مجلد 7. من كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
قَوْلِهِ نعامة وكذلك لا يفرّقون بين قولهم أعلم وبين قولهم : بَعِيرٌ قال الراجز : ( إني لِمن أنكَرَ أو تَوََسَّما ** أخو خَناثِيرَ يَقُودُ الأعْلَمَا ) كأنه يقول : يقودُ بعيراً وهو كقول عنترة : ( وحَليلِ غانيةٍ تَرَكْتُ مجدّلاً ** تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلمِ ) فقال مَن ادّعى للنَّعام الصَّمَم : أمَّا قولكم : من الدَّليل على أن النَّعامة تسمعُ قولُ الشاعِرِ : تدعُو النّعام به العِرار وقوله : ( متى ما تَشَأ تسمع عِرَاراً بقَفْرَةٍ ** يجيب زِمَاراً كاليَرَاعِ المثقَّبِ ) وقوله : ( آنَسَتْ نَبْأَةً وَأَفْزَعها ** الْقنَّاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ ) فليس ذلك أراد وقد يراك الأخرسُ مِن النّاس والأخرس أصمُّ
فيعرف ما
تقول بما يرى ) مِنْ صُورة حَرَكَتكَ كما يعرف معانيكَ من إشارتك ويدعُوك ويطلُبُ
إِليك بصوتٍ وهو لم يسمَعْ صوتَكَ قط فيقصِدَ إليه ولكنه يريد تلك الحركَةَ وتلك
الحركُة تولد الصّوت أراده هو أو لم يرده وَيُضْرَبَ فيصيح وهو لم يقصِدْ إلى
الصِّياح ولكنّه متى أَدار لسانَهُ في جَوْبَةِ الفم بالهواء الذي فيه والنَّفس
الذي يُحضِره جُمّاع الفم حدَثَ الصَّوت وهذا إنما غايَتُه الحركة فيعرف صورة تلك
الحركة .
والأخرس يرى النَّاس يصفِّقون بأيديهم عند دعاءِ إنسانٍ
أو عند الغضب والحَدِّ فيعرف صورة تلك الحركةِ لطول تَرْدادِها على عينيه كما يعرف
سائِر الإشارات وإذا تعجَّبَ ضربَ فالنّعامة تعرفُ صورةَ إشارة الرِّئلان
وإِرادتها فتعقل ذلك وتجاوبها بما تعقل عنها من الإشارة والحركة وغدت لحركتها
أصواتٌ ولو كانا يسمعان لم تزد حالهما في التّفاهُم على ذلك .
شم النعامة والعرب تقول : أَشَمُّ مِنْ نَعامةٍ وأَشَمُّ
مِنْ ذَرّةٍ قال الرَّاجز : أشمُّ مِنْ هَيْقٍ وَأَهْدَى مِنْ جَمَلْ وقال
الحِرْمازيُّ في أرجُوزته : وهو يَشْتَمُّ اشتِمامَ الهَيْقِ قال : وأخبرنا ابنُ
الأعرابيِّ أنَّ أعرابيّاً كلم صَاحِبَهُ فرآه لا يفهَمُ عنه ولا يسمعُ فقال : أَصَلَخٌ
كَصلَخِ النَّعَامَةِ .
شم الفرس والذئب والذر وقد يكون الفرَسُ في الموكِب
وخلفه على قاب غلوتين حِجْرٌ أو رَمكة فَيَتَحَصَّنُ تحتَ راكبِه من غير أن تكونَ
صهلَتْ .
والذِّئب يشتَمُّ ويستروحِ منْ مِيلٍ والذّرَّة تَشْتمُّ
ما ليس لَهُ ريحٌ ممّا لو وضعْتَهُ على أنفكَ ما وجَدْتَ لَهُ رائحة وإن أجَدْتَ
التشمُّمَ كرِجْل
الجرادة تَنْبِذُهَا
من يدك في موضعٍ لم تر فيه ذرَّة وقال الشَّاعر وهو يصف استرواح الناس : ( وجاءَ
كمِثْلِ الرَّأْلِ يَتْبَعُ أَنْفَهُ ** لِعَقْبَيْهِ مِنْ وَقْعِ الصُّخورِ
قعاقعُ ) فإنَّ الرَّألَ يشتم رائحة أبيه وأمِّه والسَّبعُ والإنْسَانِ من مكانٍ
بعيد وشبَّهَ به رَجُلاً جاءَ يتَّبع الرِّيح فيَشتمُّ . )
استطراد لغوي وقال الآخر : ( والمرء لم يغضَبْ لمطْلَبِ
أَنْفِهِ ** أو عِرْسِه لكَريهةٍ لم يَغْضَبِ ) ومطْلَب أنفه : فَرْجُ أمِّه لأنَّ
الولد إذا تمَّتْ أيَّامهُ في الرّحم قَلا مَكانَهُ وكرهَه وضاق به موضِعُهُ فطلبَ
بأنفه مَوضع المخرَجِ مِمَّا هو فيه من الكرب حتَّى يَصِير أَنفه ورأسُهُ على فم
الرَّحم تِلقاءَ فم المخرج فالأَناء والمكانُ يرفعانه في تلك الجهة والولد يلتمِسُ
تلك الجهةَ بأنْفه
ولولا أنَّه يطلبُ الهواءَ من ذاته ويكرهُ مكانَه من ذاته ثمَّ خرج إلى عالَمٍ آخَرَ خلافِ عالمه الذي رُبِّي فيه لَمَاتَ كما يموت السَّمَكُ إذا فارقه الماء ولكنَّ الماءَ لمّا كانَ قابلاً لطباع السمك غاذياً لها والسَّمكُ مريداً له كان في مفارقته له عطبُه وكان في مفارقة الولد لجَوْف البطن واغتذائه فضلاتِ الدَّم مَا لاَ يَنْقُصُ شيئاً من طباعِه وطباع المكان الذي كان له مَرَّةً مَسْكناً فلذلك قال ( والمرءُ لم يغضب لمطْلَبِ أنفه ** أو عِرسه لكريهةٍ لَمْ يغضَبِ ) يقول : متى لم يَحْمِ فرجَ أمِّه وامرأته فليس مِمّن يغضب من شيءٍ يؤُول إليه . ( قول المتكلِّمين في صمم الأخرس ) وزعم المتكلِّمون أنَّ الأخرسَ أصمُّ وأنّه لم يُوتَ من العجْز عن المنطق لشيءٍ في لسانه ولكنّه إنّما أُتي في ذلك لأنّه حين لم يسمع صوتاً قطُّ مؤلَّفاً أو غير مؤلَّف لم يعرف كيفيَّته فيقصدَ إليه وأنّ جميعَ الصُّمِّ ليس فيهم مُصْمَت وإنما يتفَاوَتُون في الشِّدَّةِ واللِّين فبعضهم يسمع الهدّة والصَّاعقة ونَهِيق الحمار إذا كان قريباً منه
والرَّعد
الشّديدَ لا يسمَعُ غير ذلك ومنهم من يَسمع السِّرار وإذا رفَعْت له الصَّوتَ لم
يسمَعْ ومتى كلَّمته وقرَّت الشِّكاية في أذنه فهِمَ عنك كلَّ الفهم وإن تكلَّمْت
على ذلك المقدار في الهواءِ ولم يكن ينفذُ في قناةٍ تحصُرُه وتجمعُه حتّى
تُؤَدِّيه إلى دِماغه لم يفهمه .
فالأصمُّ في الحقيقة إنَّما هو الأخرس والأخرس إنَّما
سمِّي بذلك على التشبيه والقرابة ومتى ضَرَب الأصمُّ من النَّاس إنساناً أو شيئاً
غيرَه ظنَّ أنَّه لم يبالِغْ حتّى يسمعَ صوتَ الضربة قال الشّاعر : وقال الأسَدِيّ : ( وَأُوصِيكُمُ
بطِعَانِ الكُمَاةِ ** فقَدْ تعلمُونَ بأنْ لا خُلودَا )
( وَضَرْبِ الجماجمِ ضَرْبَ الأصَمِّ ** حَنْظَلَ شَابَةَ يَجنى الهبيدا ) وقال الهذلي : ( فالطعْنُ شَغْشَغَةٌ وَالضَّرْبُ مَعْمَعَةٌ ** ضَرْبَ المُعَوِّل تَحْتَ الدِّيَمةِ العَضَدا ) وإنَما جعله تحتَ الدِّيمة لأنّ الأغصانَ والأشجارَ تصير ألْدَنَ وأعْلَك فيحتاج الذي يضربُ تلك الأُصولَ قبل المطر إلى عشْر ضَرَباتٍ حتَّى يقطع ذلك المضروب فإِذا أصابه المطَرُ احتاج إلى أكثرَ من ذلك .
تحقيق معنى شعري وأنشدني يحيى الأغر : ( كَضَرْبِ
القُيونِ سَبِيك الحدي ** دِ يومَ الجنائب ضرباً وَكيدا ) فلم أعرفه فسألتُ بعضَ
الصَّياقلة فقال : نعم هذا بَيِّنٌ معروف إذا أَخْرَجْنا الحديدةَ من الكِيرِ في
يومِ شَمَال واحتاجت في القطْع إلى مائة ضربةٍ احتاجَت في قطْعها يومَ الجَنُوب
إلى أكثر من ذلك وإلى أشدّ من ذلك الضَّرب لأَنّ الشمالَ يُيَبِّسُ ويقصِف والجنوب
يرطِّب ويلدِّن .
والإنسان أبداً أَخْرسُ إذا كان لا يسمع ولا يتبيَّن
الأصوات التي تخرج من فيه على معناه ويقال في غير الإنسان على غير ذلك قال كثيِّر
: ( ألم تَسْألي يا أمّ عَمْرٍ و فَتُخْبَرِي ** سَلِمْتِ وأسقَاكِ السّحَابُ
البوارقُ ) ( بكياً لِصَوْتِ الرَّعدِ خرس روائح ** ونعق ولم يُسْمَعْ لهن صواع )
وتقول
العرَب : مازلت تحت عينٍ خرساء والعين : السحابة تبقى أيّاماً تمطر وإذا كثر ماؤها
وكثُف ولم يكن فيها مخارق تُمدحْ ببرق .
سرعة الضوء وسرعة الصوت ومتى رأيتَ البرقَ سَمِعتَ
الرَّعْدَ بعدُ والرَّعدُ يكون في الأصل قبلَه ولكنَّ الصَّوتَ لا يصل إليك في
سرعة البرق لأنَّ البارقَ والبصر أشدُّ تقارباً من الصَّوتِ والسَّمْع وقد ترى
الإنسانَ وبينك وبينه رحْلهُ فيضرب بعصاً إمَّا حجراً وإمّا دَابَّةً وإمَّا ثوباً
فترى الضَّرْب ثمّ تمكثُ وقتاً إلى أن يأتيَك الصَّوت .
السحابة الخرساء
فإذا لم
تصوِّت السَّحابةُ لم تبشِّر بشيءٍ وإذا لَمْ يكن لها رِزٌّ سمِّيت خَرْساءَ .
وإِذا كانت الصَّخرةُ في هذه الصِّفة سمِّيت صماءَ قال
الأعشَى : ( وإذا تجيءُ كتيبةٌ ملمُومَةٌ ** مَكْرُوهَةٌ يخشى الكُمَاةُ نِزَالهَا
) وعلى غير هذا المعنى قال كثيِّر : ( كأني أنادي صَخْرَةً حين أعْرَضَتْ ** من
الصُّمِّ لو تمشي بها العصْمُ زَلَّتِ
)
ومن هذا الشّكل قولُ زُهير : ( وَتَنُوفَةٍ عَمْياءَ لا يَجْتازُها ** إلا المشيَّعُ ذُو الفُؤَاد الهادي ) ( قَفْرٍ هَجَعْتُ بها ولستُ بنائِمٍ ** وذِراعٌ مُلْقِيَةِ الجِرَانِ وسِادِي ) ( وَوَقَعْتُ بَيْنَ قُتُودِ عنْس ضَامِرٍ ** لَحَّاظةٍ طَفَلَ العشيِّ سِنَادِ ) فجعل التَّنُوفَةَ عَمْياءَ حين لَمْ تكن بها أمارات .
الزبابة
ودابَّة يقال لها الزَّبابَة عمياء صَمَّاء تشبه الفأرة وليست
بالخُلْد
لأنَّ الخُلْدَ أعمى وليس بأصمّ والزبَاب يكون في الرَّمل وقال الشاعِر : ( وَهمُ
زَبَابٌ حائر ** لا تَسْمَعُ الآذَانُ رَعْدَا ) وكلُّ مولودٍ في الأَرض يُولد
أعمَى إن كان تأويل العمى أنّهُ لا يُبصر إلاّ بعد أيام فمنه ما يفتح عينيه بعد
أيَّامٍ كالجِرْوِ إلاّ أولادَ الدّجاج فإنَّ فراريجها تخرُج كاسِيَة كاسِبة .
