهل الوُجوه وإن قَبضَ على وسطها أو على ذنبها جذَبَ ما قبض عليه
فاستدار وتجمَّع ومنحه سائِرَ بدَنِهِ فمتى فَتَحَتْ فاها لتقبضَ على شيء منه لم
تصلْ إلى جلده مع شوكِهِ النََّابت فيه والأفعى تهربُ منه وطلبهُ لها وجراءتهُ
عليها على حَسَبِ هربِها منه وضعْفها عنه .
أمثال في الحية والوَرَل والضَّبِّ وأمَّا قولهم : أضل
من حَيّةٍ وأَضَلُّ من وَرَلٍ وأضَلُّ من ضَبٍ ّ فأمَّا الحيّة فإنَّها لا تتَّخذ
لنفسها بيتاً والذَّكَرُ لا يقيم في الموضع وإنما يقيم على بيضها بقدر ما تخرج
فراخُها وتقوى على الكَسْب والتماس الطعم ثمَّ تصير الأنثى سَيَّارَةً فمتى وَجَدت
جُحْرًا دخلتْ واثقةً بأنَّ
السَّاكِنَ فيه بين أمرين : إمّا أقام فصار طُعْماً لها وإمَّا هرَب فصار البيتُ لها ما أقامت فيه ساعةً كان
بيض الحيات
وقد رأيتُ بيض الحيَّات وكسرتُها لأتعرَّفَ ما فيها فإذا هو بيضٌ مستطيلٌ أكدرُ اللون أخضر وفي بعضه نَمَشٌ ولُمَعٌ فأمَّا داخلُه فلم أَرَ قَيْحًا قطُّ ولا صدِيدًا خَرَجَ من جُرحٍ فاسدٍ إلاَّ والَّذي في بيضها أسمجُ منه وأقذر ويزعمون أنها كثيرةُ البيض جداً وأنَّ السلامة في بيضها على دون ذلك وأنَّ بيضها يكون منضَّدًا في جوفها طُولاً على غرار واحد وعلى خيط واحد وهي طويلة البطن والأرحامِ وعددُ أضلاعها عددُ أيام الشهر وكان ذلك بعض ما زاد في شدَّة بدنها .
أكثر الحيوان نسلاً والخلْق الكثير الذَّرء الدَّجاجُ
والضَّبُّ أكثَرُ بيضاً من الدَّجاجة والخنزيرة تضعَ عشرين خِنَّوْصاً .
ويخرجُ من أجوافِ العقاربِ عقاربُ صغارٌ كثيرةُ العدد
جدًّا وعامَّة العقارب إذا حَبِلَتْ كان حَتْفُها في ولادها لأنَّ أولادها إذا
اسْتَوى خَلْقُها أكلَتْ بطونَ الأمَّهاتِ حتّى تثقبها وتكونُ الولادةُ من ذلك
الثَّقب فتخرج والأمهاتُ ميِّتة
. )
وأكثَرُ من ذلك كله ذَرْءُ السَّمك لأنَّ الإنسان لو
زَعَمَ أنّ بيضة واحدة من بَعْضِ الأسْبور عشرة آلاف بيضة لكان ذلك لعظَمِ ما
تحمِل ولدِقَّة حَبّه وصِغره ولكن يعتريها أمران : أحدهما الفساد والآخر أنَّ
الذكورة في أوانِ ولادة الإناث تَتْبَعُ أَذْنَابَها فكُلَّما زَحَرَتْ بشيء
التقمتْه والتهمتْه .
ثمَّ السَّمك بعد ذلك في الجملة إنما طبعها أن يأكل
بعضُها بعضاً .
علة كثرة الأولاد ويزعمون أن الكثْرَةَ في الأولاد إنّما
تكون من العفَنِ واللَّخَن وعلى قدْرِ كثرةِ المائيَّة وقِلّتِها فذهبوا إلى أنَّ
أرحامَ الرُّوميَّاتِ والنَّصرانيَّاتِ أكثرُ لخنًا ورُطوبة لأنّ غَسْلَ الفُرُوجِ
بالماء البارد مرارًا في اليوم مِمَّا يطيِّب الأرحامَ وينفي اللَّخَنَ والعَفَن
ويزعمون أنَّ المرأة إذا كان فرجُها نظيفاً وكانت مُعَطّرَة قويّة المُنّةِ قَلَّ
حملُها فإنْ أفرطَتْ في السِّمَنِ عادتْ عاقراً وسِمانُ الرِّجال لا يكاد يعتريهم
ذلك .
وكذلك العاقر من إناث الإبل والبقر والغنم والنَّخْل إذا
قويت النَّخلة وكانت شابّةً وسَمِنَ جُمَّارُها صارتْ عاقِرًا لا تحمل فيحتالون
عند ذلك بإدخال الوهن عليها .
اعتراض على التعليل السابق وقد طعن في ذلك ناسٌ فقالوا :
إنّ في الضّبِّ على خلاف ما ذكرتم قد تبيضُ الأنثى سبعين بيضة فيها سبعون حِسْلاً
ولولا أنّ الضَّبَّ يأكلُ ولدَه لانتفشت الصحارى ضِباباً والضب لا يحفر إلاّ في
كُدْية وفي بلادِ العَرَاد وإذا هرمت تبلّغتْ بالنّسيم وهذا كله مِمَّا يستدلّ
ُ به على
بُعْدِ طبعها من اللَّخَن والعفن .
وقيل لهم : قد يمكنُ أن يكون ذلك كذلك في جميع صفاتها
إلاّ في أرحامها فقط .
سفاد الحيات
وليس
للحيَّاتِ سِفادٌ معروف يَنْتَهي إليه علمٌ ويقف عليه عيان وليس عند الناس في ذلك
إلاَّ الذي يَرَوْنَ من ملاقاة الحيّة للحيَّة والتواءِ كلٍّ منهما على صاحبه حتى
كأنهما زوجُ خيزرانٍ مفتولٌ أو خَلخَالٌ مفتولٌ فأمَّا أن يقفوا على عضوٍ يدخل أو
فرج يدخل فيه فَلا .
شعر في الأيم والجرادة الذكر والعرب تذكُرُ الحيّاتِ
بأسمائها وأجناسها فإذا قالوا :
أَيْم فإنما يريدون الذَّكَر دونَ الأنثى ويذكرونه
عِنْدَ جودةِ الانسيابِ
وخِفَّةِ
البدن كما تذكر الشُّعراء في صفة الخيل الجرادةَ الذَّكَرَ دُونَ الأنثى فهم وإن
ألحقُوا لها فإنما يريدون الذَّكَرَ قال بِشْرُ بن أبي خازم : لأنّ الأنثى لا تكون
صفراء وإنما الموصوفُ بالصُّفْرة الذَّكر لأن الأنثى تكون بين حالتين : إمّا أنّ
تكون حُبْلى بِبَيْضِها فهي مُثْقلة وإمّا أن تكون قد سرأت وقذَفت بيضها فهي أضعفُ
ما تكون .
قال الشاعر : ( أَتذهَبُ سَلْمَى في اللِّمَامِ وَلا
تُرى ** وفي اللَّيلِ أَيْمٌ حيثُ شاءَ يسيبُ )
آثار الحيات والعظاء في الرمال
وإذا
انسابت في الكُثْبانِ والرّملِ يبينُ مواضعُ مَزَاحِفها وعُرِفت آثارُها .
وقال آخر : ( كأَنَّ مَزَاحِفَ الحيَّاتِ فيها ** قُبيلَ
الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ ) وكذلك يعرفون آثار العِظاء وأنشدَ ابن الأعرابيِّ : (
بها ضربُ أذناب العِظاء كأنها ** مَلاعِبُ وِلْدَانٍ تخطّ وتمصعُ ) وقال الآخر وهو
يصف حيّات : ( كأنَّ مَزاحِفها أُنسعٌ ** جُرِرْنَ فُرَادَى ومَثْناتها ) ( كأنَّ
مَزَاحِفَ الهَزْلَى صباحاً ** خُدُودُ رَصائع جُدلتْ تؤاما )
والهَزْلَى من الحيَّات قال جرير أو غيره : ( ومن ذات أصْفاءٍ سُهُوب كأَنها ** مَزَاحِفُ هَزْلَى بينها متباعدُ ) وقال بعضُ المحدثين وذكر حال البرامكةِ كيف كانتْ وإلى أيِّ شيءٍ صارت : ( وإذا نَظَرْتَ إلى التّرى بِعِرَاصهم ** قُلتَ : الشجاعُ ثوى بها والأرقمُ ) وقال البعيث : ( لَقًى حَمَلَتْهُ أُمُّةُ وهي ضَيْفَةٌ ** فجاءتْ بيَتْنٍ للضيافَةِ أرْشَما ) ( مُدامِنُ جَوْعَاتٍ كأنّ عروقَهُ ** مسَارِبُ حَيَّاتِ تَسَرَّبْنَ سَمْسَما )
روعة جلد الحية
ولا ثوبَ
ولا جناحَ ولا سِتْرَ عنكبوتٍ إلا وَقشْرُ الحيَّةِ أحْسَنُ منه وأرقُّ وأخفُّ
وَأنْعَمُ وأعجبُ صنعةً وتركيباً .
ولذلك وصف كُثَيِّرٌ قميص ملِكٍ فشبَّهه بِسَلخ الحيَّة
حيث يقول : ( إذا ما أفادَ المالَ أودَى بِفَضْلِهِ ** حقوقٌ فَكُرْهُ العاذلاتِ
يوافقُه ) والسَّبِيء : السَّلْخُ والجلد قال الشاعر : وقد نصلَ الأظْفارُ وانسَبَأ
الجلْدُ
صمم النعام والأفعى
وتزعمُ
العربُ أنَّ النَّعامَ والأفعى صُمٌّ لا تسمع وكذلك هما من بينِ جميع الخَلْقِ
وسنذكرُ من ذلك في هذا الموضع طرفاً ونؤخر الباقي إلى الموضع الذي نذكر فيه جملة
القَوْل في النَّعام أصحاب الدعاوى الكبيرة وقد ابتُلينا بضَرْبين من الناس
ودعواهما كبيرة أحدهما يبلغ من حبه للغرائب أن يجعل سمْعه هدَفاً لتوليد الكذابين
وقلبه قرارًا لغرائب الزُّور ولِكَلَفِهِ بالغريب وشَغَفِهِ بالطُّرَفِ لا يقفُ على
التَّصحيح والتمييز فهو يدخل الغثَّ في السمين والممكنَ في الممتنع ويَتَعَلَّقُ
بأدنى سببٍ ثمَّ يدفع عنه كلّ الدَّفعِ .
والصِّنف الآخر وهو أنَّ بعضهم يرى أنَّ ذلك لايكون منه
عنْدَ من يسمعه يتكلم إلا من خاف التقزُّز من الكذب .
قول في صمم الأفعى وعماه
( أنعَتُ نضناضاً من الحيَّاتِ ** أصمَّ لا يَسْمَعُ للرُّقَاة ) قد ذكروا بالصَّممِ أجناساً من خبيثات الحيَّات وذهبوا إلى امتناعها من الخروج عند رُقيةِ الرَّاقي عند رأس الجُحْر فقال بعضهم : ( وذاتِ قَرْنَيْنِ من الأفاعي ** صَمَّاء لا تَسْمَعُ صَوْتَ الدَّاعي ) ويزعمونَ أنّ كلّ نَضْناضٍ أفعى وقال آخر : ( ومِنْ حَنَشٍ لا يُجِيبُ الرُّقا ** ةَ أَرْقَشَ ذي حُمَةٍ كالرِّشا ) ( أصمَّ سَمِيعٍ طويلِ السُّبَا ** تِ مُنْهَرتِ الشدقِ عارِي النسَا ) فزعم أنّه أصمُّ سميعٌ فجاز له أن يجعله أصمّ بقوله : ومِنْ حَنَشٍ لا يُجِيبُ الرُّقاة وقال الآخر : ( أصمَّ أَعْمى لا يُجيِبُ الرُّقى ** يَفْتَرُّ عَنْ عُصْلٍ حَدِيداتِ ) والأفعى ليس بأعمى وعينه لا تنطبق وإنْ قُلِعَتْ عينهُ عادت وهو قائمُ العَيْنِ كَعَيْنِ الجرادة كأنها مِسمارٌ مضروب ولها بالليل شُعاع خفيٌّ قال الرَّاعي يصفُ الأفعى :
( ويُدني ذِرَاعَيهِ إذا ما تبادَرَا ** إلى رأسِ صِلٍّ قائمِ العَيْنِ أسفعِ ) وهذه صفةُ سَليمِ الأفعى فيجوز أن يكون الشاعِرُ وصفها بالتمنع من الخروج بالصَّممَ كما وصفها بالعمى لمكان السُّباتِ وطُولِ الإطراق . ( أصمَّ سميع طَويل السُّباتِ ** مُنهرت الشِّدْقِ عَارِي القَرَا ) وقال آخر : ( منهرتِ الشِّدقِ رَقُودِ الضُّحى ** سارٍ طَمُورٍ بالدُّجُنَّاتِ ) ( وتارَةً تَحْسَبُهُ مَيِّتاً ** من طُولِ إطْرَاقٍ وإخباتِ ) ( يُسْبِتُهُ الصُّبْحُ وَطَوْراً لَهُ ** نَفخ ونفْثٌ في المغارات ) وَيُعْلَمُ أنَّهُ وصَفَ أفعى بقوله : ( أصمَّ أعمى لا يُجيِبُ الرُّقى ** يَفْتَرُّ عن عُصْلٍ حَدِيداتِ ) مُنْهَرِتِ الشِّدْقِ رَقُودِ الضُّحى الخ ثم ذكر أنيابَهُ فقال : ( قُدِّمْن عَنْ ضِرْسَيْهِ واسْتَأْخَرا ** إلى صماخَيْنِ وَلهْوَاتِ )
فجعله أعصل الأنياب منهرتَ الأشْداق ثمَّ وصفها بالسُّباتِ
وطولِ الإطراق وبِسُرْعَةِ النَّشْطة وخفّة الحركة إذا هَّمت بذلك وكانت تعظم .
شعر امرأة جمع صفة الحية وقد وصفتها امرأة جاهليَّةٌ
بجميع هذه الصِّفةِ إلاَّ أنها زادت شيئاً والشِّعرُ صحيح وليس في وقد رأيتُ عند
داودَ بن محمَّدٍ الهاشميِّ كتاباً في الحيَّات أكثرَ من عشرة أجلادٍ ما يصحُّ
منها مقدارُ جلدٍ ونصف .
ولقد ولَّدُوا على لسانِ خلفٍ الأحْمَرِ والأصمعيِّ
أرجازاً كثيرة فما ظَنُّكَ بتوليدهم على ألسِنَةِ القُدماء .
ولقد ولَّدُوا على لسانِ جَحْشَوَيْهِ في الحلاق أشعاراً
ما قالها جَحْشَوَيه قط فلو تقَذَّرُوا من شيءٍ تقذَّرُوا من هذا الباب .
والشِّعر الذي في الأفعى : ( قَدْ كاد يقتُلني أصمُّ
مُرَقَّشٌ ** من حُبِّكُمْ والخطبُ غيرُ كبيرِ ) ( خُلِقَتْ لَهَازِمُهُ عِزينَ
ورأسُهُ ** كالقُرْص فُلْطِحَ مِنْ دقيقِ شَعيرِ )
( وَيديرُ عَينْاً لِلْوقاع كأنَّها ** سَمْراءُ طاحَتْ مِنْ نَفيضِ بَرِيرِ ) ( وكأنَّ ملقاه بكلِّ تَنُوفَةٍ ** مَلْقاكَ كِفَّةَ مُنْخُل مأطورِ ) ( وكأنَّ شِدْقَيْهِ إذا اسْتَعْرَضْتَهُ ** شِدْقَا عَجوز مضْمَضَتْ لِطهُورِ ) فقد زعمت كما ترى أنها تدير عيناً وزعم الأوَّلُ أنها قائمة العين إلاَّ أنْ تزعُمَ أنها لم تُرِدْ بالإدارة أن مقلتها تزولُ عن موضعها ولكنّها أرادتْ أنّها جَوّالةٌ في إدراك الأشخاص البعيدةِ وقد يجوزُ أنْ يكونُ إنَّما جَعَلَها سميعةً لدقّة الحِسِّ وكثرة الاكتراث وجودةِ الشمِّ لا جَوْدَةِ السَّمْعِ فإنّ الذين زعموا أنّ النّعامة صمّاء زَعمُوا أنّها تُدْرِكُ من جهة الشمِّ والعَيْنِ جميع الأمورِ التي كانت تعرفها من قِبلَ السَّمْع لو كانَتْ سَمِيعَة وقد قال الشاعِرُ في صفة الحيّة :
( تَهْوِي إلى الصّوْت والظلماءُ عاكِفَةٌ ** تَعَرُّدَ
السَّيْلِ لاقَى الحَيْدَ فَاطّلَعَا
) هذا بعد أن قال : ( إني وما تَبْتغي منّي كملتمس **
صيداً وما نالَ مِنْهُ الرِّيَّ والشِّبَعا ) ( أهْوى إلى بابِ جُحر في مقدّمِه **
مِثْلُ العسيبِ تَرى في رَأسِه نزَعَا
) ( اللَّوْنُ أربَدُ والأنيابُ شابكةُ ** عُصْلٌ تَرى
السمَّ يجري بيْنها قِطَعَا ) ( أصم ما شمَّ مِنْ خَضراءَ أيبَسها ** أو شمّ من
حَجَر أوْهاهُ فانْصدعَا ) فقد جَعَلَ لها أنياباً عُصْلاً ووصفها بغاية الخُبْثِ
وزعم أنها تسمع فهؤلاء ثلاثة شعراء
.
الثقة بالعلماء فإن قلت : إنّ المولَّدَ لا يؤمن عليه
الخطأ إذْ كان دخيلاً في ذلك الأمر وليس كالأعرابيِّ الذي إنما يحكي الموجودَ
الظاهر له الذي عليه
نَشَأ
وبِمَعْرِفَتِهِ غُذي فالعلماء الذين اتَّسَعوا في علم العرب حتى صاروا إذا أخبروا
عنهم بخبرٍ كانوا الثِّقاتِ فيما بيننا وبينهم هم الذين نقلُوا إلينا وَمْتَى
أخبرني بعضُ هؤلاء بخبر لم أسْتَظْهِرْ عليه بمسألة الأعراب ولكنهُ إنْ تَكلم
وتحدَّث فأنكرتُ في كلامهِ بعضَ الإعراب لم أجْعَلْ ذلك قُدوَةً حتى أُوقِفه عليه
لأنّه ممَّنْ لا يُؤْمنُ عَلَيْهِ اللَّحْنُ الخفيّ قبلَ التفكر فهذا وما أشبههُ
حكمهُ خلافُ الأوَّل .
الرُّقْية والرُّقْيَةُ تكونُ على ضروب : فمنها الذي
يدّعيه الحَوَّاءُ والرَّقَّاء وذلك يُشْبِه بالذي يدَّعي ناسٌ من العزائم على
الشياطين والجن وذلك أنهم يزعمون أن في تلك الرّقْيَةِ عزيمةً لا يمتنع منها
الشيطانُ فكيفَ العامر وأن العامِرَ إذا سُئل بها أجاب فيكونُ هو الذي يتولى
إخراجَ الحياتِ من الصّخْر فإنْ كان الأمرُ على ما قالوا فما ينبغي أن يكون بين
خروج الأفاعي الصمِّ .
وغيرها فرقٌ إذا كانت العزائم والرّقى
والنَّفْثُ
ليس شيئاً يعمل في نفس الحيّة وإنَّما هو شيءٌ يَعْملُ في الذي يُخْرِجُ الحَيَّة
وإذا كان ذلك كذلك فالسَّميعُ والأصمُّ فيه سواءٌ .
وكذلك يقولون في التَّحبيب والتَّبغيض وفي النُّشرة
وحلِّ العُقْدة وفي التَّعقيد والتحليل
.
العزيمة ويزعمون أنَّ الجن لا تجيبُ صاحب العزيمةِ حتى
يتَوَحَّشَ ويأتي الخراباتِ والبراريَّ ولا يأنسَ بالناس ويَتَشَبَّه بالجنِّ
ويغسل بالماء القراح ويتبخَّر باللِّبان الذَّكر ويراعي المشتري فإذا دقَّ ولطُفَ
وتوحّش وعزم أجابتْهُ الجنُّ وذلك بعد أن يكونَ بدنهُ يصلُح هيكلاً لها وحتَّى
يَلَذَّ دُخولَه واديَ منازلها وألاَّ يكرهَ ملابسته والكَوْنَ فيه فإنْ هو ألَحَّ
عليها بالعزائم ولم يأخُذ لذلك أهْبته خبَلتْه وربَّما قتلتْه لأنها تَظنُّ أنّهُ
متى توحَّش لها واحتمى وتَنَظف
فقد فرغ
وهي لا تُجيب بذلك فَقَطْ حتى يكونَ المعزِّمُ مشاكلاً لها في الطِّباع . )
فيزعمون أنّ الحيَّاتِ إنما تُخْرَجُ إخراجاً وأنَّ الذي
يخرجُها هو الذي يخرِج سمومها مِنْ أجساد النّاس إذا عَزَم عليها . التعويذ
والرُّقْيةَ الأخرى بما يُعْرفُ من التعويذ قال أبُو عُبَيْدَة : سَمِعْتُ
أَعْرَابياً يقول : قد جاءكم أحدُكُمْ يستَرْقِيكُمْ فارْقوه قال : فَعَوَّذُوهُ
ببعض العوائذ .
والوجه الآخر مشتقّ من هذا ومحمولٌ عَلَيْهِ كالرّجُلِ
يقول : ما زال فلانٌ يرقي فُلاناً حتَّى لانَ وأجابَ .
رقى الحيات
وقد قالت الشعراء في الجاهِلِيَّةِ والإسلامِ في رُقى الحيات وكانوا يؤمنون بذلك ويصدقون به
ومنهم
مَنْ زعم أنَّ إخراجَ الحيّةِ من جُحْرها إلى الرَّاقي إنما كان للعزيمة والإقْسام
عليها ولأنَّها إذا فهمتْ ذلك أجابَتْ ولم تمتنع .
وكان أمَيَّةُ بنُ أبي الصَّلت لا يعرف قولهم في أنَّ
العُمَّارَ هم الذين يُجيبون العزائم بإخراج الحيّات من بيُوتها وفي ذلك يقول : (
والحية الذكر الرقشاء أخرجها ** من جحرها أمنات الله والقسم ) ( إذا دعا باسمها
الإنسان أو سمعت ** ذات الإله بدا في مشيها رزم ) ( من خلفها حمةٌ لولا الذي سمعت ** قد كان ثبتها في
جحرها الحمم ) ( نابٌ حديدٌ وكفٌ غير وادعةٍ ** والخلق مختلفٌ في القول والشيم ) (
إذا دعين بأسماء أجبن لها ** لنافثٍ يعتديه الله والكلم ) ( لولا مخافة ربٍ كان
عذبها ** عرجاء تظلع في أنيابها عسم
)
( وقد بلته فذاقت بعض مصدقه ** فليس في سمعها من رهبةٍ صمم ) (
فكيف يأمنها أم كيف تألفه ** وليس بينهما قربى ولا رحم ) يقول : لو أنَّها أخرجت
حين اسْتُحْلِفَتْ بالله لما خرجت إذ ليس بينهما قُربى ولا رَحِم ثمَّ ذكر
الحُمَّةَ والنّاب .
وقال آخرون : إنما الحيَّة مثل الضبّ والضّبع إذا سمع
بالله والهدْم والصَّوت خرج ينظر والحوَّاء إذا دنا من الجُحْر رفع صوتَه وصفَّقَ
بيديه وأكثر من ذلك حتى يخرج الحيّة كما يُخرجُ الضب )
والضَّبع
.
وقال كثيِّر : ( وسَودَاءَ مِطراق إليَّ مِن الصَّفا **
أنِيٍّ إذا الحاوي دنا فَصَدا لها ) والتَّصدية التَّصفيق قال اللّه تعالى : وما
كان صلاتُهُمْ عِنْدَ البَيْتِ إلاَّ مُكاءً وتصْدِيةً الآية فالمُكاء : صوتٌ بين
النَّفخ والصَّفير والتَّصْدِيَةُ : تصفيق اليد باليد .
فكان الحوّاء يحتالُ بذلك للحيَّة ويُوهم مَنْ حضرَ
أنَّهُ بالرُّقية
أخرجها
وهو في ذلك يتكلم ويعرِّض إلاّ أنَّ ذلك صوتٌ رفيع وهو لو رفَعَ صوته ببيتِ شعرٍ
أو بخُرافةٍ لكان ذلك والذي يظهر من العزيمة عند الحيَّة سَواءً وإنَّما ينْكر
الصَّوتَ كما ينكره الضّبُّ وغيرُ ذلك من الوحش .
ثم قال : ( كفَفْتُ يَداً عنها وأرضَيْتُ سَمْعها ** من
القَوْل حتَّى صدَّقَتْ ما وعى لها ) ( وأشْعرتها نفْثاً بليغاً فلو ترى ** وقد
جعلت أن ترعني النَّفْثَ بالها ) فقال كما ترى : كففت يدًا عنها وأرضيتُ سمْعَها
ثم قال : وأشعرتها نَفْثاً بليغاً فلو ترى وقال الأعشى : ( أبا مِسْمَعٍ إني امرؤ
من قبيلةٍ ** بَنَى لِيَ عِزاً مَوْتُها وحياتُها ) ( فلا تُلْمِسِ الأفعى يديك
تريدها ** إذا ما سعت يوماً إليها سَفاتُها )
وقال آخر : ( يَدْعُو بِهِ الحيَّةَ
في أقطارِهِ ** فإنْ أبى شَمَّ سَفا وِجَارِهِ ) والسَّفا : التراب اليابس بين التربين
يقال سَفاً وسفاة .
تمويه الحواء والراقي والحوَّاء وَ الرَّاقي يُرِي
النَّاس أنَّهُ إذا رأى جحراً لم يخْفَ عليه : أجحر حيَّةٍ هو أمْ جُحْر شيء غيره
فإن كان جُحر حيّةٍ لم يَخْفَ عليه أهي فيه أم لا ثمَّ إذا رَقى وعزَّم فامتنعت من
الخُرُوجِ وخاف أنْ تكون أفْعى صَمَّاءَ لا تسمَعُ وإذا أَرَاغَها ليأخُذَها فأخطأ
لم يأمن من أن تنقره نَقْرَةً لا يُفْلِحُ بعدها أبداً فهو عند ذلك يستبري بأن
يشمَّ من تراب الجُحر فلا يخفى عَلَيْهِ : أهي أفْعى أم حَيّةٌ من سائر الحيات
فلذلك قال :
يدعو به الحَية في أقطاره والوجار : الجُحر .
ريح الأفعى
وزعم لي
بَعْضُ الحوَّائين أنَّ للحيَّات نَتْناً وسهَكاً وأن ريحَ الأفعَى معروفَةٌ وليس
شيءٌ أغلقَ ولا أَعْنَقَ ولا أسرعَ أخذاً لرائِحةٍ من طينٍ أو تراب وَأَنَّهُ إذا
شمّ من طينة الجُحْر لم يخْفَ عليه وقال : اعتبِرْ ذلك بهذا الطين السداني
والرَّاهطي إذا أُلقي في الزَّعفران والكافور أو غيره ذلك من الطِّيب فإنّه متى
وُضع إلى جنب رَوْثَةٍ أو عَذِرَة قَبِلَ ذلك الجسم والرَّقاء يوهم النَّاسَ إذا
دخَل دُورهم لاستخراج الحيَّاتِ أَنَّهُ يعرف أماكنها برائِحتها فلذلك يأخُذُ
قصبةً ويَشْعَب رأسها ثم يطْعُن بها في سقف البيت والزَّوايا ثمّ يشمها ويقول مرة : فيها حيّات ويقول
مَرَّةً : بلى فيها حيّات على قدْر الطمع في القوم وفي عقولهم .
تأثير الأصوات وَأَمْرُ الصَّوتِ عجيبٌ وتصرُّفُه في
الوجوه عجب فمن ذلك أنّ منه
ما يقتل
كصوت الصاعقة ومنها ما يسرُّ النفوس حتى يُفْرِط عليها السُّرُورُ فتقلَقَ حتى ترقُص
وحَتَّى رُبما رمى الرَّجُل بنفْسه مِن حالق وذلك مثلُ هذه الأغاني المطرِبة ومن
ذلك ما يُكْمد ومن ذلك ما يزيل العقْل حتى يُغْشَى على صاحبه كنحو هذه الأصواتِ
الشجيةِ والقراءَات الملحَّنة وليس يعتريهم ذلك مِنْ قِبَلِ المعاني لأنهم في كثير
من ذلك لا يفهمون معاني كَلاَمهم وقد بَكَى ماسرجويه من قراءَة أبي الخوخ فقيل له
: كيفَ بكيتَ من كتاب اللّه ولا تصدِّقُ به قال : إنما أبكاني الشجا .
وبالأصوات ينوِّمون الصِّبيانَ والأطفالَ .
أثر الصوت في الحيوان )
أثر
الأصوات في الحيوان
والدَّوابُّ تَصُرُّ آذانها إذا غنَّى المُكارِي والإبل
تصرُّ آذانَها إذا حدا في آثارها الحادي وتزداد نشاطاً وتزيد في مشيها ويَجمع بها
الصَّيَّادُونَ السَّمك في حظائرهم التي يتَّخذونها له وذلك أنّهم يضربون بعصيٍّ
معهم وَيُعَطْعِطُونَ فتُقبل أجناسُ السَّمكِ شاخصةَ الأبصار مصغيةً إلى تلك الأصوات
حَتَّى تدخُلَ في الحظيرة ويُضْرَب بالطِّساس للطَّير وتُصاد بها ويضرَبُ
بالطِّساس للأُسْدِ وقد أقبلَتْ فتروعُها تلك الأصوات .
وقال صاحب المنطق : الأيائِلُ تُصَادُ بالصَّفيرِ
والغناء وهي لا تنامُ مادامت تسمَعُ ذلك من حاذقِ الصوت فيشغلونها بذلك ويأتُون من
خَلفِها فإنْ رأوْها مسترخيةَ الآذانِ وثَبُوا عليها وإن كانت قائمة الأذنين فليس
إليها سَبيل .
والصَّفير تُسْقى به الدوابُّ الماءَ وتنفَّرُ به الطير
عن البذور .