شعر فيه مجون وقال أبو الشمقمق وجعل الأيْر أعمى أصمَّ
على التشبيه فقال : ( فسلِّمْ عليه فاتِرَ الطرْفِ ضاحكاً ** وصوِّت له بالحارثِ
بن عُبادِ )
( بأصْلَعَ مِثْلِ الجرْوِ جَهْمٍ غَضَنْفَرٍ ** مُعَاوِدِ طَعْنٍ جَائفٍ وسناد ) ( أصمّ وأعْمَى يُنْغِضُ الدَّهْرَ رَأسَهُ ** يسير على مَيْلٍ بغير قيادِ ) قول لمن زعم أن النعامة تسمع وقال مَنْ زعَم أنَّ النَّعامة تسمع : يدلُّ على ذلك قول طَرَفَة : ( هَلْ بِالدِّيارِ الغَدَاةَ من خَرَسِ ** أمْ هَلْ بِرَبْع الجميعِ مِنْ أَنَسِ ) ( سِوَى مَهاة تَقْرُو أَسِرَّتَه ** وَجُؤذَُرٍ يَرْتَعِي على كَنَسِ ) ( أو خضابٍ يرتعي بهِقْلَتِهِ ** متى تَرُعْهُ الأَصْوَاتُ يهتَجِسِ ) فقد قال طَرَفة كما ترى : متى ترُعْهُ الأصوات يهتجس فكاهة
وروى الهيثم بنُ عديٍّ وسمعه بعضُ أصحابنا من أبي عبيدة قال : تضارَط أعرابيَّان عند خالد بن عبد اللّه أحدُهما تميميٌّ والآخر أزْديٌّ فضَرَط الأزْديُّ ضَرْطَةً ضئيلة فقال التميميّ : ( حَبَقْتَ عَجِيفاً مُحْثَلاً ولَوَ أنَّنِي ** حَبَقْتُ لأَسْمَعْتُ النّعَامَ المشَرَّدَا ) ( فمرَّ كمٍّ ر المنْجَنِيق وصَوْتُهُ ** يبذُّ هَزيمَ الرَّعْدِ بدءَا عَمرّدَا ) من لقبه : نعامة وزعم أبو عمرو الشَّيبانيُّ عن بعض العرب أنَّ كلّ عربيّ وأعرابيّ كان يلقَّب نَعامة فإنما يلقَّب بذلك لشدّة صَمَمِه وأنّهُ سأله عن الظليم : هل يسمع فقال : يَعرِفُ بأنفه وعينِه ولا يحتاج معهما إلى سمْع وَأَنْشَدَنِي : ( فجئْتُكَ مِثْلَ الهِقْلِ يشتمُّ رَأْلَهُ ** ولا عَرْفَ إلاّ سَوْفُهَا وَشَمِيمُها )
وزعم أَنَّ لَقَبَ بيهس نَعامةٌ وأنه لقِّب بذلك لأَنّه كان في خُلُق نعامة وكان شديدَ الصَّمَم مائقًا فأنْشَدَ لعديِّ بن زَيد : ( وَمِنْ حَذَرِ الأَيَّامِ مَا حَزّ أَنْفهُ ** قَصِيرٌ وَخاضَ المَوْتَ بالسَّيْفِ بَيْهَسُ ) ( نعامةٌ لَمَّا صرّع القومُ رَهْطَهُ ** تَبَيَّنَ في أَثْوَابهِ كيفَ يَلْبسُ ) ( مُنْتَخَبُ اللّبِّ لهُ ضَرْبَة ** خَدْباءُ كالعَطِّ من الخِذْعِلِ )
يقول :
هذا السَّيف أهوجُ لا عَقْل له والخَدَب في هذا الموضوع : الهوَجُ وتهاوِي الشيءِ
لا يَتَمَالك ويقال للسِّيف لا يُبالِي ما لَقِيَ .
شعر في النعام والتشبيه به وقال الأعشى في غير هذا الباب
: ( كَحَوْصَلة الرَّالِ في جَرْيِهَا ** إذا جُلِيَتْ بَعْدَ إقْعَادِها ) كحوصلة
الرَّأل يصف الخَمْرَ بالحمرة جليت
: أخرجت وهو مأخوذ من جَلوة العروس القاعدة )
إذا قَعَدَت عن الطَّلَب ومثله في غَير الخمر قولُ علقمة
: ( تأوي إلى حِسْكِلٍ حُمْرٍ حواصِلُه
** كأَنَّهُنَّ إذا بَرَّكْنَ جُرثومُ ) وقال الأخنس بن
شهاب : ( تظِلُّ بها رُبْدُ النَّعامِ كأنَّهَا ** إمَاءٌ تُزَجِّي بالمسَاءِ
حَواطبُ )
تُزجِّي : تَدْفَعُ وذلك أَنَّهُ يثقل ِحِملها فتمشي مِشْيَة النَّعامةِ وقال الرَّاجز : ( وإذا الرِّياحُ تَرَوَّحَتْ بِعَشِيَّةٍ ** رَتَكَ النَّعامُ إلى كَثِيفِ العَرْفَجِ ) والرّتَكُ : مشْيٌ سريع يقول تبادِرُ إلى الكثيف تستتر به من البَرْد وقال :
استقبال الظليم للريح وليسَ لقولِ مَنْ زعَم أنَّ الظليم إذا عدا استقْبَل الرِّيح وإنّمَا ذلك مخافَةَ أن تكونَ الرِّيحُ من خلفه فتَكبِتَه معنى لأنَّا نجدُهم يصفون جميع ما يستدعونه باستقبال الرِّيحِ قال عَبْدة بن الطَّبِيب يصف الثَّور : ( مستقبل الرِّيح يهفُو وَهوَ مُبْتَرِكٌ ** لسانُه عَنْ شِمالِ الشِّدْقِ مَعْدُولُ ) ووصف الذِّيبَ طُفيلٌ الغَنَويُّ فقال : ( كسيدِ الغَضَا العادِي أضَلَّ جِرَاءَهُ ** عَلَى شَرَفٍ مُسْتَقْبلَ الرِّيح يلحَب )
استطراد ويُلحَقُ بموضع ذِكْر الضَّربِ الشديد قولهم في المثَل : ضَرَبْنَاهُمْ ضَرْبَ غَرَائبِ الإبِلِ قال أبو حيّة : ( جَدِيرُونَ يَوْمَ الرَّوْعِ أَنْ يخْضِبُوا القَنَا ** وَأَنْ يترُكُوا الكَبْشَ المدجَّجَ ثاويا ) ( ضَرَبْنَاهُمُ ضرب الجنابَى على جبًى ** غرائب تغشاهُ حِراراً ضواريا ) وإذا جاءت عِطاشاً قَدْ بَلَغ منها العطشُ واليُبْسُ قيل : جاءَتْ تَصِلُّ
أجوافُها
صَليلاً قال الرَّاعي : قال : وأنشدنا أبو مَهديَّة لمزاحمٍ العُقَيليّ : ( غَدَتْ
مِنْ عَليه بعدَ مَا تمّ ظِمْؤُهَا ** تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَِيزاء
مَجْهَل ) قال الزَّيزاءُ : المكان الغليظ .
وقال آخر : ) ( ألمْ تَعلمي يا أمَّ حَسَّانَ أَنَّنِي ** إِذا عَبْرَةٌ
نَهنَهتُها فَتَجلَّتِ ) ( رجَعت إلى صَدْرٍ كجرَّةِ حَنْتمٍ ** إذا قُرِعَتْ
صِفْراً مِنَ الماءِ صلَّتِ )
اختبار أمير المؤمنين المننصور لأحد الحواء وزعَمَ ابن أبي العجوز الحَوّاءُ أنَّ الأفاعيَ صُمٌّ فلذلك لا تُجيب الرُّقَى ثُمَّ زعم لي في ذلك المجلس أنَّ أميرَ المؤمِنينَ المنصورَ أراد امتحان رُقَى حَيَّةٍ وأنْ يتعرّف صحَّتها من سُقْمها وأنَّهُ أَمَرَ فصاغوا له أَفْعًى من رَصاص فجاءَت ولا يشكُّ النَّاظر فيها وأنَّهُ أمر بإلزاقها في موضعٍ من السَّقف وَأَنَّهُ أحضرهُ وقال له : إنَّ هذه الأفعى قد صارَتْ في هذه الدّارِ وقد كرِهْتُهَا لمكانِهَا فإِن احْتَلْتَ لي برُقْيَةٍ أو بما أحببْتَ أحسنتُ إليك قال : إن أَرَدْتُ أَنْ آخذها هَرَبَتْ ولكنْ أرقيها حتى تنزل فرقاها فلما رآها لا تتحرَّكُ زادَ في رفْع صوتِه وألقى قِنَاعَهُ فلما رآها لا تتحرَّكُ نزعَ عِمامَتَهُ وزاد في رفعِ صوتِه فلما رآها لا تتحرَّك نزَعَ قلنسُوتَهُ وزادَ في رفْعِ صوتِه فلما رآها لا تتحرَّك نَزَعَ ثِيابَهُ وزادَ في رَفْعِ صَوْتِهِ حَتَّى أزْبَد وتمرّغَ
في الأرض
فلما فعل ذلك سال ذلك الرّصاصُ وذابَ حتى صار بينَ أيديهم فأقرّ عند ذلكَ المنصورُ
بجودَةِ رُقيته .
فقلت له : ويلك زعمتَ قُبَيْلُ أَنَّ الأَفَاعِيَ لا تُجيب
الرُّقَى لأنها لا تسمع وهي حيوان ثمَّ زعمتَ أَنَّها أجابت وهي جماد .
شعر وخبر في نفار النعامة وقال الشَّاعِرُ : ( وربداء
يَكِفيها الشَّميمُ وما لَها ** سِوَى الرُّبْدِ من أنْسٍ بتلك المجاهِلِ ) يخبر
أنَّ النّعامة لا تستأنسُ بشيءٍ من الوحْش وَأَنَّ الشَّمّ يغنيها في فهم ما تحتاج
إليه وهي مع ذلك إذا صارتْ إلى دور النّاس فليس معها من الوحْشة منهم على قدر ما
يذكرون وفي الوحش ما يأنس وفيها ما لا يأنس وقال كثيِّر : ( فأقْسَمْتُ لاَ
أَنْسَاكِ ما عِشْتُ لَيْلَةً ** وَإنْ شَحَطَتْ دارٌ وَشَطّ مَزَارُها ) ( وما استَنّ
رَقراقُ السّرَابِ وما جَرَتْ ** بِبيض الرُّبا أنسيُّها وَنَوَارُهَا )
ووصف
بلاداً قفاراً غيرَ مأنوسة فقال : خصّها بالذِّكْر لأنها أَنْفَرُ وأشرَد
وَأَقَلُّ أنْساً من جميع الوحش . )
وقال الأحيمر : كنتُ آتي الظَّبْيَ حتى آخُذَ بذراعيه
وما كان شيءٌ من بهائِم الوحْش ينكرُني إلاّ النّعام وَأَنْشَدَ قَوْلَ ذي
الرُّمّة : ( وكلّ أَحَمِّ المقْلتين كأنّهُ ** أخو الإنْسِ من طُول الخَلاءِ المغفّلِ )
نقار
الوحش وهربها من الصحارى يدلّ على ذلك في قَدْرِ ما شاهدنا أنّهم يخرجون إلى
الصّحارى الأغفال التي لم يُذْعَر صيدُها ولا يطَؤُها النَّاس فيأتون الوحْشَ
فوضَى هَمَلاً ومعهم كلابُهم وفهودُهم تتلوى بأيديهم فيتقدّمون إلى المواضع التي
لو كانوا ابتدؤوا الصّيْدَ مِنْ جهتها لأخَذُوا ما أخذوا فإذا نفرَتْ وحوش هذه
الأرْضِ ومرَّت بالأرْضِ المجاوِرَةِ لها نفرت سُكّانُ تلك الأرضِ مع هذه النّوافر
ولا تعودُ تلك الصحارى إلى مثل ما كانت عليه مِنْ كثْرَة الوَحْشِ حيناً .
ومتى لم تنفِّرها الأعرابُ بالكلابِ والقِسيِّ ونصْب
الحبائل رتَعتْ بقُربهم ثمَّ دنتْ منهُمْ أوَّلاً فأوَّلاً حتى تطأ أكنافَ بيوتهم
وهي اليوم في حَيْرِ المعتصم باللّه والواثق باللّه على هذه الصِّفة .
هجرة الظباء إلى الناس
وخبّرني إبراهيم بْنُ السِّنديِّ قال خبرني عبدُ الملك بنُ صالح وإسحاق بن عيسى وصالحٌ صاحب الموصِل أَنّ خالدَ بنَ بَرْمَكَ بينا هو على سطحٍ من سُطوح القُرى مع قَحْطَبَةَ وهم يتغدّون وذلك في بَعض منازلهم حين فصلوا من خُراسَانَ إلى الجبل قال : وبين قَحْطَبَةَ وبين الأعداء مَسِيرَةُ أيَّامٍ وليال قال : فبينا خالدٌ يتغدَّى معه وذلك حين نزلوا وبهم كَلاَلُ السَّير وحينَ عَلّقُوا على دوابِّهم ونصبوا قُدُورَهُمْ وَقَرَّبُوا سُفَرَهُمْ .
قال فَنَظَرَ خالدٌ إِلى الصَّحراءِ فرأى أقَاطيع
الظِّباءِ قد أقبَلتْ من جهة الصَّحَارَى حتى كادت تخالِطُ العَسْكَر فقال
لِقَحْطَبَةَ : أَيُّهَا الأمير نَادِ في النَّاس : يا خَيلَ اللّه ارْكَبي فإنّ
العدوّ قد حثّ إليكَ السَّير وغاية أصحابك أنْ يسرِجوا ويُلجموا قبل أن يروا
سَرَعان الخيل فقام قحطبة مذْعوراً فلما لم ير شيئاً يَرُوعه وَلَمْ يَرَ غُباراً
قال لخالد : ما هذا الرّأيُ قال : أيُّها الأمير لا تتشاغل بي وبكلامي وَنَادِ في
النَّاس أما تَرَى أقاطيعَ الوحْش قد أقبلت فارقت مواضعَها حتَّى خالطت الناس إنّ
وَرَاءَهَا جَمْعاً عظيماً قال : فواللّه ما ألجموا وَأَسْرَجُوا حتى رَأَوْا
ساطِعَ الغُبَار ولا تلبَّسوا وتسلَّحوا حَتَّى رأوا الطليعة فما التأموا حَتى
استوى أصحابُ قحطبة على ظُهورِ خيولهم ولولا نَظْرَةُ خالد بنِ برمَكَ وُفِراستُهُ
لقد كان ذلك الجيش اصطُلِم .