وزعم صاحبُ المنطق أنَّ الرَّعدَ الشَّدِيدَ إذا وافق
سِبَاحَة السَّمك
في أعلى الماء رَمَتْ ببيضها قبلََ انتهاء الأجَل وربّما تمّ الأجل فتَسمع الرَّعدَ الشَّدِيدَ فيتعطَّل عليها أيّاماً بعدَ الوقت . 4
قول لأبي الوجيه العكلي
وقال أبو الوجيه العُكْلِيُّ : أحِبُّ السّحابةَ الخَرْسَاءَ وَلاَ أُحِبها فقيل له : وكيف ذلك قال : لأنها لا تخرَسُ حتى تمتلئَ ماءً وتصبُّ صَبّاً كثيراً ويكونَ غيثاً طَبَقَاً وفي ذلك الحَيَا إلاّ أنّ الكماةَ لا تكون على قدْرِ الغيث ذهب إلى أنّ للرَّعدِ في الكمأة عملاً . 4
دعابة لجعفر بن سعيد
وقال جعفر
بن سعيد : سأل كسرى عن الكَمْأة فقيل له : لا تكونُ بالمطر دونَ الرَّعد ولا
بالرّعْد دونَ المطر قال : فقال كسرى : رشُّوا بالماء واضربوا بالطبول وكان من
جعفر على التمليح وقد علم جعفرٌ أنّ كسرَى لا يجهل هذا المقدار .
فالحيَّة واحدةٌ من جميع أجناس الحيوان الذي للصَّوتِ في
طبعه عمل
فإذا دنا الحوَّاء وصفق بيديه وتكلم رافعاً صوتَه حتى يزَيِّد خرج إليه كلُّ شيء كان في الجُحْر فلا يشكُّ من لا علم له أنَّ من لا علم له أنَّ الحيّةَ خرجت من جهة الطاعةِ وخوْف المعصِيَةِ وأنّ العامرَ أخرجها تعظيماً للعزيمة ولأنّ المعتزم مُطاعٌ في العُمَّار والعامّة أسرعُ شيءٍ إلى التَّصديق . 4
شعر في الروح وهيكلها
وفي
الرُّوح وفي أنّ البدنَ هيكلٌ لها يقول سليمانُ الأعمى وكان أخا مسلم ابن الوليد )
الأنصاريِّ وكانوا لا يشكون بأنَّ سليمانَ هذا الأعمى
كان من مُسْتَجِيبِي بشارٍ الأعمَى وأنَّه كان يختلف إليه وهو غلاَم فقبل عنه ذلك
الدِّين وهو الذي يقول : ( إنّ في ذَا الجِسمِ مُعْتَبَراً ** لِطَلُوبِ الْعِلمِ
مُقْتَبِسِهْ )
( هَيْكَلٌ للرُّوح ينطقه ** عِرْقُهُ والصّوْتُ من نَفَسِهْ ) ( لا تَعِظْ إلاّ اللَّبِيبَ فما ** يُعْدَلُ الضِّلعُ عَلَى قَوَسِهْ ) ( رُبَّ مَغْرُوسٍ يُعَاشُ بِهِ ** فَقَدَتْهُ كَفُّ مُغْتَرِسِهْ ) ( وكذَاكَ الدَّهْرُ مأتمُهُ ** أقربُ الأشياءِ مِنْ عُرُسِه ) وكانت العربُ تقول : كان ذلك إذ كان كلُّ شيء ينطق وكان ذلك والحجارةُ رَطبةٌ قال أُمَيّةُ : ( وإذ هم لا لبوس لهم تقيهم ** وإذ صم السلام لهم رطاب ) ( بآية قام ينطق كل شيءٍ ** وخان أمانة الديك الغراب ) ( وأرسلت الحمامة بعد سبعٍ ** تدل على المهالك لا تهاب ) ( تلمس هل ترى في الأرض عيناً ** وعاينة بها الماء العباب ) ( فجاءت بعد مار كضت بقطفٍ ** عليها التأط والطين الكباب )
( فلما فرسوا الآيات صاغوا ** لها طوقاً كما عقد السخاب ) ( إذا
ماتت تورثه بنيها ** وإن تقتل فلي له انسلاب ) فذكر رُطوبة الحجارة وأنّ كلّ شيء قد
كان ينطِق ثمّ خَبّرَ عن منادمةِ الدِّيك الغرابَ واشتراطِ الحمامة على نوح وغيرِ
ذلك ممّا يدلُّ على ما قُلْنَا ثم ذكر الحيَّةَ وشأنَ إبليسَ وشأنَها فقال : ( كذي
الأَفْعَى ترَبَّبَها لَدَيْهِ ** وذي الجنِّيِّ أرسَلَهَا تُسَابُ ) ( فلا رَبُّ
البريّة يأمَنَنْهَا ** ولا الجنيُّ أَصبح يُسْتَتَابُ ) فإن قُلْتَ : إنَّ أميّة
كانَ أعرابيّاً وكان بَدَوِيّاً وهذا من خرافاتِ أَعْرَاب الجاهليَّة وزعمت أَنّ
أُمَيّةَ لم يأخذ ذلك عن أهْل الكتاب فإني سأنْشِدُك لعدِيِّ بنِ زيدٍ وكان
نصرانيّاً دياناً وتَرْجُمَاناً وصاحبَ كتب وكان من دُهاةِ أَهل ذلك الدَّهر .
قال عديُّ بن زيدٍ يذكرُ شأن آدم ومعصيتِه وكيف أَغواه
وكيف دخل في الحية وأَنَّ الحَية
)
كانت في صورة جَمَلٍ فمسخها اللّهُ عقوبة لها حين طاوعت
عَدُوَّه على وليِّه فقال :
( قضى لستة أيامٍ خليقته ** وكان آخرها أن صور الرجلا ) ( دعاه آدم صوتاً فاستجاب له ** بنفخة الروح في الجسم الذي جبلا ) ( ثمت أورثه الفردوس يعمرها ** وزوجه صنعةً من ضلعه جعلا ) ( لم ينهه ربه عن غير واحدةٍ ** من شجرٍ طيب أن شم أو أكلا ) ( فكانت الحية الرقشاء إذ خلقت ** كما ترى ناقة في الخلق أو جملا ) ( فعمدا للتي عن أكلها نهيا ** بأمر حواء لم تأخذ له الدغلا ) ( كلاهما خاط إذ بزا لبوسهما ** من ورق التين ثوباً لم يكن غزلا ) ( فلاطها الله إذ أغوت خليقته ** طول الليالي ولم يجعل لها أجلا ) ( تمشي على بطنها في الدهر ما عمرت ** والترب تأكله حزنا وإن سهلا )
( وأوتيا الملك والإنجيل نقرؤه ** نشفى بحكمته أحلامنا عللا ) ( من غير ما حاجةٍ إلا ليجعلنا ** فوق البرية أرباباً كما فعلا )
عقاب حواء وآدم والحية
فرَوَوْا
أنَّ كعبَ الأحبارِ قال : مكتوبٌ في التوارة أنَّ حَوَّاءَ عِنْدَ ذلك عُوقبتْ
بعشر خصالٍ وأنّ آدم لمَّا أطاع حَوَّاء وعصى رَبَّه عُوقب بعشر خصال وأنَّ
الحيَّة التي دخل فيها إبليس عُوقبت أيضاً بعشْر خِصال .
وأوَّلُ خِصال حَوّاء التي عُوقبت بها وجَع الافتضاض ثم
الطلق ثمَّ النَّزْع ثمّ بقناع الرَّأس وما يصيبُ الوحَمى والنفساء من المكروه
والقَصْرُ في البيوت والحيض وأنَّ الرِّجال هم القوَّامون عليهنَّ أن تكونَ عِنْدَ
الجماع هي الأسفل .
وأمّا خصال آدم عليه السلام : فالذي انتقص من طوله وبما
جعله اللّه يخافُ من الهوامِّ والسِّباع ونكَد العَيش وبتوقع الموت وبسكنى الأرض
وبالعُرْي من ثياب الجنَّة وبأوجاع أهل الدنيا وبمقاساة التحفظ من إبليس
وبالمحاسبة بالطّرف وبما شاع عليه من اسم العصاة وأمَّا الحيَّة فإنها عوقبت بنقص
جَناحها وقطعْ أرجلها والمشي على بطنها وبإعراء جلدها حتى يقال : أعْرَى مِنْ
حَيَّة وبشقِّ لسانها لذلك كلما خافَتْ من القتل أخرجَتْ لسانها لتريَهم العُقوبة
وبما ألقِي عليها من عَداوةِ النَّاس وبمخافة الناس وبجعله لها أَوَّلَ ملعونٍ من
اللّحم )
والدَّم وبالذي يُنسب إليها من الكذب والظلم .
ظلم الحية وكذبها
فأمّا الظلم فقولهم : أظلم من حَيّةٍ وأما الكذب فإنها تنطوي في الرَّملِ على الطَّريق وتُدْخِلُ بَعض جسدِها في الرَّمل فتظهر كأنها طَبقُ خيزُرانٍ ومنها حَيَّاتٌ بيضٌ قِصَارٌ تجمعُ بين أطرافها على طُرُقِ الناس وتستديرُ كأنها طَوْقٌ أوْ خلخالٌ أو سوارُ ذهبٍ أو فضةٍ ولما تلقي على نفسها من السُّبات ولما تُظهر من الهَرَب من الناس وكلّ ذلك إنَما تغرُّهُمْ وتصطادُهُمْ بتلك الحيلة فذلك هو كِذبُها .
عقاب الأرض قال : وعُوقبت الأرضُ حين شَرِبَتْ دم ابن
آدم بعشرِ خِصال : أنَبتَ فيها الشّوك وصيَّر فيها الفيافيَ وخرق فيها البحار
وملَّح أكثرَ مائها وخَلقَ فيها الهوامَّ والسِّباع وجَعَلَها قَرَاراً لإبْلِيسَ
والعاصين وجعل جهنَّم فيها وجعَلها لا تُرْبِي ثمرتها إلاَّ في الحرِّ وهي تعذَّب
بهم إلَى يوم شراب الأرض للدم ثم لم تشرب بعد دمِ ابنِ آدمَ دَمَ أحدٍ من ولده ولا
من غير ولده قَالَ : وَلِذلِكَ قال عمر بنُ الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لأبي مريم
الحنفيِّ : لأنَا أَشَدُّ لك بُغْضاً مِنَ الأَرْضِ للدم .
وزعم صاحبُ المنطق أنَّ الأرض لا تشرب الدَّم إلاَّ
يسيراً من دماء الإبل خاصَّة .
اختبار العسل وإذا أرادُوا أن يمتحنُوا جَوْدَة العسل من
رداءته قَطَرُوا على الأرض
منه
قَطْرَةً فإذا استدارت كأنها قطعَة زِئبقٍ ولم تأْخُذْ مِنَ الأرْضِ ولم تُعْطِهَا
فهو الماذيُّ الخالصُ الذَّهبيُّ فإن كان فيه غُشوشةٌ نفشت القَطْرة على قدر ما
فيها وأخَذَتْ من الأرض وأعطتها وإن لم يقدِرُوا على اللّحم الغَريض دَفَنُوهُ
وغرّقوه في العسل فإنهم متى رجعوا فغسلوه عنه وجَدُوهُ غضّاً طريّاً لأنَّهُ
ذهبيُّ الطِّباع ليس بينه وبين سائِر الأجرام شيء فهو لا يعطيه شيئاً ولا يأخذ منه
. وكذلك الذَّهَبُ إذا كان مدفوناً .
زمن الفطحل وهذه الأحاديثُ وهذه الأشعارُ تدلُّ على
أنَّهُمْ قد كانوا يقولون : إنَّ الصُخورَ كانت رَطْبَةً ليِّنة وإنَّ كلَّ شيءٍ
قد كانَ يعرِف وينطق وإنّ الأشْجَارَ والنَّخل لم يكن عليها شوكٌ وقد قال ) ( أَوْ
عُمْرَ نُوحٍ زَمَنَ الْفِطَحْلِ ** وَالصَّخْرُ مُبْتَلٌّ كَطِينِ الوَحْلِ ) 4
مرويات كعب الأحبار
وأنا أظنُّ أنَّ كثيراً مِمَّا يُحكى عن كعبٍ أنَّهُ قال : مكتوبٌ في التوراة أنَّهُ إنّمَا قال : نجدُ في الكتب وهو إنَّما يعني كتب الأنبياء والذي يتوارثونه من كتب سليمان وما في كتبهم من مثل كتب إشَعْياء وغيره
والذين يروون عنه في صفة عُمَرَ بن الخطاب رضي اللّه عنه وأشباهِ ذلك فإن كانوا صَدَقوا عليه وكان الشيخ لا يضعُ الأخبارَ فما كان وجهُ كلامه عندنا إلاّ على ما قلتُ لك .
نطق الحية
وفي أنّ الحيّة قد كانت تسمَعُ وتنطق يقول النّابِغَةُ في المثَل الذي ضَرَبَهُ وهو قوله : ( أليس لنا مولىً يحب سراحنا ** فيعذرنا من مرة المتناصره ) ( ليهنكم أن قد نفيتم بيوتنا ** محل عبيدان المحلإ باقره )
( وإني للاقٍ من ذوي الضغن نكبةً ** بلا عثرةٍ والنفس لا بد عاثره ) ( كما لقيت ذات الصفا من حليفها ** وما انفكت الأمثال في الناس سائره ) ( فواثقها بالله حتى تراضيا ** فكانت تديه الجزع خفياً وظاهره ) ( فلما توفي العقل إلا أقله ** وجارت به نفسٌ عن الخير جائره ) ( تفكر أني يجمع الله شمله ** فيصبح ذا مالٍ ويقتل واتره ) ( فظل على فأسٍ يحد غرابها ** ليقتلها والنفس للقتل حاذره ) ( فلما وقاها الله ضربة فأسه ** ولله عينٌ لا تغمض ساهره ) ( فقال : تعالى نجعل الله بيننا ** على العقل حتى تنجزى لي أخره )
( فقالت يمين الله أفعل إنني ** رأيتك ختاراً يمينك فاجره ) (
أبى لك قبرٌ لا يزال مواجهاً ** وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقره ) فذهَب النّابِغَةُ في الحيَّاتِ مذهَبَ
أميّة بن أبي الصّلْتِ وعديِّ بن زيدٍ وغيرهما من الشعراء .
الصخور والأشجار في ماضي الزمان وأنشدني عبدُ الرحمن بن
كَيسان : ( فكانَ رَطِيباً يومَ ذلك صخْرُها ** وكان خَضِيداً طَلْحُها
وَسَيالُهَا )
فزعم كما ترى أنّ الصُّخورَ كانت لَيِّنَةً وأنَّ
الأشجارَ : الطلْحَ والسَّيالَ كانت خَضِيداً لا شوكَ عليها .
وزعم بعضُ المفسِّرين وأصحابُ الأخبار أنّ الشّوك إنما
اعتراها في صبيحة اليوم الذي زعَمتِ النّصارَى فيه أنّ المسيح ابنُ اللّه .
أثر قدم إبراهيم عليه السلام وكان مقاتلٌ يقولُ
حَدّثَنَا بذلك عنه أبو عقيل السّواق وكما أحدَ رواتِه والحاملين عنه إنَّ
الصُّخورَ كانَتْ لَيِّنَةً وإنّ قدمَ إبراهيم عليه السلام أثرت في تلك الصخرة
كتأثير أقدامِ الناس في ذلك الزّمان إلاَّ أنَّ اللّه تعالى توفّى تلك الآثارَ
وعفَّى عليها ومسَحَها ومحاها وترَكَ أثرَ مقامِ إبراهيمَ عليه السلام والحجَّةُ
إنما هي في إفراده بذلك ومَحْوِ ما سواهُ من آثار أقدام الناس ليس أنّ إبراهيم صلى
اللّه عليه وسلم كان وطئ على صخرة خلقاءَ يابسةٍ فأثَّرَ فيها .
فضل المتكلمين والمعتزلة وأنا أقول على تثبيت ذلك بالحجة
ونعوذُ باللّه من الهَذْر والتكلف وانتحالِ ما لا أقوم به أقول : إنّهُ لولا مكانَ
المتكلمين لهلكت العوامّ من جميع الأمم ولولا مكانُ المعتزِلة لهلكت العََوَامُّ
من جميع النِّحل فإن لم أقل ولولا أصحابُ إبراهيمَ وإبراهيمُ لهلكت العوامُّ من
المعتزلة فإني أقول : إنهُ قد أنهج لَهُمْ سُبُلاً وفَتقَ لهم أموراً واختصر لهم
أبواباً ظهرتْ فيها المنفعة وشملتهم بها النعمة .
ما يحتاج
إليه الناس
وأنا أزعُمُ أن الناس يحتاجون بَدِيّاً إلى طبيعةٍ ثم
إلى معرفة ثم إلى إنصاف وأوَّل ما ينبغي أنْ يبتدئ به صاحبُ الإنصافِ أمرَه ألاَّ
يعطَى نفسَه فوقَ حقها وألاَّ يضعها دونَ مكانها وأن يتحفظَ من شيئين فإن نجاتَه
لا تتمّ إلاّ بالتحفظ منهما : أحدهما تهمة الإلف والآخر تُهمة السَّابِقِ إلى القلب واللّه
الموفق .
حديث عن تأليف هذا الكتاب وما أكثرَ ما يعرض في وقت
إكبابي على هذا الكتاب وإطالتي الكلام وإطنابي في القول بيتُ ابن هَرْمة حيث يقول
: ( إنَّ الحديثَ تغر القَوْمَ خَلوتُه ** حَتى يلجَّ بهم عِيٌّ وإكثارُ ) وقولهم
في المثل : كل مُجْرٍ في الخَلاَءِ يُسَرُّ . )
وأنَا أعوذُ باللّه أنْ أُغَرَّ من نفسي عند غَيبةِ
خَصمي وتصفحِ العلماءِ لكلامي فإني أعلم أن فِتنةَ اللسانِ والقلم أشدّ من فِتنة
النساء والحرص على المال .
وقد صادف هذا الكتابُ مني حالاتٍ تمنعُ من بلوغِ الإرادة
فيهِ أوَّلُ ذلك العِلة الشديدة والثانية قلة الأعوان والثالثة طولُ الكتاب
والرابعة أني لو تكلفت كتاباً في طوله وعدَدِ ألْفاظِهِ ومعانيهِ ثمَّ كان من كُتب
العَرَض والجوهر والطَّفرة والتولد والمداخَلة والغرائز
والتماس
لكان أسهَلَ وأقصَرَ أياماً وأسْرَعَ فراغاً لأني كنت لا أفزَعُ فيه إلى تلقُّط
الأشعار وتتبُّعِ الأمثال واستخراج الآيِ من القرآنِ والحجَجِ من الرِّواية مع
تفرُّقِ هذه الأمورِ في الكتب . وتباعُدِ ما بين الأشكال فإنْ وجَدْتَ فيه خللاً
من اضطرابِ لفظٍ ومن سوءِ تأليف أو من تقطيعِ نظامٍ ومن وقوع الشيء في غير موضعه
فلا تنكِرْ بعدَ أنْ صوَّرتُ عندك حالي التي ابتدأتُ عليها كتابي .
ولولا ما أرجو من عَوْنِ اللّه على إتمامه إذْ كنتُ لم
ألتمسْ به إلاَّ إفهامَك مواقعَ الحُجَج للّه وتصاريفَ تدبيره والذي أَوْدَعَ
أصنافَ خلْقه من أصناف حكمته لَمَا تعرَّضْتُ لهذا المكروه فإنْ نَظَرْتَ في هذا
الكتاب فانظُرْ فيه نظَرَ مَنْ يلتمس لصاحبه المخارجَ ولا يَذْهَبُ مذهبَ
التعنُّتِ وَمَذْهَبَ مَنْ إذا رأى خيراً كتَمَهُ وإذا رأى شَرّاً أذاعه .
وليعْلم مَنْ فَعَلَ ذلك أنَّه قد تعرَّض لبابٍ إن
أُخِذَ بمثله وتُعَرِّض له
في قوله
وكتبه أنْ ليس ذلك إلاّ من سبيل العُقوبةِ والأخْذ منه بالظلامة فلينظرْ فيه على
مثال ما أدَّب اللّه به وعرَّف كيف يكون النظر والتفكير والاعتبار والتعليم فإنَّ
اللّه عزَّ وجلّ يقول : وَإذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ
الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ .
الحكمة الجليلة في دقيق الأشياء فينبغي أنْ تكون إذا
مررْتَ بذكر الآية والأعجوبةِ في الفراشة والجِرجسَة أَلاَّ تحقِرَ تلك الآية
وتصغِّر تلك الأعجوبة لصغر قدرهما عندك ولقلَّة معرفتهما عِنْدَ معرفتك لِصغَر
أجسامهما عند جسمك ولكن كنْ عند الذي يظهَر لك من تلك الحكم ومن ذلك التَّدبير كما
قال اللّه عزّ وجلّ : وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ثم قال : فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ
قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ثمّ قال اللّه تعالى : وَإذْ نَتَقْنَا
الجَبَلَ فوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ وقد قال عامرُ بن عبد قيس : الكلمة إذا
خرجتْ من القَلْبِ وقعَتْ في القَلب وإذا خَرَجَتْ من اللسانِ لم تجاوز الآذان . )
حث على الإخلاص والتنبه عند النظر وأنا أعيذ نفسي باللّه
أنْ أقول إلاّ لَهُ وأعيذك باللّه أن تسمع إلاّ لَهُ وقد قال اللّه عزّ وجلّ :
وَإنْ تَدْعُهُمْ إلَى الْهُدَى لاَ يَهْتَدُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ
وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ فَاحْذَرْ من أنْ تكونَ منهم وممَّن يَنْظُرُ إلى حكمة
اللّه وهو لا يبصرها وَمِمَّنْ يبصرها بفَتْح العَيْنِ واستماعِ الآذان ولكن
بالتوقف من القلْب والتثبت من العقْل وبتحفيظه وتمكينه من اليقين والحجَّة الظاهرة
ولا يراها من يُعرِضُ عنها .
وقد قال اللّه عزّ وجلّ : وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ وقال : إنَّ شَرَّ الدّوَابِّ عِنْدَ
اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ولو كانوا صمّاً بُكماً
وكانوا هم لا يعقلون لَمَا عيَّرهم بذلك كما لم يعيِّر مَنْ خَلقَهُ معتوهاً كيف
لم يعقل وَمَنْ خَلَقُه أعمى كيف لم يبصر وكما لم يَلُمِ الدوابَّ ولم يعاقب
السِّباع ولكِنَّهُ سمّى البصير المتعامي أعمى والسميعَ المتصامِمَ أصمَّ والعاقلَ
المتجاهلَ جَاهلاً .
وقد قال اللّه عزّ وجلّ : فَانْظُرْ إلَى آثَارِ
رَحْمَةِ اللّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إنّ ذلِكَ لَمُحْيِ
المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
فَانْظُرْ
كما أمرك اللّه وانظرْ من الجهة التي دلّك مِنْهَا وخذْ ذلك بقوَة قال تعالى :
خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ .
عود إلى الحيات ثمَّ رَجَعَ بنا القولُ إلى ما في
الحيَّات من العِلم والعِبرة والفائدةِ والحِكمة ولذلك قال أبو ذَرٍّ الغفاريُّ :
لقد تَرَكَنَا رَسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم وما يمرُّ بنا طائرٌ إلا
وِعِنْدَنَا من شأنه عِلْمٌ وهذا القولُ صحيح عن أبي ذر ولم يخصَّ أبو ذرٍّ خَشاش
الطَّيرِ من بُغاثها وأحرارها ولا ما يدخل في بابة الهمَج وقد أريْناك من تحقيق
قولِه طَرَفاً ولعلك إن جمعْتَ نظرك إلى نظرنا أنْ تستتمَّ هذا الباب فقد قال
الشاعر : ( خليليَّ ليس الرأيُ في رأي واحدٍ ** أشِيرَا عَلَيَّ الْيَوْمَ مَا
تَرَيَانِ ) وقال الأحنَف : ما مِنْ الناس أحدٌ إلاَّ وقد تعلَّمْتُ منه شيئاً
حتَّى من الأمَةِ الوَرْهاءِ والعبْدِ والحيَّات مختلفاتُ الجهاتِ جدّاً وهي من
الأمم التي يكثُر اختلافُ أجناسِها في الضَّررِ والسمّ وفي الصِّغرِ والعِظَم وفي
التعرُّضِ للنَّاسِ
وفي
الهربِ منهم فمنها ما لا يؤذي إلاَّ أنْ يكونَ الناس قد آذَوْهَا مَرَّة وأمّا
الأسوَدُ فإنَّهُ يحقِدُ ويُطالب ويكمَُن في المتاع حتى يُدْرِك بطائلته وله زمانٌ )
يقتلُ فيه كلَّ شيءٍ نهشَه .
وأمَّا الأفعى فليس ذلك عندَها ولكنها تَظهر في الصَّيفِ
مع أوَّل الليل إذا سكَنَ وهَجُ الرَّمْلِ وظاهِرُ الأرض فتأتي قارِعَةَ الطَّريق
حتى تستديرَ وتَطْحَنَ كأنَّها رَحًى ثمَّ تُلصِقُ بَدَنَهَا بالأرض وتُشْخِصُ
رأسها لئلاَّ يدركَها السُّبات معترضة لِئلاَّ يطأها إنسانٌ أو دابَّةٌ فتنهشَه
كأنَّهَا تريد ألاَّ تنهَشَ إلاَّ بأن يُتَعَرَّضَ لها وهي قدْ تعرَّضت لنَهْشه
باعتراضها في الطَّرِيقِ وتناوُمها عليه وهي من الحيّات التي ترصد وتوصف بذلك قال
مَعْقِل بن خُويلد : ( أبا مَعْقِلٍ لا تُوطِئَنْكُمْ بَغَاضَتي ** رُؤوسَ
الأفاعِي في مَرَاصِدِهَا الْعُرْمِ
)
يريد :
الأفاعي في مراصدها وكلُّ منقَّطَة فهي عَرْماء مِنْ شاةٍ أو غير ذلك .
وقال آخر : ( وكم طَوَتْ من حَنَشٍ وراصِدِ ** للسّفْرِ
في أعلى البيات قاصِدِ ) والأفعى تقتُلُ في كلِّ حالٍ وفي كلِّ زمان والشُّجاع
يواثِبُ ويقوم على ذَنَبه وربَّما بَلَغَ رأسُه
ما يقتل الحية والعقرب من الحيوان
وليس
يقتلها إذا تطوّقت على الطَّريق وفي المناهج أو اعتَرضتْها لتقطعها عابرةً إلى
الجانب الآخر شيءٌْ كأقاطيع الشِّياهِ إذا مرَّت بها وكذلك الإبلُ الكثيرةُ إذا
مرَّت فإنَّ الحيَّةَ إذا وَقَعَتْ بين أرجلها كان همتُها نفسَها ولم يكن لها همةٌ
إلاّ التَّخَلصَ بنفسها لئلاّ تعجلها بالوطء فإن نجَتْ من وطء أيديها لم تنجُ من
وطء أرجلها وإنْ سلمَتْ مِن واحدةٍ لم تسلم من التي تليها إلى آخرها .
وقال عمر بن لَجَأ وهو يصف إبله : تَعَرَّضُ الحيَّاتُ
في غِشَاشها
وقال ذو الأهدام : تُعْجِلها عن نهشها والنَّكْزِ ومن ذلك أنّ العقربَ تَقَعُ في يد السِّنّور فيلعب بها ساعة من اللَّيل وهي في ذلك مسترخيةٌ مستخذِيةٌ لا تضربه والسَّنانير من الخلْق الذي لا تسرع السُّموم فيه .
مسالمة الأفعى للقانص والراعي
وربَّما باتت الأفعى عندَ رأسِ الرَّجُل وعلى فراشه فلا تنهشُه وأكثَرُ ما يُوجَدُ ذلك من القانِص والرَّاعي قال الشاعر : ( تبيتُ الحيَّةُ النَّضْنَاضُ مِنْهُ ** مكانَ الحِبِّ مستَمِعَ السِّرارِ ) قال : الحِبُّ : الحبيب والنضناض من الحيَّات : الذي يحرِّك
لسانَهُ
وعن عيسى بن عمر قال : قلتُ لذي الرُّمّة : ما النضناض فأخرَجَ لسانَه يحرِّكه .
وإنما يصف القانص وأنّه يبيت بالقفر ومثلهُ قولُ أبي
النجم : ( تَحكي لنَاَ الْقَرْنَاءُ في عِرْزالها ** جَرْي الرّحَى تَجْري على
ثِفالها ) العِرْزال : المكان وفي ذلك يقول أبو وَجْزَة : ( تبيت جارتَه الأفعَى
وسامرَه ** ربدٌ به عاذرٌ منهنّ كالجَرَب ) وقوله : رُبْد يريد البعوض وعاذر : أثر .
قصة في مسالمة الأفعى قال : وبات يحيى بن منقاش مع دارم
الدارميّ فلما أصبح يحيى
رأى
بينهما أفعى مستويةً فوثب يحيى ليقتلها فقال له دارم قد أعتقتُها وحرَّرتها ولمَ
تقتُلُها وهي ضجيعتي من أوَّل الليل ( أعوذُ بربِّي أن تُرَى لي صحْبَتِي **
يُطِيفُ بنا ليلاً مُحَرَّرُ دارمِ ) ( من الخُرْسِ لا ينجو صحيحاً سَليمُها **
وإن كان معقوداً بحلْي التمائم ) مسالمة العقارب للناس والعقاربُ في ذلك دونَ
الحيَّات إلاّ الجرَّارات فإنها ربَّما باتت في لحافِ الرَّجُلِ اللَّيلَةَ بأسرها
وتكونُ في قميصه عامّة يومها فلا تلسعه فهي بالأفعى أشبَه .
فأمَّا سائرُ العقاربِ فإنها تقصِدُ إلى الصَّوت فإذا
ضربَتْ إنساناً فرَّتْ كما يصنع المسيء الخائف لِلعقَاب .
والعقرب لا تضرب الميتَ ولا المغشيّ عليه ولا النائم
إلاَّ أن يحرك شيئاً من جَسَدِه فإنها عند ذلك تضربُه .
مسالمة الخنافس للعقارب والحيات )
ويقال إنها تأوي مع الخنافس وتسالمُها ولا تصادق من
الحيّات إلا كلّ أسودَ سالِخٍ .
عقارب نصر بن الحجاج وحدَّثَ أبو إسحاق المكي قال : كان
في دار نَصْرِ بن الحجاج السُّلمي
عقاربُ
إذا لسعَتْ قَتَلَتْ فدبّ ضيفٌ لهم على بعضِ أهْلِ الدَّار فضربَتْه عقربٌ على
مذاكيره فقال نصرٌ يعرِّض به : ( إذا غَفَلَ الناسُ عن دينهم ** فإِن عقاربها تضرب
) قال : فأدخَلَ النَّاسُ بها حَوّاءً وَحَكَوْا لَهُ شأنَ تلك العقاربِ فقال : إن
هذه العقاربَ تستقي مِنْ أسوَدَ سالِخٍ ونظر إلى موضعٍ في الدار فقال : احفُرُوا
هاهنا فحفَرُوا عن أسودَيْنِ : ذكرٍ وأنثى وللذَّكر خُصيتان وَرَأَوْا حولَ
الذَّكر عقاربَ كثيرةً فقتلوها .