قصة في قوة الشمّ )
قصة في
قوة الشم
وكان إِبراهيم بنُ السِّنديِّ يُحَدِّثُنا مِنْ صدقِ
حِسِّ أبيه في الشَّمِّ بشيءٍ ما يُحكى مثلُهُ إلاَّ عن السِّباع والذَّرّ
والنَّعام وزعم أنَّ أباه قال ذات يوم : أجدُ ريحَ بولِ فأرة ثمَّ تَشَمّمَ
وأَجَالَ أَنْفَهُ في المجلس فقال : هو في تلك الزّاوية فنظروا فإذا على طرف
البِساط من البلَلِ بقدْر الدِّرْهم أو أَوْسَعُ شيئاً فقضَوْا أَنَّهُ بولُ فأرة .
قال : وَشَهِدْتُهُ مَرَّةً وَأَشْرَاطُهُ قيامٌ على
رأسِه في السِّمَاطين فقال : أجدُ رِيحَ جَوْرَبٍ عَفِنٍ مُنْتن فتشمَّمْنا
بأجمعنا فلم نَجِدْ شَيْئاً ثمَّ تشمَّمَ وقال : انزَعُوا خُفَّ ذاك فنزعوا خُفّه
فكلَّما مدَّ النازعُ له شيئاً بدا من لِفافَته فما زَال النَّتْنُ يَكْثُفُ
ويزدادُ حتى خَلَعَ خُفَّهُ ونزَعَهُ مِنْ رِجْله فَظَهَرَ من نَتْنِ لِفَافَتِهِ
ما عُرِفَ به صِدْقُ حسِّه ثمَّ قال : انزَعُوا الآنَ أَخْفَافَكُمْ بأجمعكم فلا
بُدَّ من ألاَّ يكونَ في جميع اللَّفائفِ مُنْتِنٌ غيرُ لِفافته أو تكونَ لِفافتُه
أنتَنها فَنَزَعُوا فلم يَجِدُوا في جميعها لِفافةً منتنةً غيرها . وَأَنْشَدُوا :
( غزا ابْنُ عُميرٍ غَزوةً تركت لنا ** ثَناءً كنَتْنِ الجوربِ المتخرِّقِ )
أقوى
درجات التشمم وليس الذي يُحكَى من صِدق الحسِّ في الشَّم عن بعض النَّاس وعن
النَّعام والسِّباع والفأر والذَّرّ وضروبٍ من الحشرات من شكل ما نطق به القرآنُ
العظيمُ من شأن يعقوبَ ويوسفَ عليهما الصلاة والسَّلام حين يقول تعالى : قَالَ
أَبُوهُمْ إنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالوا تَاللّهِ
إنَّكَ لفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ وكان هذا من يعقوبَ بعد أنْ قال يوسف : اذْهَبُوا
بِقَمِيصِي هذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي
بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ولذلك قال : وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ
إنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ ثمَّ قال : فَلَمَّا أَنْ
جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً .
وإنّمَا هذا علامةٌ ظهرَتْ له خاصة إذ كان النَّاسُ لا
يشتمُّون أرواحَ أولادِهم إذا تباعَدُوا عن أنوفهم وما في طاقة الحصان الذي يجدُ
ريح الحِجْر ممَّا يجوزُ الغَلوتين والثَّلاث فكيف يجِدُ الإنسانُ وهو بالشَّام
ريحَ ابنه في قميصه ساعَةَ فَصَلَ من أرض مصر ولذلك قال : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ .
بعض المجاعات
)
بعض
المجاعات
وقد غَبَرَ موسى وهو يَسِيرُ أَرْبَعِينَ عَاماً لا يذوق
ذَوَاقاً وجاع أهل المدينة في تلك الحُطْمَةِ حتى كان أصحاب رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم يشدُّون الحَجَرَ على بُطُونِهِمْ من الجُوعِ والجَهْد وكان النبيُّ صلى
الله عليه وسلم وعلى آله الطيِّبين الطاهرين يقول : إنِّي لَسْتُ كأَحَدِكُمْ
إنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِيني .
حجاج في ذبح الحيوان وقتله ورجَالٌ مِمَّنْ ينتحل
الإسلام يُظهِرُونَ التقذُّرَ من الصَّيدِ وَيَرَوْنَ أنَّ ذلكَ من القَسوة وَأنَّ
أصحابَ الصَّيدِ لَتُؤَدِّيهم الضَّراوةُ التي اعترتهم
مِنْ
طرُوقِ الطَّيرِ في الأوكار وَنَصْبِ الحبائل للظِّباء التي تنقطع عن الخشْفَانِ
حتى تموتَ هُزْلاً وجُوعاً وإشلاء السِّباعِ على بهائِم الوحش وًسَتُسْلِمُ أهلَها
إلى القَسْوة وإلى التهاوُن بدماء النَّاس .
والرَّحْمةُ شكلٌ واحد وَمَنْ لم يَرْحَمِ الْكَلْبَ لم
يَرْحَمِ الظَّبيَ وَمَنْ لَمْ يرْحَم الظَّبيَ لَمْ يَرْحَمِ الجَدْيَ وَمَنْ
لَمْ يَرْحَمِ الْعُصْفُوُرَ لَمْ يَرْحَمِ الصَّبيَّ وصِغارُ الأمور تؤدِّي إلى
كبارها .
وليسَ ينبغي لأحدٍ أن يتهاونَ بشيءٍ ممَّا يؤدي إلى
القَسْوة يَوماً مَا وأكثَرُ ما سمعت هذا البابَ مِنْ نَاسٍ من الصُّوفِيّة ومن
النَّصَارَى لمضَاهاة النَّصارى سبيلَ الزَّنَادِقَة في رفضِ الذبائح وَالْبُغْضِ
لإراقة الدِّماءِ وَالزُّهدِ في أكل اللُّحْمَانِ .
وقد كان يرحَمُك اللّه على الزِّنديق ألاَّ يأتي ذلك في
سِبَاع الطَّيرِ وذواتِ الأربع من السّباع فأما قتْلُ الحَيَّةِ والعقرب فما كان
ينبغي لهم الْبَتَّةَ أَنْ يَقِفُوا في قتلهما طَرْفَةَ عَينٍ لأنَّ هذه الأمورَ
لا تخلو مِنْ أن تكونَ شرًّا صِرْفاً أو يكون ما فيها من الخير مغْموراً بما فيها
من الشرِّ والشَّرُّ شيطانٌ والظُّلمة عدُوُّ النُّور فاستِحْياءُ الظلمة وأنتَ
قادرٌ على إماتتها لا يكونُ من عمل النُّور بل قد ينبغي أن تكونَ رحمة النُّورِ
لجميعِ الخلائِقِ والنَّاس إلى استنقاذهما من شُرور
وكما
ينبغي أن يكون حَسَناً في العقْل استحياءُ النُّور والعمَلُ في تخليصه والدَّفْعُ
عنه فكذلك ينبغي أنْ يكونَ قتْلُ الظُّلْمة وإماتتُها وَالعَوْنُ على إهلاكها
وتوهينِ أمرها حسناً .
والبهيمة التي يَرَوْنَ أن يدفعُوا عنها أيضاً ممزُوجة
إلاَّ أنَّ شَرّهَا أقلُّ فهم إذا استَبْقَوْها فقد استبْقَوا الشُّرورَ المخالطَة
لها .
فإنْ زَعموا أنَّ ذلك إنَّما جاز لهم لأنَّ الأغلب على
طِباعها النُّور فلْيغتفروا في هذا الموضعِ إدخالَ الأذى على قليل ما فيها من
أجزاء الشَّرِّ كما اغتفروا ما في إدخال الروح والسُّرور على ما )
في البهيمة من أجزاء الظُّلْمة لدفعهم عن البهيمة إذْ
كان أكثر أجزائها من النُّور .
وإِنَّما ذكرتُ ما ذكرت لأنَّهم قالوا : الدَّليلُ على
أنَّ الذي أنتم فيه مِنْ أكل الحيوان كلَّ يومٍ من الذبائِح مكروهٌ عِنْدَ اللّهِ
أَنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا قطُّ ذبّاحي الحيوان ولا قَتَّالي الإنسان ولا الذين لا
يقْتاتون إِلاَّ اللّحْمَان يفلحون أبداً ويستغنون كنحو صيَّادِي السّمك وصيَّادي
الوحْش وأصناف الجزَّارِين والقَصَّابين والشَّوّائين والطهَّائين
والفهَّادِين
والبيَازِرة والصَّقَّارِينَ والكلابين لا ترى أَحَداً منهم صار إلى غِنًى
وَيُسْرٍ ولا تراهُ أبداً إلا فقيراً مُحَارَفاً وعلى حالٍ مشبهَةٍ بحاله الأولى .
وكذلك الجلادون ومن يضرِبُ الأعناقَ بين يَدَي المُلوكِ
وكذلك أصحابُ الاستخراج والعذَابِ وإن أصابوا الإصابات وجميع أهل هذه الأصناف .
نَعَمْ وَحَتَّى ترى بعضَهم وإن خَرَجَ نَادِراً خارجيّاً ونال منهم ثَروةً
وَجَاهاً وسُلطاناً فإمَّا أن يقْتَلَ وإمّا يُغْتَصَبَ نَفْسَهُ بميتَةٍ عاجلة
عندَ سرورِه بالثَّروة أو يبعث اللّه عليه المحق فلا يَنْمُو له شيء وإما ألاَّ
يجعل مِنْ نسلهم عَقِباً مذكوراً ولا ذِكْراً نبيهاً وَذُرِّيَّةً طَيبةً مثل
الحجّاج بن يوسف وأبي مسلم ويزيد بن أبي
مسلم ومثل
أبي الوعد ومثل رجَالٍ ذكروهم لا نحبُّ أن نسميهم .
قال : فإنَّ هؤلاءِ مع كثرة الطَّرُوقَةِ وظُهُورِ
القدْرة ومع كثرة الإنسال قد قَبَحَ اللّه أمرَهم وأخْمَلَ أولادَهم فهم بين مَنْ
لم يُعقِبْ أو بَيْنَ مَنْ هُوَ في معنى مَن لم يُعقب .
فقلت للنّصَارَى بديّاً : كيف كان النّاسُ أيَّامَ الحُكم بما
في التَّوْراة أيَّامَ موسى وَدَاودَ وهما صاحبا حُروبٍ وَقَتْلٍ وَسِبَاءٍ
وذبائحَ نعم حتى كان القُربان كُله أو عَامَّتُهُ حيواناً مذبوحاً لذلك سَمَّيتم
بيت المَذْبحِ . وَلَسْنَا نسألكم عن سِيرَة النَّصارَى اليومَ ولكِنَّا نسألُكُمْ
عَنْ دينِ مُوسى وَحُكْمِ التَّوْراةِ وَحُكْمِ صاحب الزَّبور وما زالوا عندكم إلى
أن أنكروا رُبُوبِيّةَ المسيح على أكثَرَ من حالنا اليومَ في الذبَائح وأنتم في
كثيرٍ من حالاتكم تُغْلُونَ علينا السَّمَكَ حتى نتوخَّى أيّاماً بأعيانها فلا
نشترِي السَّمَكَ إلا فيها طلباً للإمكانِ والاسْتِرْخَاصِ وهي يومُ الخَميسِ ويوم
السّبْتِ ويومُ الثُّلاثاء لأنَّ شراءكم في ذلك
اليومِ
يَقِلُّ على أنَّكم تُكْثِرُونَ مِنَ الذَّبائِح في أيَّام الفِصْح وهلْ تَدَعُونَ
أكْلَ الحيوانِ إلاّ أيّاماً معدودةً وساعاتٍ مَعْلومةً .
فإذا كانت الحِرْفةُ والمحن إنَّما لزِمَا القصَّابين
والجزَّارِين والشَّوَّائين وأَصنافَ الصّيَّادين من جهة )
العقوبة فأنتمْ شركاءُ صيَّادِي السَّمَكِ خَاصّةً
لأنَّكم آكَلُ الخلْقِ له وأنتم أيضاً شُرَكَاءُ القصَّابين في عامَّة الدّهْرِ
فلا أنتم تَدِينُونَ للإسلام فتعرفوا ما عليكم ولكم وفصْل ما بين الرّحمةِ
والقَسوة وما الرَّحمة وفي أيِّ موضعٍ ِ يكونُ ذلك القتلُ رحمَةً فقد أجمعوا على
أنّ قَتْلَ الْبَعْضِ إحياءٌ للجميع وَأنّ إصلاح النَّاس في إقامةِ جزاءِ الحسنة
والسيئة وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ . وَالْقَوَدُ حَيَاةٌ وهذا شيءٌ تَعْمَلُ
به الأممُ كلها غَيْرَ الزَّنَادِقَةِ وَالزَّنَادِقَةُ لَمْ تَكُنْ قَطُّ أُمَّةً
ولا كان لها مُلْكٌ وَمَمْلَكَةٌ وَلَمْ تزَلْ بَيْنَ مَقْتُولٍ وهاربٍ ومنافق فلا
أنتم زَنَادِقَةٌ ولا ينكر لمن كان ذلك مَذْهَبَهُ أن يقول هذا القَوْلَ .
فأنتم لا دهْرِيَّة ولا زَنَادِقَةَ ولا مُسلمون ولا
أنتم رَاضُونَ بِحُكْمِ اللّهِ أيّامَ التّوراة .
فإن كانَ هذا الحكْمُ قد أمرَ اللّه به وهو عَدْلٌ فليس
بين الزَّمَانَيْنِ فرق .
وَبَعْدُ
فَإنَّا نَجدُكم تَأْكُلونَ السَّمك أكْلاً ذَريعاً وتتقذرون من اللُّحمانَ
أفِلأنَّ السّمكَ لا يألَمُ الْقَتْلَ أم لأنَّ السَّمكَ لَمَّا قتلتُمُوه بلاَ
سِكِّين لم يُحِسَّ قَتلهُ فالجميع حيوانٌ وكلُّ مقتول يألَمُ وكلٌّ يُحِسّ فكيف
صار أكْلُ اللَّحْمِ قَسْوَةً وَأَكْلُ السَّمَكِ لَيْسَ بقَسوة وكيف صار ذبْح
البهائمِ قسوة ولا تَكون تفرِقَةُ ما بين السَّمَكِ والماءِ حَتَّى تَموت قسوة
وكيف صار ذبح الشَّاةِ قَسوَةً وصيدُ السمكِ بالسَّنَانير المذَرّبة المعقّفة ليس
لها شعائِر تخالف العقاف المنصوص في جهاتها وكيف وهي وإنْ لم تنشَبْ في أجوافها
وتَقْبِضْ على مجامع أرواحِها لم تقدِرْ على أخْذِها .