قال : وقال الفضلُ بن عبَّاس حين راهنه عقرب بالشِّعر
وقيل لكلِّ واحدٍ منهما : لسْتَ في شيءٍ حَتَّى تغلِبَ صاحبك فقال الفضل : ( قد
تجر العقرب في سوقنا ** لا مرحباً بالعقرب التاجره )
( كل عدوٍ يتقي مقبلاً ** وعقرب تخشى من الدابره ) ( كل عدوٍ
كيده في استه ** فغير ذي أيدٍ ولا ضائره ) ( قد ضاقت العقرب واستيقنت ** بأن لا
دنيا ولا آخره ) ( إن عادت العقرب عدنا لها ** وكانت النعل لها حاضره ) من سمى
بعقرب واسم أم حارثة بن بدر عقرب وآل أبي موسى يكتنُون بأبي العقارب ومن هؤلاء
الذين يكتنون بالعقرب : ابن أبي العقرب الليثيُّ الخطيب الفصيح الراوية .
وقال الضّبيّ : أنا عقربٌ أضرُّ ولا أنفع .
الجرارات وكان الرَّجُلُ تلسعه الجَرَّارة بعسكر مُكْرَم
أو بجند يسابور
فتقتله
وربّما تناثر لحمه وربَّما تعفّنَ وأنتن حتى لا يدنُوَ منه أحدٌ إلاَّ وهو
مُخَمِّرٌ أنفه مخافَةَ إعْدائه ولا سيما إن كان قد نال من اللحم وهو لا يعلم أنَّ
الوخْزَة التي وُخِزها كانت من جَرَّارة .
وكانوا إِذا شَعرُوا بها دَعوا حجاماً يحجُم ذلك الموضعَ
ويمصُّه قبلَ أن يتفشى فيه السمُّ ويدخلَ تلك المداخل فكان الحجَّام لا يجيئهم حتى
يقبضَ دنانيرَ كثيرةً وإنَما كانوا يجودون له )
بذلك لِمَا كانَ لصاحبهم في ذلك من الفَرَج وما على
الحجام في ذلك من ضرر وذلك أن وجهَه ربّما اسمارَّ واربَدّ وربَّما عطّلت مقاديم
أسنانه وتوجّعت عليه فيلقى من ذلك الجهد وذلك لما كان يتّصل إلى فيه من بُخار
الدَّم ومن ذلك السمّ المخالط لذلك الدّم ثمَّ إنَّهم بعدَ ذلك حشَوْا أذناب
المحاجِم بالقُطْن فصار القُطْنُ لا يمنع قُوَّةَ المصِّ والجذْب ولم يدَعْه يصلُ
إلى فم الحجام ثمّ إنَّهم بَعْدَ مدّة سُنَيّاتٍ أصابوا نَبتةً في بعض الشُّعب
فإذا عالجوا الملسوعَ بها حَسُنت حالُه
.
والجرَّارات تألف الأخْواء التي تكون بحضرة الأتاتين
وتألف الحشوش والمواضع الناريّة وسمُّها
قول
ماسرجويه في العقرب وقيل لماسرجويه : قد نجِدُ العقربَ تلسَعُ رَجُلَيْنِ فتقتلُ
أحدَهما ويقتلها الآخرُ وربّما نَجَتْ ولم تمُتْ كما أنَّهُ ربَّما عُقِرت ولم
تَفُتْ ونجدُها تضربُ رجُلَين في ساعةٍ واحدة فيختلفان في سوءِ الحال ونجدُها
تختلف مواضعُ ضَررِها على قدْر الأغذيةِ وعلى قدر الأزمان وعلى قدْر مواضعِ الجسَد
ونجدُ واحداً يتعالج بالمَسُوس فيحمَدُهُ ونجد آخرَ يُدخِلُ يده في مدخلٍ حارٍّ من
غير أنْ يكونَ فيهِ ماءٌ فيحمده ونجدُ آخر يعالجه بالنّخالة الحارَّة فيحمدها ونجد
آخرَ يحجم ذلك الموضعَ فيحمَده ونجد كلّ واحدٍ من هؤلاءِ يشكو خلافَ ما يوافقه ثم
إنَّا نجدُه يعاود ذلك العلاجَ عند لسعةٍ أخرى فلا يحمده .
قال ماسرجويه : لما اختلفت السُّمومُ في أنفسها بالجنْس
والقدر وفي الزَّمان باختلاف مَا لاقاهُ اختلَفَ الذي وافقه على حسب اختلافه .
وكان يقول : إنَّ قولَ القائل في العقرب : شرُّ ما تكون
حين تخرج من جُحرها ليس يعنُون من ليلتها إذْ كان لا بدَّ من أن يكون لها
نصيبٌ من
الشدّة ولكنَّهُمْ إنما يَعْنُونَ : في أوَّل ما تخرج من جُحرها عند استقبال
الصَّيف بَعْدَ طولِ مُكْثِها في غير عالَمِنَا وغذائِنا وأنفاسنا ومعايشنَا .
زعم العامة في العقرب والعامّة تزعم أنها شرُّ ما تكون
إذا ضربت الإنسانَ وقد خرج من الحمام لتفتح المسامِّ وسَعة المجاري وسخونة البدن
ولذلك صار سمها في الصيف أشدَّ هذا قولُ أبي إسحاق كأَنَّهُ كان يَرَى أنَّ
الهواءَ كلما كان أحرَّ وكان البدنُ أسخَنَ كان شَرّاً .
ونحن نجدهم يصرُخُون مِنْ لسعتها اللَّيْلَ كلَّه وإذا
طلعت الشمسُ سكن ما بهم فإذا بقيت
)
فضْلةٌ من تلك الجارحة في الشمس فما أكثر ما يسكن
وسمومها باللَّيل أشدُّ إلاَّ أن يزعم أنَّ أجوافَ الناس في برد الليل أسخن وفي
حرِّ النهار أفتر .
الدّساس وزعم لي بعضُ العلماء ممّن قدْ روَى الكتُب وهو
في إرثٍ منها أنّ الحية التي يقال لها : الدسّاس تلد ولا تبيض وأنَّ أنثى النمور
لم تضَعْ نمراً قط إلاّ ومعه أفعى
.
زعم استحالة الكمأة إلى أفاع
والأعرابُ تزعم أنّ الكمْأة تبقَى في الأرض فتُمْطر مَطْرةً صَيفيّة فيستحيل بعضُها أفاعي فسمِعَ هذا الحديثَ منِّي بعضُ الرُّؤساء الطَّائيِّين فزعم لي أنّه عايَنَ كمأةً ضخْمة فتأمَّلها فإذا هي تتحرَّك فنهض إليها فقَلَعها فإذا هي أفعًى هذا ما حدّثته عن الأعراب حتّى برئت إلى اللّه
معارف في الحيات عن صاحب المنطق
وزعم
صاحبُ المنطق أنّ الوزَغة والحيَّاتِ تأكُلُ اللَّحمَ والعُشب وزعَمَ أنَّ
الحَيَّاتِ أظهَرُ كلَبَاً من جميع الحيوان مع قلَّة شربِ الماء وأنَّ الأسدَ مع
نَهمه قليلُ شرب الماء قال : ولا تضبِطُ الحيَّاتُ أنفسَها إذا شمَّت ريحَ
السَّذاب وربَّما اصطِيدَتْ به وإذا أصابوها كذلك وجدُوها وقد سكِرَتْ .
قال : والحيات تبتلع البيض والفراخَ والعُشب .
سلخ الحيوان وزعم أنَّ الحياتِ تسلَخُ جلودَها في أوَّل الرَّبيع
عند خروجها من أعشّتها وفي أوّل الخريف
وزعم أن
السَّلْخ يبتدئَ من ناحية عيونها أوّلاً قال : ولذلك يظنُّ بعض من يُعانِيها أنها
عمياء وهي تسلَخُ من جلودها في يومٍ وليلةٍ من الرَّأس إلى الذَّنَب ويصيرُ داخل
الجِلْد هو الخارج كما يُسلخ الجَنينُ من المِشيمَة وكذلك جميع الحيوان المحزَّز
الجسد وكلُّ طائر لجناحه غِلافٌ مثل الجُعَل والدّبْر وكذلك السَّرطان يسلخ أيضاً
فيضعف عند ذلك من المشي .
وتسلخ جلودها مِراراً .
والسَّلخ يصيب عامّة الحيوان : أمَّا الطير فسلخُها
تحسيرها وأمّا ذوات الحوافر فسلخُها عقائقها وسلخ الإبل طرحُ أوْبارها وسلخُ
الجراد انسلاخ جلودها وسلخ الأيائِل إلقاء قرونها وسلخ الأشجار إسقاط ورقها .
4
أصل الأسروع
والأسروع
: دويبَّةٌ تنسلِخُ فتصيرُ فَرَاشَةً وقال الطِّرِمَّاح شعراً : ( وتجرّدَ الأسْرُوعُ
واطَّرَدَ السَّفَا ** وجرت بجالَيْها الحِدَابُ القَرْدَدُ ) ( وانسابَ حيَّاتُ
الكَثِيبِ وأقْبَلَتْ ** وُرْقُ الْفَرَاشِ لما يَشُبُّ المُوقِدُ ) يصف الزَّمان .
والدُّعْمُوص ينسلخُ فيصير إمَّا بعوضةً وإما فراشةً . 4
انسلاخ البرغوث
وزعم
ثمامةُ عن يحيى بن برمك أنّ البرغوث ينسلخ فيصير بعوضة وأنّهَ البعوضةَ التي من
سَلْخ دعموص ربَّمَا انسلخت برغوثاً .
والنمل تحدث لها أجنحةٌ ويتغيَّر خَلْقهَا وذلك هو
سلخُها وهُلْكُها يحين عند طيرانها
.
انسلاخ
الجراد
والجراد ينسلخ على غير هذا النوع قال الرَّاجز :
مَلْعُونَةٍ تسْلَخُ لَوْناً لَوْنَيْنِ
أثر البلدان في ضرر الأفاعي ونحوها قال : وعضُّ السِّباع
ذواتِ الأربع ولدغُ الهوامّ يختلفُ بقدر اختلافِ البُلدان كالذي يبلغُنا عن أفاعي
الرَّمْل وعن جَرَّارات قرى الأهواز وعقارب نَصِيبين وثعابين مصر وهِنْدِيّات
الخرابات .
وفي الشِّبثان والزَّنابير والرُّتَيْلاَت ما يقتل
فأمَّا الطَّبُّوع فإنَّهُ شديدُ الأذى وللضَّمْج أذًى لا يبلغ ذلك .
أقوال لصاحب المنطق وقال صاحب المنطق : ويكون بالبلدة
التي تسمَّى باليونانية : طبقون حيَّةٌ صغيرة شديدة اللَّدْغ إلا أن تُعالج بحجرٍ
يُخرَج من بعض قبور قدماء الملوك ولم أفهم هذا ولم كان ذلك .
وإذا أكل بعض ذوات السموم من جسَد بعضها كانت أردأ ما
تكون سماً مثل العقارب والأفاعي
.
قال : والأيِّلُ إذا ألقى قُرونَه علم أنَّهُ قد ألقَى
سلاحَه فهو لا يظهر وكذلك إن سمن علم أنَّهُ يُطْلَبُ فلا يظهر وكذلك أوَّلَ ما
ينبت قَرْنُهُ يعرِّضُه للشمس ليصلُب ويجفّ وإِن لدغت الأيِّلَ قال : وإذا وضعت
أنثى الأيّل ولداً أكلت مشيمتها فَيُظَنُّ أنّ المشيمَةَ شيءٌ يتداوَى به من عِلّة
النفاس .
قال : وَالدُّبَّةُ إذا هربت دفعت جِراءَها بين يديها
وإن خافت على أولادها غيَّبتها وإذا لحقت صعِدَتْ في الشجر وحملَتْ معَها جِرَاءَهَا .
قال : والفهْدُ إذا عراه الدّاءُ الذي يقالُ له : خانِق
الفهود أكل العَذِرَةَ فبرئ منه
.
قال : والسِّباع تشتهي رائِحةَ الفهودِ والفهدُ يتغيّب
عنها وربَّما فرَّ بعضها منه فَيُطْمِعُ في نفسه فإذا أراده السّبعُ وثَبَ عليه
الفهد فأكله .
قال : والتمساح يفتح فاه إذا غمّهُ ما قد تعلق بأسنانه
حتى يأتيَ طائِرٌ فيأْكلَ ذلك فيكونَ طعاماً له وراحَةً للتِّمساح .
قال : وأمّا السُّلحفاة فإنَّها إذا أكلت الأفعى أكلت
صَعْتَراً جبليّاً وقد فَعَلت ذلك مراراً فربما عادت فأَكلت منها ثمّ أكلت من
الصَّعتر مراراً كثيرة فإذا أكثرت من ذلك هلكت .
قال : وأمّا ابنُ عِرس فإنَّه إذا قَاتَلَ الحيَّةَ بدأَ
بأَكْلِ السَّذَاب لأنّ رائحَةَ السَّذَاب مخالفَةٌ للحيَّةِ كما أن سامَّ أبرصَ
لا يدخلُ بيتاً فيه زعفران . )
قال : والكلاب إذا كان في أجوافها دُودٌ أكلت سُنبل
القمح .
قال : وتتقاتل الحيّات المشترِكة في الطُّعم .
وزعَمَ أنَّ القنافِذَ لا يخفى عليها شيءٌ من جهة
الرِّيح وتحوُّلها وهُبُوبها وأنّهُ كان بِقُسْطَنْطِينِيَّةَ رجلٌ يُقَدّمُ
وَيُعَظَّمُ لأنه كان يَعْرِفُ هُبُوبَ الرِّيح ويخبرهم بذلك وإنما كان يَعرف
الحالَ فيها بما يَرَى مِنْ هيئةِ القنافذ .
العيون الحمر العيُونُ الحمرُ لِلعَرَض المفارق كعين
الغضبان وعينِ السّكران وَعَيْنِ الْكَلْبِ وَعَيْنِ الرَّمِدِ .
العيون الذهبية والعيُونُ الذهبيَّةُ عيونُ أصناف البزاة
من بين العُقاب إلى الزُّرَّق .
العيون التي تسرج بالليل والعيُون التي تُسْرِج بالليل
عيون الأسْد وعيون النمور وعيون السّنانير وعيون الأفاعي قال أبو حيَّة : خبر وشعر
في العين ( غِضابٌ يُثِيرُونَ الذُّحُولَ عُيُونُهمْ ** كَجَمْر الغَضا ذَكَّيتهُ
فتوقّدَا )
وقال آخر
: ( سقط : بيت الشعر ) ( ومدجج يسعى بشكته ** محمرة عيناه كالكلب ) رجع بالكلب إلى
صفة المدجَّج .
وقَالَ معاويةُ لصُحارٍ العبديِّ : يا أحمر قال : والذهب
أحمر قال يا أزرق قال : والبازي أزرق وأنشدوا : ( ولا عيبَ فيها غيرُ شُكْلَة
عينها ** كذاك عِتاقُ الطيرِ شُكْلٌ عُيُونُها ) وقال آخر : ( وشُكْلة عينٍ لَوْ
حُبيت بِبَعْضِهَا ** لكنت مكانَ العَيْنِ مَرْأًى وَمَسْمَعا )
بعض ألوان
العيون ومن العيون المغْرَب والأزرق والأشكل والأسجَر والأشهل والأخْيَف وذلك إذا
اختلفا وعين الفأرة كَحْلاء وهي أبصَرُ بالليل من الفَرَسِ والعقابِ .
وفي حمرة العينين وضيائهما يقولُ محمَّدُ بنُ ذؤيبٍ
العُمانيُّ في صفة الأسد : ( أجرأُ مِنْ ذي لِبْدَةٍ هَمَّاسِ ** غَضَنْفَرٍ
مضَبَّر رهَّاس )
( مَنَّاعِ أخْيَاس إلى أخْيَاس ** كأنَّمَا عيناهُ في مِراس ) شعاعُ
مِقْبَاسٍ إلى مِقباس وقال المرَّار
: كَأَنّمَا وَقْدُ عَيْنَيْهِ النَّمِر نحو الضبّ والورل
والحيَّة والقنفذ وما أشبه ذلك
.
يقال للضبّ والحيَّة والورَل : فَحَّ يفِحُّ فحيحاً وقال
رؤبة : ( فِحّي فلا أفْرَقُ أنْ تَفِحِّي ** وَأنْ تُرَحِّي كَرَحَى المرحِّي ) (
أصْبَحَ مِنْ نحنحةٍ وأَحِّ ** يحكِي سُعالَ النَّشَرِ الأبحِّ )
قال : الفحيح : صوتُ الحيَّة مِنْ فيها والكشيش والنشيش : صوتُ جلدها إذا حكّت بعضَه ببعض قال الرَّاجز في صفة الشَّخْب والحلْب : ( حَلَبْتُ لِلأَبْرَشِ وهو مُغْضِ ** حمراءَ منها شخْبَةٌ بالمخض ) ( ليستْ بذات وَبَرٍ مبيضّ ** كأنَّ صَوتَ شخْبها المرْفَضِّ ) كشيشُ أفعَى أجْمعت لعَضِّ ويقال للضّبّ والورل : كش يكِش كشيشاً وأنشد أبو الجرّاح : ( تَرَى الضَّبَّ إن لم يرهب الضبُّ غيرَه ** يكِشُّ له مستنكراً ويُطاوِلُه ) ( ضرب المثل للرَّجُلِ الداهية وللحيِّ الممتنع بالحيّة ) قال ذو الإصبع العَدْوانيُّ :
( بَغَى بعضُهُمُ ظلماً ** فلم يُرْعَ على بَعْضِ ) ( وفيهم كانَتِ السَّادا ** تُ والموفُون بالقَرْض ) يقال : فلانٌ حَيّةُ الوادي وما هو إلاَّ صِلُّ أصلال والصِّلُّ : الداهية والحيَّة قال النَّابِغَةُ : ( ماذَا رُزِئْنَا بِهِ من حَيَّةٍ ذَكَرٍ ** نَضْنَاضَةٍ بالرَّزايا صِلِّ أصلالِ ) وقال آخر : ( صِلِّ صفاً تَنْطِفُ أنيابُهُ ** سِمامَ ذيفانٍ مجيرات ) وقال آخر : ( مُطْرِقٌ يرشَح سمّاً كما ** أطْرَقَ أفْعَى يَنْفُثُ السمَّ صِلُّ ) ومن أمثالهم : صَمِّي صَمَامِ وَصَمِّي ابْنَةَ الجبل وهي الحيَّة .
قال الكميت : ( إذَا لَقِيَ السَّفِيرَ لها وَنَادَى **
بها : صَمِّي ابْنَةَ الجَبَلِ السَّفِيرُ )
قولهم جاء بأم الربيق على أريق
ومن أمثالهم : جاءَ بأمِّ الرُّبَيق على أُرَيق أمُّ الرُّبيق : إحدى الحيات وأُرَيق : أمُّ الطّبق ضربوا به ( إذَا وجدْتَ بوادٍ حَيَّةً ذَكَراً ** فاذْهَبْ وَدَعْني أُمارِسْ حَيةَ الوادي )
قولهم أدرك القويمة لا تأكلها الهويمة
وفي المثل : أدرك القُوَيِّمة لا تأكلها الهوَيِّمة يعني الصبي الذي يدرُج ويتناول كلَّ شيءٍ سنَح له ويَهوي به إلى فيه كأَنه قال لأمِّه : أدركيه لا تأكلْه الهامَّة وهي الحيّةُ وهو قوله في التعويذ : ومن كلِّ شيطانٍ وهَامَّة ونَفْسٍ وعينٍ لامَّة .
شعر للأخطل في ذكر الحية
وقال الأخطل في جعلهم الرَّجلَ الشُّجاعَ وذا الرّأي الدَّاهية حية وكذلك يجعلون إذا أرادوا تعظيمَ شأنها وإذا أرادوا ذلك فما أكثر ما يجعلون الحَيّةَ ذكراً قال الأَخطل : ( أنبئت كلباً تمنى أن يسافهنا ** وطالما سافهونا ثم ما ظفروا )
( كلفتمونا رجالا قاطعي قرنٍ ** مستحلقين كما يستلحق اليسر ) ( ليست عليهم إذا عدت خصالهم ** خصلٌ وليس لهم إيجاب ما قمروا ) ( قد أنذروا حيةً في رأس هضبته ** وقد أتتهم به الأنباء والنذر ) ( باتوا رقوداً على الأمهاد ليلهم ** وليلهم ساهرٌ فيها وما شعروا ) ( حيَّة الماء ) وما أكثَرَ ما يذكرون حيّة المَاء لأنّ حَيَّاتِ المَاء فيها تفاوت إمّا أن تكونَ لا تضُرُّ كبيرَ ضررٍ وإمَّا أن تكونَ أقتَلَ من الحيَّاتِ والأفاعي .
الهنديات ويقال إنّ الهنديّات إنَّما تصير في البيوت
والدُّور والإصطبلات والخرابات لأنّها تُحمَلُ في القُضُب وفي أشباه ذلك .
علة وجود الحيات في بعض البيوت
والحيّاتُ
تأكل الجرادَ أكلاً شديداً فرّبما فتَحَ رأس كُرْزِه وجرابه وجوالقه الذي يأتي
الجراد وقد ضَرَبَه برْدُ السَّحَر وقد تراكم بعضُه على بعض لأنَّها موصوفةٌ بالصَّرَدِ .
والحيّاتُ توصَفُ بالصَّرَد كذلك الحمير والماعزُ من
الغنم ولذلك قال الشاعرُ :
( بليت كما يبلى الوِكاءُ ولا أرى ** جِنَاباً ولا أكنافَ ذروة
تخلُقُ ) ( أُلوِّي حَيازِيمي بهنَّ صَبابةً ** كما تَتلَوَّى الحيّة المتشرِّقُ ) وإنما تَشَرَّقُ
إذا أدركها بَردُ السَّحَر ولم تصر بعدُ إلى صلاحها وإذا خرجت بالليل تكتسب الطعم
كما يفعل ذلك سائر السِّباع فربما اجترف صَاحبُ الكرز الجراد فأدخله كُرْزَه وفيه
الأفعَى وأسودُ سالخٌ حتى يُنقلَ ذلك إلى الدُّور فرّبما لقى النّاسُ منها جهداً .
وقال بشر بن المعتَمر في شعره المزاوَج : ( يا عجباً
والدَّهرُ ذو عجائب ** مِنْ شاهدٍ وَقَلْبُهُ كالغائبِ ) ( وحاطب يَحْطِبُ في
بجادِهِ ** في ظلمة الليلِ وفي سَوَادِه ) ( يحْطب في بجاده الأيْمَ الذكر **
والأَسوَدَ السَّالخ مكروهَ النَّظَرْ
) شعر في حية الماء فممن ذكر حَيَّةَ الماء عبد اللّه بن
هَمّام السلوليُّ فقال : ( كَحَيَّةِ الماء لا تنحاش مِنْ أحَدٍ ** صُلْبُ المراس
إذا ما حُلَّتُ النُّطقُ )
وقال
الشّمّاخ بنُ ضِرار : ( خُوصُ العيونِ تَبَارَى في أزِمَّتها ** إذا تفصَّدْنَ من
حَرِّ الصَّياخيدِ ) ( وكلُّهن تُبَارِي ثِنْيَ مُطَّردٍ ** كحيةِ الماءِ وَلَّى
غَيْرَ مَطْرودِ )
وقال الأخطل : ( ضفادعُ في ظَلْماءِ ليلٍ تجاوَبَت **
فدل عليها صوتُها حَيَّةَ البَحْر ) ( سقط : كل أبيات الشعر التي في الصفحة ) وقال
أيضا : ( هلم ابن صفار فإن قتالنا ** جهارا وما منا ملاوذة العذر ) ( فإنك في قيس
لتال مذبذب ** وغيرك منهم ذو الثناء وذو الفخر ) ( ونحن منعنا ماء دجلة منكم **
ونمنع ما بين العراق إلى البشر ) ( ألا يا ابن الصفار فلا ترم العلى ** ولا تذكرن
حيات قومك في الشعر ) ( فما تركت حياتنا لك حية ** تحرك في أرض براح ولا بحر )
وقال نفيع يعيره بالكحيل :
( سقط : كل أبيات الشعر التي في الصفحة ) ( قإن تك قتلاكم بدجلة غرقت ** فما أشبهت قتلى حنين ولا بدر ) ( ثوروا إذا لقونا بالكحيل كما ثوى ** شمام إلى يوم القيامة والحشر ) ( بدجلة حالت حربنا دون قومن ** وأوطاننا ما بين دجلة فالحضر ) ( ولو كنتم حيات بحر لكنتم ** غداة الكحيل إذ تقومون في الغمر ) ما يشبّه بالأيم فَالأيْم الحيَّةُ الذكر يشبهون به الزِّمام وربَّما شبَّهُوا الجاريَةَ المجدولة الخميصةَ الخواصرِ في مشيها بالأيم لأنَّ الحَيَّةَ الذّكرَ ليس له غَبَبٌ وموضعُ بطنِه مجدولٌ غيرُ متراخٍ وقال ابنُ ميَّادة :
( قعدت على السِّعلاة تنفض مسحَهَا ** وتجذب مِثْلَ الأَيْمِ في بلدٍ قَفْرِ ) ( تيمِّمُ خَيْرَ النَّاسِ مِنْ آل حاضر ** وتحمِلُ حاجاتٍ تضمَّنَها صَدْرِي ) شعر في حمرة عين الأفعى وقال الآخر في حمرة عين الأفعى : ( لولا الهراوةُ والكِفّاتُ أوْرَدَنِي ** حَوْضَ المنيَّة قَتَّالٌ لِمَنْ عَلِقَا ) ( أصمُّ منهرتُ الشِّدْقين ملتبدٌ ** لم يُغْذَ إلاّ المنايا مِنْ لَدُنْ خُلِقَا ) ( كأَنَّ عينيه مِسْمارَانِ مِنْ ذَهبٍ ** جلاهُما مِدْوسُ التَّألاَقِ فائتَلَقَا ) شعر في حمرة عيون الناس وقال في حمرة عُيون النَّاس في الحرْب وفي الغضب ابنُ ميَّادة :
( وعند الفَزَاري العراقي عارض ** كأَنَّ عيونَ القَوْم في نبضة الجمرِ ) وفي حمرة العين من جهة الخِلْقةِ يقول أبو قُرْدُودة في ابن عمارٍ حينَ قتله النُّعمان : ( إنَّ الملوك متى تنزِل بساحتِهِمْ ** تَطِرْ بنارك مِنْ نِيرانهم شَررَهْ ) ( يا جفنَةً كإزاء الحَوْض قد هُدِمَتْ ** وَمَنْطِقاً مِثْلَ وَشْيِ الْيَمْنَةِ الحَبَرَهْ )
معرفة في الحية
وأكثرُ ما يذكرون مِنَ الحيات بأسمائِها دون صفاتها : الأفعى والأسود والشجاع والأَرقم قال عمر بن لجأ : يلزق بالصّخْرِ لُزُوقَ الأرقَمِ وقال آخر : ( ورفّع أولى القوم وقعُ خرادِلٍ ** ووقعُ نبال مثل وقْع الأساوِدِ )
ذكر الأفاعي في بعض كتب الأنبياء
وفي بعض
كتب الأنبياء أنّ اللّه تبارك وتعالى قال لبني إسرائيل : يا أولادَ الأفاعي .
مثل وشعر في الحية ويقال : رَماهُ اللّه بأفْعى حَارية
وهي التي تحري وكلما كبرت في السن صغُرت في الجسم وأنشد الأصمعيُّ في شدَّة اسوداد
أسود سالخ : وقال جريرٌ في صفة عُرُوقِ بَطْنِ الشَّبْعَانِ : ( وأعور من
نَبْهَانَ أمَّا نهارُه ** فأعمَى وأمَّا ليله فبصيرُ )
( رَفَعْتُ له مشبوبةً يلتوي بها ** يكادُ سناها في السماءِ يَطيرُ ) ( فلما استَوَى جنباه لاعَبَ ظلَّهُ ** عريضُ أفاعي الحالبَين ضريرُ ) قال : ويقال : أبْصَرُ من حيّةٍ كما يقال : أسمعُ مِنْ فرس و أسمَعُ مِنْ عُقاب وقال الراجز : أسمَعُ مِنْ فَرْخِ العُقابِ الأشْجَعِ وقال آخر : ( أسودُ شَرًى لاقَتْ أُسودَ خفيَّةٍ ** تساقَوْا عَلَى حَرْدٍ دِماءَ الأسَاودِ )
ضَرَبَ
المثَلَ بجنسين من الأسُود إذْ كانا عندَه الغايةَ في الشدَّة والهوْل فلم يقنع
بذلك حتى ردَّ ذلك كُلَّهُ إلى سموم الحيّات .
ما يشبه بالأسود وفي هَوْل منظر الأسْوَد يقول الشاعرُ :
( مِنْ دُونِ سَيْبِكَ لونُ ليلٍ مُظلمٍ ** وَحَفيفُ نافجةٍ وكَلْبٌ مُوسَدُ ) ( والضَّيفُ
عِنْدَكَ مِثْلُ أسوَد سالخٍ ** لا بَلْ أحَبُّهما إليكَ الأسْوَدُ ) ( ألا لا
تَغُرَّنَّ امرأً نَوْفَليَّةٌ ** على الرَّأس منها والترائبُ وُضَّحُ ) ( ولا
فاحِمٌ يُسْقَى الدَّهانَ كأنَّهُ ** أساوِدُ يزهاها لعينك أبْطَحُ )
استطراد
لغوي قال : والخرشاء : القشرة الغليظة بعد أن تنقب فيخرج ما فيها وجماعهُ الخراشيّ
غير مهموز قال : وخرشاء
الحيّة : سلخها حين تَسْلخ وقال : هذا أسود سالخ وهذان أسودان سالخان .