وكيف صار وَجْء اللَّبَّة من الجزور أقسى من ضَرْب
النبائل أم كيف صار طَعْن العَير بالرُّمح ونصْبُ الحبائل للظِّباء وإرسالُ
الكلابِ عليها أشَدَّ مِنْ وقع النَّبائل في ظَهْرِ السّمَك .
ولأنَّكُمْ تكْثِرونَ قَولَكُمْ : لا نأكل شيئاً فيه دمٌ
أيّامَ صومِنا فللسَّمك دمٌ ولا بدَّ لجميع الحيوان من دمٍ أو شيءٍ يُشاكِلُ
الدَّم فما وجْهُ اعتلالِكم بالدَّم ألأَنَّ كلَّ شيءٍ فيه دمٌ فهو أشدُّ ألماً
فكيف نعلم ذلك وما الدَّليلُ عليه
.
فإن زعمتم أنَّ ذلك داخلٌ في باب التعبُّدِ والمصْلَحة
لا في باب القِياسِ والرَّحمَةِ والقَسْوة فهذا باب آخر إلاَّ أنْ تَدَّعُوا أنَّ
ذَواتِ الدِّماء أقوى للأبدان وآشَرُ للنُّفوس فأردتم بذلك قلَّة الأشَرِ وضَعْفَ
البدن فإنْ كان ذلك كذلك فقد ينبغي أن يكونَ هذا المعنى مُستبيناً في آكلي
السَّمَكِ من البحريين .
وأمّا ما ذكَرْتُم مِنْ مُلازَمةِ الحِرْفَة لهؤلاء
الأصْناف فإنَّ كلَّ مَنْ نزلَتْ صِناعَتُه ودَقّ خَطَرُ )
وأحلُّ الكَسْبِ كُلِّه وأطْيَبُهُ عِنْدَ جَمِيعِ
النّاس سَقْيُ الماء إمَّا على الظَّهر وإمَّا على دَابَّة ولم أرَ سَقَّاءً قَطُّ
بَلَغَ حالَ اليَسارِ والثّروة وكذلك ضَرَّابُ اللّبِنِ والطَّيّانُ والحَرَّاثُ
وكذلك ما صَغُرَ من التِّجاراتِ والصِّناعاتِ .
ألا ترون أنَّ الأمْوالَ كثيراً ما تكونُ عند الكُتَّاب
وعندَ أصْحَابِ الجَوهرِ وعندَ أصحابِ الوَشْيِ والأنماط وعند الصّيارِفَةِ
والحنَّاطين
وعند البحْريِّين والبصريين والجُلاَّبُ أبداً والبيازِرَة أيسر ممّنْ يَبْتَاع
منهم .
وجُمَلُ الأموالِ حَقٌّ بأنْ تُربحَ الجُمَلَ مِنْ
تفاريق الأموال وكذلك سبيل القصّاب والجزّار والشَّوّاءِ والبازيار والفَهَّاد .
وأمّا ما ذكرتم من انقطاعِ نَسْلِ القُساةِ وخمولِ
أولادِهم كانقطاع نَسْل فِرعَونَ وهامان ونُمرُود وبُخْت نَصّر وأشباههم فإنّ
اللّه يقول : وَلاَ تزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى .
وإن شئتم أن تعدّوا من المذكورين بالصَّلاحِ أكثَرَ مِن
هؤلاء ممّن كان عقيماً أو كان ميناثاً أو يكونُ مِمّنْ نَبَتَ لهم أَوْلاَدُ سَوءٍ
عقّوهُمْ في حياتهم وعرّضوهُمْ للسَّبِّ بعد موتهم لوجَدْتمُوهُمْ .
وعلى أني لم أَنْصِبْ نَفسي حَرْباً لِلْحَجّاجِ بن يوسف
ويزيد
بن أبي
مسلم أتحرى بهما وهما وعلى أنّكُمْ ليسَ الْقَصّابينَ أَرَدْتُمْ وَلكِنَّكُمْ
أَرَدْتُمْ دِينَ المسلِمين . وَقَدْ خَرَجَ الحَجَّاجُ من الدُّنْيَا سَلِيماً في
بَدَنِهِ وظَاهِرِ نعمته وعليِّ مرتَبَتِهِ من الملْك وَمَكانِهِ من جَوازِ
الأمْرِ وَالنَّهْي .
فإِنْ كان اللّه عِنْدَكُمْ سَلَّمَهُ وَعاقَبَ أولاَده
وكان ذلك دينَكم فإنّ هذا قولٌ إن خاطبتم به الجبْريّةَ فعسى أن تتعلّقُوا منهمْ
بسبب فأمّا مَنْ صَحَّحَ القَوْلَ بالْعَدْل فإنّ هذا القولَ عِنْدَه من الخطأ
الفاحش الذي لاَ شُبهَةَ فيه .
شعر في القانص وفقره وكان ممَّا أنشدُوا من الدَّلِيل
على أنّ القانِصَ لا يزالُ فقيراً قَوْلُ ذي الرّمةِ :
( حَتَّى إذَا مَا لَهَا فِي الجَدْرِ وَاتَّخَذَتْ ** شَمْسُ النَّهَار شُعَاعاً بينها طِبَبُ ) ( وَلاحََ أَزْهَرُ مَشْهُورٌ بِنُقْبَتِهِ ** كَأَنّهُ حِينَ يَعْلُو عَاقِراً لَهَبُ ) ( هَاجَتْ بِهِ جُوّعٌ طُلْسٌ مُخَصَّرَةٌ ** شَوَازبٌ لاَحَهَا التَّغْريث وَالجَنِبُ ) ( جُرْدٌ مُهَرَّتَةُ الأشْدَاقِ ضَارِيَةٌ ** مثلُ السَّرَاحِينِ في أعناقهَا الْعَذَبُ )
( وَمُطعَمُ الصَّيْدِ هَبّالٌ لِبُغْيَتِهِ ** ألفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الْكَسْبِ يكتَسبُ ) ( مقزَّعٌ أَطْلسُ الأطمَارِ لَيْسَ له ** إلاّ الضِرَاءَ وَإلاّ صَيْدَهَا نَشَبُ ) قال : فجعله كما ترى مقزَّعاً أطلسَ الأطمار وخَبَّرَ أنّ كِلاَبَه نشَبُه وأنَّه ألفَى أباه كذلك وأنشَدُوا في ذلك قول الآخر :
( وأعصم أنسته المنية نفسه ** رعى النبع والظيان في شاهقٍ وعر ) ( موارده قلتٌ تصفقه الصبا ** بنيقٍ مزلٍ غير كدرٍ ولا نزر ) ( قرته السحاب ماؤها وتهدلت ** عليه غصونٌ دانياتٌ من السمر ) ( أتيح له طلحٌ إزاه بكفه ** هتوفٌ وأشباه تخيرن من حجر ) ( أو صبيةٍ لا يستدر إذا شتا ** لقوحاً ولا عنزاً وليس بذي وفر )
( له زوجةٌ شمطاء يدرج حولها ** فطيم تناجيه وآخر في الحجر ) ( مشوهةٌ لم تعب طيباً ولم تبت ** تقتر هندياً بليلٍ على جمر ) ( محددة العرقوب ثلم نابها ** تعرقها الأوذار من فقر الحمر ) ( مسفعة الخدين سود درعها ** تقدرها بالليل والأخذ بالقدر ) ( كغول الفلاة لم تخضب بنانها ** ولم تدر ما زي الخرائد بالمصر ) ( فأرسل سهماً أرهف القين حده ** فأنفذ حصينه فخر على النحر )
مساءلة
المنانية وذلك أنَّ المنانيَّةَ تزعُمُ أنَّ العَالمَ بما فيه من عشرةِ أجناس :
خمسةٌ منها خيرٌْ ونورٌ وخمسةٌ منها شرٌّ وظُلْمَة وكلُّها حاسَّةٌ وَحارَّة .
وأنَّ الإنسانَ مركَّبٌ مِنْ جميعِها على قدْر ما يكونُ
في كلِّ إنسانٍ من رُجْحانِ أجناس الخير على أجناس الشَّرِّ ورُجْحانِ أجْنَاسِ
الشَّرِّ على أجناسِ الخير .
وأنَّ الإنسانَ وإن كان ذا حَواسَّ خمسةٍ فإنَّ في كُلِّ
حاسَّةٍ متوناً من ضدِّه من الأجْناس الخمسة فمتى نَظَرَ الإنسانُ نظْرَةَ رحمةٍ
فتلك النَّظْرَةُ من النُّور ومن الخير ومتى نَظَرَ نَظْرَةَ وعيدٍ فتلك
النَّظْرَةُ من الظلمة وكذلك جميع الحواسِّ .
وأنَّ حاسَّة السَّمعِ جنسٌ على حِدَةٍ وأنَّ الذي في
حاسَّة البصر من الخير والنُّور لا يعين الذي )
في حاسَّة السَّمع من الخيرِ ولكنه لا يضادُّهُ
ولا
يُفاسِدُهُ ولا يمنعه فهو لا يعينه لمكان الخِلاف والجِنس ولا يعين عليه لأنَّهُ
ليس ضِدّاً .
وأنَّ أجناسَ الشَّرِّ خلافٌ لأجناس الشَّرِّ ضِدٌّ
لأجناس الخير وأجناسَ الخيرِ يخالفُ بعضُها بَعْضاً ولا يضادُّ وأنَّ التَّعاونَ
والتآدِي لا يقعُ بين مختلِفها ولا بين متضادِّها وإنما يقع بين متفقها .
قال :
فيقال للمنانيِّ : ما تقول في رَجُلٍ قال لرجُلٍ : يا
فلان هل رأيت فلاناً فقال المسؤول : نعم قد رأيتُه أليسَ السَّامعُ قد أدَّى إلى
النَّاظِرِ والنَّاظِرُ قد أدّى إلى الذَّائِق وإلاَّ فِلمَ قال اللِّسَانُ : وهذه
المسألة قصيرةٌ كما ترى ولا حِيلةَ له بأنْ يَدْفَعَ قَوْلَهُ . مُساءَلَة زنديق
ومسألةٌ أخرى سأل عنها أميرُ المؤمنين الزِّنديقَ الذي كان يكنى بأبي عليٍّ وذلك
عندما رأَى من تطويلِ مُحَمَّدِ بن الجهم وعجْز العُتبِي وسوءِ فهم القاسم بن
سَيَّار فقال له المأمون : أَسألُكَ عن حَرفين
فقط
خبِّرني : هل ندِم مُسيءٌ قَطّ على إساءته أو نكون نحنُ لم نندَمْ على شيءٍ كان
منّا قط قال : بل ندِم كثيرٌ من المسِيئينَ على إساءتهم قال : فَخَبِّرْنِي عن
النَّدَم على الإساءَة إساءَةٌ أو إحسان قال : إحسان قال : فالذي ندم هو الذي أساءَ أو غَيْرُهُ
قال : الذي نَدِم هو الذي أساءَ قال
: فأُري صاحبَ الخير هو صاحب الشَّرِّ وقد بطل قولكم :
إنّ الذي ينظر نَظَرَ الوعيد غيرُ الذي ينظر نَظَرَ الرحمة قال : فإني أزعم أنّ
الذي أساءَ غَيرُ الذي ندِم قال : فندم على شيءٍ كان منه أو على شيءٍ كان من غيره
فقطعه بمسألته ولم يتُبْ ولم يرجِعْ حتى مات وأصْلاَه اللّه نارَ جَهنَّمَ .
شعر في هجو الزنادقة وقد ذكر حمَّادُ عجردٍ ناساً في
هجائه لبشار فقال : ( لو كنت زنديقاً عمار حبوتني ** أو كنت أعبد غير رب محمد ) (
أو كابن حمادٍ ربيئة دينكم ** جبل وما جبل الغوى بمرشد ) ( لكنني وحدت ربي مخلصاً
** فجفوتني بغضاً لكل موحد )
وحبوت من
زعم السماء تكونت والأرض خالقها لها لم يمهد ( والنسيم مثل الزرع آن حصاده ** منه
الحصيد ومنه ما لم يحصد ) وحمّادٌ هذا أشهر بالزّنْدَقَةِ من عُمارَة بن حربية
الذي هجاه بهذه الأبيات . )
وأمَّا قوله : وَحَبَوْتَ مَنْ زَعَمَ السَّمَاءَ
تَكَوَّنَتْ فليس يقول أحدٌ : إنّ الفلكَ بما فيه من التّدْبير تكوَّنَ بنفسه
ومِنْ نفسه فَجَهْلُ حمّادٍ بهذا المقدارِ من مقالة القَوْم كأَنّهُ عندي ممّا
يعرفه من براءَته الساحة فإن كان قد أجابَهُمْ فإنما هو من مقلِّديهم .
وهجا حمّادُ بن الزِّبرقان حماداً الراوية فقال : ( نِعْمَ الفَتَى
لَوْ كَانَ يَعْرِفُ رَبَّهُ ** ويقيمُ وقْتَ صَلاَتِهِ حَمَّادُ ) ( هدَلَتْ
مَشَافرَهُ الدِّنَانُ فأَنْفُهُ ** مِثْلُ الْقَدُومِ يَسُنّها الحدّادُ ) (
وَابْيَضّ مِنْ شُرْبِ المُدَامَةِ وَجْهُهُ ** فبيَاضُه يوم الحسابِ سَوَادُ ) (
هدَلَتْ مَشَافِرَهُ الدنَانُ فأنفهُ ** مثلُ القدوم . . . ) فقد رأيتُ جماعةً
ممَّنْ يُعاقرُِون الشَّراب قد عظمت آنُفهُمْ وصارتْ لهم خراطيمُ منهُمْ رَوْحٌ ُ
الصّائغ وعبدُ الواحد صاحب اللؤلويّ
وجماعة من
نَدْمانِ حمّاد بن الصّباح وعبد اللّه أخو نهر ابن عسكر وناس كثيرٌ .