وأساود سالخة وقال مرَقِّش : ( إن يَغْضَبُوا يغضب
لِذَاكُمْ كما ** يَنْسلُّ عَنْ خِرْشَائِهِ الأرْقمْ ) تعليق الحلي والخلاخيل على
السليم وكانوا يَرَوْنَ أنَّ تعليقَ الَحَلْيِ وخَشخشَةَ الخلاخيل على السَّليم
ممَّا لا يفيق ولا يَبْرَأ إلاَّ به وقال زَيْدُ الخيل : ( أيم يكون النعل منه
ضَجِيعَةً ** كما عُلِّقت فوقَ السليم الخَلاَخِلُ ) وخبَّرني خالد بن عقبة من بني سلمة بن
الأَكوع وهو من بني المسبع أنّ رجُلاً من حَزْن من بني عذرة يسمَّى أسْباط قال في
تعليقهم الحَلْيَ على السَّليم
:
( أرِقْتُ فلم تَطعَمْ لي الْعَيْنُ مَهْجَعَا ** وَبتُّ كما بَاتَ السليمُ مُقَرَّعَا ) وقال الذُّبيانيّ : ( فبتُّ كأنِّي ساورتْني ضَئيلةٌ ** من الرُّقْشِ في أنيابها السّمُّ ناقعُ ) ( يُسَهَّدُ من ليل التّمام سليمُها ** لحلْي النِّسَاءِ في يديه قَعاقِع ) استطراد فيه لغة وشعر قال : ويقال لسان طلْق ذَلِقٌ يقال للسليم إذا لُدِغ : قد طلِّق وذلك حين تَرْجع إليه نفسُه وهو قول النابغة : ( تناذَرها الرَّاقُون من سُوءِ سمِّها ** تطلِّقُه طوراً وطوراً تُراجِعُ ) وقال العبدي إن كان قاله :
( تَبِيتُ الهُمُومُ الطَّارِقاتُ يَعُدْنَنِي ** كَمَا
تَعْتَرِي الأَهْوَالُ رَأْسَ المطلَّقِ ) وأنشد : ( تُلاقِي مِنْ تَذَكُّرِ آلِ
ليلى ** كما يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ )
والعِداد : الوقت يقال : إنّ تلك اللَّسعة لتعَادّه :
إذا عاده الوجَع في الوقت الذي لُسِع فيه .
حديث الحمل المصْليّ وذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم
السّمَّ الذي كان في الحَمَلِ المَصْلِيّ الذي كانت اليهوديَّةُ قدّمته
جلد الحية
وفي الحيّة قشْرُها وهو أحسنُ من كلِّ ورقةٍ وثوبٍ وجَناحٍ وطائرٍ وأعجبُ من سِتْر العنكبوت وغِرْقِئ البيض .
ما يشبه بلسان الحية
ويقال في مثلٍ إذا مدحوا الخُفَّ اللَّطيف والقدَمَ اللَّطِيفة قالوا : كأنّه لِسَانُ حَيَّة .
نفع الحية
وبالحيّة يُتداوَى من سمّ الحيّة ولِلدغ الأفاعي يُؤْخَذ التِّرياقُ الذي لا يُوجَدُ إلاّ بمتون الأفاعي قال كثَيِّر : ( وما زالَتْ رُقَاك تَسُلُّ ضِغْنِي ** وتُخْرِجُ مِنْ مَكَامِنِهَا ضِبَابِي ) ( وَتَرْقِينيَ لك الحاوُون حَتَّى ** أجَابَكَ حيَّةٌ تحْتَ الحِجابِ )
قصة امرأة لدغتها حية جويبر بن إسماعيل عن عمّه قال : حججْتُ فإنّا لفي وَقْعَةٍ مَعَ قوم نزلوا منزلنا ومعنا امرأة فنامت فانتبهتْ وحيّةٌ منْطوية عليها قد جمعَتْ رأسَها مع ذنبها بين ثدييها فهالها ذلك وأزعَجَنا فلم تزَلْ مُنطويةً عليها لا تضُرُّها بشيء حتّى دخلْنا أنصاب الحرم فانسابت فدخلَتْ مكّة فقضَينا نسكَنا وانصرفْنَا حتَّى إذ كنَّا بالمكان الذي انطوت عليها فيه الحيَّة وهو المنزل الذي نزلناه نزلَتْ فنامت واستيقظت فإذا الحيَّةُ منطويَةٌ عليها ثمّ صَفَرت الحيَّةُ فإذا الوادي يسيلُ حيَّاتٍ عليها فنهشتْها حتّى نَقَتْ عظامَها فقلت لجاريةٍ كانت لها : وَيْحَكِ : أخبرينا عن هذه المرأة قالت : بغَتْ ثلاثَ مرّاتٍ كلَّ مرّة تأتي بولدٍ فإذا وضعَتْه سَجَرت التّنّور ثمّ ألقته فيه .
قول امرأة في عليٍّ والزّبير وطلحة قال ونظرت امرأةٌ إلى
عليٍّ والزُّبير وطلحة رضي اللّه تعالى عنهم وقد اختلفَتْ أعناقُ دوابِّهم حين
التقَوا فقالت : من هذا الذي كأنه أرقُمْ يتلمَّظ قيل لها : الزُّبير قالت : فمن
هذا )
الذي كأنّه كُسِر ثمّ جُبِر قيل لها : عليٌّ قالت : فمن
هذا الذي كأنّ وجهه دينارٌ هِرَقْليّ قيل لها : طلحة . 4
استطراد لغوي
وقال أبو زيد : نهشت أنْهَشُ نهشاً والنَّهش : هو تناولك الشَّيءَ بفيك فتمضَغُه فتؤثِّر فيه ولا تجْرحه وكذلك نهْش الحيَّة وأمَّا نهْش السَّبع فتناوله من الدَّابَّةِ بفيه ثمَّ يقطع ما أخذَ منه فوه ويقال نهشت اللحم أنهَشُه نهشاً وهو انتزاع اللّحم بالثَّنايا للأَكل ويقال نَشَطت العَقْد نَشْطاً : إذا عقدته بأنْشوطة ونَشَطت الإبلُ تنشِط نَشْطاً : إذا ذهبتْ على هدًى أو غيرِ هدى نزعاً أو غير نزْع ونشطَتْهُ الحيَّةُ فهي
تنشُطه
نَشْطاً وهو أن تَعَضَّه عضّاً ونكزَتْهُ الحيَّةُ تنكُزُه نكْزاً وهو طعنُها
الإنسانَ بأنفها فالنَّكْز من كلِّ دَابَّةٍ سوى الحيّة العضّ ويقال : نَشَطَتْهُ شَعُوبُ
نشْطاً وهي المنيَّة .
قال : وتقول العرب نشطته الشَّعوب فتدخل عليها التعريف .
علة تسمية النهيش بالسليم ويسمون النهيش سليماً على
الطيرَة قال ابنُ ميَّادة : ( كأَنِّي بها لما عَرَفْتُ رُسومَها ** قتيلٌ لدَى
أيدِي الرُّقاةِ سَليمُ ) شعر في الحية وممَّا يضرِبون به المثَلَ بالحيَّاتِ في
دواهي الأمر كقول الأقَيْبِل القينيّ : ( لَقَدْ علِمْتُ وخَيرُ القَوْلِ أنْفَعُه
** أنَّ انطلاقي إلى الحَجَّاجِ تَغريرُ )
( لَئنْ ذَهَبْتُ إلى الحَجَّاجِ يَقْتُلُنِي ** إنِّي لأحْمَقُ مَنْ تُحْدَى بِهِ الْعيرُ ) استطراد لغوي وقال الأصمعيّ : يقال للحيَّة الذَّكر أيِّم وأيم مثقَّل ومخفف نحو ليِّن ولين وهيِّن وهَين قال الشاعر : ( هَيْنُونَ لَيْنُون أيْسارٌ ذَوُو يسرٍ ** سُوَّاسُ مَكْرُمَةٍ أبْنَاءُ أيْسار ) وأنشد في تخفيف الأيم وتشديده : ( ولقد وَرَدْتَ الماء لم تَشْرَبْ بهِ ** زَمَنَ الرَّبِيع إلى شُهور الصّيّفِ ) ( إلاّ عَوَاسِرُ كالمِراط مُعِيدَةٌ ** باللَّيل مَوْرِدَ أيّم متغضِّف )
الصَّيِّف يعني مَطَرَ الصّيف والعواسر : يعني ذئاباً
رافعة أذنابها .
والمِراط : السهام التي قد تمرَّط ريشها ومُعيدة : يعني
معاودة للوِرْد يقول هو مكانٌ لخَلائه يكون فيه الحيَّاتُ وتَردُه الذِّئاب
ومتغضِّف يريد بعضُهُ على بعض يريد تثني الحيَّة .
وأنشد لابن هند : ( أودَى بأمِّ سُليمَى لاطِئٌ لَبِدٌ
** كحيَّةٍ مُنْطَوٍ من بينِ أحجارِ ) وقال محمد بن سَعيد : ( قريحة لم تُدنِّيها
السِّياط ولم ** تُورَدْ عِرَاكاً ولم تعصر على كَدَرِ ) ( الليث للَّيثِ منسوبٌ
أظافِرُهُ ** والحيَّةُ الصِّلُّ نجْل الحَيَّةِ الذَّكَرِ )
وقال ذو الرّمّةِ : ( وأحْوَى كأيم الضَّالِ أطْرَقَ بَعْدَمَا ** حَبَا تحتَ فينانٍ من الظِّلِّ وارفِ ) قال : ويقال انبسَّت الحيَّات : إذا تفرَّقت وكثُرت وذلك عند إقبال الصَّيف قال أبو النَّجم : وانبسَ حيَّاتُ الكثيبِ الأهْيَلِ وقال الطِّرمَّاح : ( وَتَجَرَّدَ الأسروعُ وَاطَّرَدَ السَّفَا ** وَجَرَتْ بجالَيْهَا الحِدَابُ القَرْدَدُ ) وانسابَ حَيّاتُ الكثيبِ وأقبلَتْ وُرْق الفَرَاشِ لما يَشُبُّ المُوقِدُ .
قال : ويقال جبأ عليه الأسودُ من حجره : إذا فاجأه وهو
يجبأ جبأَ وجَبْواً .
وقال رجلٌ من بني شيبان : ( وَما أَنَا مِنْ رَيْبِ
المَنُونِ بجُبأ ** وَمَا أَنَا مِنْ سَيْبِ الإلهِ بِيَائِس ) ما يشرع في اللبَن
قال : ويقال : اللّبن مُحْتَضَرٌ فغطِّ إناءك كأَنَّهُمْ يَرَوْنَ أنّ الجنَّ
تَشْرَع فيه على تصديقِ الحديث في قَول المفقود لعمر حينَ سأَله وقد استَهْوَتْهُ
الجانّ : ما كان طعامهم قال الرِّمَّة يريد العظم البالي وتقول الأعراب : ليس ذلك إلاّ في
اللّبَن وأمّا النَّاس فيذهبون إلى أَنَّ الحَيَّاتِ تشرع في اللَّبَنِ وكذلك
سامُّ أبرص كذلك الحيّات تشرع في كثير من المرق .
حديث في المعصفر وجاء في الحديث : لا تَبيتُوا في
المعَصْفر فإنها مُحْتَضَرَةٌ أي يحضرها الجنُّ والعُمَّار . )
وقال الشاعر فيما يمجُنُونَ به من ذكر الأفعى : (
رَمَاكَ اللّهُ مِنْ أيرٍ بِأَفْعًى ** ولا عافَاكَ من جَهدِ البَلاَء ) (
أجُبْناً في الكريهة حِينَ تَلْقَى ** وَنَعْظاً ما تفتِّرُ في الخَلاء ) ( فلولا
اللّه ما أمْسى رَفيقي ** ولولا البولُ عُوجِلَ بالخِصاء ) وقال أبو النّجم : ( نظَرَتْ
فأَعَجبها الذي في دِرْعِهَا ** من حُسْنها ونظرتُ في سِرباليا ) ( فرأتْ لها
كفلاً ينوء بخَصْرِها ** وعثا روادفُهُ وأخْثَمَ ناتيا )
( ورأيتُ منتشرَ العِجَانِ مُقَبَّضَا ** رِخْواً حمائلُهُ وَجِلْداً باليا ) ( أُدْنِي له الرَّكَبَ الحَلِيقَ كأَنَّمَا ** أُدني إليه عقارباً وأفاعيا ) وقال آخر : ( تسيب انسيابَ الأيْم أخْصَرَه النَّدَى ** يرفِّع من أطرافه ما ترفَّعَا ) شعر في العقربان وقال إياسُ بن الأرَتِّ : ( كَأَنَّ مَرْعَى أمَّكُمْ سوءَة ** عقْرَبةٌ يَكُومُها عُقْرُبانْ )
( إكليلُها زَوْلٌ وفي شَوْلها ** وَخْزٌ حَدِيدٌ مِثْلُ وخْزِ السنانْ ) ( كلُّ امرئٍ قَدْ يُتَّقَى مُقْبِلاً ** وأمُّكُمْ قد تُتّقَى بالعِجَانْ ) وقال آخَرُ لِمُضِيفِهِ : ( تَبيتُ تُدَهْدِهُ القِذَّانَ حَوْلِي ** كأَنَّكَ عِنْدَ رأسي عُقْرُبانُ ) ( فلو أطعمتني حَمَلاً سَمِيناً ** شَكَرْتُكَ وَالطّعامُ له مكانُ )
شعر في الحيات الأفاعي
وقال النّابغة : ( فلو يستطيعون دبَّتْ لنا ** مَذَاكِي الأفاعي وأطفالُها ) وقال رجلٌ من قريش : ( ذو مِرّةٍ تَفْرَقُ الحيَّاتُ صَوْلَتَهُ ** عَفُّ الشَّمائِل قَدْ شُدَّت له المِرَرُ ) ( لم يأتِهِم خَبَرٌ عَنْهُ يلِينُ له ** حَتّى أَتَاهُمْ به عن نَفْسِهِ الخبرُ ) وقال بشار : ( تزِلُّ القَوَافي عَنْ لِسَانِي كَأنَّها ** حُمَاتُ الأفاعي ريقهُنّ قَضَاءُ ) وقال : ( فكم من أخٍ قد كان يأمُلُ نفعَكُمْ ** شجاعٍ له نابٌ حديدٌ ومِخْلَبُ ) ( أخ لو شَكَرْتُمْ فِعْلَهُ لَو عَضَضْتُم ** رُؤوسَ الأفاعي عَضّ لا يتهيَّبُ )
وقال الحارث دعيُّ الوليد في ذكر الأسْوَدِ بالسمّ من بين الحيّات : ( فإنْ أنتَ أقرَرْتَ الغَدَاةَ بِنِسْبتي ** عُرِفْتُ وإلاّ كنتُ فَقْعاً بِقَرْدَدِ ) ( ويَشْمَتُ أعداءٌ ويجذَلُ كاشحٌ ** عَمَرْتُ لهم سُمّاً على رأس أسْوَدِ ) وقال آخر : ( ومَعْشَرٍ مُنْقَعٍ لي في صُدُورِهِمُ ** سمُّ الأساوِدِ يغلي في المواعيدِ ) ( وَسَمْتهُم بالقوافي فَوْقَ أعينهم ** وَسْمَ المعيديِّ أعناقَ المقاحيدِ ) وقال أبو الأسود : ( سقط بيت الشعر ) ( ليتك آذنتني بواحدة ** جعلتها منك آخر الأبد )
( تحْلِفُ ألاّ تَبَرَّني أبداً ** فإنّ فيها بَرْداً على
كَبِدِي ) ( إن كان رزقي إليك فارْم به ** في نَاظِرَي حَيّةٍ على رَصَدِ ) وقال
أبُو السَّفّاح يرثي أخاه يحيى بن عميرة ويسمِّيه بالشجاع : ( يَعْدُو فلا تكذبُ
شَدَّاتُهُ ** كما عدا اللّيْثُ بوادي السِّباعْ ) ( يجمَعُ عَزْماً وَأَنَاةً
مَعاً ** ثُمَّتَ يَنْبَاعُ انْبِيَاعَ الشجاعْ ) وقال المتلمِّس : ( فأطْرَقَ
إطرَاقَ الشجَاعِ ولو يَرَى ** مَسَاغاً لنَابَيْهِ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا )
وقال معمر بن لقيط أو ابن ذي القروح : ( شموسٌ يظلُّ
القوم معتصماً به ** وإن كان ذا حَزمٍ من القَوْم عادَيا )
( أبيت كما بات الشجاع إلى الذُّرَى ** وأغدُو على همِّي وإن بتُّ طَاويَا ) ( وإنِّي أهُضُّ الضَّيم منِّي بصارمٍ ** رهيفٍ وشيخٍ ماجدٍ قَدْ بَنَى ليا ) وهكذا صفة الأفعَى لأَنها أبداً نابتةٌ مستوية فإنْ أنكَرَتْ شيئاً فَنَشْطتها كالبَرْقِ الخاطِف ووصف آخرُ أفعى فقال : ( وَقَدْ أُراني بطويِّ الحسِّ ** وذاتِ قرْنَيْنِ طَحُونِ الضِّرْس ) ( لمّا التَقَيْنَا بمَضِيقٍ شَكْسِ ** حتى قنَصْتُ قَرْنَهَا بِخَمْسِ ) وهم يتهاجَوْنَ بأَكل الأَفاعي والحيّات قال الشاعر : ( فإياكمُ والرِّيفَ لا تَقرُبنَّهُ ** فإن لديه الموتَ والحتمَ قاضيا ) ( همُ طردوكم عن بلادِ أبيكُمُ ** وأنتمْ حُلولٌ تشتَوون الأفاعيَا ) وقال عمر بن أبي ربيعة : ( ولمَّا فَقَدْتُ الصَّوتَ منهم وأُطْفِئَتْ ** مصابيحُ شُبَّت بالعِشَاء وأنؤُرُ )
( وغاب قُميرٌ كنت أرجُو مَغِيبَه ** وروَّح رُعيانٌ وهَوَّمَ سُمَّرُ ) ( ونفَّضت عنِّي اللَّيلَ أقبلتُ مِشْيَة ال ** حُبَابِ ورُكني خِيفَةَ القومِ أزْوَرُ ) ( ضرب المثل بسمّ الأساود ) وضَرَبَ كلثومُ بن عمرٍ و المثلَ بسمِّ الأساود فقال : ( تلوم على تَرْك الغنى بَاهليَّة ** طوى الدَّهْرُ عنها كلَّ طِرْفٍ وتالِدِ ) ( رأتْ حولها النِّسوانَ يرفُلْنَ في الكُسَا ** مقلَّدةً أجيادُها بالقلائِد ) ( يسرُّكِ أنِّي نلتُ ما نالَ جعفرٌ ** من الملك أو ما نال يحيى بنُ خالد )
( سقط : بيت الشعر ) ( وأن أمير المؤمنين أعضني ** معضهما بالمرهفات البوارد ) ( ذريني تجئني مِيتتي مُطْمئِنَّةً ** ولم أتَقَحَّمْ هَوْلَ تلكَ المواردِ ) ( فإن كريماتِ المعالي مَشُوبَةٌ ** بمستَوْدَعاتٍ في بطونِ الأساودِ )
حيات الجبل
وفي التشنيع لحيَّات الجبل يقول اللَّعِينُ المِنْقَرِيُّ لرؤبة بن العجَّاج :
( إني أنا ابن جلا إن كنت تعرفني ** يا رُؤبَ والحيَّةُ الصَّماء في الجَبَلِ ) ( أبا الأراجِيزِ يا ابنَ اللؤمِ تُوعدني ** وفي الأراجيز جَلْبُ اللؤمِ والكَسَلِ )
خبران في الحيات
الأصمعيُّ
قال : حدَّثني
ابن أبي طرفة قال : مرَّ قومٌ حُجَّاجٌ من أهل اليمن مع المساء برجلٍ من هُذيل
يقال له أبو خِراش فسألوه القرَى فقال لهم : هذه قدرٌ وهذه مِسْقَاةٌ وبذلك
الشَّعب ماء فقالوا : ما وفّيتنا حقّ قِرانا فأخذ القِرْبَة فتقلّدَها يسقيهم
فنهشته حَيَّة .
قال أبو إسحاق : بلغني وأنا حدث أن النبي صلى الله عليه
وسلم نَهَى عن اخْتِنَاث فمِ القِرْبة والشربِ منه قال : فكنت أقولُ إنّ لهذا
الحديث لشأناً وما في الشرب من فم قِرْبَةٍ حتّى يجيء فيها هذا النهي حتّى قيل :
إنّ رجلاً شرِبَ من فمِ قِربةٍ فوكعته حيَّةٌ فمات وإنَّ الحيَّاتِ تدخُل في أفواه
القِرَب فَعَلِمْتُ أنّ كُلّ شيء لا أعرفُ تأويلَه من الحديث أنّ له مذهباً وإن
جَهِلْتُه .
شعر في سلخ الحية
وقال
الشاعرُ في سَلْخِ الحيَّة : ( حَتَّى إذَا تَابَعَ بَيْنَ سَلْخَيْنْ ** وعادَ
كالميسَمِ أحمَاهُ الْقَيْنْ ) ( أقبَلَ وهو واثقٌ بِثنْتَيْنْ : ** بِسَمِّهِ
الرَّأسَ ونَهْشِ الرِّجْلَيْنْ ) قال : كأنهُ ذهب إلى أنّ سمَّه لا يكونُ
قَاتِلاً مُجْهِزاً حتَّى تأتيَ عليه سنتان .
وزعم بعضهم أنّ السّلخَ للحيّةِ مثلُ البزُولِ والقروح
للخف والحافر قال : وليس ينسلخ إلاّ بعد سِنينَ كثيرةٍ ولم يقِفُوا من السِّنين
على حَدٍّ .
قول في سلخ الحية وزعم بعضهم أنّ الحَيّةَ تَسْلخُ في
كُلِّ عامٍ مرَّتين والسلخ في الحيات كالتَّحسير من الطير وأنّ الطير لا تجتمع
قويّةً إلاّ بعد التحسيرِ وتمامِ نباتِ الرِّيش وكذلك الحيَّة تضعُف في أيامِ
السَّلخ ثمَّ تشتدُّ بعد .
قال الأصمعيّ : أخبرني أبو رفاعة شيخٌ من أهل البادية
قال : رأيتُ في المنام كأني أتخطّى حَيّات فمطرت السماء فجعلت أتخطى سُيولاً .
وحكى الأصمعيُّ أنَّ رجلاً رأى في المنام في بيوته
حَيَّاتٍ فسأل عن ذلك ابن سِيرِينَ أو غيره فقال : هذا رجلٌ يدخل منزلَه أعداءُ
المسلمين وكانت الخوارجُ تجتمعُ في بيته .
شعر للعرجي والشماخ في الحيات قال العرْجِيُّ في دبيب
السمِّ في المنهوش : ( وأُشْرِبَ جِلْدِي حُبَّها وَمَشى بِهِ ** كمشي حُمَيَّا
الكَأسِ في جِلد شاربِ ) ( يَدِبُّ هَوَاهَا في عظامي وحبها ** كما دَبَّ في
الملسوع سمُّ العَقاربِ ) وقال العرجيُّ في العرماءِ من الأفاعي وكونها في صُدوعِ
الصَّخْر فقال : ( تَأتي بليلٍ ذُو سعاة فسَلَّها ** بها حافظ هاد ولم أرق سلما )
( كمثل شِهاب النَّارِ في كفِّ قابسٍ ** إذا الرِّيحُ هبت من مكانٍ تَضَرَّمَا ) (
أبرَّ على الحُوَّاءِ حتى تَنَاذَرُوا ** حِمَاهُ محاماة من الناس فاحتمى )
( يظلّ مُشيحاً سامعاً ثمَّ إنها ** إذا بُعِثت لَمْ تَألُ إلاّ
تَقَدُّما ) قال : ويقال : تطوَّت الحيَّة وأنشد العرجِيُّ : )
وقال الشَّماخ أو البَعيث : ( وأطرَقَ إطراقَ الشجاعِ
وقَدْ جَرَى ** على حَدِّ نَابَيْهِ الذُّعافُ المسمِّمُ ) ما ينبح من الحيوان
والأجناس التي تُذْكَرُ بالنُّبَاحِ : الكلب والحيَّةُ والظَّبْيُ إذا أسنَّ
والهُدهدُ وقد كتبنا ذلك مرة ثَمَّ قال أبو النَّجم : ( والأسد قد تَسْمَعُ مِنْ
زئيرِها ** وباتت الأفعى على مَحْفُورِها ) ( تأسِيرُها يحتَكُّ في تأسيرها ** مرّ الرَّحَى
تجري على شَعيرها )
( كرَعْدَة الجرَاء أو هديرِها ** تضرُّمَ القَصْباء في تَنُّورها ) (
توقّر النَّفس على توقيرها ** تعلّم الأشياء في تنقيرها ) في عاجل النفْسِ وفي تأخيرها قول
في آية وسنذكر مسألة وجوابها وذلك أنَّ ناساً زعموا أنّ جميع الحيوان على أربعة أقسام
شيء يطير وشيءٍ يمشي وشيء يعوم وشيءٍ ينساح .
وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ : وَاللّهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّهُ
مَا يَشَاءُ .
وقد وَضَعَ الكلامَ على قسمة أجناس الحيوان وعلى تصنيف
ضروبِ الخلْق ثمَّ قَصَّرَ عن الشيء الذي وضعَ عليه كلامَهُ فلم يذكر ما يطير وما
يعومُ ثمَّ جعل ما ينساحُ مثلُ الحيَّاتِ والدِّيدان ممَّا يمشي والمشي لا يكون
إلاّ برجل كما أنَّ العضّ لا يكون إلا بفمٍ والرَّمْح لا يكون إلاَّ بحافر وذكر ما
يمشي على أربعٍ وها هنا دوابُّ كثيرةٌ تمشي
على ثمانِ
قوائِمَ وعلى ستٍّ وعلى أكثرَ من ثمانٍ ومَن تفقَّدَ قوائِمَ السَّرطانِ وبناتِ
وَرْدَانَ وأصنافَ العناكب عرَفَ ذلك .
قلنا : قد أخطأتم في جميع هذا التَّأويل وَحَدِّه فما
الدَّليلُ على أنَّهُ وضع كلامَهُ في استقصاءِ أصناف القوائِم وبأيِّ حُجةٍ
جزَمْتم على ذلك وقد قال اللّه عزَّ وجلّ : وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
وتَرَكَ ذِكْرَ الشَّيَاطِينِ وَالنَّارُ لهُمْ آكَلُ وعذابُهم بها أشدُّ فَتَرَكَ
ذِكرَهم من غير نسيان وعلى أنَّ ذلك معلومٌ عند المخاطب وقد قال اللّه عزَّ وجلّ :
خَلَقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثمَّ ) جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً أخرج من
هذا العموم عيسى ابنَ مريم وقد قَصَدَ في مخرَج هذا الكلام إلى جَميعِ ولِد آدمَ
وقال : هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً
مَذْكُوراً أدَخَلَ فيها آدمَ وحوَّاءَ ثمَّ قال على صلة الكلام : إنَّا خَلَقْنَا
الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيه أخرج منها آدمَ وحَسنُ ذلك إذ كان
الكلامُ لم يُوضَع على جميع ما تعرفه النُّفوسُ من جهةِ استقصاءِ اللَّفظ فقوله :
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى رِجْلَيْنِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمشِي عَلَى أَرْبَعٍ كان على هذا المثال الذي ذكرنا وعلى أنّ
كُلَّ شيءٍ يمشي على أربع فهو مما يمشي على رجلين والذي يمشي على ثمانٍ هو مما يمشي
على أربعٍ وعلى رجلين
وإذا قلت
: لي على فلان عشرة آلاف درهم فقد خبَّرت أنّ لك عليه ما بين درهمٍ إلى عشرة آلاف .
وأمَّا قولكم : إنَّ المشي لا يكون إلاَّ بالأرجل فينبغي
أيضاً أنْ تقولوا فَإذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَى إنّ ذلك خَطأ لأنَّ السَّعي لا يكون
إلاّ بالأرجل .
وفي هذا الذي جهِلتموه ضروبٌ من الجواب : أمّا وجهٌ منه : فهو قولُ القائل
وقول الشَّاعر : ما هُوَ إلاَّ كَأَنهُ حيّة وكأنّ مِشيته مِشْيةُ حيّة يَصِفُونَ
ذلك ويذكرون عِنْدَهُ مِشيةَ الأيم والحُبَابِ وذكورِ الحيَّات وَمَنْ جَعَلَ
للحَيّاتِ مَشياً من الشعراء أكثرُ من أن نقف عليهم ولو كانوا لا يسمُّون
انسيابَها وانسياحَها مشياً وَسَعْياً لكان ذلك مما يجوزُ على التشبيه والبدل
وَأَنْ قَامَ الشيءُ مقامَ الشيءِ أو مقام صاحبه فمن عادة العرب أن تشبِّه به في
حالاتٍ كثيرة وقال اللّه تعالى
: هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ والعذاب لا يكون
نزُلاً ولكِنّهُ أجراه مُجْرَى كلامهم كقول حاتمٍ حينَ أمرُوهُ بِفَصْدِ بعيرٍ
وَطَعَنه في سَنامه وقال : هذا فَصْدُهُ .
وقال
الآخر : ( فقلتُ يا عمرُو اطْعِمَنِّي تَمْرَا ** فكان تمْري كَهْرَةً وَزَبْرَا )
وذمَّ بعضهم الفأرَ وذكرَ سوءَ أثرِها في بيته فقال : ( يا عَجّلَ الرَّحْمنُ
بالعقابِ ** لِعامرات البيتِ بالخرابِ ) يقول : هذا هو عمارتُها كما يقول الرّجُل
ما نَرَى مِنْ خيرك وَرفْدِك إلاّ ما يبلُغُنا منْ حَطبك علينا وفتِّكَ في
أعضادِنا .
وقال النَّابغة في شبيهٍ بهذا وليس به : ( ولا عيبَ فيهم
غيرَ أنَّ سيوفهم ** بِهِنّ فلولٌ من قِراعِ الكتائب ) ووجهٌ آخر : أنَّ الأعرابَ
تزعُمُ وكذلك قال ناسٌ من الحوَّائين والرَّقائين إنّ للحيَّة حزوزاً في )
بطنه فإذا مَشَى قامت حُزُوزُه
وإذا
تَرَكَ المشْيَ تراجَعتْ إلى مكانها وعادتْ تلك المواضعُ مُلْساً ولم تُوجَدْ
بِعَيْنٍ ولا لَمْس ولا يبْلغها إلاَّ كلُّ حَوَّاءٍ دقيقِ الحِسِّ .
وليس ذلك بأعجَبَ من شِقْشِقَةِ الجمل العربيِّ فإنّه
يظهرُها كالدَّلْو فإذا هو أعادها إلى لَهَاتِهِ تراجَعَ ذلك الجلدُ إلى موضعه فلا
يقدِرُ أحدٌ عليه بلمْسٍ ولا عَين وكذلك عروق الكُلَى إلى المثانة التي يَجْرِي
فيها الحَصَى المتولِّد في الكُلية إذَا قَذَفَتْهُ تلك العروقُ إلى المثانة فإذا
بال الإنسانُ انضمّت العروقُ واتَّصلت بأماكنها والتحمتْ حتى كان موضعُها كسائِر
ما جاوز تلك الأماكن .