ويدلُّ على ذلك من المنافرَةِ قولُ جَرِيرٍ للأَخطل : (
وشَرِبتَ بعد أبي ظهير وابنه ** سكَرَ الدِّنَانِ كأَنَّ أَنْفكَ دُمّلُ ) وكان
منهم يُونس بن فروة وفي يونس يقول حمّادُ عجرد : ( أما ابن فروة يونسٌ فكأنه ** من
كبره أير الحمار القائم ) ( ما الناس عندك غير نفسك وجدها ** والخلق عندك ما خلاك
بهائم ) ( إن الذي أصبحت مفتوناً به ** سيزول عنك وأنف جارك راغم ) ( فتعض من ندمٍ
يديك على الذي ** فرطت فيه كما يعض النادم )
( فلقد رضيت بعصبةٍ آخيتهم ** وإخاهم لك بالمعرة لازم ) ( فعلمت حين جعلتهم لك دخلة ** أني لعرض في إخائك ظالم ) ذكر بعض الزنادقة وكان حمّادُ عجرد وَحَمَّاد الرّاوية وحمّادُ بن الزّبرقان ويونس بن هارون وعلي بن الخليل ويزيد بن الفيض وعُبادة وجميل بن محفوظ وقاسم ومطيع ووالبة بن الحباب وأبانُ بن عبد )
بن عبد الحميد وعمارة بن حربية يتواصلون وكأنهم نفس
واحدة وكان بشّارٌ ينكر عليهم .
ويونس الذي زعم حمادُ عجْردٍ أنّهُ قد غَرََّ نفسه
بهؤلاءِ كانَ أشهَرَ بهذا الرّأي منهم وقد كان كتبَ كتاباً لملك الرُّومِ في مثالب
العرب وعيوب الإسلام بزعمه .
هجاء في أبان والزنادقة وذكر أبو نواسٍ أبانَ بْنَ عبد
الحميد اللاّحقي وبعضَ هؤلاء ذِكْرَ إنسانٍ يَرَى لهم قَدْراً وخطراً في هجائيّةٍ
لأبان وهو قوله : ( جالست يوماً أباناً ** لادر در أبان ) ( ونحن حضر رواق ال ** أمير بالنهروان )
( حتى إذا ما صلاة الأ ** ولى أتت لأذان ) ( فقام ثم بها ذو ** فصاحةٍ وبيان ) ( فكل ما قال قلنا ** إلى انقضاء الأذان ) ( فقال كيف شهدتم ** بذا بغير عيان ) ( فقلت سبحان ربي ** فقال سبحان ماني ) ( فقلت عيسى رسولٌ ** فقال من شيطان ) ( فقلت موسى كليم ال ** مهيمن المنان )
( فقال ربك ذو مق ** لةٍ إذاً ولسان ) ( فنفسه خلقته ** أم من فقمت مكاني ) ( عن كافرٍ يتمرى ** بالكفر بالرحمن ) ( يريد أن يتسوى ** بالعصبة المجان ) ( بعجردس وعبادٍ ** والوالبي الهجان ) ( وقاسمٍ ومطيعس ** ريحانة الندمان ) وتَعَجُّبي من أبي نواس وقد كان جالسَ المتكلمين أشدُّ من تعجُّبي من حَمَّادٍ حين يَحكي عن قومٍ من هؤلاء قَولاً لا يقولهُ أحد وهذه قُرَّة عَينِ المهجُوّ والذي يقول : سبحانَ ماني يعظم أمر عيسى تعظيماً شديداً
فكيف يقول
: إنَّه من قِبَلِ شيطان .
وأما قوله : فنفسه خلقَتْه أم من فإنَّ هذه مسألةٌ
نجدُها ظاهرةً على ألْسُنِ العوامّ والمتكلمون لا )
يحكُون هذا عن أحد .
والعجب أنَّه يقول في أبان : إنَّه ممَّن يتشبه بعَجْرد
ومُطيعٍ ووالبةَ بن الحباب وعلي بن الخليل وأصبغ وأبان فَوقَ ملء الأرضِ مِنْ
هؤلاء ولقد كان أبان وهو سكرانُ أصحَّ عَقلاً من هؤلاء وهم صحاةٌ فأمَّا اعتقادُه
فَلاَ أدري ما أقول لك فيه : لأنَّ النَّاس لم يُؤْتَوْا في اعتقادهم الخطأَ
المكشوفَ من جهة النظر ولكنْ للِنَّاس تأسٍّ وعاداتٌ وتقليدٌ للآباء والكُبراء
ويعملون على الهوى وعلى ما يسبق إلى القلوب ويستثقلون التَّحصيلَ ويُهمِلون
النَّظَرَ حتى يصيروا في حالٍ متى عاودوه وأرادوه نظروا بأبصار كليلة وأذهان مدخُولة
ومع سوء عادَة والنّفسُ لا تجيبُ وهي مُسْتَكرَهةٌ وكان
يقال : العقلُ إذا أكرِه عَمِي ومتى عَمِي الطِّباعُ وجَسَا وغلط وأهمل حتَّى يألف الجهل لم يكد يفهم ما عليه وله فلهذا وأشباهه قاموا على الإلف والسَّابق إلى القلب . 4
شعر لحماد عجرد
وقال
حمَادُ عجْرَد : ( اعلَمُوا أَنَّ لوُدِّي ** ثمناً عندي ثَمينَا ) ( لَيْتَ شِعْرِي أَيَّ
حُكْمٍ ** قَدْ أراكُمْ تَحْكُمُونَا ) ( ابْنِ لُقْمَانَ بنَ عادٍ ** في اسْتِ
هذا الدِّينِ دينا ) وما رأيت أحداً وضع لقمانَ بنَ عاد في هذا الموضع غيرَه .
وقال حَمَّادُ عجردٍ في بشار : ( اعلموا أن لودي ** ثمناً عندي ثمينا
) ( ليت شعري أي حكمٍ ** قد أراكم تحكمونا ) ( أن تكونوا غير معطي ** ن وأنتم
تأخذونا ) ( ابن لقمان بن عادٍ **
في است هذا الدين دينا ) وما رأيت أحداص وضع لقمان بن
عاد في هذا الموضع غيره وقال حماد عجردٍ في بشار : ( يا ابن الخبيثة إن أم ** ك لم
تكن ذات اكتتام ) ( وتبدلت ثوبان ذا ال ** أير المضبر والعرام )
( ثوبان دقاق الأزز ** بأرواث حسام ) ( عرد كقائمة السر ** ير يبيلها عند الرطام ) ( وأتت سميعة بعدها ** بالمصمئلات العظام ) وقال حَمَّاد يذكر بشاراً : ( غزالة الرجسة أو بنتها ** سُمَيعة الناعية الفهرا ) وقال وذكر أمّه : ( أبَني غَزَالة يا بنِي جُشَمِ اسْتها ** ليَحقكُمْ أنْ تفرَحوا لا تَجزعُوا ) 4
حماد عجرد وبشار
وما كان ينبغي لبشَّارٍ أنْ يناظِرَ حماداً من جهة الشعرِ وما يتعلَّقُ
بالشِّعر
لأنَّ حمَّاداً في الحَضِيَض وَبشَّاراً مع العَيُّوق وليس في الأرض مولّد
قَرَوِيٌّ يُعَدُّ شعرُه في المحدث إلاّ وبَشَّارٌ أشعرُ منه .
شعر في هجو بعض الزنادقة وقال أبو الشمقمق في جميل بن
محفوظ : ( وهذا جميلٌ على بغله ** وَقَدْ كانَ يعدُو عَلَى رِجْلِهِ ) ( يَرْوحُ
ويغدو كأَيْرِ الحمارِ ** وَيرْجعُ صِفْراً إلى أهلِه ) ( وقدْ زَعموا أَنَّه
كافرٌ ** وأنَّ التَّزَنْدُقَ من شَكْلِهِ ) غلو أبي النواس في شعره وأمّا أبو
نُواسٍ فقد كان يتعرّضُ لِلْقَتْلِ بجهْدِه وقد كانوا يعجَبون من قوله : ( كيف لا
يُدْنيك مِنْ أمَلٍ ** مَنْ رسُولُ اللّهِ مِنْ نَفَرِه )
فلما قال
: ( فاحْبِبْ قُريشاً لحبّ أحَمدِهَا ** واشكُرْ لها الجَزْلَ مِنْ مواهبها ) جاء
بشيء غطَّى على الأوَّلِ .
وأنكروا عليه قولَه : لو أكثر التَّسْبيح ما نجَّاه
فلما قال
: ) ( يا أحْمَدَ الْمرْتَجَى في كُلِّ نائبةٍ ** قُمْ سَيِّدي نَعْصِ جَبَّارَ
السَّموَاتِ ) غَطّى هذا على الأوَّل وهذا البيت مع كفره مَقِيتٌ جداً وكان
يُكثِرُ في هذا الباب .
وأما سوى هذا الفنِّ فلم يعِرفُوا له من الخطإ إلاَ
قولّه : ( أَمستخبرَ الدّارِ هلْ تنطِقُ ** أنا مكان الدار لا أنطقُ ) ( كأنها إذْ
خَرِسَتْ جَارِمٌ ** بينَ ذَوي تَفْنِيدِهِ مُطْرِقُ ) فعابوه بذلك وقالوا : لا
يقول أحد : لقد سكت هذا الحَجَرُ كَأَنَّهُ
إنسانٌ
ساكت وإنما يُوصَف خَرَسُ الإنسانِ بخَرَسِ الدَّارِ ويشبَّهُ صممه بصمَمِ الصَّخر .
وعابوه بقوله حين وصف عَينَ الأسد بالجُحوظِ فقال : (
كأَنَّ عَيْنَهُ إذا التهبَتْ ** بارِزَةَ الجفْنِ عينُ مخنوقِ ) وَهُمْ يَصِفُونَ
عينَ الأسد بالغؤورِ قال الرَّاجز : كأنما يَنْظُرُ من جَوْفِ حَجَرْ وقال أبو
زُبَيد : ( كأَنَّ عَينيه في وَقْبَين من حَجَرٍ ** قِيضَا اقتياضاً بأطراف المناقير
) ومع هذا فإنَّا لا نعرف بَعْدَ بَشَّارٍ أشعَرَ منه .
وقال أبو زُبَيد : ( وَعَينانِ كالوَقْبين في ملء
صَخْرَةٍ ** ترى فيهما كالجَمْرَتَينِ تَسَعَّرُ ) قصة راهبين من الزَّنادقة
وحدَّثني أبو شُعيب القَلاَّلُ وهو صُِفْرِيٌّ قال : رُهبان ُالزَّنادقَةِ
سَيّاحون كأنهم جعلوا السِّياحَةَ بدلَ تعلقِ النَّسطوري
في
المطامير .
قال : ولا يَسِيحون إلا أَزواجاً ومتى رأيتَ منهم واحداً
فالتفتَّ رأيتَ صاحبَه والسِّياحة عندهم ألاَّ يبيت أَحَدُهم في منزل ليلتَين قال : ويسِيحون على
أربع خصال : على القُدْس والطّهر والصِّدق والمسكنَة فأمَّا المسكنة فأَنْ يأكلَ
من المسألة وممَّا طابت به أنفُسُ النَّاس له حَتَّى لا يأكلُ إلاَّ من كسْبِ غيره
الذي عليه غُرْمُهُ ومأثمه وأمَّا الطهر فترك الجِمَاعِ وأمّا الصِّدق فعلى ألاّ
يكذبَ وأما القُدْس فعلى أن يكتُمَ ذنبَه وإن سئل عنه .
قال : فدخل الأهوازَ منهم رجلان فمضى أحَدُهما نحو
المقابرِ للغائط وجلس الآخَرُ بقربِ
)
حانوتِ صائغٍ وخرجت امرأةٌ من بعض تلك القُصُور ومعها
حُقٌّ فيه أحْجارٌ نَفيسة فلما صَعِدَت من الطَّريق إلى دكان الصَّائغ زلقت فسقَطَ
الحقُّ من يدها وظَليمٌ لِبعضِ أهل تلك الدُّور يتردَّدُ فلما سقَطَ الحُقُّ
وبايَنَهُ الطّبََق تبدّدَ ما فيه مِنَ الأحْجار فالتَقَمَ
ذلك
الظَّليمُ أعظَمَ حَجرٍ فيه وَأَنْفَسهُ وذلك بِعَيْنِ السّائح ووثب الصّائغُ
وغلمانهُ فجمَعُوا تلك الأحْجَارَ وَنَحّوا النَّاسَ وصاحُوا بهم فلم يَدْنُ منهم
أحَدٌ وفقدوا ذلك الحجَر فصرخت المرأةُ فكشفَ القَوْمُ وتناحَوْا فلم يصيبوا
الحَجَرَ فقال بعضهم : واللّهِ ما كان بقربنا إلاّ هذا الرّاهبُ الجالسُ وما ينبغي
أن يكون إلاّ معه فسألوه عن الحجر فكِره أنْ يخبرَهم أنه في جوف الظليم فَيُذْبَحَ
الظليمُ فيكونَ قد شاركَ في دَم بعضِ الحيوان فقال ما أخذْتُ شيئاً وبحثُوه
وفَتّشُوا كلّ شيء معه وألحُّوا عليه بالضّرب وأقبل صاحِبُهُ وقال : اتَّقُوا
اللّهَ فأخذُوهُ وقالوا : دفعتَه إلى هذا حَتَّى غَيَّبَهُ فقال
: ما دفعتُ إليه شيئاً فضرَبوهما ليموتَا فبينما هما كذلك إذْ مَرَّ رَجُلٌ
يَعْقِلُ ففهم عنهُمُ القِصَّة ورأى ظَليماً يتردّدُ فقال لهم : أكان هذا الظليمُ
يتردَّد في الطريق حِينَ سقَطَ الحجر قالوا : نعمْ قال : فهو صاحبكم فعوَّضُوا
أصحابَ الظليم وذبحوه وشقُّوا عن قانصته فوجدوا الحجَر وقد نَقَصَ في ذلك المقدارِ
من الزَّمانِ شَبيهاً بِشَطْره إلاّ أنها أعطتْهُ لَوْناً صارَ الذي استفادُوه من
جهةِ اللَّوْنِ أربحَ لهم من وزْنِ ذلك الشَّطر أنْ لَوْ كانَ لم يَذْهَبْ .
ونارُ القانصةِ غيرُ نارِ الحجَر .
( القول في النِّيران وأقسامها ) ونحنُ ذاكرِون جُمَلاً من القَول في النِّيرانِ وأجناسها ومواضِعِها وأيَّ شيء منها يضافُ إلى العجَم وأيِّ شيء منها يضاف إلى العرَب ونُخبِرُ عن نيران الدِّيانات وغير الدِّيانات وعمَّن عظَّمها وعمَّن استهانَ بها وعمَّنْ أفرَطَ في تعظيمها حتَّى عَبَدَها ونُخبِرُ عن المواضعِ التي عُظّمَ فيها مِنْ شأن النَّار .
نار القربان
فمن مواضعها التي عُظِّمَتْ بها أنَّ اللّه عزَّ وجلّ جعلها لبني إسرائيلَ في موضعِ امتحان إخلاصهم وَتَعَرُّفِ صدق نياتهم فكانوا يتقرَّبون بالقرْبان فَمَنْ كانَ منهم مُخلِصاً نزلتْ نارٌ من قِبَلِ السّماء حَتَّى تُحيطَ به فتأكُلَهُ فإذا فَعَلَتْ ذلك كان صاحبُ القُرْبَان مُخْلِصاً في تَقَرُّبِه ومَتَى لَمْ يَرَوْهَا وَبَقِيَ القُرْبَانُ على حَاله قَضَوْا بأنَّه كانَ مدخولَ القلْب فاسِدَ النِّيةِ ولذلك قال اللّه تعالى في كتابه : الَّذينَ قَالوا إنَّ اللّه عَهِدَ إلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تأْكُلُه النّارُ قُلْ
قَدْ
جَاءكُمْ رُسُلٌ مَنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبالّذي قُلْتُمْ فَلِمَ
قَتلْتُمُوهُمْ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .
والدَّليل على أنّ ذلك قَدْ كَانَ معلوماً قولُ اللّه
عزّ وجلّ : قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِن قَبْلِي بالْبَيِّنَاتِ وَبالذِي قُلْتمْ
ثمَّ إنّ اللّه سَتَرَ على عبادِه وجعَلَ بيانَ ذلك في الآخرة وكان ذلك التّدبيرَ
مصلحةَ ذلك الزّمانِ ووفق طبائعهم وعللهم وقد كانَ القوم من المعاندةِ والغَباوة
على مقدارٍ لم يكنْ لينجع فيهم وَيَكمُلَ لمصلحتهم إلا ما كان في هذا الوزْن فهذا
بَابٌ من عِظَم شأنِ النَّار في صُدور النَّاس .
وممَّا زاد في تعظيم شأنِ النَّار في صدور النَّاس قولُ
اللّه عزَّ وجلَّ : وَهَلْ أَتَاكَ حَديثُ مُوسَى إذْ رَأَى نَاراً فَقَال
لأَهْلِهِ امْكُثوا إنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بقَبَسٍ أَوْ
أجِدُ عَلَى النَّار هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودي يَا مُوسَى إنِّي أنَا رَبُّكَ
فَاخْلَعْ نَعْليْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي المُقَدَّسِ طُوًى وقال عزّ وجلّ : إذْ قَالَ
مُوسَى لأَهْلِهِ إنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ
بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءَها نُوِديَ أنْ بُورِكَ
مَنْ في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللّه رَبِّ الْعالَمِينَ .
وكان ذلك مما زاد في قَدْرِ النّار في صدور النَّاس .
ومن ذلك نار إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم وقال اللّه عزّ
وجلّ : قَالُوا سَمِعْنَا فتًى يَذْكُرُهُمْ ) يُقَالُ لَهُ إبرَاهيمُ قَالوا
فَأْتُوا بِه عَلَى أَعْيُنِ النَّاس لَعَلَّهمْ يَشْهَدُونَ ثم قالَ : قَالوا
حَرِّقُوهُ وَاْنصُرُوا آلهَتكُمْ إنْ كُنْتُمْ فاَعِلينَ فلما قال اللّه عزّ وجلّ
: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إبْرَاهِيم كانَ
تنويه القرآن الكريم بشأن النار
وهو قوله
عزَّ وجلَّ : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإذَا أنْتُمْ
مِنْهُ تُوقِدُونَ .
والنَّار مِنْ أكْبَر الماعون وأعظَمِ المنافع المرافق
في هذه الدنيا على عباده ولو لم يكنْ فيها إلاّ أنَّ اللَّه عزّ وجلّ قد جَعَلهَا
الزاجرةَ عن المعاصي لكان ذلك ممّا يزيدُ في قَدْرِها وفي نَباهة ذِكْرها .
وقال تعالى : أَفَرَأَيْتمُ النّار الَّتي تُورُونَ
أأنتمْ أَنْشَأتمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنْشِئُونَ . ثم قال : نَحْنُ
جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ فقف عند قوله : نَحْنُ
جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتاعاً
فإنْ كنت
بهذا القول مؤمناً فتذكَّرْ ما فيها من النعمة أولاً ثم آخراً ثم توهَّمْ مقادير
النعم وتصاريفها .
وقد علمنا أَنَّ اللّه عذَّب الأممَ بالغَرقَ والرِّياحِ
وبالحاصِب والرُّجُمِ وبالصّواعق وبالخسْف والمسخ وبالجُوع وبالنقص من الثمرات ولم
يبعث عليهم نَاراً كما بعث عليهم ماءً وَريحاً وحجارة وإنما جعلها من عقاب الآخرة
وعذاب العُقبَى ونهى أن يُحرق بها شيء من الهوامّ وقال رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم : لا تُعَذِّبُوا بِعَذَاب اللّه فَقَدْ عَظَّمَهَا كما ترى .
فتفهَّمْ رَحِمَك الله فقد أرادَ اللّهُ إفهَامك .
وقال اللّه تعالى لِلثَّقَلَيْنِ : يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا
شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فلاَ تَنْتَصِرَانِ فَبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا
تُكَذِّبَانِ فجعل الشُّواظ والنُّحَاسَ وهما النّارُ وَالدُّخانُ من الآية ولذلك
قال على نَسَق الكلام : فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ولم يَعْنِ أن
التّعْذيبَ بالنّار نعمةٌ يومَ القيامة ولكِنه أرادَ التّحذيرَ بالخوفِ والوَعِيدِ
بها غيرَ إدخالِ النَّاس فيها وإحراقهم بها .
شعر في بعض النبات وقال المرَّار بن منقذ : ( وكأَنَّ
أرحُلنا بجوٍّ مُحْصِبٍ ** بِلِوَى عُنَيزةَ مِنْ مَقيلِ التُّرمُسِ ) ( في حيثُ خالطت
الخزامى عَرْفَجاً ** يأتيك قابسُ أهْلهَا لم يُقْبَسِ ) أراد خصْبَ الوادي
ورطوبَتَهُ وإذا كان كذلك لم تَقْدَح عيدانُهُ فإنْ دَخَلها مستقبسٌ لم يُوِر
ناراً وقال كُثَيِّر : ) ( له حسبٌ في الحيِّ وارِ زِنَادُهُ ** عَفَارُ وَمَرْخٌ حَثَّهُ الوَرْيُ
عاجلُ )
والعَفار
والمَرْخ من بين جميع العِيدان التي تُقْدَحُ أَكثَرُها في ذلك وأسرعُها .
قال : ومن أمثالهم : في كُلِّ الشَّجَرِ نارٌ واستمجَدَ
المَرْخُ والعَفار .
ونارٌ أخرى وهي النّار التي كانوا يَسْتَمْطِرُونَ بها
في الجاهليَّةِ الأولى فإنهم كانوا إذا تتابعت عليهم الأزَمَات ورَكَدَ عليهم
البلاءُ واشتدّ الجَدْب واحتاجوا إلى الاستِمْطار استجمعوا وَجَمعُوا ما قَدَرُوا
عليه من البَقَر ثم عقَدُوا في أذنَابها وبينَ عَراقِيبها السَّلَعَ والعُشَر ثمَّ
صعدوا بها في جبلٍ وعْرٍ وأشعَلُوا فيها النِّيرانَ وضجُّوا بالدُّعاء والتضرُّع
فكانوا يَرَوََْن أنّ ذلك من أسبابِ الشُّقيا ولذلك قال أُمَيَّةُ : ( سنةٌ أزمةٌ
تخيل بالنا ** س ترى للعضاه فيها صريرا
)
( إذ يسفون بالدقيق وكانوا ** قبل لا يأكلون شيئاً فطيرا ) ( ويسوقون باقراً يطرد السه ** ل مهازيل خشيةً أن يبورا ) ( عاقدين النيران في شكر الأذ ** ناب عمداً كيما تهيج البحورا ) ( فاشتوت كلها فهاج عليهم ** ثم هاجت إلى صبيرٍ صبيرا ) ( فرآها الإله ترشم بالقط ** ر وأمسى جنابهم ممطور ) ( فسقاها نشاصه واكف الغي ** ث منه إذ رادعوه الكبيرا ) ( سلعٌ ما ومثله عشرٌ ما ** عائلٌ ما وعالت البنقورا )
هكذا كان الأصمعيُّ ينشِدُ هذه الكلمة فقال له علماءُ بَغدادَ : صحفْتَ إنما هي البيقور وأنشد القحذمي للوَرَلِ الطائيّ : ( لا دَرّ درُّ رِجَالٍ خاب سَعْيُهُمُ ** يَسْتمْطِرونَ لَدَى الأَزْمَاتِ بالعُشَرِ ) ( أجاعلٌ أنتَ بيْقُوراً مُسَلَّعَةً ** ذَريعةً لك بين اللّهِ والمَطَرِ )
استطراد لغوي قال : ويقال بقر وبَقِير وبَيقور وباقر ويقال للجماعة منها قطيع وإجْل وكَوْر وأنشد : ( فسكَّنتهم بالقَولِ حتى كأنَّهم ** بواقِرُ جُلْحٌ أسكنَتها المراتعُ ) وأنشد : ( ولا شَبُوبٌ مِنَ الثيران أفْرَدَهُ ** عَنْ كَوْرهِ كَثْرَةُ الإغْراء والطَّرَدُ )
نار التحالف والحلف
ونار أخرى
هي التي توقَدُ عند التَّحالُف فلا يعقِدُونَ حِلفهُمْ إلاَّ عندَها فيذكرون عند
ذلك منافعها ويَدْعُونَ إلى اللّه عزَّ وجلَّ بالحرمان والمنع من منافعها على الذي
يَنْقُضُ عَهْدَ الحِلف ويَخيس بالعهد .
ويقولون في الحلف : الدَّمُ الدَّمُ والهدَمُ الهدَمُ
يحرِّكون الدّالَ في هذا الموضع لا يزيده طلوعُ الشمس إلا شَدًّا وطولُ اللَّيالي
إلاَّ مَدّاً ما بلَّ البحر صوفة وما أقام رضوى في مكانه إن كان جبلهم رَضْوَى .
وكلُّ قومٍ يذكرون جبلهم والمشهورَ من جبالهم . وَربّما
دَنَوْا منها حتى تكاد تحرقهم ويهوِّلون على من يُخافُ عليه الغَدْرُ بحقوقها
ومنافعها والتَّخويفِ مِنْ حِرْمانِ منفعتها وقال الكُمَيت : ( كهُولةِ ما أوقد
المحلفُو ** ن للحالِفينِ وما هَوّلوا ) وأصل الحِلْف والتَّحالف إنما هو من
الحَلِفِ والأيمان ولقد تحالفت قبائلُ من قبائل مُرَّةَ بنِ عَوف فتحالفوا عندَ
نارٍ فَدَنَوْا منها وعشُوا بها حَتَّى مَحَشَتهم فَسُمُّوا : المحاشَ .
وكان سيدَهم والمطاعَ فيهم أبو ضمرة يزيد بن سنان بن أبي
حارثة ولذلك يقول النَّابغة : ( جَمِّعْ محَاشَكَ يا يزيدُ فإنَّني ** جَمَّعْتُ
يرْبُوعاً لكم وتميما )
( ولحِقتُ بالنَّسَبِ الذي
عَيّرتَني ** وتركْتَ أصلاً يا يزيدُ ذَميما ) وقوله : تميم يريد : تميمة فحذف
الهاء .
التحالف والتعاقد على الملح وربّما تحالفوا وتعاقدوا على
الملح والملحُ شيئان : أحدهما المرَقة والأخرى اللَّبَن وأنشدوا لشُتيم بن خُويلدٍ
الفَزاريّ : ( لا يبعد اللّهُ رَبُّ العباد ** والمِلْحُ ما وَلدَت خَالدَهْ )
وأنشدوا فيه قول أبي الطَّمَحَانِ : ( وإني لأَرْجُو مِلْحَهَا في بطونِكم ** وما بَسَطتْ مِنْ جِلْدِ أشْعَثَ أَغْبَرَا ) وذلك أَنَّهُ كان جاورهم فكان يَسقيهم اللَّبن فقال : أرجو أن تشكروا لي رَدَّ إبِلي عَلَى ما ) شَربتم من ألبانها وما بَسَطَتْ من جِلْدِ أَشْعَثَ أغبر كأنَّهُ يقول : كنتم مهازيل والمهزولَ يتقشَّف جِلْدُهُ وينقبض فَبَسَطَ ذلك من جُلودِكم .