ووجهٌ آخر : وهو أنَّ هذا الكلام عربيٌّ فصيح إذ كانَ
الذي جاءَ به عربيّاً فصيحاً ولو لم يكنْ قرآناً من عند اللّه تبارك وتعالى ثمَّ
كان كلامَ الذي جاء به وكان ممّن يجهل اللَّحنَ ولا يعرفُ مواضعَ الأسماء في لُغته
لكان هذا خاصَّةً ممَّا لا يجهلُه
.
فلو أنَّنا لم نجعل لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فضيلة
في نُبُوَّةٍ ولا مزيَّةً في البيان والفصاحة لكُنَّا لا نجد بُدّاً من أن نعلم
أنَّهُ كواحدٍ من الفصحاءِ فهل يجوزُ عندكم أن يخطئَ أحدٌ منهم في مثلِ هذا في
حديثٍ أو وصفٍ أو خُطبةٍ أو رسالة فيزعُمَ أن كذا وكذا يمشي أو يسعى أو يطير وذلك
الذي قال ليس من لُغته ولا من لغة أهله فمعلومٌ عندَ هذا الجواب وعند ما قبله أنَّ
تأويلَكُمْ هذا خطأ .
وقال اللّه عزَّ وجلَّ : إنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ
الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُون وأصحابُ الجنّة لا يوصفون بالشُّغُل وإنَما ذلك
جوابٌ لقول القائل : خبِّرني عن أهل الجنَّة بأيِّ شيءٍ يتشاغلون أم لهم فراغٌ
أبداً فيقول المجيب : لا ما شُغُلهم إلاَّ في افتضاضِ الأبكار وأكْلِ فواكه
الجنَّة وزيارةِ الإخوانِ على نجائب الياقوت .
وهذا على مثالِ جَوابِ عامر بنِ عبد قيس حين قيل له وقد
أقبل مِنْ جهة الحلبة وهو بالشام : مَنْ سَبَقَ قال : رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم قيل : فَمَنْ صَلَّى قال : أبو بكر قال : إنَّمَا وهو كقول المفسِّر حين سُئل
عن قوله : لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وعَشِيّاً فقال : ليس فيها بُكرةٌ
وعشيٌّ وقد صدَقَ القرآنُ وصَدَق المفسِّر ولم يتَناكرا ولم يتنافيا لأنَّ القرآن
ذهبَ إلى المقادير والمفسِّرَ ذهبَ إلى الموجودِ مِن دوَران ذلك مع غروب الشَّمس
وطلوعِها .
وعلى ذلك المعنى رُوِي عن عمر أنَّهُ قال : مُتْعتان كانتا
على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنا أنْهَى عنهما وأضربُ عليهما . )
قد كان المسلمون يتكلمون في الصَّلاة ويطَبِّقُون إذا
ركعوا فنَهَى عن ذلك إمامٌ من الأئمَّةِ وَضَرَبَ عليه بعد أن أظهَرَ النَّسخ
وعرَّفهم أن ذلك من المنسوخ فكأَنَّ قائلاً قال : أتنهانا عن شيءٍ وقد كان على عهد
النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيقول : نعم وقد قدَّم الاحتجاجَ في النَّاسخ والمنسوخ .
ومن العجَب أنَّ ناساً جعلُوا هذا القولَ على المِنبرِ
من عيوبه فإن لم يكن المعنى فيه على ما وصفنا فما في الأرضِ أجهلُ من عُمَرَ حين
يُظهِرُ الكُفْرَ في الإسلام على مِنبر الجماعة وهو إنَّما علاه بالإسلام ثمَّ في
شيءٍ ليس له حُجَّةٌ فيه ولا عِلة وأعجَبُ منه تلك الأمّة وتلك الجماعة التي لم
تُنْكِرْ تلك الكلمةَ في حياته ولا بَعْدَ موته ثمّ تَرَكَ ذلك جميعُ التَّابعين
وأتباعِ التَّابعين حتَّى أفضَى الأمرُ إلى أهْلِ دهرنَا هذا .
وتلك الجماعة هم الذين قتلوا عثمان على أن سير رجلا .
وهذا لا
يقوله إلا جاهل أو معاند .
وعلى تأويل قوله : هذَا نُزُلُهمْ يَوْمَ الدِّين قال :
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المهَادُ وقال تعالى : حَتَّى إذَا جَاؤُوهَا
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ
مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ
يَوْمِكُمْ هذَا قَالُوا بَلَى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى
الْكَافِرِين فجعل للنَّار خزائن وجعل لها خزنة كما جعل في الجنَّةِ خزائن وجعل
لها خَزَنة .
ولو أنَّ جهنَّمَ فُتحَتْ أبوابُهَا ونُحّي عنها
الخَزَنَة ثمّ قيل لكلِّ لصٍّ في الأرض ولكلِّ خائن في الأرض : دونَكَ فقد
أُبِيحَتْ لكلَمَا دنا منها وقد جُعِل لها خزائنٌ وخَزَنة وإنَّمَا هذا على مثالِ
ما ذكرنَا وهذا كثيرٌ في كَلاَمِ العَرَب .
والآيُ التي ذكرنا في صِدْقِ هذا الجواب كلها حُجَجٌ على
الخوارج في إنكارهم المنْزِلة بين المنزلتين .
شعر لخلف الأحمر في الحيات وقال خَلفٌ الأحمرُ في ذكر
الحيّات : ( يرون الموت دونى أن رأوني ** وصلٌ صفاً لنابيه ذباب ) ( من المتحرمات
بكهف طودٍ ** حرامٍ ما يرام له جناب ) ( أبى الحاوون أن يطئوا حماه ** ولا تسرى بعقوته
الذئاب ) ( إذا ما استجرس الأصوات أبدى ** لساناً دونه الموت الضباب ) ( إذا ما الليل
ألبسته دحاه ** سرى أصمى تصيح له الشعاب )
( سقط : بيت الشعر ) ( إذا ما الليل ألبسه دجاه ** سرى أصمى تصيح
له الشعاب )
فقلت لحيّان بن عتبي : لِمَ قال موسى بنُ جابر الحنفيُّ
: ( طَرَدَ الأرْوَى فما تقرَبُهُ ** وَنَفَى الحَيّاتِ عَنْ بَيْض الحجلْه ) قال : لأنَّ الذِّئاب
تأكُلُ الحيّات قلت : فلم قال خلفٌ الأحمر : ولا تسري بعَقوته الذئاب قال : لأنَّ
الذِّئاب تأكُل الحيّات فَظننت أنَّه حَدَسَ ولم يقُل بعلم .
منافضة
شعرية للزيادي ويحيى بن أبي حفصة
وقال الزِّياديُّ في يحيى بن أبي حفصة : ( إني ويحيى وما
يبغي كملتَمِسٍ ** صَيْداً وما نال منه الرِّيَّ والشِّبَعا ) ( أَهْوَى إلى باب
جُحْرٍ في مقدَّمهِ ** مِثْلُ الْعَسيبِ تَرَى في رأسه قَزَعا ) ( اللَّوْنُ
أَرْبَدُ والأنيابُ شابِكَةٌ ** عُصْلٌ تَرَى السُّمَّ يجري بينها قِطَعَا ) ( يَهْوي إلى
الصَّوْتِ والظلماءُ عاكفةٌ ** تَعَردَ السّيْلِ لاقى الحَيْدَ فاطَّلَعَا ) ( لو
نَالَ كفَّكَ آبَتْ منه مخضبة ** بَيْضَاءَ قد جللت أنيابها قزعا ) ( بِيعَتْ
بوَكْسٍ قليلٍ فاستقلّ بها ** من الهُزَالِ أبوها بعد ما ركعا ) ( كم حيّةٍ ترهَبُ
الحيَّاتُ صَوْلَتَهُ ** يَحْمَى لِرَيْدَيْهِ قد غادرتُه قِطَعا )
( يلقَيْنَ حَيَّةَ قفٍّ ذا مُسَاوَرَةٍ ** يُسْقَى به القِرْنُ من كأس الرَّدى جُرَعا ) ( تكاد تسقُطُ منهنَّ الجلودُ لِمَا ** يَعلَمْنَ منه إذا عايَنَّهُ قَزَعَا ) ( أصمَّ ما شمَّ من خَضْرَاءَ أيبسها ** أو مسّ من حجر أوْهاه فانْصَدَعَا ) شعر في الحيات وقال آخر : ( وكم طوت من حنشٍ راصدٍ ** للسفر في أعلى الثنيات ) ( أصم أعمى لا يجيب الرقى ** يفتر عن عصلٍ حديدات ) ( منهرت الشدق رقود الضحى ** سارٍ طمورٍ في الدجنات ) ( ذي هامةٍ رقطاء مفطوحة ** من الدواهي الجبليات ) ( صل صفاً تنطف أنيابه ** سمام ذيفانٍ مجيرات )
( مطلن في اللحيين مطلاً إلى ** رأس وأشداقٍ رحيبات ) ( قدمن عن ضرسين واستأخرا ** إلى سماخين ولهوات ) ( يسبته الصبح وطوراً له ** نفخٌ ونفثٌ في المغارات ) قال آخر وهو جاهليٌّ : ( لاهم إن كان أبو عمروٍ ظلم ** وخانني في علمه وقد علم ) ( فابعث له في بعض أعراض اللمم ** لميمةً من حنشٍ أعمى أصم ) ( أسمر زحافاً من الرقط العرم ** قد عاش حتى هو لا يمشي بدم ) ( فكلما أقصد منه الجوع شم ** حتى إذا أمسى أبو عمروٍ ولم ) ( يمس منه مضضٌ ولا سقم ** قام وود بعدها أن لم يقم )
( ولم يقم لإبلٍ ولا غنم ** ولا لخوفٍ راعه ولا لهم ) ( حتى دنا من رأس نضناضٍ أصم ** فخاضه بين الشراك والقدم ) ( بمذربٍ أخرجه من جوف كم ** كأن وخز نابه إذا انتظم ) ومخالب الأسد وأشباهِ الأسد من السِّباع تكون في غُلُفٍ إذا وطئت على بُطونِ أكُفها ترفّعت المخالبُ ودخلَتْ في أكمام لها وهو قولُ أبي زُبَيْد : ( بحُجْنٍ كالمحاجِنِ في فتوخ ** يَقِيها قِضَّةَ الأرْض الدَّخيسُ ) وكذلك أنياب الأفاعي هي ما لم تعضَّ فَمصُونَةٌ في أكمام ألا تراه يقول : ( فَخَاضَهُ بَينَ الشِّرَاكِ والقَدَمْ ** بِمِذْرَبٍ أخرَجَهُ من جَوْفِ كِمّْ )
رجز وشعر في لعاب الحية وقال آخر : ( أنعتَ نضناضاً كثِيرَ الصَّقْرِ ** مولده كمولِدِ ابن الدّهْرِ ) ( كانا جميعاً وُلِدَا في شَهْرِ ** يظلُّ في مَرْأًى بَعِيدِ القَعْرِ ) بَيْنَ حوَافِي سَدِرٍ وصَخْرِ وقال : ( وكيفَ وقد أَسْهَرْتَ عَيْنَك تبتغي ** عِنَاداً لِنَابَيْ حَيّةٍ قد تَربَّدا ) ( من الصُّمِّ يكفي مرَّةٌ من لُعَابِهِ ** وما عَاد إلاَّ كانَ في الْعَوْدِ أَحْمَدَا ) شعر لخلف في الأفعى وقال خلفٌ الأحمر وهي مخلوطةٌ فيها شيء وله شيء من الغبرة
وما علمتُ أنّ وصف عَيْنَ الأفعى على معرفةٍ واختبار غيرَه وهو قولُه : ) ( أفعَى رَخُوف العين مِطْرَاق البُكرْ ** داهية قد صغرت من الكبرْ ) ( صِلّ صَفاً ما ينطوي من القِصَرْ طويلة ** الإطراقِ من غير حسرْ ) ( كأَنَّما قَدْ ذهبَتْ بِهِ الفِكَرْ ** شُقَّتْ له العَيْنانِ طُولاً في شَتَرْ ) ( مهروتة الشدقَينِ حولاء النظرْ ** جاءَ بها الطُّوفان أيامَ زَخَرْ ) أحاديث في الوزغ هشام بن عروة قال : أخبرني أبي أنَّ عائشة أمَّ المؤمنين رضي اللّه عنها كانَتْ تَقْتُلُ الأوْزَاغ يحيى بن أبي أُنَيسة عن الزُّهري عن عروة عن عائشة
قالت :
سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول للوزغ : فويسِق .
قالت : ولم أسمَعْ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمَرَ
بقتله .
قال : قالت عائشة رضي اللّه عنها : سمعت سعداً يقول :
أمرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتله .
عبد الرحمن بن زياد قال : أخبرني هشامٌ عن عروة عن عائشة
أنَّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للوَزَغ : الفُويسق أبو بكر الهذليُّ عن
مُعاذ عن عائشة قالت : دخلَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليَّ وفي يدي
عُكَّازٌ فيه زُجٌّ فقال : يا عائشة مَا تَصنعِين بهذا قلت : أقتُلُ به الوَزَغَ
في بيتي قال : إن تفعلي فإنّ الدَّوَابَّ كلها حين ألقي إبراهيمُ صلى اللّه عليه
وسلم في النَّار كانت تُطفئ عنه وإنّ هذا كانَ ينفخُ عليه فَصَمّ وبَرِص .
وهذه الأحاديثُ كلها يحتجُّ بها أصحابُ الجهالات وَمَنْ
زَعَمَ أنّ الأشياءَ كلها كانتْ ناطقةً تأوُّل آيات من الكتاب وتأوّلوا قوله تعالى
: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرْض ولاَ طَائرٍ يَطِير بِجنَاحَيِه إلاَّ أُمَمٌ
أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا فيِ الْكِتابِ مِنْ شَيءٍ
وقالوا :
قال اللّه عزَّ وجلَّ : إنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّموَاتِ وَالأَرْضِ
وَالجبَالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ
إنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً وقال تعالى : يَا جِبَالُ أَوّبي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ وقال : وَإنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَما يَتَفجرُ مِنْهُ الأنْهَارُ
وَإنَّ مِنها لَما يشَّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ
مِنْ خَشيْةِ اللّهِ .
فذهبت الجهمية وَمَنْ أَنْكَرَ إيجاد الطّبائع مذهباً
وذهب ابنُ حائِطٍ ومن لَفَّ لَفّهُ من أصحابِ )
الجهالاتِ مذهباً وذهب ناسٌ ُ من غير المتكلمين واتّبعوا
ظاهرَ الحديثِ وظاهرِ الأشعَار وزعموا أنّ الحجارة كانت تعْقِلُ وتَنْطِق وإنَما
سُلبت المنْطِق فقط فأمَّا الطير والسِّباع فعلى ما كانَتْ عليه .
قالوا
: والوَطواط والصُّرد والضفدعُ مطيعاتٌ ومُثابات والعقرب
والحيَّةُ والحِدَأة والغراب والوَزَغ والكلب و أشباهُ ذلك عاصياتٌ معاقَبات .
ولم أقف على واحدٍ منهم فأقول له : إنَّ الوزَغةَ التي
تقتلها على أنَّها كانت تُضْرِم النَّار على إبراهيم أهي هذه أم هي مِن أولادِها
فمأخوذة هيَ بذَنب غيرها أم تزعم أنَّهُ في المعلوم أنْ وليس هؤلاء مِمَّنْ
يَفهَمُ تأويلَ الأحاديث وأيَّ ضرب منها يكون مردوداً وأيَّ ضربٍ منها يكون
متأوَّلاً وأيَّ ضربٍ منها يقال إنَّ ذلك إنَّما هو حكايةٌ عن بَعْضِ القبائل .
ولذلك أقولُ : لولاَ مكانُ المتكلمين لهلكت العوامُّ
واختُطِفَتْ واستُرِقتْ ولولا المعتزلة لهلك المتكلمون .
أحاديث في قتل الوزع شريكٌ عن التَّخَمِيِّ عن ليثٍ عن
نافع أنّ ابن عمرَ كان يقتُلُ الوزَغ في بيته ويقول هو شيطان .
هشام بنُ حسَّان عن خالد الرَّبعيِّ قال : لم يكن شيءٌ ُ
من خَشاشِ الأرض إلاَّ كان يُطفئُ النّار عن إبراهيم إلاّ الوَزَغ فإنَّهُ كان
ينفخ عليه .
حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت القاسمَ بنَ محمَّد يقول
إنَّ الأوازغَ كانت يومَ حُرِق بيت المَقْدِس تنفُخُه والوطاوطَ بأجنِحَتها .
شريكٌ عن النَّخَعيّ عن جابرٍ عن ابن عباسٍ قال :
الوَزَغ شَرِيكُ الشيطان .
أبو داود الواسطيّ قال : أخبرنا أبو هاشم قال : مَنْ
قَتَلَ وزغةً حطَّ الله عنه سَبعين خَطيئةً ومن قتل سبعاً كان كَعِتْقِ رقَبة .
هشامُ بن حسّان عن واصل مولى أبي عيينة عن عقيل عن يحيى
بن يعمر قال : لأَنْ أقتُلَ مائَةً من الوَزغ أحبُّ إليَّ من أنْ أعتِقَ مائَةَ
رقبة .
وهذا الحديثُ ليس من شكل الأوّل لأنّ يحيى بنَ يعمر لم
يزعمْ أنّهُ يقتله لكفره أو لكفر أبيه ولكنها دابّةٌ تُطاعمُ الحيَّاتِ وتُزَاقُّها
وتقاربُها وربَّما قتلَتْ بِعَضَّتها وتكرَع في المرَقِ واللَّبن ثُمَّ )
تمجُّه في الإناء فينالُ النَّاسَ بذلك مكروهٌ كبيرٌ من
حيث لا يعلمون وقتْلُه في سبيل قَتْلِ الحَيّاتِ والعقاربِ .
صنع السم من الأوزاغ وأهلُ السِّجْنِ يعملون منها سموماً
أنفَذَ من سمِّ البِيش ومن ريق
الأفاعي
وذلك أنَّهم يُدخِلون الوزَغَ قارورةً ثمَّ يصبُّون فيها من الزَّيت ما يغمرُها
ويضعونها في الشَّمسِ أربعين يوماً حتَّى تختلط بالزَّيت وتصيرَ شيئاً واحداً فإنْ
مسَحَ السَّجِين منه على رغيف مَسْحةً يسيرةً فأكَلَ منه عشرةُ أنفسٍ ماتُوا ولا
أدري لِمَ توَخّوْا من مواضع الدَّفْنِ عَتَبَ الأبواب .
حديث فيه نصائح يحيى بن أبي أُنَيسة عن أبي الزُّبير عن
جابر بن عبد اللّه قال : أَمَرَنَا رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأرْبَعٍ
ونَهانا عن أربع أمَرَنا أَن نُجيفَ أبوابنا وأنْ نخمِّر آنيتنا وأنْ نوكي
أسِقيَتَنا وأنْ نُطفئَ سُرُجَنا فإنَّ الشَّيطانَ إذا وجد باباً مُجَافاً لم
يفتحْه وإناءً مخمَّراً لم يكشِفْه وسقاءً مُوكًى لم يحلّه وإنَّ الفُويسقَة تأتي
المصباح فَتُضْرِمُه على أهل البيت ونهانا عن أربع : نهانا عن اشتمال الصَّمَّاء
وأنْ يمشيَ أحدُنا في النَّعْلِ
الواحدة
أو الخُفِّ الواحد وأنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ مِنَّا في الثَّوبِ الواحِدِ ليس
عليه غيره وأنْ يستلقي أحدُنا على ظهره ويرفَعَ إحدى رجليه على الأخرى .
وهذا الحديث ليس هذا موضعَه وهو يقع في باب جملة القول
في النّار وهو يقع بعد هذا الذي يلي القول في النعام .
ما جاء في الحيات من الحديث
شعبة أبو بسطام قال أخبرني أبو قيس قال : جلست إلى علقمة بن قَيْس وربيع بن خثيم فقال ربيع : قولوا وافعَلُوا خيْراً تُجْزَوْا خيراً وقال علقمة : مَن اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ ألاَّ يَرَى الحيَّة إلاَّ قَتَلَهَا إلاَّ التي مثل الميل فإنَّها جانٌّ وإنَّهُ لا يضرُّه قتل حَيَّةٍ أو كافر .
إسماعيل المكي عن أبي إسحاق عن علقمة قال : قال عبد
اللّه بن مسعود : من قتل حيَّةً فقتل كافراً .
ثم سمعت عبد الرحمن بن زَيد يقول : من قتل حَيَّةً أو
عقرباً قَتَلَ كافراً . وهذا ممَّا يتعلق به عبد الرحمن بن عبد اللّه المسعودي قال
: سمعت القاسم بن عبد الرحمن يقول : قال عبد اللّه : من قَتَلَ حَيَّةً أو عقرباً
فكأنَّما قَتَلَ كافراً فعلى هذا المعنى يكونُ تأليف الحديث .
سعيد بن أبي عَرُوبة عن قتادة أن رسول اللّه صلى اللّه
عَلَيْهِ وسلم قال : مَا سَالمْنَاهُنّ مُذْ حَارَبْنَاهُنّ .
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قالت عائشة : مَنْ تَرَكَ
قَتْلَ حَيَّةٍ مخافَةَ أثْآرِهَا فعليه لَعْنَةُ اللّه والملائكة .
الرَّبيعُ بن صبيحٍ عن عَطاء الخُراسانيّ قال : كان فيما
أُخِذَ على الحيّاتٍ أَلاَّ يَظْهرْن فَمَنْ ظهَرَ منهنَّ حلَّ قتلُه وقتالُهنَّ
كقتال الكفَّار ولا يَتْركُ قتلَهُنّ إلا شَاكٌّ .
وهذا ممَّا يتعلَّق به أصحابُ ابنِ حائِطِ .
محمد بن عَجْلانَ قال : سمعت أبي يحدِّث عن أبي هُريرة
قال : قال رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلم : ما سالَمْنَاهُنَّ مُذْ حَارَبْنَاهُنَّ .
ابن جُريج قال : أخبرني عبد اللّه بن عُبيد بنِ عميْر
قال :
أخبرَني
أبو الطفيل أنَّه سمع علي بنَ أبي طالب رضي اللّه عنه يقول : اقتلوا من الحيَّات ذا
الطفيتين والكلب الأسودَ البهيم ذا الغُرّتَين .
قال : والغُرّة : حُوّة تكون بعينيه .
قال صاحب المنطق : الطير عَلَى ضربين : أوابدُ وقواطعُ
ومنه ما يأكل اللحم لا يأكل غيْرَه وإن لم يكن ذا سلاح فأمَّا ذو السِّلاح
فَوَاجِبٌ أن يكون طعامُهُ اللَّحم ومن الطَّير ما يأكُلُ الحُبُوبَ لا يَعْدُوها
ومنه المشترك الطِّباع كالعصْفور والدَّجاج والغُراب فإنها تأكلُ النوعين جميعاً
وكطير الماء يأكُلُ السَّمَكَ ويلقط الحبّ ومنه ما يأكل شيئاً خاصّاً مثل جنس
النّحل المعَسِّل الذي )
غذاؤه شيء واحد وجنس العنكبوت فإن طُعْمَ النحل المعسِّل
العسل والعنكبوت يعيشُ من صيد الذباب
.
ما له مسكن من الحيوان ومن الحيوان ما له مسكنٌ ومأوًى
كالخُلْد والفأر والنَّملِ والنَّحل والضّبّ ومنه ما لا يتَّخذُ شيئاً يرجع إليه
كالحيَّاتِ لأنَّ ذُكورةَ الحيَّاتِ سَيَّارةٌ وإناثُهَا إنَّما تُقيم في المكان
إلى تمامِ خُروج الفِرَاخ من البَيض واستغناء الفِرَاخِ بأنفُسِها ومنها ما يكونُ
يأوي إلى شُقوقِ الصُّخورِ والحِيطانِ والمداخِل الضَّيّقة مثل سامّ أبرص .
قال : والحيّات تألفها كما تألف العقاربُ الخنافس
والعَظايا تألف المزابِلَ والخراباتِ والوزَغُ قريبةٌ من النَّاس .
وزعم زَرَادَشْت أنَّ العظايا ليستْ من ذواتِ السُّموم
وأنَّ سامَّ أبرصَ من ذواتِ السُّموم وأنّ أهرمن لما قعد ليقسِمَ السُّمومَ
كان الحظ
الأوْفرُ لكلِّ شيء سبقَ إلى طلبه كالأفاعي والثَّعابين والجرّارات وأنّ نصيبَ
الوزَغ نصيبٌ وسَطٌ قصْد لا يكمل أن يقتُل ولكنّه يزاقُّ الحيَّة فَتُميرُهُ ممّا
عندها ومتى دَبَرَ الوزَغُ جاءَ منه السمُّ القاتل أسرعَ من سمّ البِيش ومن لُعاب
الأفاعي فأمَّا العَظاية فإنّها احتبسَتْ عن الطَّلبِ حتى نَفَذَ السمُّ وأخذ كلُّ
شيء قِسْطَهُ على قَدْرِ السَّبق والبكور فلما جاءت العظاية وقد فَني السمُّ دخلها
من الحسرةِ وممّا علاها من الكِرْب حتى جعلت وجههَا إلى الخرابات والمزابل فإذا
رأيْتَ العظايةَ تمشي مشْياً سريعاً ثمّ تقِفُ فإنَّ تلك الوقْفة إنَّمَا هي لما
يعرضُ لها من التذكُّر والحسْرة على ما فاتها مِنْ نصيبها من السمّ .
رد عليه ولا أعلم العَظايةَ في هذا القياس إلاَّ أكثر
شُروراً من الوزَغَ لأنها لولا إفراط طباعها في الشَّرارة لم يدخلها من قوَّة
الهمِّ مثلُ الذي دخلَها
ولم
يستَبن للِنَّاس من اغتباط الوزَغ بنصيبه من السمِّ بقدْرِ ما استبان من ثُكل
العظايةِ وتسلُّلها وإحضارها وبكائها وحُزْنها وأسَفِها على ما فاتها من السُّمِّ .
زعم زرادشت في خلق الفأرة والسِّنّور ويزعم زَرَادشْت
وهو مذهبُ المجوسِ أنَّ الفأرةَ مِنْ خلق اللّه وأنّ السِّنّورَ من خَلْق
الشَّيطان وهو إبليس وهو أَهْرمَن فإذا قيل له : كيف تقول ذلك والفأرةُ مُفسِدةٌ تجذب
فَتيلة المِصباحِ فتحرق بذلك البيتَ والقبائلَ الكثيرةَ والمدنَ العِظام والأرباضَ
الواسعة بما فيها من النَّاسِ والحيوانِ والأموال وتقرِضُ دفاتر العلْم وكتبَ
اللّه ودقائق الحساب والصِّكاكَ والشُّروطَ وتقرِضُ الثِّيابَ وربَّما طلبت
القُطنَ لتأكُلَ بِزْرهَ فتدَعُ اللِّحاف غِرْبالاً وتقرِض الجُرُب وأَوْكِية
الأسِقيَةِ والأزْقاقِ والقربِ فتخرجُ جميعَ ما فيها وتقع في الآنية
وفي البئر
فتموت فيه وتُحْوِج النَّاسَ إلى مُؤَنٍ عظام وربَّما عضّت رِجْلَ النَّائم
وربَّما قتلت الإنسان بعضّتها والفَأر بخُراسانَ ربَّما قَطَعتْ أذن الرَّجُل
وجرْذَانُ أنْطاكِيةَ تَعْجِزُ عنها السَّنانير وقد جلا عنها قومٌ وكرهَها آخرون
لمكانِ جِرْذانها وهي التي فجرت المسنَّاة حتى كان ذلك سببَ الحَسْر بأرض سبأ وهي
المضروب بها المثَلَ وسَيْل العَرِم ممَّا تؤرِّخُ بزمانه العَرب والعَرِم :
المسنَّاة وإنما كان جُرَذاً .
وتقتل النَّخْل والفَسِيل وتخرِّب الضَّيعة وتأتي على
أَزِمَّةِ الركاب والخُطُمِ وغير ذلك من الأموال .
والنّاسُ ربما اجتلبوا السَّنانير ليدفعوا بها بوائق
الفأر فكيفَ صار خَلقُ الضَّارِّ المفسِدِ من اللّه
والسِّنَّور
يُعدى به على كلِّ شيء خَلقَهُ الشَّيطانُ من الحيَّاتِ والعقارب والجِعلان وبناتِ
ورْدان والفأرةُ لا نَفْعَ لها ومُؤَنها عظيمة .
قال : لأنَّ السِّنَّورَ لو بَالَ في البحر لَقَتَلَ
عشْرَة آلافِ سمكة .
فهَلْ سمعت بحُجّةٍ قطُّ أو بحيلةٍ أو بأضحوكةٍ أو بكلام
ظهر على تلقيح هرة يبلغ مُؤَن هذا الاعتلال فالحمد للّه الذي كان هذا مقدارَ
عقولهم واختيارهم . )
وأنشد أبو زَيْد : ( واللّه لو كنْتُ لهذا خالِصَا **
لكنْتُ عبداً آكلُ الأبارصا ) يعني جماعَ سامِّ أبْرص : أبارص .
أثر أكل سام أبرص ونحوه وسامُّ أبرص ربَّما قتَلَ أكله
وليس يُؤكل إلاَّ من الجوع الشَّديد وربما قتَلَ السَّنانيرَ وبناتِ عِرْس
والشَّاهْمُرْكَ وجميع اللَّقاطَات
.
وقال آخر : ( كَأنَّ الْقَوْمَ عُشُّوا لَحْمَ ضَأنٍ **
فهُمْ نَعِجُونَ قد مالَتْ طُلاَهمْ ) وهو شيءٌ ُ يعرض عن أكْلِ دَسَم الضَّأن وهو
أيضاً يلقى على دسمه النّعاس وقد يفعل ذلك والخشخاشُ يسمَّى بالفارسيّة أنارْ
كِبُو وتأويله رمَّان الخسّ وإنما اشتقَّ له ذلك إذ كان يورثُ النُّعاس كما يورثه
الخس .
أكل السماني وأكلُ الطّعام الذي فيه سمَان يُورِثُ
الدُّوَار وزعموا أنَّ صبيّاً من الأعراب فيما مضى من الدَّهر صادَ هامةً عَلَى
قبر فظنها سُمانَ فأكلها فغثَتْ نفسه فقال : نفسي تَمَقَّسُ مِنْ سُمَانَ الأقبرِ
استطراد لغوي ويقال : غَثَت نفسه غَثَى اناً وغَثْياً وَلَقِسَتْ تَلْقسُ لَقَساً
وَتَمَقَّست تَتَمقَّسُ تمقساً : إذا غَثِيت .