نار المسافر
ونار أخرى وهي النّار التي كانوا ربَّما أوقدوها خَلْفَ المسافر
وَخَلفَ الزَّائرِ الذي لا يحبُّونَ رُجُوعَه وكانوا يقولون في الدُّعاءِ : أبعده اللّه وأسحقه وَأَوْقَدَ نَاراً خلفَه وفي إثره وهو معنى قولِ بشار وضرَبَهُ مثلاً : ( صَحوتَ وأوقَدْتَ للجهل نَارَا ** وردَّ عليك الصِّبَا ما اسْتَعارا ) ( وجَمَّةِ أقوامٍ حَمَلْتَ ولم تكنْ ** لتوقِدَ نَاراً إثرهم للتندُّمِ ) والجَمَّة : الجَمَاعة يمشون في الصلح وقال الراجز في إبله : تقسَمُ في الحقِّ وَتُعْطَى في الجُمَمْ يقول : لا تندم على ما أعطيت في الحمالة عند كلام الجَماعة فتوقد خلفهم ناراً كي لا يعودوا
نار الحرب
ونار أخرى وهي النَّار التي كانوا إذا أرادوا حرْباً وتوقَّعُوا جيشاً عظيماً وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلاً على جبلهم نَاراً ليبلغ الخبرُ أصحابَهم .
وقد قال عمرُو بنُ كلثومٍ : ( ونحنُ غَدَاةَ أُوقِدَ في
خَزَازٍ ** رَفَدْنَا فَوْقَ رَِفْدِ الرَّافدينَا ) وإذا جَدُّوا في جَمْعِِ
عشائرهم إليهم أوْقَدْوا نَارَيْنِ وهو قول الفرزدق : ( لولا فوارِسُ تَغْلِبَ
ابنَةِ وائِلٍ ** سَدّ العدوُّ عليكَ كلَّ مكانِ ) ( ضربُوا الصَّنائِع والملوكَ
وَأوقَدوا ** نارَينَ أشرفَتَا على النِّيرانِ )
( نار الحرَّتين ) ونار أخرى وهي نار الحرّتين وهي نار خالد بن سنان أحد بني مخزوم من بني قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْس ولم يكن في بني إسماعيل نبيٌّ قبلَهُ وهو الذي أطفأ اللّه به نار الحَرَّتَينِ وكانت ببلاد بني عبس فإذا كان اللَّيلُ فهي نارٌ تسطَعُ في السَّماء وكانت طيِّئٌ تُنْفِشُ بها إبلها من مسيرةِ ثلاث وربّما ندَرَتْ منها العُنُق فتأتي على كلِّ شيء فتحرقُه وإذا كان النهارُ فإنما هي دخانٌ يفور فبعث اللّه خالدَ بنَ سنانٍ
فاحتفَرَ
لها بئراً ثمّ أدخلها فيها والنَّاس ينظرون ثمّ اقتحم فيها حتى غيَّبها وسمع بعض
القوم وهو يقول : هَلَكَ الرَّجُلُ فقال خالدُ بن سنِانٍ : كذب ابنُ راعية المعز لأخرجنَّ منها
وجبيني يَنْدَى فلمَّا حضَرَتْهُ الوفاة قال لقومه : إذا أنا متُّ ثمَّ دفنتموني
فاحضُروني بعدَ ثلاثٍ فإنَّكم تَرَوْنَ عَيراً أَبتَرَ يطوفُ بقبري فإذا رأيتم ذلك
فانبشوني فإني أخبرُكم بما هو كائن إلى يوم القيامة فاجتمعوا لذلك في اليوم الثالث
فلما رأوا العَيْرَ وذهبوا ينبشونه اختلفوا فصاروا فرقتين وابنُه عبد اللّه في
الفِرقة التي أَبَتْ أن تنبشه وهو يقول : لا أفْعَلُ إني إذاً أُدْعَى ابنَ
المنبوش فتركوه .
وقد قدِمَتْ ابنَتُهُ على النبيّ صلى الله عليه وسلم
فَبَسطَ لها ردِاءهُ وقال : هذه ابنةُ نَبِيٍّ ضيَّعهُ قومُهُ .
قال : وسَمِعتْ سورَةَ : قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ فقالت
: قدكان أبي يتلو هذه السورة .
نبوة خالد
بن سنان
والمتكلّمون لا يؤمنون بهذا ويزعمون أنَّ خالداً هذا كان
أعرابيّاً وبَرِيّاً من أهل شَرْجٍ ونَاظِرَة ولم يبعث اللّه نبيًّا قطُّ من
الأعرابِ ولا من الفدَّادِينَ أهلِ الوَبَرِ وإنما بعثهم من أهل القرَى وسُكَّانِ
المُدُنِ .
وقال خُلَيْدُ عَيْنَيْن : ( وأي نبيٍّ كانَ في غير
قَوْمِهِ ** وَهَلْ كانَ حُكْمُ اللّهِ إلاّ مَع النَّخْلِ ) وأنشدُوا : ( كَنَارِ
الحرَّتَينِ لها زفيرٌ ** يُصِمُّ مَسَامِعَ الرَّجُلَ السّمِيعِ )
عبادة النار وتعظيمها
وما زالَ النَّاسُ كافَّةً والأممُ قاطبةً حتى جَاءَ اللّه بالحقّ مُولَعين بتعظيم النَّار حتى ضلَّ كثيرٌ من النَّاس لإفراطهم فيها أنهم يعبدونها .
فأما النار العُلويَّة كالشمس والكواكب فقد عُبدت
البتَّة قال اللّه تعالى : وَجَدتُها وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ للِشَّمْسِ مِنْ
دُونِ اللّه .
وقد يجيء في الأثرِ وفي سُنَّةِ بعض الأنبياء تعظيمها
على جهة التعبُّد والمحنة وعلى إيجاب ويزعم أهلُ الكِتاب أنَّ اللّه تعالى
أوصاهُمْ بها وقال : لا تُطفئوا النِّيران مِنْ بُيوتي فلذلك لا تجد الكنائس
والبيَع وبيوت العبادات إلاَّ وهي لا تخلو من نارٍ أبداً ليلاً ولا نهاراً حتَّى
اتَّخذت للنِّيرانِ البُيُوتَ وَالسَّدَنَةَ ووقَفُوا عليها الغَلاَّتِ الكثيرة .
إطفاء نيران المجوس أبو الحسن عن مسلمة وقحدم أنَّ
زياداً بعث عَبد اللّه بنَ أبي بَكرة وأمرهُ أن يطفئ النيران فأراد عبد اللّّه أنْ
يَبْدَأَ بنارِ
جُور
فيطفِئَها فقيل له : ليست للمجوس نَارٌ أعْظََمُ من نار الكارِيانِ من دار الحارث
فإن أطفأتها لم يمتنع عََليْكَ أحدٌ وإنْ أطفأت سافِلَتَهَا استعدُّوا للحَرْب
وامتَنَعُوا فابْدَأ بها فخرجَ إلى الكاريان فتحصَّنَ أهلُها في القَلعة وكان
رَجُلٌ من الفرس من أهل تلك البلاد معروف بالشدّة لا يقدِرُ عليه أحد وكان يمرُّ
كلّ عشيَّةٍ ببابِ منزله استخفافاً وإذلالاً بنفسه فغمَّ ذلك عبدَ اللّه فقال :
أما لِهذا أحدٌ وكان معَ عبد اللّه بن أبي بكْرة رجلٌ من عبد القيس مِنْ أشدِّ
النَّاس بطشاً وكان َجباناً فقالوا له : هذا العبدي هو شديدٌ جَبان وإن أَمَرْتَهُ
به خافَ القتالَ فلم يَعْرِضْ له فاحتل له حيلةً فقال : نعم .
قال : فبينا هو في مجلسه إذْ مرَّ الفارسِيُّ فقال عبد
اللّه : مارأيتُ مِثلَ خلْقِ هذا وما في الأرض كما زعموا أشدُّ منه بطشاً ما يقوى
عليه أحد
فقال العبدي : ما تجعلون لي إن احتملتُه حتَّى أدْخِلَه الدَّارَ وأكْتِفَهُ فقال
له عبد اللّه : لك أربعةُ آلافِ درهم فقال : تَفُونَ لي بألفٍ قال : نَعَمْ فلمّا
كان الغُد مرَّ الفارسيُّ فقام إليه العبديُّ فاحتمله فيما امتَنَع ولا قَدَرَ أن
يتحرّك حتَّى أدخَله الدَّار وَضربَ به الأرض ووثَبَ عليه النَّاسُ فقتلوه وغُشِيَ
على العبدي حين قتلوه فلما قُتِلَ أعْطَى أهلُ القلعةَ بأيديهم فقتل ابنُ أبي
بَكْرةَ الهرابذةَ وأطفأ النَّارَ ومضى يُطفئُ النِّيرانَ حتَّى بَلَغَ سِجِسْتَان . )
تعظيم المجوس للنار والمجوسُ تقدّم النّارَ في التَّعظيم
على الماء وتقدِّم الماءَ في التَّعظيم على الأرض ولا تكاد تذكر الهواء .
نار السعالي والجن والغيلان
ونار أخرى التي يحكونها من نيران السَّعالِي والجنِّ وهي غَيرُ نار الغِيلان وأنشد أبو زيد لسَهم بن الحارث :
( وَنَارٍ قد حضأتُ بُعيْد هُدءٍ ** بدارٍ لا أريدُ بها مُقامَا ) ( سوَى تحليلِ رَاحلةٍ وعَيْنٍ ** أكالئُها مخافَة أنْ تَنَامَا ) ( فقلت : إلى الطّعامِ فقال منهم ** زَعيمٌ : نحسُدُ الإنْسَ الطعامَا ) وهذا غلط وليس من هذا الباب وسنضعه في موضعه إن شاء اللّه تعالى بل الذي يقع ههنا قول أبي المطراب عُبيدِ بنِ أيُّوبَ :
( فَللّه درُّ الغُول أيُّ رَفيقةٍ ** لصاحِب قفرٍ خائفٍ متقفِّرِ ) ( أرَنّتْ بِلَحْنٍ بَعْدَ لْحنٍ وأوقَدَت ** حَوَالَيَّ نِيرَاناً تبوخُ وَتَزْهَرُ )
نار الاحتيال
وما زالت
السَّدَنَة تحتالُ للنَّاس جهةَ النِّيران بأنواع الحيل كاحتيال رُهبانِ كَنيسةِ
القُمامةَ ببيت المقدس بمصابيحها وأنَّ زَيْتَ قناديلها يَسْتَوْقِدُ لهم من غير
نَارٍ في بعض ليالي أعيادِهم .
قال : وبمثل احتيال السَّادنِ لخالد بن الوليد حين رماه
بالشَّرَر
ليوهمه أنَّ ذلك من الأوثان أو عقوبةٌ على ترك عبادتها وإنكارها والتعرُّض لها حتى قال : ( يا عُزُّ كُفْرَانَكِ لا سُبْحَانَكِ ** إنِّي وَجَدْتُ اللّهَ قد أهَانَكِْ ) حتى كشف اللّه ذلك الغطاءَ من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم .
نار الصيد والبيض
ونار أخرى
وهي النَّار التي تُوقدُ للظباء وصيدها لتعشى إذا أدامت النَّظر وتُخْتَل من
ورائها ويطلب بها بيض النعام في أفاحيصها ومكناتها .
ولذلك قال طُفيلٌ الغنوي : ( عوازب لم تسمع نُبُوحَ مَقامَةٍ **
وَلَمْ تَرَ نَاراً تِمَّ حَوْلٍ مُجَرَّمِ ) ( سِوى نَار بَيْض أو غَزَالٍ
بقَفرَة ** أغنَّ مِنَ الخُنْسِ المَناخِرِ تَوْأَمِ )
وقد
يُوقدون النِّيران يُهَوِّلون بها على الأُسْد إذا خافوها والأسَدُ إذا عايَنَ
النَّار حدقَ إليها وتأمَّلها فما أكْثَرَ ما تَشْغلهُ عن السَابلة .
قصة أبي ثعلب الأعرج وَمرَّ أَبُو ثعلب الأعرج على وادي
السّباع فَعَرََض له سبع فقال لَهُ المُكارِي : لو أمرت غِلمانَكَ فأوْقدوا ناراً
وضَربوا على الطَّساس الذي معهم ففعلوا فأحْجَمَ عنها فأنشدني لهُ ابن أبي كريمة
في حُبّه بعد ذلك للنّار وَمَدْحِهِ لها وللصوتِ الشَّديد بَعد بُغْضِه لهمَا وهو
قوله : ( فأحْبَبْتها حُباً هويتُ خِلاَطَهَا ** ولو في صَميمِ النَّار نَار
جَهنَّمِ ) ( وصِرْتُ أَلذُّ الصَّوتَ لو كان صاعِقاً ** وأطْربُ من صَوْت الحمار
المرقَّم ) وروي أنَّ أعرابيَّاً اشتدَّ عليه البردُ فأصاب ناراً فدنا منها ليصطلي
بها وهو يقول : اللّهم لا
حيرة الضفدع عند رؤية النار وممّا إذا أبصر النّار اعترَتْهُ الحيرةُ الضّفدعُ فإنَّهُ لا يزالُ يَنِقُّ فإذا أبْصَر النّار سَكَتَ .
نار الحباحب
ومن النِّيران نار الحُباحِب وهي أيضاً نارُ أبي الحباحب وقال أبو حَيّة : ( يُعَشِّرْ في تقريبهِ فإذا انحنى ** عليهنّ في قفٍّ أَرَنَّتْ جنادِلُهْ ) ( وَأوْقَدْنَ نيرانَ الحباحب والتقى ** غَضاً تتراقى بينهنَّ ولاوِلُهْ ) وقال القُطاميُّ في نار أبي الحُباحب : ( تُخَوِّدُ تخْويدَ النّعامةِ بَعْدَما ** تَصَوَّبَتِ الجَوْزَاءُ قَصْدَ المغَارِبِ )
( ألا إنما نِيرَانُ قيْسٍ إذا اشْتوت ** لطارقِ ليْلٍ مثلُ نارِ الحباحبِ ) ويصفون ناراً أخرى وهي قريبةٌ من نار أبي الحباحب وكلُّ نار تراها العينُ ولا حقيقة لها عند التماسها فهي نار أبي الحباحب ولم أسمعْ في أبي حباحب نفسِهِ شيئاً .