أكل الأعراب للحيات
وأخبرني صباح بن خَاقان قال : كنتُ بالبادية فرأيت ناساً حَولَ نَارٍ فسأَلتُ عنهم فقالوا : قد صادوا حياتٍ فهم يشوُونها ويأكلونها إذْ نَظَرْتُ إلى رجلٍ منهم ينهش حَيةً قد أخرَجَها من الجمر فَرأيته إذا
امتنعتْ
عليه يمدُّها كما يُمدُّ عصَبٌ لم ينضَجْ فما صرفْتُ بصري عنه حتّى لُبِطَ به فما
لبِثَ أن مات فسألتُ عنْ شأنه فقيلَ لي : عجَّلَ عليها قبلَ أن تنضَج وتَعمَلَ
النّار وقد كان قد بَغدادَ وفي البَصْرةِ جماعةٌ من الحوّائين يأكلُ أحدُهم أيَّ
حيّةٍ أشرتَ إليها في جَوْنَتهِ غير مشويَّة وربَّما أخَذَ المرَارَةَ وسْط راحِته
فلَطَعها بلسانه ويأكلُ عشرين عقربانة نِيَّةً بدرهم وأما المشويُّ فإنَّ ذلك عنده
عُرْسٌ .
شعر في الحيات وقال كُثَيِّر : ( وما زَالَتْ رُقَاكَ
تَسُلُّ ضِغْني ** فتُخْرِجُ من مكامِنِها ضِبابي ) ( وتَرْقِيني لك الحاوُونَ
حتّى ** أجابَتْ حَيَّةٌ خَلفَ الحِجَاب )
وقال أبو عَدنان وذكر ابنَ ثَرْوانَ الخارجيَّ حين كان صار إلى ظَهْر البصرة وخرج إليه مَنْ خرج مِنْ بني نُمير : ( حَسِبْتَ نُميراً يا ابن ثَرْوَان كالأُلَى ** لَقِيتَهُمُ بالأمْس : ذُهلاً ويَشْكُرَا ) ( كما ظَنَّ صَيَّادُ العَصَافِيرِ أنَّ في ** جَمِيعِ الكُوَى جَهْلاً فرَِاخاً وأطيُرَا ) ( فأدْخَل يوماً كفَّهُ جُحْرَ أسوَدٍ ** فشَرْشَرَهُ بالنَّهش حتى تشَرْشَرَا ) أراد قول رؤبة : ( كنتُمْ كمن أدْخَلَ في حُجْرٍ يَدَا ** فأخْطأ الأفْعَى وَلاَقَى الأسْوَدَا ) فَقَدَّمَ الأسوَدَ على الأفعَى وهذا لا يقوله مَن يعرف مقدار سمِّ الحيات .
وقال عنترة : ( حلَفْنا لَهُمْ والخيلُ تَرْدِي بنا معاً
** نزايلُكُمْ حتّى تَهِرُّوا العَواليا ) ( عَوَالِيَ سُمْرٍ مِنْ رماحِ رُدَينةٍ ** هَريرَ الكلابِ
يَتَّقِينَ الأفاعيا ) حديث في الحية وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اتقُوا ذَا
الطُّفْيَتَيْنِ والأبتَر . )
شبّه الخيطينِ على ظهره بخُوص المقْل وأنْشِدْتُ لأبي
ذُؤيب : ( عَفَتْ غَيْرَ نُؤْيِ الدَّارِ لأْياً أُبِينُهُ ** وأقْطاعِ طُفْيٍ قد
عَفَتْ في المعاقل )
وَالطُّفْي
: خُوص المقْل .
وهم يَصفونَ بَطْن المرأةِ الهيفاء الخميصَةِ البطْن
ببطن الحيَّةِ وهي الأيْم وقال العجَّاج : وبَطْنَ أيمٍ وقَوَاماً عُسْلُجَا
مناقضة شعرية وقال أدْهَمُ بنُ أبي الزَّعْراء وشبَّه نفسَه بحيَّةٍ : ( وما أسودٌ
بالبأس ترتاح نفسه ** إذا حلبةٌ جاءت ويطرق للحس ) ( سقط : بيت الشعر ) ( به نقط حمر
وسود كأنما ** تنضج نضجا بالكحيل وبالورس )
( أصم قطارى ٌ يكون خروجه ** قبيل غروب الشمس مختلط الدمس ) ( له منزلٌ أنف ابن قترة يغتذى ** به السم لم يظهر نهارا إلى الشمس ) ( يقيل إذا ما قال بين شواهقٍ ** تزل العقاب عن نفانفها الملس ) ( بأجرأ مني يا ابنة القوم مقدماً ** إذا الحرب دبت أو لبست لها لبسى ) فأجابه عَنْتَرَةُ الطائي فقال : ( عَسَاكَ تمنى مِنْ أَراقمِ أرْضِنَا ** بأرْقَمَ يُسْقى السمَّ مِنْ كلِّ مَنْطِفِ )
شعر في الأسود وقال عنترة : ( أترجو حياةً يا ابن بشر بن مسهرٍ ** وقد علقت رجلاك في ناب أسودا ) ( أصم جباليٍ إذا غض عضةً ** تزايل عنه جلده فنبددا ) ( بسلع صفاً لم يبد للشمس قبلها ** إذا ما رآه صاحب اليم أرعدا ) ( له ربقةٌ في عنقه من قميصه ** وسائره عن متنه قد تقددا ) ( رقود ضحياتٍ كأن لسانه ** إذا سمع الإجراس مكحال أرمدا ) ( يفيت النفوس قبل أن يقع الرقى ** وابن أبرق الحاوي عليه وأرعدا )
شعر في الحية ( لا ينبت العشب في وادٍ تكون به ** ولا يجاورها وحشٌ ولا شجر ) ( ربداء شابكة الأنياب ذابلة ** ينبو من اليبس عن يافوخها الحجر ) ( لو سرحت بالندى ما مسها بللٌ ** ولو تكنفها الحاوون ما قدروا ) ( قد حاوروها فما قام الرقاة لها ** وخاتلوها فما نالوا ولا ظفروا ) ( تقصر الورل العادي بضربتها ** نكزاً ويهرب عنها الحية الذكر )
جملة القول في الظليم
فممّا فيه
من الأعاجيب أنّه يغتذي الصّخرَ ويبتلع الحِجارةَ ويعمد إلى المرْوِ والمرْوُ من
الحجارة التي توصف بالملاسة ويبتلع الحصى والحصى أصلب من الصَّخْر ثم يُمِيعه
ويذيبه في قانصته حتَّى يجعله كالماء الجاري ويقصدُ إليه وهو واثقٌ باستمرائه وهضْمه
وأنّه له غذاءٌ وقِوامٌ .
وفي ذلك أعجوبتان : إحداهما التَّغذِّي بما لا يُتَغذَّى
به والأخرى استمراؤه وهضْمُه للشيء الذي لو أُلقِيَ في شيء ثم طبخ أبداً ما انحلّ
ولا لان والحجارة هو المثل المضروبُ في الشدَّة قال الشاعر : حتى يَلِينَ لِضِرْسِ
الماضغِ الحَجرُ وقال آخر : ( مَا أطْيَبَ العَيْشَ لو أنَّ الْفتَى حَجَرٌ ** تنبو الحوادثُ
عنهُ وهو ملمومُ ) ووصف اللّه قلوب قومٍ بالشدَّة والقسوة فقال : فَهِي
كالحِجَارةِ أوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وقال في التشديد : نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالحِجَارَةُ
لأنه حين
حذر النَّاسَ أعلمهم أنّه يُلقي العُصاة في نار تأكلُ الحجارة .
ومن الحجارةِ ما يتّخذه الصفّارونَ عَلاةً دونَ الحديد
لأنّه أصبرُ على دقِّ عِظام المطارق والفِطِّيسات . فجوفُ النعامةَ يُذِيب هذا
الجوهرَ الذي هذه صفته .
شواهد لأكل النعام الحصى والحجارة
وقال ذو الرُّمّة : ( أذَاكَ أمْ خاضبٌ ُ بِالسِّيِّ مرتعُهُ ** أبو ثَلاثينَ أمْسى وهو منْقَلِبُ ) ( شخت الجزارة مثلُ البيتِ سائرُه ** من المُسوحِ خِدَبٌّ شوقَب خَشبُ )
( كأنَّ رجليه مِسْماكانِ من عُشَرٍ ** صَقْبانِ لَمْ يَتَقَشَّرْ عنهما النّجَبُ ) ( الهَاهُ آءٌ وَتَنُّوم وعُقْبَتُهُ ** مِنْ لائحِ المرْوِ والمَرْعَى له عُقَب ) وقال أبو النَّجْم : ( والْمَروُ يُلْقِيه إلى أمعائه ** في سَرْطمٍ مَادَ على التوائهِ )
( يَمُورُ في الحلقِ على عِلْبَائِهِ ** تَمَعُّجَ الحيَّةِ في غِشَائِهِ ) هادٍ ولو حَارَ بحَوصَلائِهِ
إذابة جوف الظليم للحجارة
ومَنْ زَعَمَ أنَّ جَوفَ الظَّليمِ إنما يُذيبِ الحجارة بقَيظ الحرارة فقد أخطأ ولكنْ لا بدَّ من مقدار للحرارة و نحو غرائز أخر وخاصّيّات أخر ألا ترَى أنَّ القُدورَ التي يُوقد تحتها الأيَّامَ واللَّياليَ لا تذوب . ( القول في الخاصِّيَّات والمقابلات والغرائز ) وسأدلك على أنّ القولَ في الخاصّيّاتِ والمقابلات والغرائز حقٌّ ألا ترى أنَّ جوفَ الكلْب والذِّيبِ يذيبان العظام ولا يذيبان نَوَى التمر ونَوَى التمر أرخَى وألين وأضعفُ من العظام المصْمَتة وما أكثر ما يَهضِم
العظم وقد
يهضم العظمَ جوفُ الأسد وجوفُ الحيَّةِ إذا ازدردت بضع اللحْمِ بالشَّرَهِ
والنَّهَم وفيها بعضُ العِظام .
والبراذين التي يُحِيلُ أجوافُها القَتَّ والتِّبن
رَوْثاً لا تستمري الشعير .
والإبلُ تقبضُ بأسنانِها على أغصانِ أمِّ غَى ْلان وله
شوكٌ كصَياصي البقر والقُضبانُ علكة يابسةٌ جرد وصلاب متينة فتستمرئُها وتجعَلُها
ثَلْطاً ولا تقْوَى على هضْم الشَّعِير المنْقَع وليس ذلك إلاَّ بالخصائص
والمقَابلات .
وقد قُدِّر كلُّ شيء لشيء ولولا ذلك لما نفذ خرطومُ
البعوضةِ والجِرجسة في جلد الفيلِ والجاموسِ ولَمَا رأيت الجاموسَ يهربُ إلى
الانغماس في الماء مرّةً ومرّةً يتلطَّخ بالطِّين ومرّةً يجعله أهله على ربيث
الدكان ولو دفعوا إليك مِسَلّةً شديدةَ المتْن لَمَا أدخلْتَها في جلد الجاموس
إلاّ بَعدَ التكلُّفِ وإلاّ ببَعْضِ الاعتماد .
والذي سخَّر جلدَ الجاموسِ حَتّى انفرَى وانصدع لطَعْنةِ
البعوضة
وسخَّر
جلد الحمار لطْعنة الذُّباب وسخَّر الحجارة لجوف الظليمِ والعَظْمَ لجوف الكلب هو
الذي سخَّر الصَّخْر الصُّلبَ لأذناب الجراد إذا أرادتْ أن تُلقي بيضها فإنَّها في
تلك الحال مَتَى عقدَتْ ذنبها في ضاحي صخْرةٍ انصدعَتْ لها ولو كان انصداعُها من
جهة الأَسْر ومن قوَّة الآلة ومن الصَّدم وقوَّة الغمز لانصدعت لما هُو في الحسِّ
أشدُّ وأقوى ولكنَّه على جهة التَّسخير والمقابلات والخصائص .
وكذلك عُود الحَلْفاء مع دِقّته ورخَاوته ولِين انعطافه
إذا نَبتَ في عُمق الأرضِ وتلَقَّاه الآجُرُّ والخزَفُ الغليظ ثَقَبَ ذلك عند نباته
وشبابه وهو في ذلك عبقَرٌ نضير
.
وزعم لي ناسٌ من أهل الأردُنِّ أنّهم وجَدوا الحلْفاء قد
خَرَقَ جوف القار .
وزعم لي أبو عتّاب الجرّار أنّه سمع الأكَرَة يُخبِرونَ
أنَّهم وجدوه قد خَرَقَ فَلْساً بَصْريّاً .
وليس ذلك لشدَّةِ الغمزِ وحِدّة الرأس ولكنه يكون على
قدْر ملاقاة الطباع .
ويزعمون أنَّ الصَّاعقة تسقُطُ في حانوت الصَّيقل فتُذيب
السُّيوفَ بطبعها وتدع الأغمادَ عَلَى
)
شبيهٍ بحالها وتسقُطُ عَلَى الرَّجلِ ومعه الدراهمُ
فتُسبك الدَّراهم ولا يصيبُ الرجُلَ أكثَرُ من الموت .
والبحريُّونَ عندنا بالبصرة والأُبُلَّة التي تكون فيها
الصَّواعق لا يدعون في صحُون دُورهم وأعالي سُطوحهم شيئاً من الصُّفر إلاَّ رَفعوه
لأنّها عندهم تنقضُّ من أصل مخارجها على مقدارٍ من محاذاة الأرض ومقابلة المكان
فإذا كان الصُّفر لها ضاحياً عَدَلتْ إليه عن سَنَنها .
وما أنكر ما قالوا وقد رأيتُهم يستعمِلون ذلك .
وقد يَسْقط النَّوى في تُرابِ المتوضَّأ فَإذا صهرِجَ
نَبَتَ فإذا انتهى إلى الصَّاروج أمسك وإن كان الصَّاروج رقيقاً فإنْ قُيِّرَ
وجُعل غِلظُهُ بقدر طول الإبهام نبت ذلك النَّوى حتَّى يخرِق ذلك القار .
ولو رام رَجُلٌ خرْقَه بمسمار أو سِكّة لما بلغ إرادته
حتى يشقَّ على نفْسه .
والذي سخّر هذه الأمورَ القويَّة في مذْهب الرَّأي
وإحساسِ النَّاس هو الذي سخَّر القُمقُم والطَّيجن والمِرْجل والطَّستَ لإبرة
العقرب فما أُحصي عدَدَ مَنْ أخبرني من الحوّائين من أهل التَّجارب أنّها ربَّما
خرجتْ من جُحرها في اللَّيلِ لطلَب الطُّعم ولها نشاط وعُرَام فتضرِب كلّ وزعم لي
خاقانُ بن صبيح واستشهد المثنَّى بنَ بِشْر وما كان يحتاجُ خبَرُه إلى شاهدِ لصدقه
أنّه سمعَ في داره نَقْرَةً وقعتْ على قُمقُم وقد كان سمع بهذا الحديث فنهض نحوَ
الصَّوت فإذا هو بعقرب فتعاورها هو والمثني بنعالهما حتى قتلاها ثمَّ دعَوَا بماء
فصبَّاه في القُمقُم في عشِيَّتهِما وهو صحيحٌ لا يسيل ُمنه شيء .
فمن تعجّبَ من ذلك فليصرِفُ بَدِيّاً تعجُّبَه إلى الشيء
الذي
تقذفه
بذنبها العقربُ في بدَن الإنسان والحميرِ والبغالِ فليفكِّرْ في مقدار ذلك من
القلة و الكثرة فقد زعم لي ناسٌ من أهل العَسْكر أنّهم وزنوا جَرََّارَةً بعد أنْ
ألْسَعُوها فوجدوا وزنَها على تحقيق الوزن على مقدارٍ واحد فإن كان الشيء المقذوفُ
من شكل الشيء الحارّ فلم قصَّرت النَّارُ عن مبلغ عمله وإن كان من شِكل الشيء
البارد فلم قصَّر الثلج عن مَبْلغ عمله فقد وَجَبَ الآنَ أنَّ السمَّ ليس يقتل
بالحرارة ولا بالبرودة إذا كان بارداً ولو وجَدْنا فيما أردنا شيئاً بلغ مبلَغَ
الثَّلجِ والنار لذكرْناه .
فقد دلَّ ما ذكرنا على أنّ جوفَ النَّعامةِ ليس يذُيبُ
الصَّخرَ الأملسَ بالحرارة ولكنَّه لا بدّ على )
كلِّ حالٍ من مقدارِ من الحرارة مع خاصِيَّات أُخَرَ
ليستْ بذاتِ أسماء ولا تعرفُ إلاَّ بالوهم في الجملة .
علة قتل
السم
والسمّ يقِتل بالكمّ والكَيف والجنِس والكَمُّ المقدار
والكيف : الحدّ والجنس : عَيْنُ الجوهرِ وذاتُه وتزعمُ الهنْدُ أنّ السمّ إنما
يقتُل بالغَرابة وأنّ كلّ شيء غريب خالَطَ جَوْفَ حيَوَانٍ قَتَلهُ وقد أبى ذلك
ناسٌ فقالوا : وما بالُه يكون غريباً إذا لاقى العصَبَ واللَّحم وربَّما كان
عاملاً فيهما جميعاً بل ليس يقتل إلاّ بالجنس وليس تُحسُّ النّفسُ إلاّ بالجنس
ولوكان الذي يميت حِِسَّهُما إنَّما يميتهُ لأنّهُ غريبٌ جَازَ أيضاً أنْ يكون
الحَسَّاس إنما حَسّ لأنه غريب ولو كان هذا جائزاً لقيل في كلِّ شيء .
وقال ابن الجهم : لولا أنّ الذهب المائعَ والفِضّة
المائعة يجمدان إذا صارا في جوف الإنسان وإذا جَمَدَا لم يجاوزَا مكانهَما لكانَا
من القواتل بالغرابة .
وهذا القول دعْوَى في النَّفس والنّفْسُ تضيق جدًّا وما
قرأت للقدماء في النفْس الأجلادَ الكثيرة وإنما يستدلُّ ببقاءِ تلك الكتبِ على
وَجْهِ الدَّهر إلى يومنا هذا وَنسْخِ الرِّجَال لها أمَّةً بعدَ أمَّة وعمراً بعد
عمر على جهل أكثرِ النّاسِ بالكلام والمتكلمون
يريدون أن
يَعْلمُوا كلّ شيء ويأبى اللّه ذلك فهذا بابٌ من أعاجيب الظليم .
وهو ابتلاعُهُ الجمرَ حتى ينفُذَ إلى جوفه فيكونَ جوفُه
هو العامل في إطفائه ولا يكون الجمرُ هو العامل في إحراقه .
وأخبرني إبو إسحاقَ إبراهيمُ بن سَيّارٍ النّظّام وكنَّا
لا نرتاب بحديثه إذا حكى عن سماعٍ أو عِيان أنّهُ شَهدَ محمد بنَ عبد اللّه يلقي
الحجَر في النّار فإذا عاد كالجمر قَذَف به قُدّامَهُ فإذا هو يبتلعه كما يبتلع
الجَمْرَ كنتُ قلت له : إنَّ الجَمْرَ سخيفٌ سريعُ الانطفاءِ إذا لقي الرُّطوبات
ومتى أطبقَ عيه شيء يحُولُ بَيْنَهُ وبين النّسيم خَمَدَ والحَجَرَ أشدُّ إمساكاً
لما يتداخله من الحرارة وأثقَلُ ثِقَلاً وألزق لزُوقاً وأبطأ انْطِفاءً فلو
أحميْتَ الحجارة فأحماها ثم قذف بها إليه فابتلع الأولى فارتَبت به فلما ثنى
وثلّثَ اشتدّ تعجبي له فقلت له : لو أحميت أواقيَّ الحديدِ ما كان منها رُبْعَ
رِطلٍ ونصف رطل ففعل فابتلعه فقلت : هذا أعجبُ من الأوّلِ والثّاني وقد بقيَتْ
علينا واحدةٌ ُ وهو أن ننظر : أيَسْتَمْري الحديد كما يستمْرِي الحجارة ولم يتركنا
بعضُ )
السفهاء
وأصحاب
الخُرْقِ أن نَتَعرَّفَ ذلك على الأيَّام وكنت عَزْمتُ على ذبْحه وتفتيش جَوْفه
وقانصته فلعلّ الحديد يكون قد بقي هناك لا ذائباً ولا خارجاً فعمَد بعضُ نُدمائه
إلى سِكّينٍ فأُحْمِيَ ثم ألقاه إليه فابتلعه فلم يجاوز أعلى حلقه حتى طلع طرفُ
السّكين من موضع مَذْبحه ثمَّ خرّ مَيِّتاً فَمنَعَنَا بخُرقِه من استقصاء ما أردْنا .
وفي النَّعامة أنّها لا طائرٌ ولا بعير وفيها من جهة
المنْسمِ والوظيف والخَرَمَةِ والشقّ الذي في أنفه ما للبعير وفيها من الرِّيش
والجَناحَين والذَّنبِ والمنِقْارِ ما للطائر وما كان فيها من شكل الطَّائر
أخرَجَها ونقَلها إلى البيض وما كان فيها من شكل البعير لم يخرجها ولم ينقلها إلى
الوُلدِ وسماها أهل فارس : أشْتُرْمُرْْغ كأنّهم قالوا : هو طائر وبعير .
شعر في
شبه النعامة بالبعير والطائر
وقال يحيى بن نوفل : ( فأنتَ كساقطٍ بين الحشَايا **
تَصير إلى الخَبيثِ من المصِير ) ( ومثلُ نَعامةٍ تُدْعَى بعيراً ** تعاظُمِها إذا
ما قيل طِيرِي ) ( فإن قيل احْمِلي قالت فإنِّي ** مِنَ الطَّير المُرِبَّةِ
بالوُكورِ ) ثمَّ هجا خالداً فقال : ( وكنتَ لَدَى المُغيرة عَيرَ سَوْءٍ ** تَصُول من
المَخافةِ للزَّئيرِ )
( لأعلاجٍ ثمانيةٍ وعِلْج ** كَبيرِ السِّنِّ ذي بصَرٍ ضَريرِ ) ( هَتْفتَ بكلِّ صَوْتِكَ : أطْعِمُوني ** شراباً ثمَّ بُلْتَ عَلى السَّرِيرِ ) وإنما قيل ذلك في النَّعامة لأنّ النَّاسَ يضربون بها المثلَ للرّجل إذا كان مِمَّنْ يعتلُّ في كُلِّ شيء يكلفونه بعِلة وإن اخْتَلَفَ ذلك التكليف وهو قولهم : إنما أنتَ نعامةٌ إذا قيل لها احملي قالت :
قصة أذني النعامة
وتزعمُ
الأعرابُ أنَّ النّعامة ذهبَتْ تطلُبُ قرنَين فرجعت مقطوعةَ الأذنين فلذلك
يسمُّونه الظليم ويصفونه بذلك .
وقد ذكر أبو العِيالِ الهُذليّ ذلك فقال :
( وإخال أنَّ أخاكم وعِتَابَه ** إذ جاءكم بتعطُّفٍ وسكونِ ) ( يُمْسِي إذا يُمسِي ببطن جائع ** صِفْرٍ ووجهِ ساهمٍ مَدْهُونِ ) ( فَغَدَا يمُثُّ ولا يُرى في بَطْنِهِ ** مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدلٍ موزُونِ ) ( أو كالنّعامةِ إذْ غدت من بيتها ** ليُصَاغ قَرْنَاهَا بِغَيْرِ أذين ) ( فاجْتَثَّتِ الأذْنان منها فانْثَنَتْ ** صَلماءَ ليسَتْ مِنْ ذَواتِ قُرُون )
تقليد
الغراب للعصفور ويقولون : ذهَبَ الغُراب يَتَعَلمُ مشيةَ العُصفور فلم يتعلّمْها
ونسِيَ مِشيتَهُ فلذلك صارَ يحجِلُ ولا يَقفزُ قَفزان العُصْفور .
مشي طوائف من الحيوان والبرغوث والجرادةُ ذات قَفز ولا
تمشي مِشْيةَ الدِّيكِ والصّقرِ والبازي ولكن تمشي مِشية المقيَّد أو المُحَجَّل
خِلْقَه .
قال أبو عِمران الأعمى في تحوُّل قُضاعةَ إلى قحطانَ
عَنْ نزار : ( كما اسْتَوحَشَ الحيُّ المقيمُ ففارقُوا ** الخَليطَ فلا عزَّ الَّذين تَحَمَّلوا ) ( كتاركِ يوماً مِشْيَةٍ مِنْ سَجِيَّةٍ ** لأخرى ففاتَتْهُ فأصبَحَ يَحْجِل )
عظام النعامة
ومن
أعاجيبها أنّها مع عظَمِ عظامها وشدّة عدْوها لا مخَّ فيها .
وفي ذلك يقول الأعلم الهذلي : ( عَلَى حتِّ البُرَايةِ
زَمْخَريِّ السّ ** واعدِ ظَلَّ في شَرْيِ طِوال ) يعني ظليماً شبّه بهِ عدْوَ
فرسِه والحَتُّ : السريع والشّري
:
الحنظل
وبُرايته : قوّته على ما يَبْريه من السَّير والسَّواعد : مجاري مخّه في العظم
وكذلك مجاري عُروق الضّرع يقال لها السَّواعد .
قال : ونظنّ إنَّما قيل لها ذلك لأنّ بعضَها يُسْعِدُ بعضاً
كأنّه من التّعاون أو من المواساة
.
قال : والزَّمْخَريّ : الأجوف ويقال : إنَّ قصَبَ عظْمِ
الظَّليمِ لا مخَّ له وقال أبو النَّجْم : وواحد السَّواعد : ساعد .
وقال صاحب المنطق : ليس المخُّ إلاَّ في المجوّفة مثل
عَظْمِ الأَسَدِ .
وفي بعض عظامه مخٌّ يسير وكذلك المخُّ قليلٌ في عِظام
الخنازير وليس في بعضها منه شيءٌ البتَّة .
بيض النعام وما قيل فيه من الشعر
ومِنْ أعاجيبها أنّها مع عِظَم بيضها تكثِّرُ عددَ البيضِ ثمَّ تضَع بيضَها طولاً حتى لو مددْت عليها خيطاً لما وجدتَ لها مِنْهُ خُروجاً عن الأخرى تُعطي كلَّ بيضةٍ من ذلك قسْطَه ثم هي مع ذلك ربَّما تركت
بيضها
وذهبَتْ تلتمسُ الطَّعام فتجِدُ بيضَ أُخرَى فتحضنُه وربَّما حضنت هذه بيضَ تلك
وربّما ضاع البيضُ بينهما .
وأمّا عَددُ بيضها ورئالها فقد قال ذُو الرُّمّةِ : (
أذاك أم خاضِبٌ بالسِّيِّ مرتَعُهُ ** أبو ثَلاَثِينَ أمْسَى وهو مُنْقَلِب ) وفي
وضعها له طولاً وعرضاً على خطٍّ وسَطْرٍ يقول : ( وَمَا بَيْضَاتُ ذِي لِبَدٍ
هِجَفٍّ ** سُقِينَ بِزَاجَلٍ حَتَّى رَوِينَا ) ( يَبِيتُ يَحفهُنّ بِمرْفَقَيْهِ
** وَيَلْحَفهُنّ هَفهَافاً ثخينا
)
وقال الآخر : ( تهوى بها مكرباتٌ في مرافقها ** فتلٌ صلابٌ مياسيرٌ معاجيل ) ( يدا مهاةٍ ورجلا خاضبٍ سنقٍ ** كأنه من جناه الشرى مخلول ) ( هيقٍ هجفٍ وزفانيةٍ مرطى ** زعراء ريش جناحيها هراميل )
( كأنما منثتى أقماع ما هصرت ** من العفاء بليتيها ثآليل ) ( تروحا من سنام العرق فالتبطا ** إلى القنان التي فيها المداخيل ) ( إذا استهلا بشؤبوب فقد فعلت ** بما أصابا من الأرض الأفاعيل ) ( فصادفا البيض قد أبدت مناكبها ** منها الرثال لها منها سرابيل ) ( فنكبا يبقفان البيض عن بشرٍ ** كأنها ورق البسباس مغسول )
تشبيه القدر الضخمة بالنعامة
والشُّعراء
يشبِّهون القِدْرَ الضَّخْمةَ التي تكون بمنزِلِ العَظيم وأشباهِهِ من الأجواد
بالنَّعامة قال الرّمّاحُ ابنُ مَيّادة : ( إلى جامعٍ مثل النَّعامة يلتقي **
عوازبه فوق ) جامع : يعني القدر وجعلها مثل النَّعامة .
وقال ابن ميادة يمدح الوليدَ بنَ يزيد : ( نتاج العِشَار
المنْقِيات إذا شتَتْ ** روابدُها مثلُ النّعامِ العواطِفِ )
وقال الفرزدق : ( وقدرٍ كحيزُوم النّعامة أُحْمِشَتْ ** بأجْذالِ خُشْبٍ زالَ عَنْهَا هشيمها )
الذئب والنعام
وضحك أبو كَلْدَةَ حين أُنشِد شعرَ ابن النَّطَّاح وهو قوله : والذِّئب يلعب بالنّعام الشَّارد قال : وكيف يلعب بالنّعام والذِّئبُ لا يَعْرِضُ لبيض النَّعام وفراخه حين لا يكونان حاضرَين أو يكونُ أحدهما لأنَّهُمَا متى ناهضاه ركَضَهُ الذَّكرُ فرماه إلى الأنثى وأعجلَتْهُ الأنثى فَرَكَضَتْهُ ركضةً تُلقيه إلى الذَّكر فلا يزالان كذلك حتى يقتُلاه أو يعجزَهُما هَرَباً وإذا حاوَلَ ذلك منه أحَدُهُمَا لم يقْوَ عليه قال : فكيف يقول :
والذئب
يلعب بالنعام الشارد وهذه حالُه مع النَّعام .
وزعم أنَّ نعامتين اعتَوَرَتا ذِئباً فهزَمتاه وصعِد
شجرةً فجالدهما فنقره أحدُهما فتناوَلَ الذِّئبُ رأسَه فقطَعه ثم نزل إلى الآخرَ فساوَرَه
فهزَمَه . ( جُبن الظليم ونفاره ) والظَّليم يُوصَف بالجُبْن ويوصف بالنِّفار والتَّوحُّش . وقال
سَهم بن حنظلة في هجائه بني عامر : ( إذا ما رَأيتَ بني عامرٍ ** رأيتَ جَفاءً
وَنُوكاً كثيرا ) ( نعامٌ تَجُرُّ بأعْنَاقها ** ويمنَعها نُوْكها أن تَطيرا )
ضرر النعامة
والنّعامة تتخذها النّاسُ في الدُّور وضررُها شديدٌ لأنّها ربَّما رأتْ في أذن الجارية أو الصبيَّة قُرطاً فيه حجرٌ أو حبّةٌ لؤلؤٍ فَتَخْطَفُهُ
لتأكله فكم أذنٍ قد خرَقتها وربّما رأتْ ذلك في لَبَّةِ الصبيِّ أو الصبيّة فتضربه بمنقارها فربَّما خرقت ذلك المكانَ .
شعر في تشبيه الفرس بالظليم
( وخدٌّ أسيلٌ كالمِسنِّ وبِرْكةٌ ** كَجؤجؤ هَيْقٍ دفُّه قد تموّرا ) وقال عُقْبَةُ بن سَابق : ( وله بِركة كَجُؤجُؤِ هَيْقٍ ** ولَبانٌ مضرَّجٌ بالخِضَاب ) وقال أبو دُاؤد الإيادي :
( يَمْشِي كمشي نَعامَتَ ** ينِ يُتابِعانِ أشقَّ شاخصْ ) وقال آخر : ( كأنَّ حَماتَه كُردُوسُ فَحْلٍ ** مقلَّصة على سَاقَيْ ظَلِيمِِ ) وقال أبو داؤدٍ الإياديُّ : ( كالسِّيدِ ما استقبلته وإذا ** وَلَّى تَقُولُ مُلَمْلَمٌ ضرْبُ ) ( لأْمٌ إذا استقبلته وَمَشَى ** متتابعاً ما خانَهُ عَقْبُ ) ( يَمْشِي كمَشْيِ نَعامَةٍ تَبِعَتْ ** أُخْرَى إذا مَا رَاعَهَا خَطْبُ ) القولُ فيما اشتُقَّ له من البَيْض اسم قال العَدَبَّس الكِنانيّ : باضت البُهْمَى : أي سقطت نِصالُها
وباضَ
الصَّيف وباضَ القَيظُ : اشتدَّ الحرُّ وخرج كلُّ ما فيه من ذلك . ( فجِئنا وقد باضَ الكَرَى
في عُيونِنا ** فَتًى مِنْ عُيُوبِ المُقْرِفِينَ مُسَلَّمَا ) وقال أميَّةُ بنُ
أبي الصَّلْتِ : ( رَكِبَت بيضةُ البَيَاتِ عليهم ** لم يُحِسُّوا منها سِواهَا
نذيرا ) وقال الرَّاعي يهجو ابنَ الرِّقاع : ( لو كنْتَ مِنْ أَحدٍ يُهجَى
هجَوْتُكُمْ ** يا ابنَ الرِّقاع ولكنْ لسْتَ مِنْ أحَدِ ) ( تأبَى قُضاعةُ لمْ
تقبَلْ لكمْ نسباً ** وابنَا نِزارٍ فأنتم بَيضةُ البَلَدِ )
وفي المديح قولُ عليِّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه : أنا
بَيْضَةُ البَلد ومنه بيضة الإسلام وبيضة القبّة : أعلاها وكذلك الصَّوْمَعَةُ والبَيْضُ
: قلانس الحديد .
وقال أبو حيَّة النُّميريّ : ( وصَدَّ الغانياتُ البِيضُ
عَنِّي ** وما إنْ كان ذلك عن تَقَالي ) ( رأيْنَ الشَّيبَ بَاضَ على لِدَاتِي **
وأفْسَدَ ما عَلَيَّ من الجَمَالِ ) وبَيضُ الجُرْح والخُرَاجِ والحِبْنِ : الوعاء
الذي يُجْمعُ فيه الصَّديد إذا خَرَجَ برئَ وصلُح وقد يُسمُّون ما في بطونِ إناث
السَّمك بَيْضاً وما في بطونِ الجَرادِ بيضاً وإن كَانُوا لا يَرَوْنَ قِشْراً
يشتمِلُ عليه ولا قَيْضاً يكونُ لما فيه حِضْناً .
شعر في التشبيه بالبيض وقال الأعشى في تشبيه اللّفاءِ
الحسناءِ بالبيضة : ( أو بيضةٍ في الدِّعصِ مكنونةٍ ** أو دُرَّةٍ سِيقَتْ إلى
تَاجِرِ ) وقال في بيض الحديد : ( كأنَّ نَعامَ الدَّوِّ بَاض عليهِمُ ** إذا شامَ
يوماً للصَّريخِ المُندَّدِ ) وقال الأعشى : ( أَتَتْنَا مِنَ البَطْحاءِ يَبْرُقُ
بَيضُهَا ** وقد رُفِعَتْ نِيرانُها فاستقلَّتِ )
وقال زيد الخيل : ( كأنَّ نَعَامَ الدَّوِّ باض عليهمُ ** فَأَحْدَاقُهُمْ تَحْتَ الحَدِيدِ خوازِرُ ) استطراد لغوي قال : ويقال تقيَّضَت البيضةُ والإناءُ والقارورة تقيُّضاً : إذا انكسرت فِلَقاً فإذا هي لم تَتَفَلَّقْ فِلَقاً وهي متلازقةٌ فهي منْقَاضَةٌ انقِياضاً وقَيض البيضة : قشرتها اليابسة وغِرْقِئها : القشرة الرَّقيقة التي بين اللَّحم وبين الصَّميم قال : والصَّميم : الجلدة .
قال : ويقال غرقَأَت البيضةُ : إذا خرجَتْ وليس لها قشرٌ
ظاهر غير الغِرقِئة .
قال الرَّدَّاد : غرقأَت الدَّجاجَةُ بيضها فالبيضة مُغَرْقأة
والخِرشاء : القشرة الغليظة من البيضة بعد أن تثقَب فيخرجَ ما فيها من البلل وجماعُها
الخَراشيّ غير مهموز .
قال : وقال ردَّاد : خِرْشاءُ الحيّة : سَلْخَها حين
تنسَلخ . )
قال : وتغدّى أعرابيٌّ عندَ بعضِ الملوك فدبَّت على
حلْقِه قملةٌ فتناولها فقصَعَها بإبهامه وسَبَّابتهِ ثمَّ قتلها فقالوا له : ويلك
ما صنعت فقال : بأبي أنتُمْ وأمي ما بقي إلا خِرشاؤها .
وقَالَ المُرَقّشُ : ( إن تَغْضَبُوا نَغْضَبْ لذاكم كما
** يَنْسَلُّ من خِرْشائه الأرقمْ ) وقال دُريد بن الصِّمَّةِ في بَيض الحديد :
قال : ويقال في الحافر نزَا ينزو وأمَّا الظّليمُ فيقال : قَعَا يقعُو
مثل
البعير يقال : قاع يقوعُ قَوْعاً وقِيَاعاً وقَعَا يقعُو قَعْواً فهذا ما يسوُّون
فيه بينه وبين البعير ويقال : خفّ البعير والجمع أخفاف ومنسِمُ البعير والجمع
مناسم وكذلك يقال للنّعامة .
وقال الرّاعي : ( ورِجْل كرجْل الأخْدَريِّ يُشِيلُها **
وَظِيفٌ على خُفِّ النّعامةِ أرْوحُ ) وقال جران العود : قال : والزَّاجَل : ماء الظَّليم وهو
كالكِرَاضِ من ماءِ الفحْل وأَنْشد لابْنِ أحمر : ( وما بيضاتُ ذي لِبَدٍ هِجَفٍّ
** سُقِين بزَاجَلٍ حَتَّى رَوِينَا )
وقال الطِّرِمَّاح : ( سَوْفَ تُدْنِيك مِنْ لَمِيسَ
سَبَنْدَا ** ةٌ أَمَارَتْ بالبَوْلِ مَاءَ الكِرَاض )
وربَّما استعاروا المناسم قال الشاعر : ( توعدني بالسِّجن والآدات ** إذا عَدَت تأظبت أدات ) تربطُ بالحبل أُكَيْرِعَاتِ قال : ويقال لولد النَّعام : الرَّأل والجمع رِئال ورئلان وَحَفَّانٌ وَحَفّانة للواحدة والجمع حَفَّان وحِسْكل ويقال : هذا خَيطُ نعامٍ وخِيطان وقال الأسودُ بن يُعْفُر : ( وكأنّ مرجعهم مَنَاقفُ حَنْظَلٍ ** لعِبَ الرِّئال بها وخِيطُ نَعامِ ) ويقال : قَطيعٌ من نَعام وَرَعْلةٌ من نعام .
وقال الأصمعيُّ : الرَّعلة : القِطعة من النَّعَام
والسِّرب من الظِّبَاءِ والقَطَا والإجْل من الظِّلف وقال طُفَيلٌ الغَنَوِيُّ في
بيضة الْحَيِّ وما أشبه ذلك : ( ضَوَابِعُ تَنْوِي بَيْضَةَ الْحَيِّ بعدما **
أذاعَتْ برَيْعَانِ السَّوَام المعزَّبِ )
قال : ويقال : للظليم إذا رَعى في هذا النَّبات ساعةً
وفي هذا ساعةً قد عَقَّبَ يُعَقِّبُ تعقِيباً وأنشدني لذي الرُّمَّة : ( ألهاه آءٌ
وتَنُّومٌ وَعُقْبَتُه ** مِنْ لائحِ المرْوِ والمَرْعَى لَهُ عُقَبُ ) قال :
ويقال للرجل إذا كان صغير الأذنين لاصقَتين بالرَّأس : أصمع وامرأةٌ صَمْعاء ويقال
: خَرَجَ السهمُ متَصَمِّعاً : إذا ابتلَّتْ قُذَذُه
من الدَّم
وانضمّت وقال أبو ذُؤيب : سهماً فَخَرَّ وَريشُهُ متصمِّعُ ويقال : أتانا بثريدةٍ
مُصَمَّعَة : إذا دَقَّقَهَا وَحَدَّدَ رأسَها وصومعة الرّاهبِ منه لأنها دقيقة
الرأس وفلانٌ أصمع القلْبِ : إذا كان ذكياً حديداً ماضياً وقال طرفة : ( لَعَمْرِي
لقد مَرَّتْ عواطِسُ جَمّةٌ ** وَمَرَّ قُبَيْلَ الصُّبح ظبيٌ مصمِّعُ ) أراد : ماضياً .
شعر في البيض وقال الشاعر في بيضة البَلدِ :
( أقْبَلْتَ تُوضِعُ بِكْراً لا خِطامَ لها ** حَسِبْتَ رَهْطك عِنْدِي بَيْضَةَ البَلَدِ ) ويُشبَّه عظامُ جماجمِ الرؤوس ببَيض النّعامِ وقال الأعرج القَيْنِيّ : ( جَماجمَ غُودِرَتْ بحمامِ عِرْقٍ ** كأَنَّ فَرَاشَها بَيضُ النّعامِ ) وقال مقاتل بن طَلَبَةَ : ( رأيتُ سحيماً فاقَدَ اللّهُ بَيْنَهَا ** تَنِيكُ بأيديها وتَأبَى أُيُورُهَا ) وقال السُّحيمي يردّ عليه : ( مُقَاتِلُ بشِّرْها ببَيضِ نَعامةٍ ** وإن لم تبشِّرها فأنتَ أميرُها ) وقال أبو الشِّيص الخُزاعي في بيضة الخِدْر :
( وأبرزَ الخِدْر من ثِنْيَيْهِ بَيْضَتَهُ ** وأعجَلَ الرَّوْعُ
نصلَ السَّيفِ يُخْتَرَط ) ( فثَمَّ تَفديك مِنّا كلُّ غانيةٍ ** والشَّيخُ يفديك
والوِلدانُ والشُّمُط ) وقال جحشُ بنُ نصيب : ( كأَنَّ فُلاق الهام تحتَ سُيوفِنا
** خَذَارِيفُ بَيْضٍ عَجَّلَ النَّقْفُ طائرُه ) وقال مهلهلٌ في بيضة الخِدر : )
( وتجولُ بيضاتُ الخُدورِ حواسراً ** يمسَحْنَ فَضْلَ ذَوائِبِ الأيتامِ ) وهو وما
قبله يدلان على أنهم لا يُشَبِّهون بِبَيْضِ النّعام إلاّ الأبكار .
قال الشاعِرُ
:
( هجومٌ عَليهَا نَفْسَهُ غَيْرَ أَنَّهُ ** مَتَى يُرْمَ في
عَيْنَيْهِ بِالشَّخْصِ يَنْهَضِ ) يعني بالبِيضِ بَيْض النَّعام وَسماوة الشيء :
شخصه لأنّ الظَّليم لما رآهم فَزِع ونهضَ وهذا البيت أيضاً يدلّ على أنَّهُ
فَرُوقَةٌ .
وقال ذو الرُّمَّة في بيض النَّعام : ( تراه إذا هبّ
الصَّبا دَرَجَتْ به ** غرابيبُ من بِيضٍ هَجَائِنَ دَرْدَقُ ) قال : والصَّبَا
والجنوبُ تهبَّان في أيام يُبس البقْل وهو الوقتُ الذي
يثقُبُ النَّعام فيه البيض يقول : درجت به رِئلانٌ سودٌ غرابيب وهي من بِيضٍ هجائن : أي بَيْض والدَّردَق : الصِّغار وهو من صُغَرِ الرِّئْلاَن .
الحصول على بيض النعام
قال طُفيل بن عوفٍ الغنَويّ وذكر كيف يأخذون بيضَ النّعام : ( عَوازبُ لم تسمَعْ نُبُوح مَقَامَةٍ ** ولم تَر نَاراً تِمَّ حَوْلٍ مجرَّمِ ) ( سِوى نار بَيض أو غَزالٍ مُعْفَّرٍ ** أغَنَّ من الخُنْسِ المناخِرِ تَوْءَمِ )
هذه إبلُ
راعٍ معزِبٍ صاحب بوادٍ وبدوةٍ لا يأتي المحاضرَ والمياهَ حيثُ تكون النّيران وهو
نار الصَّيد وهذه النَّارُ هي النّارُ التي يُصطاد بها الظِّباءُ والرِّئلانُ
وبَيْضُ النَّعام لأنَّ هذه كلَّها تعشى إذا رأتْ ناراً ويحدُثُ لها فكرةٌ فيها
ونظر والصبيُّ الصغير كذلك وأوَّلُ ما يعابِثُ الرَّضيعُ أوَّلَ ما يناغي المصباحُ .
وقد يعتري مثلُ ذلك الأسدَ ويعتري الضِّفدعَ لأنَّ
الضِّفدعَ ينقّ فإذا رأى ناراً سكَت وهذه الأجناس قد تُغترُّ بالنَّار ويُحْتَالُ
لها بها .
( تشبيه الغيوم بالنّعام ) وتوصف الغيومُ المتراكمة بأنَّ عليها نعاماً قال الشَّاعر : ( كأنَّ الرَّبَاب دُوَينَ السَّحا ** بِ نَعامٌ تَعَلَّقَ بالأرْجُلِ ) وقال آخر : ( خَلِيلَيّ لا تَسْتَسْلِمَا وَادْعُوا الّذِي ** له كلُّ أَمْرٍ أنْ يَصُوبَ ربيعُ ) ( حَياً لبلاَد أَبْعَدَ المَحْلُ أهلها ** وفي العَظْم شيءٌ في شَظَاهُ صُدُوع ) ( بمنتضكٍ غرِّ النَّشَاص كأنها ** جِبالٌ عليهنَّ النُّسورُ وُقُوعُ )
استطراد
لغوي وقال آخر : ( وَضَعَ النَّعَامَات الرِّجالُ برَيْدِهَا ** من بين مَخْفُوضٍ
وبينِ مظَلَّلِ ) والنعائم في السماء والنعائم والنّعامتان من آلات البئر والنعامة
: بيت الصائد .
وقال في مثل ذلك عروةُ بن مُرَّة الهذليّ :
( وذاتِ رَيْدٍ كَزَنْق الفَأسِ مُشْرِفَةٍ ** طريقها سَرِبٌ بالنّاسِ مجبُوبُ ) ( لم يَبْق من عَرْشها إلاّ نعامتُها ** حالانِ منهزمٌ منها ومَنصوبُ )
مسكن النعام
وفي المثل : ما يُجمَعُ بين الأرْوَى والنّعام لأنَّ الأرْوَى تسكن الجبال ولا تُسهِل والنّعامَ تسكن السهل ولا تَرْقى في الجبال ولذلك قال الشاعِرُ :
( وَخَيْلٍ تُكَرْدِسُ بالدّارِعِينَ ** كمشْيِ الوُعول على الظّاهِرَهْ ) وقال كثيِّر : ( يَهدي مَطَايَا كالحَنِيّ ضَوَامِراً ** بنيَاط أَغْبَرَ شَاخِص الأمْيَالِ ) ( فَكأَنَّه إذْ يَغْتَدِي مُتَسَنِّماً ** وَهْداً فَوَهْداً نَاعِقٌ برئالِ ) وقال الأعشى في تشبيه النَّعام بما يتدلَّى من السَّحاب من قطع الرَّباب :
( يا هَلْ تَرى بَرْقاً على ال ** جَبَلَيْنِ يُعْجِبُني انجِيابُه ) ( مِنْ ساقط الأكنافِ ذِي ** زَجَلٍ أرَبَّ به سَحابُه ) ( مثلِ النَّعامِ مُعَلَّقاً ** لمَّا زَقَا ودنا رَبابُه ) وقال وشبَّهَ ناقَتهُ بالظَّلِيم : ( وإذا أطاف لبابه بسَديسِهِ ** ومسافراً ولجا به وتَزَيَّدَا ) ( شَبَّهْتهُ هِقْلا يُبارِي هِقْلَةً ** رَبْدَاءَ في خَيْطٍ نَقَانِقَ أربدا )
وذكر زهيرٌ الظَّليمَ وأولاده حتّى شبَّه ناقتَه بالظَّليم : ( كأني وردفي والقراب ونمرقي ** على خاضب الساقين أرعن نقنق ) ( ترامى به حب الصحارى وقد رأى ** سماوة قشراء الوظيفين عوهق ) ( تحن إلى ميل الجناحين جثمٍ ** لدى سكنٍ من بيضها المتفلق ) ( تحطم عنها عن خراطم أسيح ** وعن حدق كالسبج لم يتفلق ) السَّبج : الخَرزُ .
النعامة
فرس خالد بن نضلة
وكان اسمُ فرسِ خالدِ بن نَضْلة : النَّعامة قال : (
تَدَارَكَ إرخَاءُ النَّعامةِ حَنْثَراً ** وَدُودَانَ أدَّتْهُ إليَّ مُكبَّلا )
تشبيه مشي الشيخ بمشي الرئال وقال عُروة بن الوَرد : ( أليسَ ورائي أن أدِبَّ على
العَصَا ** فيأمَنَ أعدائي ويَسْأَمَنِي أهْلِي ) ( رَهِينَةَ قَعْرِ البيتِ كلّ
عَشِيّةٍ ** يُطِيفُ بيَ الوِلْدَانُ أَهْدِجُ كالرَّألِ )
شَبَّه
هَدَجَانَ الشَّيخ الضَّعيفِ في مشيته بهدَجَان الرَّأْل .
وقال أبو الزَّحْف : ( أشكو إليك وَجَعاً بركبتي **
وَهَدَجَاناً لم يكنْ في مِشْيتي ) كَهَدَجَانِ الرَّألِ حَوْلَ الهَيْقَتِ وقال
آخر ولست أدري أيُّهما حَمَل على صاحبه : ( أشكُو إليكَ وَجَعاً بمرفَقِي **
وَهَدَجَاناً لم يكنْ في خُلقي ) كَهَدَجَانِ الرَّألِ حَوْلَ النِّقْنِقِ ولم
يفضحْه إلاَّ قوله : لأنَّ الأوَّلَ حكى أنَّ وجعَه في المكان الذي يُصيبُ
الشُّيوخَ ووجعُ المرفقِ مثلُ وجَعِ الأذنِ وضربانِ الضّرس ليس من أوجاع الكِبَر
في شيء .
شعر فيه ذكر النعامة وقال ابن ميَّادة وذكر بني نَعامةَ
من بني أسد وقد كان قَطَرِيُّ بن الفجاءة يكنى أبا نعامة : ( فهل يمنَعَنِّي أنْ أسِيرَ
ببَلْدَةٍ ** نَعامةُ مِفْتاحُ المخازِي وبابُها ) وهجا دُريدُ بن الصِّمّةِ رَجُلاً فجعل
البيضةَ الفاسدةَ مثلاً له ثمَّ ألحقَ النَّسرَ بأحرار الطَّيرِ وكرامها وما
رأيتُهُمْ يعرِفون ذلك لنسرٍ فقال : ( فإنِّي على رغْم العَذولِ لَنَازلٌ ** بحيث
التَقَى عيطٌ وبِيضُ بني بدْر ) ( أيا حَكَمَ السَّوْءَاتِ لا تَهْجُ وَاضْطَجِعْ
** فهل أنْتَ إن هاجَيْت إلاَّ من الخُضْرِ ) ( وهل أنْتَ إلاَّ بَيْضَةٌ مات
فَرْخُها ** ثَوَتْ في سُلوخِ الطيرِ في بلدٍ قفْرِ ) ( حَوَاهَا بغاثٌ : شرُّ طير
علمتَها ** وَسُلاَّءُ ليستْ من عُقابٍ ولا نسْرِ )
استطراد
لغوي ويقال للأنثى من ولد النَّعامة : قلوص على التشبيه بالنَّعام من الإبل وهذا الجمع
إلى ما جعلوه له من اسم البعير وإلى ما جعلوا له من الخفِّ والمنسمِ والخَرَمَةِ
وغير ذلك . ( تأوِي له قُلُصُ النَّعامِ كما أوَتْ ** حِزَقٌ يَمَانِيَةٌ لأعجَمَ
طِمْطِمِ ) وقال شماخ بن ضِرار : )
قلوص نَعامٍ زِفّها قد تَموّرَا وصف الرئال ووصف لبيدٌ
الرِّئالَ فقال :
( فأضْحَتْ قد خَلَتْ إلاَّ عِرَاراً ** وَعَزْفاً بعد أحياءٍ حِلاَلِ ) ( وخَيطاً من خَوَاضِبَ مزلفات ** كأَنَّ رِئالها وُرْقُ الإفالِ ) وقال حسانُ بن ثابتٍ رضي اللّه عنه : ( لعمرُك إنّ إلَّكَ في قُريشٍ ** كإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأَلِ النّعامِ )
وقد عاب عَلَيْهِ هذا البيتَ ناسٌ وَظَنّوا أَنَّهُ أراد التبعيد فذكر شيئين قد يتشابهان من وجوهٍ وحسانُ لم يردْ هذا وإنما أراد ضعْفَ نَسَبه في قُريش وأنَّه حِينَ وَجَدَ أدنى نَسب انتحل ذلك النَّسب .
النعامة فرس الحارث بن عباد
وقال الفرزدقُ وذكَرَ الفرَسَ الذي يقال له : النّعامة وهو فرسُ الحارث بن عُبَاد التي يقول فيها : ( قرِّبا مَرْبِطَ النّعامةِ مِنِّي ** لَقِحَتْ حَرْبُ وائِلٍ عن حِيَالِ ) وقولُ الفرزدق : ( تُريِكِ نُجومَ اللَّيل والشَّمْسُ حَيّة ** كرامُ بناتِ الحارثِ بْنِ عُبادِ ) ( نساءٌ أبوهنّ الأغرّ ولم تَكُنْ ** من الحُتِّ في أجْبالها وَهَدَادِ )
أبوها
الذي آوى النَّعامةَ بعدما أبَتْ وَائِلٌ في الحَرْبِ غَيْرَ تَمادِ وقد مَدحوا
بناتِ الحارث بن عباد هذا فمن ذلك قوله : ( جاؤُوا بحارِشَةِ الضِّبابِ كأنَّهُمْ
** جَاؤُوا ببنتِ الحارثِ بنِ عُباِد ) ويلحق هذا البيت بموضعه من قولهم باضَ
الصَّيف وباضَ القَيظ .
وقال مضرِّس : ( بلمّاعةٍ قد بَاكَرَ الصَّيفُ ماءَها **
وباضت عليها شمسه وحرائِرُه )
ابن النعامة فرس خزز بن لوذان وابن النّعامة : فرس خُزَز بن لَوْذَان وهو الذي يقول لامرأته حين أنكرتْ عليه إيثاره فرسَه باللبَن : ) ( إنِّي لأَخْشَى أن تقولَ خليلتي ** هذا غبارٌ ساطعٌ فتَلَبَّبِ )
( إنَّ العدوَّ لهم إليكِ وسيلةٌ ** إنْ يأخُذوكِ تَكَحَّلي وتخضبي ) ( ويكون مَرْكَبُك القَعودَ وحِدْجَه ** وابنُ النَّعامة يوم ذَلِك مَرْكَبي )
شعر في النعامة
وقال أبو بكر الهذليُّ : ( وَضَعَ النَّعاماتِ الرِّجالُ بِرَيْدِها ** يُرْفَعْنَ بَينَ مُشَعشَعٍ وَمُهَلَّل ) وقال ذُو الإصبع العَدْوانيّ : ( ولي ابنُ عَمّ على ما كان مِنْ خُلُقٍ ** مخالفٌ لي أقْليه ويقليني ) ( أزْرَى بنا أنَّنا شالَتْ نعامتُنا ** فَخَالني دُونَهُ بل خِلْتُهُ دُوني )
وقال أبو داؤدٍ الإياديُّ في ذكر الصَّيد وذَكر فرَسه : ( وأخذنا به الصِّرارَ وقلنا ** بحقير بنانه أضمارُ ) ( وأتى يبتغي تَفَرُّسَ أمِّ البَي ** ضِ شَدّاً وقد تَعَالَى النهارُ ) ( غَيْرَ جُعْف أوابدٍ ونعامٍ ** ونعامٍ خِلالَها أثْوارُ ) ثم قال : ( يتكشَّفْن عَنْ صَرائعَ ستٍّ ** قُسِّمَتْ بينهنَّ كأسٌ عُقَارُ ) ( بينَ ربْدَاءَ كالمِظَلَّةِ أفْقٍ ** وظليمٍ مَعَ الظَّليمِ حمارُ ) ( ومهاتين حربين ورِئال ** وسيوبٌ كأنّه أوْتَارُ )
شعر في تشبيه الناقة بالظليم ووصف علْقمة بن عبدة ناقَته وشبّهها بأشياءَ منها ثُمّ أطنب في تشبيهه إيّاها بالظَّليم : ( تلاحظ السوط شزراً وهي ضامزة ** كما توجس طاوى الكشح موشوم ) ( كأنها خاضب زعرٌ قوائمه ** أجنى له باللوى شرى ٌ وتنوم ) ( يظل في الحنظل الخطبان ينقفه ** وما استطف من التنوم مخذوم ) ( فده كتق العصا لايا تبينه ** أسك ما يسمع الأصوات مصلوم ) ( يكاد منه اختل مقلته ** كأنه حاذرٌ للنخس مشهوم )
( حتى تذكر بيضاتٍ وهيجه ** يوم رذاذٍ عليه الريح مغيوم ) ( فلا تزيده في مشيه نفقٌ ** ولا الزفيف دوين الشد مسئوم ) ( يأوي إلى حسكلٍ زعرٍ حواصلها ** كأنهن إذا بركن جرثوم ) ( وضاعةٌ كعصى الشرع جؤجؤه ** كأنه بتناهي الروض علجوم )
( يومي إليها بإنقاضٍ ونقنقةٍ ** كما تراطن في أفدانها الروم ) ( صعلٌ كان جناحيه وجؤجؤه ** بيتٌ أطافت به خرقاءٌ مهجوم ) ( تحفه هقلةٌ سطعاء خاضبةٌ ** تجيبه بزمارٍ فيه ترنيم )
رؤيا النعامة
الأصمعيّ قال : أخبرني رجلٌ من أهل البَصرة قال : أرسلَ شيخٌ من ثَقيفٍ ابنَه فلاناً ولم يحفظ اسمه إلى ابن سيرين فكلمه بكلامٍ وأمُّ ابنه هذا قاعدةٌ ولا يظنُّ أنّها تفطِنُ فقال له : يا بنيَّ اذهبْ إلى ابن سِيرِينَ فقل له : رجلٌ رأى أنَّ له نعامةً تطحَن قال : فقلت له
فقال :
هذا رجلٌ اشترى جاريةً فَخَبَّأَهَا في بني حنيفة قال : فجئت أبي فأخبرتُه
فنافرَتْهُ أمِّي وما زالت به حتى اعترف أنّ له جارية في بني حنيفة .
وما أعرفُ هذا التأويل ولولا أنّه من حديث الأصمعي
مشهورٌ ما ذكرته في كتابي .
مسيلمة الكذاب وأمَّا قول الشاعِرِ الهذليِّ في مسيلمة
الكذاب في احتياله وتمويهه وتشبيهِ ما يحتال به من أعلام الأنبياء بقوله : قال :
هذا شعرٌ أنشدَنَاهُ أبو الزَّرقاء سَهْمٌ الخثعمي هذا منذُ أكثَرَ من أربعينَ سنة
والبيتُ من قصيدةٍ قد كان أنشدنيها فلم أحفَظْ منها إلاّ هذا البيت .
فذكر أنَّ مسيلمة طاف قبلَ التنبِّي في الأسواق التي
كانت بين دُور العجم والعرَب يلتقُون فيها للتسوُّق والبياعات كنحو سُوق
الأَُبُلّة وسوق لقه وسوق الأنبار وسوق الحِيرة .
قال : وكان يلتمس تعلُّم الحِيَل والنِّيرَجَات
واختيارات النُّجوم والمتنبئين وقد كان أحكَمَ حِيَل السّدَنَةِ والحُوَّاءِ
وأصحابِ الزَّجْر والخطّ ومذهبَ الكاهنِ والعَيَّاف والسَّاحر وصاحبِ الجنّ الذي
يزعم أنّ معه تَابِعَهُ .
قال :
فَخَرَجَ وقد أحكم من ذلك أموراً فمن ذلك أنّهُ صبّ على
بيضَةٍ من خَلٍّ قاطع والبيضُ إذا أطيل إنقاعُه في الخلِّ لان قشرُه الأعلى حَتَّى
إذا مددته استطال واستدقّ وامتدّ كما يمتدُّ العِلْكُ أو على قريبٍ من ذلك قال : فلمَّا تمَّ له
فيها ما طاوَل وأمّل طَوّلها ثمَّ أدخَلَها )
قارورةً ضيِّقةَ الرَّأسِ وتركها حتّى جفَّت ويبِست
فلمّا جفّت
انضمّت
وكلما انضمَّت استدارتْ حتى عادت كهيئتها الأولى فأخرجها إلى مُجَّاعَة وأهل بيته
وهم أعراب وادَّعى بها أعجوبةً وأنّها جُعِلت له آية فآمَنَ به في ذلك المجلس
مُجّاعَة وكان قد حمل معه ريشاً في لون ريشِ أزواجِ حمامٍ وقد كان يَرَاهُنَّ في
منزل مُجّاعةَ مَقاصِيصَ فالتفت بعد أن أراهم الآيةَ في البيض إلى الحمام فقال لِمُجَّاعَةَ
: إلى كم تعذِّب خَلْقَ اللّه بالقصِّ ولو أراد اللّه للطَّير خلافَ الطَّيرَانِ
لَمَا خَلَقَ لها أجنحةً وقد حَرّمْتُ عليكم قصّ أجنحة الحمام فقال لَهُ مُجَّاعة
كالمتعنت : فَسَلِ الذي أعطاك في البيضِ هذه الآيةَ أنْ يُنبِت لك جَنَاح هذا
الطائر الذَّكَرِ السَّاعةَ .
فقلت لسهم : أمَا كان أجوَدَ من هذا وأشبَهَ أنْ يقول :
فَسل الذي أدْخَلَ لك هذه البيضة فَمَ هذه القارُورة أنْ يخرجها كما أدخَلها قال
فقال : كأنَّ القَومَ كانُوا أعراباً ومثلُ هذا الامتحانِ من مُجَّاعة كثير
وَلَعَمْرِي إنَّ المتنبئ لَيخدع ألفاً مثلَ قيس ابن زهير قبل أن يخْدَع
واحداً من
آخِرِ المتكلمين وإن كان ذلك المتكلم لا يشقُّ غبارَ قيس فيما قيسٌ بسبيله .
قال مسيلمة : فإنْ أنا سألتُ اللّه ذلك فانتبِهْ له حتى
يطيرَ وأنتم ترونَهُ أتعلمون أني رسول اللّه إليكم قالوا : نعم قال : فإني أريد
أنْ أناجيَ ربِّي وللمناجاة خَلوةٌ فانهضوا عنِّي وإن شئتم فادخلوه هذا البيت
وأدخلوني معه حتى أخرجه إليكم السَّاعةَ في الجناحَينِ يطير وأنتم ترونَهُ ولم يكن
القوم سَمِعُوا بتغريز الحمام ولا كان عندهم بابُ الاحتياط في أمْر المحتالين وذلك
أن عُبَيداً الكيِّس فإنّه المقدَّم في هذه الصناعة لو منعوه السِّتر والاختفاء
لَمَا وصل إلى شيءٍ من عمله جلّ ولا دَقَّ ولكان واحداً من النَّاس .
فلما خلا بالطائر أخرج الريش الذي قد هيَّأه فأدخل طرَف
كلِّ ريشةٍ ممَّا كانَ معه في جَوف ريش الحمام المقصوص من عند المقطع والقَصِّ
وقَصَبُ
الرِّيش
أجوَفُ وأكثَرُ الأصولِ حِدَادٌ وصلاب فلما وفَّى الطَّائرَ ريشَهُ صارَ في العَين
كأنَّهُ بِرْذَوْنٌ موصول الذَّنب لا يعرِف ذلك إلاَّ من ارتاب به والحمام بنفسه
قد كان له أصولُ ريشٍ فلما غُرِّزَتْ تمت فلما أرسله من يده طار وينبغي ألاَّ
يكونَ فَعَلَ ذلك بطائرٍ قد كانوا قطوه بعد أن ثبت عندهم فلما فعل ذلك ازداد مَنْ
كان آمَنَ به بصيرةً وآمَنَ به آخرون لم يكونوا آمنوا به ونزع منهم في أمْره كلُّ
من كان مستبصِراً في تكذيبه .
قال : ثمّ إنَّه قال لهم وذلك في مِثْل ليلةٍ مُنكَرَةِ
الرِّيَاحِ مُظلمةٍ في بعض زمان البوارح إنَّ )
المَلكَ عَلَى أن ينزل إليّ والملائكة تطير وهي ذوات
أجنحة ولمجيء المَلكِ زَجَلٌ وخشخشة وقعقعة فمن كان مِنْكُمْ ظاهراً فَلْيَدْخُلْ
منزلَه فإنَّ من تأمّل اختُطِف بصرُه
.
ثمّ صنَعَ رايةً من رايات الصِّبيان التي تعمل من الورق
الصِّينيّ
ومن الكَاغَدِ وتُجْعَلُ لها الأذنابُ والأجنحة وتعلَّق في صدورها الجلاجل وترسَل يوم الرِّيح بالخيوط الطِّوال الصِّلاب قال : فبات القومُ يتوقَّعون نزولَ المَلَك ويلاحظون السَّماءَ وأبطأ عنهم حتَّى قام جلُّ أهلِ اليمامة وأطْنبت الرِّيح وقويت فأرسلها وهم لا يَرَوْنَ الخيوطَ واللَّيلُ لا يُبينُ عن صورة الرَّقِّ وعن دقَّةِ الكاغد وقد توهَّموا قبل ذلك الملائكة فلمّا سَمِعُوا ذلك ورأوه تصارَخُوا وصاح : من صَرَفَ بَصَره ودخلَ بيتَه فهو آمن فأصبح القومُ وقد أطبَقُوا على نصرتِه والدُّفعِ عنه فهو قوله : ( ببيضَة قَارُورٍ وَرَايَةِ شَادنٍ ** وتوصيل مَقصوص من الطيرِ جادِفِ ) فقلت لسهمٍ : يكون مثلُ هذا الأمْرِ العجيب فَلاَ يقولُ فِيهِ شَاعرٌ ولا يَشِيعُ به خبر قال : أوَكلما كان في الأرض عجبٌ أو شيء
غريبٌ فقد وجَبَ أن يشيع ذكرُه ويقالَ فيه الشِّعرُ ويجعلَ زمانُهُ تاريخاً ألسْنَا معشَرَ العربِ نزعُمُ أنَّ كسرى أبرويز وهو من أحرار فارسَ من الملوكِ الأعاظمِ وسليلُ ملوكٍ وأبو مُلوك مع حَزْمه ورأيه وكماله خطبَ إلى النُّعمان بن المنذر وإلى رجلٍ يرضى أن تكونَ امرأتُه ظِئراً لبعض ولدِ كسرى وهو عامله ويسمِّيه كسرى عبداً وهو مع ذلك أحَيْمِرُ أقَيْشِرُ إمَّا من أشلاء قصيّ بن معد وإما من عُرْض لخم وهو الذي قالوا : تَزَوَّجَ مومسةً وهي الفاجرِةُ ولا يقال لها مومسةٌ إلاَّ وهي بذلك مشهورة وعرفها بذلك وأقام عليها وهُجِيَ بها ولم يَحفِلْ بهجائهم وممّا زاد في شهرتها قصّة المرقش وناكها قُرَّة بن هُبيرة حين سباها فعلم بذلك وأقامَ عليها ثمّ لم يرضَ حتَّى قال لها : هل مَسّكِ قالت : وأنت واللّه لو قَدَر عليك لَمَسَّكفلم يَرْضَ بها حتى قال لها : صِفِيهِ لي فوصَفَتْهُ حَتَّى قالتْ : كأنَّ شعر خَدّيْهِ حَلَقُ الدِّرْع وبال على رأسه خلف ابن نوالة الكناني عامَ حَجّّ وَنَصّرَه عديُّ بنُ
زيد بأحمق
سبب . وخطب أخوه المنذر إلى عبيدة بن همام ، فرده أقبح الرد ، وقال : ( أَتَوْنِي
ولم أرْضَ ما بَيَّتُوا ** وقد طَرَقُوني بأمْرٍ نُكرْ ) ( لأُنْكِحَ أيِّمَهُمْ
مُنْذِراً ** وهل يُنْكِح الْعَبْدَ حُرٌّ لِحُرّ ) ثمّ مع ذلك خطب إليه كسرى بعضَ
بناتِه فرغِب بها عنه حتَّى كان ذلك سببَ هربه وعِلَّةً لقتله فهل رَأيت شاعراً في
ذلك الزَّمان مع كثرة الشعراء فيه ومع افتخارهم بالذي كان منهم في )
يوم جَلولى ويومِ ذي قار وفي وقائع المثنَّى بن حارثة
وسعد بن أبي وقَّاص فهل سَمِعْتَ في ذلك بشعرٍ صحيحٍ طَريف المخرج كما سمعته في
جميع مفاخرهم ممّا لا يداني هذا المَفْخَر .
ولقد خَطَبَ بَعْضُ إخوَتِهِ إلى رجالٍ من نِزار من غَير
أهل البيوتات فرغبوا عنهم . وأمّ النعمان سَلْمَى بنت الصَّائغ : يهوديّ من أنباط
الشام ثمَّ كان نَجْلُهُ لِفعلٍ غيرِ محمود .
وقد قال جَبَلةُ بن الأيْهم لحسَّان بن ثابت : قد
دَخَلْتَ عليَّ ورأيتَني فأينَ أنا من النّعمان قال : واللّهِ . . .
فالنّعمان مع هذه المثالب كلِّها قد رَغِبَ بنفسه عن
مصاهرة كِسْرَى وهو من أنْبَهِ الأكاسرة وكما كان أَبْرَوَيزُ أعْظَمَ خَطَراً
كانَتْ أَنَفَتُهُ أَفْخَرَ للعَرَبِ وأدلَّ على ما يدَّعون من العلوِّ في النسب وكان الأمر مشهوداً ظاهراً وَمُرَدَّداً على الأسماع مستفيضاً فإذْ قد تهيَّأ أن يكون مثلُ هذا الأمر الجليل والمفْخِر العظيم والعربُ أَفْخَرُ الأمم ومع ذلك قد أغفلوه فشَأنُ مسيلمَةَ وأنشدني يوسفُ لبعضِ شعراء بني حنيفة وكان يُسَمَّى مُسَيلَمَةَ وَيُكْنَى أبا ثُمامة : ( لهفي عَلَيْكَ أبا ثُمامَهْ ** لهفي على رُكْنَيْ شمامَهْ ) ( كم آيةٍ لأبيهمُ ** كالشَّمْسِ تَطْلُعُ مِنْ غمَامَهْ ) وقد كتبنا قِصَّتَهُ وَقِصَّةَ ابن النَّوَّاحَةِ في كتابنا الذي ذكرنا فيه فَصْلَ ما بين النبيِّ والمتنبي وَذَكَرْنَا جميعَ المتنبئين وشأنَ كلِّ واحدٍ منهم على حِدَتِهِ وبأيِّ ضربٍ كان يَحتالُ وَذَكَرْنَا جملةَ احتيالاتِهِمْ والأبوابَ التي تدور عليها مَخاريقهم فإنْ أردتَ أَنْ تعرفَ هذا البابَ فاطلبْ هذا الكتاب فإنّهُ موجود .
هجاء النعمان وقد هجا عبدُ القيس بنُ خُفافٍ
البُرْجُمِيُّ النُّعْمَانَ بن المنذر في الجاهليَّةِ وذكر ولادة الصَّائِغِ له
فقال : ( لَعَنَ اللّهُ ثمَّ ثنَّى بِلَعنٍ ** ابنَ ذَا الصَّائِغِ الظلومَ
الجهولا ) ( يجمعُ الجيشَ ذا الألوفِ ويغزُو ** ثمَّ لا يرزأُ العدُوّ فَتِيلا )
سَهْمٌ الحنفي وكان سَهْمٌ الحنفيُّ يلي طبَرِسْتان لمعن بن زائِدة مع حداثة سنه
يومئذ وكان له مروءةٌ وَقَدْرٌ كثرة الشعر وقلته في بعض قبائل العرب )
كثرة
والشعر وقلته في بعض قبائل العرب
وبنو حنيفة مع كثرة عددهم وشِدّةِ بأسهم وكثرة وقائعهم
وَحَسَدِ العربِ لهم على دارهم وتخُومهم وَسْطَ أعدائِهم حتى كأنهم وَحْدَهُمْ
يعدِلون بَكْراً كلها ومع ذلك لم نَرَ قبيلةً قَطُّ أقَلَّ شعراً منهم وفي إخوتهم
عِجْلٌ قَصِيدٌ وَرَجَزٌ وَشُعَرَاء ورَجَّازُون وليس ذلك لمكانِ الخِصْب وأنّهم
أهلُ مَدَر وأكّالو تمرٍ لأنَّ الأوْسَ والخزرج كذلك وهم في الشعر كما قد علمت
وكذلك عبدُ القيس النَّازلة قرى البحْرين فقد تعرفُ أنَّ طعامَهم أَطْيبُ من طعام
أهل اليمامة .
وثقيفٌ أهلُ دارٍ ناهيك بها خِصْباً وطِيباً وهم وإن كان
شعرُهم أقلَّ فإنَّ ذلك القليلَ يدلُّ على طبْعٍ في الشعر عجيب وليس ذلك مِنْ
قِبَلِ
رداءة الغِذاء ولا من قِلَّة الخِصب الشَّاغل والغِنَى عن النَّاس وإنَّمَا ذلك عن
قَدْر ما قَسَمَ اللّه لهم من الحظوظ والغرائزِ والبلاد والأعراقِ مكانها .
وبنو الحارث بن كعب قبيلٌ شريفٌ يجزون مَجارِي ملوك
اليمن ومجاريَ ساداتِ أعراب أهْلِ نَجْدٍ ولم يكن لهم في الجاهليَّة كبيرُ حَظٍّ
في الشعر ولهم في الإسلام شعراءُ مفْلِقُونَ .
وبنو بَدْرٍ كانوا مفْحَمين وكان ما أطلق اللّه به
ألسنةَ العرب خيراً لهم من تصيير الشعر في أنفسهم .
وقد يَحْظَى بالشعر نَاسٌ ويخرُج آخَرون وإن كانوا مثلهم
أو فوقهم ولم تُمْدَح قبيلةٌ في الجاهليَّة من قريش كما مُدحت
مخزوم ولم
يتهيَّأ من الشَّاهد والمثلِ لمادحٍ في أحدٍ من العرب ما تهيَّأ لبني بدر .
وقد كان في ولد زُرارة لصُلبه شعر كثير كشعر لقيط وحاجبٍ
وغيرهما من ولده ولم يكن لحذَيفة ولا حِصْن ولا عيينَةَ بن حِصن ولا لحَمِل بنِ
بدْر شِعْرٌ مذكور .
حظوة الخلفاء الولاة بالشعر وقد كان عبدُ العزيز بن
مَرْوَانَ أَحْظَى في الشعر من كثير من خلفائهم ولم يكنْ أحَدٌ من أصحابنا من
خُلفائنا وأئمتنا أحظَى
في الشعر
من الرَّشيد وقد كان يزيد ابن مَزْيَد وَعمُّهُ ممَّنْ أحْظَاهُ الشِّعْرُ .
وما أعلمُ في الأرض نعمة بَعْدَ وِلاَيَةِ اللّهِ
أعْظَمَ من أنْ يكونَ الرَّجُلُ ممدوحاً . ( الصُّمُّ من الحيوان ) تقول العرب :
ضربانِ من الحيوان لا يَسمعان الأصوات وذلك عامٌّ في الأفاعي والنّعام واعتدّ من
ادّعى للنّعام الصّمَمَ بقول عَلْقَمة : ( فُوهُ كَشَقِّ العَصَا لأْياً تَبَيَّنه
** أسَكُّ ما يَسْمَعُ الأصْوَاتَ مَصْلومُ )
قال : ولا
يصلح أن تكون ما في الموضع الذي ذَكَرَ لأنَّ ذلك يصير كقول القائل : التمر حلو
والثَّلج بارد والنّار حارَّة ولا يحتاج إلى أن يُخبر أنّ الذي يُسْمَعُ هذا
الصَّوتُ لأنهُ لا مسموعَ إلاَّ الصَّوت .
قال خصمه
: فقد قال عَلْقَمَةُ بن عَبَدَة : ( حَتَّى تلافَى
وقرنُ الشَّمْسِ مرتفعٌ ** أُدْحيَّ عِرْسَيْنِ فيه البَيضُ مَرْكومُ ) ( يوحِي إليها
بإنقاض وَنقْنَقَةٍ ** كما تَرَاطَنَُ في أفْدانها الرُّومُ ) ثم قال : ( تحفُّهُ
هِقْلةٌ سفعاءُ خاذلة ** تجيبُهُ بزِمارٍ فيه تَرنيمُ ) واحتجّ من زعم أنها تسمع
بقوله :
( مَتَى مَا تَشأ تَسْمَع عراراً بِقَفْرَةٍ ** يُجيبُ
زِمَاراً كاليَرَاعِ المُثَقبِ ) وقال الطِّرِمَّاح : ( يدعو العِرارُ بها
الزِّمَارَ كأنَّهُ ** أَلِمٌ تجاوبُه النِّساءُ العُوَّدُ ) قال : وَصَوْتُ النعامة الذّكر :
العِرارُ وصوت الأنثى : الزِّمَار
.
وأنشدَ الذي زَعَمَ أَنَّهَا لا تسمع قولَ أسامةَ بنِ
الحارِث الهذَليِّ : ( تذَكَّرْتُ إخْواني فَبِتُّ مُسَهَّداً ** كما ذكرت بَوّاً من
اللَّيل فَاقِدُ )
( لعمري لقد أَمْهَلتُ في نَهْيِ خالدٍ ** عَنِ الشَّام إمّا يَعْصِيَنَّكَ خالدُ ) ( وَأَمْهَلْتَ في إخوانه فكأَنَّما ** تَسَمَّع بالنَّهْيِ النَّعامُ المُشَرَّدُ ) وقال الذي زعم أنّها تسمع : فقد قال اللّه عزَّ وَجَلَّ : أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ولو عنَى أَنَّ عَماهم كعمى العُمْيان وصممَهم كصمَمِ الصُّمَّان لما قال : أَفلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا وإنّما ذلك كقوله : إنَّكَ لاَ تُسْمِعُ المَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وكيف تُسمِعُ المدبرَ عنك ولذلك يقال : إنَّ الحُبَّ يُعمِي وَيُصمُّ وقد قال الهذليُّ : ) تَسَمَّعَ بِالنَّهْيِ النَّعَامُ المُشَرَّدُ والشارد النافر عنك لا يوصف بالفهم ولو قال : تسمع بالنَّهْي وسكت كان أبلغَ فيما يريد ( رِدِي رِدِي وِرْد قَطَاةٍ صَمّا ** كُدْرِيَّةٍ أعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَا )
أي لأنها
لا تسمع صوتاً يَثنيها ويَرُدُّهَا .
وأنشد قول الشاعر : ( دَعَوْتُ خُلَيْداً دَعْوَةً
فَكأنما ** دَعَوْتُ به ابنَ الطَّوْدِ أَوْ هُوَ أسْرَعُ ) والطَّود : الجبل
وابنُهُ : الحجر الذي يَتَدَهْدَهُ منه كقوله : كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّه
السَّيْلُ مِنْ عَلِ وقال الرَّاجز : ( وَمَنُهَلٍ أَعْوَرِ إحْدَى العَيْنَيْن **
بَصِيرِ أخْرَى وَأصَمِّ الأذْنَيْنْ
)
كأنَّهُ كانَ في ذلك المنهَلِ بِيرَانِ والآبارُ أعينٌ فغُوِّرَتْ إحدى البِيرَين وتُرِكت الأخْرى وقوله : أصَمِّ الأُذْنَيْنِ لِمَا أنْ كان عنده في الأرض فَضَاءٌ وَخَلاَءٌ حيثُ لا يسمع فيه صوت جعله أنْ كان لا يسمَعُ صوتاً أصمَّ وإنْ كان ذلك لِفَقْدِ الأصواتِ .
شاهد من الشعر لسمع الناقة
قال : وقد قال الحارثُ بن حِلِّزَةَ قولاً يدلُّ على أنَّهَا تسمع حيث قال :
( بزَفُوفٍ كأنها هِقْلَةٌ أُ ** مُّ رِئالٍ دَوِّيَّةٌ سفعاءُ ) ثم قال : ( آنسَتْ نَبْأَةً وأَفْزَعَهَا الْقُنّ ** اص عَصْراً وقد دنا الإمْسَاءُ ) ( فترى خَلْفَهُنَّ مِنْ سُرْعَة المَشْ ** يِ مَنِيناً كأنَّهُ أهباءُ ) ولو قال : أفْزَعَها القُنَّاصُ ولم يقل : آنَسَتْ نبأة والنَّبْأة الصَّوت لكان لَكُمْ في ذلك مَقَال وقال امرؤ القيس : ( وصمٌّ صِلاَبٌ ما يَقين من الوَجَى ** كأنَّ مكانَ الرِّدْفِ منه على رَالِ )
وإنما يعني أنها مُصْمَتَةٌ غير جَوفاء وقال الآخَر : ( قُلْ ما بدا لك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبٍ ** حِلْمِي أصمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ ) يريد أنَّ حلمَهُ ليس بسخيف متخلخِل وليس بخفيف سَارٍ ولكنّه مصمَت قال الشاعرُ : وأسأل من صمَّاء ذاتِ صَليل وإنَّمَا يريد أرضاً يابسة ورملةً نَشَّافَةً تسأل الماء : أي تريده وتبتلعه وهي في ذلك صمّاء ( ذكر الصُّمِّ في القرآن الكريم ) وقد قال اللّه لناسٍ يسمعون : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ذلك على المثل وقال : وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وذلك كلّه على ما فَسّرنا وقال : وَالّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا
عَليْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وقال أيضاً : إنّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ .
شعر في معنى الصمم
وقال عَنترة : ( ظَلِلْنَا نكرُّ المشْرَفيَّةَ فيهمُ ** وخُرْصَانَ صُمِّ السَّمْهريِّ المثقفِ ) وقال العُجَيرُ السَّلوليّ : ( وقد جَذَب القومُ العصائبَ مؤخراً ** ففيهنَّ عنْ صُلْع الرِّجال حُسُورُ ) ( فظلَّ نِدَاءُ العَصْبِ مُلقًى كأَنّه ** سَلَى فَرَسٍ تحْتَ الرِّجال عقورُ ) ( لو ان الصُّخُور الصُّمَّ يَسْمَعْنَ صَلْقَنا ** لَرُحْنَ وفي أعْرَاضِهِنَّ فُطورُ ) وقال زهير :
( ليتَنِي خُلِقْتُ للأَبَدِ ** صَخْرَةً صمَّاءَ في كَبِدِ ) وقالت جُمْل بنتُ جَعْفَر : ( بني جَعْفَرٍ لا سِلْمَ حَتَّى نَزُورَكمْ ** بكلِّ رُدينيٍّ وأبيضَ ذي أثْرِ ) ( وَحتَّى تَرَوْا وَسْطَ الْبُيُوتِ مُغيرةً ** تُصمُّكُمُ بِالضَّرْبِ حَاشِيةَ الذُّعْرِ ) ( تبِينُ لِذِي الشَّكِّ الذي لم يكن دَرَى ** وَيُبْصِرُها الأعْمَى وَيَسْمَعُ ذو الْوَقْرِ ) وقال دريد : ( متى كان الملوك قَطِيناً ** عَلَيَّ ولايةٌ صَمَّاءُ مِنِّي )
مثل وحديث في الصمم
ومن الأمثال قولهم : صمَّتْ حَصَاةٌ بِدَم قال : فأصله أنْ
يكثُرَ
القتْلُ وسفْكُ الدِّماءِ حتَّى لو وقَعَتْ حَصَاةٌ على الأرضِ لم يُسْمَعْ لها
صوتٌ لأنَّها لا تلقى صلابةَ الأرض .
وقد جاء في بعض الحديث : إذا كانت تلك الملاحِمْ بلغَت
الدِّماءُ الثُّنَنَ يعني ثُنَنَ الخيل وهو الشَّعر الذي خلف الحافر .
صمت السيف
وقال الزُّبير بن عبد المطَّلب : لأنَّ السَّيفَ إذا مرَّ في العظْم مَرًّا سريعاً فلم يكن له صوت كان في معنى الصامت .
شعر في مجاز الصمم
وقال ابن
ميَّادة : ( متى أدعُ في قيْسِ بن عَيْلاَنَ خائفاً ** إلى فَزَعٍ تُركَبْ إلَيَّ
خُيُولُهَا ) ( بملمومة كالطَّودِ شهْباء فَيْلَقٍ ** رَدَاحٍ يصمُّ السَّامعين صليلُها )
لأنَّ الصَّوت إذا اشتدَّ جدّاً لم يُفْهَمْ معناه إنْ كان صاحبه أراد أن يخبر عن
شيءٍ ومتى كثُرت الأصواتُ صارت وَغًى ومنع بعضُها بعضاً من الفهم فإذا لم يفهمها
صار في معنى الأصمّ فجاز أن يسمّى باسم الأصمِّ .
وعلى ذلك قال الأضْبَط بن قُريع حين آذوه بنو سعدٍ
فتحوَّل من جوارهم في آخرين فآذوه فقال : بِكُلِّ وادٍ بَنُو سَعْدٍ .
وقال جرانُ العَود : ( وقَالَتْ لنا وَالْعِيسُ صُعْرٌ
من البُرَى ** وأخفافَها بالجَنْدَلِ الصُّمِّ تقذِفُ )
قول منكر صمم النعام
( أصَكَّ مُصَلَمِ الأُذْنَيْنِ أَجْنَى ** لَهُ بِالسِّيِّ
تَنُّومٌ وَآءُ ) وبقول أوس بن حجر : ( وَيَنْهَى ذَوي الأحْلاَمِ عنِّي حُلومُهم ** وَأَرْفَعُ
صَوْتِي للنّعامِ المخزّمِ ) يريد خَرْقَ أنفه وهو في موضعِ الخَرَمَةِ من البعير .
وأمَّا قوله : وَأَرْفَعُ صَوْتِي للنّعام فإِنما خصَّ
بذلكَ النّعامَ لأنَّهَا تَجْمَعُ الشّرُودَ والنِّفَار إلى المُوقِ وسوءِ الفهْم
ولو قال : وأرفع صَوتي للحَمير والدّوَابِّ لكان كذلك والمصلَّمة : السُّكّ التي
ليس لآذانها حَجم .
رد عليه قال
: قَوْلُ الذي زعم أنها ليست بصماءَ لا يجوز لأنَّ
الدواب تسمعُ وتَفهم الزَّجْر وتجيب الدُّعاء بل لو قال : وأرفع صوتي للصخور
والحِجارة كان صواباً وكان لِرَفْع صوته معنًى إذْ كان الرّفْعُ والوضْعُ عند
الصُّخور سَوَاءً وليس كذلك الدوابُّ ولو كان إنما جعله مصلَّماً وجعلَ آذانَ
النّعام مصلومةً لأنه ليس لآذانها حَجْم فالطير كله كذلك إلاَّ الخفّاش وكلُّ شيءٍ
يبيض من الحيوان فليس لها حَجْم آذَان ففي قَصْدهم بهذه الكلمة إلى النّعامِ بين
جميعِ ما ليس لأذنَيه حجْم دليلٌ على أنَّ تأويلَكم خطأ قال عَلْقمة بن عَبَدَة :
وقالت كَبْشة بنت مَعْدِ يكَرِب
:
( وَأَرْسَلَ عَبْدُ اللّهِ إذ حانَ يومُهُ ** إلى قومه ألاَّ تَغُلُّوا لهُمْ دَمي ) ( ولا تأخُذُوا منهمْ إفالاً وَأَبْكُراً ** وَأُتْرَكَ في بيتٍ بِصَعْدَةَ مُظْلِمِ ) ( جَدَعْتُمْ بعبد اللّه آنُفَ قَوْمِكُمْ ** بني مَازِنٍ أَنْ سُبَّ راعي المخزَّمِ ) ( فإن أنتمُ لم تثْأرُوا لأخِيكُمُ ** فَمَشُّوا بآذَانِ النّعامِ المصلَّمِ ) فلو كانت إنَّما تريد أنّه ليس لمسامِعِها حجمٌ كانت الدُّنيا لها مُعرضة وقال عنترة :
( وكأنَّما أَقِصُ إلإكامَ عَشِيَّةُ ** بِقَرِيبِ بَيْنَ
المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ ) ( تأوِي له حِزَقُ النَّعامِ كما أَوَتْ ** حِزَقٌ
يَمَانِيَةٌ لأَعْجَمَ طمطمِ ) ولو كان عنترة إنَّمَا أراد عدَم الحجم لقد كانت
الدُّنيا له مُعرضة .
وقال زُهير : ) ( بآرزةِ الفَقَارةِ لم يَخُنْها ** قطاف في
الرِّكاب ولا خِلاَءُ ) ( كأنَّ الرحْلَ منها فَوْقَ صَعْلٍ ** من الظلمانِ جُؤجُؤه هَواءُ ) (
أصَكَّ مُصَلَّمِ الأُذْنَيْنِ أَجْنَى
** له بِالسِّيِّ تَنَّومٌ وَآءُ ) رد منكر صمم النعام
قال القوم : فإنَّا لا نقول ذلك ولكنّ العربَ في أمثالها تقول : إنَّ النَّعامةَ
ذهبَتْ تطلبُ قرنَين فقطعوا أذنيها ليجعلوها مثلاً في المُوقِ وسوء التدبير فإِذا
ذكر الشَّاعِرُ الظَّليمَ وذكَرَ أنَّهُ مصلَّم الأذنين
فإنما يريد هذا المعنى فكثُرَ ذلك حَتى صار قولهم : مصلم الأذنين مثلَ قولهم صَكَّاء وسواءٌ قال صَكَّاء أو قال نعامة كما أنّهُ سواء قال خنْساء أو قال مهاة وَنَعْجَة وبقرة وظبية لأنَّ الظَّباء والبقرَ كلها فُطْس خُنْسٌ وإذا سَمَّوا امْرَأَةً خنْساءَ فليسَ الخَنَسَ وَالفَطَسَ يُريدون بل كأنهم قالوا : مَهَاةٌ وَظَبية ولذلك قال المسيَّبُ بنُ علَسٍ في صفة النَّاقة : ( صَكّاءَ ذِعْلِبَةٍ إذا استَقْبَلْتَها ** حَرَجٍ إذا اسْتَدْبَرْتَهَا هِلوَاعِ ) فتفهَّمْ هذا البيت فإنهُ قد أحْسَن فيه جدّاً . وَالصَّكَكُ في الناس والاصطكاك في رجلي الناقة عيب فهو لم يكنْ ليصِفَها بما فيه عيب ولكنَّه لا يفرق بين قولهِ صَكّاء وبين=