نار البرق
وقال الأعرابيُّ وذَكَرَ البرْق :
يقول : كلُّ نار في الدُّنيا فهي تحرِقِ العِيدانَ وتُبْطلها وتُهلكها إلاَّ نار البرق فإنَّها تجيء بالغيث وإذا غِيثَتِ الأرضُ ومُطِرَتْ أحدَثَ اللَّه للِعى دَانِ جِدَّةً وللأَشْجارِ أغصاناً لم تكن .
نار اليراعة
ونارٌ
أخرى وهي شبيهةٌ بنار البرق ونار أبي حباحب وهي نار اليراعة واليراعة : طائر صغير
إنْ طار بالنَّهار كان كبعض الطَّير وإن طار باللَّيل كان كأنَّهُ شهابٌ قُذِفَ أو
مصباحٌ يطير .
الدفء برؤية النار وفي الأحاديث السَّائرة المذكورة في
الكتب أنَّ رَجُلاً أُلقيَ في ماء راكِدٍ في شتاء بارد في ليلةٍ من الحنادِس لا
قمر ولا ساهور وإنما ذكر ذلك لأنَّ ليلة العَشْر والبدر والطَّوق الذي يستدير حول
القمر يكون كاسِراً من بَرْد تلك الليلة قالوا : فما زال الرجُل حيّاً
وهو في
ذلك تَارِزٌ جامِد ما دام ينظر إلى نَارٍ كانت تُجاهَ وجهه في القرية أو مصباحٍ
فلما طَفئتْ انْتَفَضَ . ( نار الخلعاء والهُرَّاب ) وقال الشَّاعر : يقول : بادرت اللَّيل
لأنَّ النَّارَ لا تُرى بالنهار كأنه كان خليعاً أو مطلوباً .
وقال آخر : ( وَدَوِّيّةٍ لا يثقب النَّار سَفْرُهَا **
وَتُضْحِي بها الوَجْناءَ وَهْيَ لَهيدُ ) كأَنَّهم كانوا هُرّاباً فمِنْ حثهم
السّيرَ لا يُوقدون لبُرْمَةٍ ولا مَلَّة
لأنّ ذلك لا يكون إلاّ بالنزول والتمكثِ وإنما يجتازون بالبَسيسَةِ أو بأدنى عُلقة وقال بعض اللُّصوص : ( ملساً بذَوْدِ الحدَسِيّ مَلْسَا ** نبَّهْتُ عنهن غلاماً غُسَّا ) ( لمَّا تَغَشَّى فَرْوَةً وَحِلْسا ** مِنْ غُدْوَةٍ حتَّى كأنّ الشّمسَا ) ( بالأفُق الغربيِّ تكْسَى وَرْسَا ** لا تخبزا خَبْزاً وَبُسّا بَسّا )
( ولا تُطيلا بمُناخٍ حَبْسَا ** وَجَنِّباها أسَداً وَعَبْسا ) قال : والبَسيسة : أن يبلّ الدَّقيق بشيء حتى يجتمع ويؤكل . ( نار الوشْم ) ونار أخرى وهي
نار الوشم
ِ
والمِيسَمِ يقال للرجل : ما نار إبلِك فيقول : عِلاط أو خِبَاط أو حَلْقة أو كذا
وكذا .
وقرّب بعضُ اللُّصوص إبلاً من الهُواشة وقد أغار عليها
من كلِّ
جانب وجَمعها من قبائلَ شتى فقرّبها إلى بعض الأسواق فقال له بعض التّجار : ما نارك وإنما يسأله عن ذلك لأنهم يعرفون بميسم كل قومٍ كرََمَ إبلهِمْ من لؤمها فقال : ( تَسْألُني البَاعَةُ ما نِجَارُها ** إذْ زعزعُوها فَسَمَتْ أبصارُها ) ( فكلُّ دارٍ لأناسٍ دَارُها ** وكلُّ نَارِ العَالمينَ نارها ) وقال الكردوس المرادي : ( تسائلني عن نارها وَنِتَاجها ** وذلك عِلْمٌ لا يُحيط به الطّمْشُ ) والطّمْشُ : الخلقُ وَالوَرَى : النَّاس خاصّة .
الجزء الخامس
( بِسم اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ )
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
نبدأ في
هذا الجزءِ بتمام القول في نيران العربِ والعجَمِ ونيرانِ الدِّيانة ومبلغِ
أقدارِها عند أهلِ كلِّ مِلَّةٍ وما يكون منها مَفْخَراً وما يكونُ منها مذموماً
وما يكون صاحبها بذلك مهجوراً .
ونبدأ بالإخبار عنها وبدئها وعن نفس جوهرها وكيفَ القولُ
في كُمونها وظهورها إن كانت النارُ قد كانت موجودةَ العينِ قبلَ ظهورها وعن كونها
على المجاورة كان ذلك أم على المداخَلة وفي حدوث عَينها إن كانت غيرَ كامنة وفي
إحالة الهواء لها والعودِ جَمْراً إن كانت الاستحالةُ جائزة وكانت الحجّة في تثبيت
الأعراض صحيحة وكيف
القولُ في الضِّرام الذي يظْهر من الشجر وفي الشَّرَر الذي يظهر من الحجَر وما القولُ في لون النار في حقيقتها وهل يختلفُ الشَّرَار في طبائعها أم لا اختلافَ بين جميعِ جواهرها أم يكون اختلافها على قدْر اختلافِ مخارجِها ومَداخلها وعلى قدر اختلافِ ما لاقاها وهَيّجها
قول النظام في النار
ونبدأ
باسم اللّه وتأييده بقول أبي إسحاق .
قال أبو إسحاق : الناس اسمُ للحَرِّ والضِّياء فإذا
قالوا : أحْرَقَتْ أو سخّنَتْ فإنما الإحراقُ والتسخينُ لأحدِ هذين الجنسين
المتداخِلين وهو الحرُّ دون الضياء
.
وزعمَ أن الحرَّ جوهَر صعَّادٌ وإنما اختلفا ولم يكن
اتِّفاقهما على الصعود موافقاً بين جواهرهما لأنهما متى صارا من العالَم العُلويِّ
إلى مكانٍ صار أحدهما فوقَ صاحبِه
.
وكان يجزِم القولَ ويُبْرِم الحُكم بأنّ الضياءَ هو الذي
يَعْلو إذا انفردَ ولا يُعْلَى
.
قال : ونحنُ إنما صِرْنا إذا أطفأنا نارَ الأتُّون
وجَدْنا أرضه وهواهُ وحيطانه حارّة ولم نجدْها مضيئة لأن في الأرض وفي الماء الذي
قد لابسَ الأرض حَرّا كثيراً وتداخلاً مُتشابِكاً وليس فيهما ضياء وقَدْ كانَ
حَرُّ النارِ هَيَّجَ تِلْكَ الحَرَارَةَ فَأَظْهَرَهَا ولَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
ضِياءٌ من مُلاَبِس فَهَيَّجهُ الضياءُ وأظهره كما اتصل الحرُّ بالحرِّ فأزاله من
موضعهِ وأَبرزهُ من مكانه فلذلك وجدْنا أرضَ الأتُّون وحيطانها وهواها حارَّةً ولم
نجِدْها مضيئة .
وزعم أبو إسحاقَ أنَّ الدليل على أن في الحجر والعود
ناراً مع اختلاف الجهات أنه يلزَمُ من
)
ومن قال ذلك لزِمهُ أنْ يقولَ : أنْ ليس في الإنسان دَم
وأنَّ الدَّمَ
إنّما
تَخَلَّقَ عند البطّ وكان ليس بين مَن أنكرَ أن يكون الصَّبِرُ مرّ الجوهر والعسلُ
حُلْوَ الجوهر قبل ألاّ يذاقا وبين السمسمِ والزيتون قبلَ أن يُعصرا فَرْق .
وإنْ زَعَم الزاعم أنّ الحلاوة والمرارةَ عَرَضانِ
والزيتَ والخلّ جوهر وإذا لزم مَنْ قال ذلك في حلاوة العسل وحموضة الخلِّ وهما
طعمان لزمه مثلُ ذلك في ألوانهما فيزعم أنَّ سوادَ السَّبَج وبياضَ
الثلجِ
وحُمْرَةَ العُصْفُر وصُفرة الذهب وخُضْرَةَ البقْل إنما تحدُث عندَ رؤية الإنسان
وإن كانت المعاينةُ والمقابلة غيرَ عاملتين في تلك الجواهر .
قال : فإذا قاسَ ذلك المتكلِّم في لَوْنِ الجسم بعد طعمه
وفي طوله وعرضه وصورته بعد رائحته وفي خفتِه وثقل وزنه كما قاس في رخاوته وصلابته
فقد دخل في باب الجهالات ولِحق بالذين زعموا أن القِرْبة ليس فيها ماء وإنْ وجدوها
باللمس ثقيلة مزكورة وإنما تخلَّق عند حلِّ رِباطها وكذلك فليقولوا في الشمسِ
والقمرِ والكواكب والجبال إذا غابتْ عن أبصارهم .
قال : فمن هرب عن الانقطاع إلى الجهالات كان الذي هرب
إليه أشدَّ عليه .
وكان يضرِبُ لهما مثلاً ذكرته لِظَرَافته : حُكِيَ عن
رجل أحدبَ سقطَ في بئر فاستوت حدَبتُهُ وحَدَثَتْ له أُدْرَةٌ في خُصيته فهَنَّاه
رد النظام على ضرار في إنكار الكمون وكان أبو إسحاق
يزعُم أن ضِرَارَ بنَ عَمرو قد جَمعَ في إنكاره القولَ بالكُمُونِ الكفرَ
والمعاندةَ لأنه كان يزعُمُ أن التوحيدَ لا يصحُّ إلا مع إنكار الكمون وأن القولَ
بالكمون لا يصحُّ إلا بأنْ يكون في الإنسان دمٌ وإنما هو شيءٌ تَخَلَّق عند
الرُّؤية .
قال : وهو قد كان يعلمُ يقيناً أنَّ جوفَ الإنسانِ لا
يخلو من دم .
قال : ومن زعَمَ أن شيئاً من الحيوان يعيشُ بغير الدمِ
أو شيءٍ
يشبهُ
الدمَ فواجبٌ عليه أن يقول بإنكار الطبائع ويدفع الحقائقَ بقول جَهْم في تسخين
النار وتبريد الثلج وفي الإدراك والحسِّ والغذاء والسُّمِّ وذلك بابٌ آخر في
الجهالات .
ومن زعم أن التوحيدَ لا يصلحُ إلا بألاّ يكون في الإنسان
دم وإلا بأن تكونَ النارُ لا توجب الإحراق والبصرُ الصحيحُ لا يوجبُ الإدراك فقد
دَلّ عَلى أنه في غاية النقص والغباوة أو في غاية التكذيب والمعاندة .
وقال أبو إسحاق : وجدنا الحطب عند انحلال أجزائه وتفرُّق
أركانِهِ التي بُني عليها ومجموعاته التي رُكّبَ منها وهي أربع : نارٌ ودخان
وماءٌ ورَمَاد ووجدنا للنار حرّاً وضياءً ووجدنا للماء صوتاً ووجدنا للِدُّخان
طعماً ولوناً ورائحة ووجدنا للرَّمَادِ طعماً ولوناً ويُبْساً ووجدنا
ووجدنا
الحطب رُكِّبَ على ما وصفنا فَزَعمنا أنه رُكِّب من المُزْدَوِجَاتِ ولم يُرَكَّبْ
من المفردات .
قال أبو إسحاق : فإذا كان المتكلمُ لا يعرف القياسَ
ويُعطيه حقه فرأى أنَّ العُود حين احتكَّ بالعودِ أحدث النار فإنه يلزَمُه في
الدخان مثلُ ذلك ويَلزَمُه في الماء السائل مثلُ ذلك وإنْ قاس قال في الرّماد مثلَ
قوله في الدخان والماء وإلا فهو إما جاهلٌ وإمّا متحكم .
وإن زَعَمَ أنه إنما أنكرَ أنْ تكون النارُ كانت في
العودِ لأنه وَجَدَ النارَ أعظم من العود ولا يجوز أن يكون الكبيرُ في الصغير
وكذلك الدخان فليَزْعُمْ أن الدخانَ لم يكنْ في الحطبِ وفي الزَّيت وفي النِّفْطِ .
فإن زعم أنهما سواءٌ وأنه إنما قال بذلك لأن بَدَنَ ذلك
الحطَب لم يكن يسعُ الذي عاين من بَدَن النارِ والدخان فليس ينبغي لمنْ أنكر
كُمونَهَا من هذه الجهة أَنْ يزعُمَ أنّ شَرَرَ القَدَّاحَةِ والحجَرِ لم يكونا
كامنين في الحجَر والقدَّاحَة .
)
وليس ينبغي أن يُنْكِرَ كُمونَ الدم في الإنسان وَكمونَ
الدُّهْن في السمسم وكمون الزيت في الزيتون ولا ينبغي أن يُنْكِرَ من ذلك إلا ما
لا يكون الجسمُ يَسَعُه في العين
.
فكيف وهم قد أجْرَوْا هذا الإنكارَ في كلِّ ما غابَ عن
حواسّهم من الأجسام المستَتِرة بالأجسام حتى يعود بذلك إلى إبطال الأعراض
كنحو
حموضة الخلّ وحلاوة العسلِ وعذوبة الماء ومَرارة الصبر .
قال : فإن قاسوا قولهم وزعموا أن الرمادَ حادثٌ كما
قالوا في النار والدُّخان فقد وجبَ عليهم أن يقولوا في جميعِ الأجسام مثلَ ذلك
كالدقيق المخالفِ للبُرِّ في لونه وفي صلابَتهِ وفي مساحته وفي أمورٍ غير ذلك منه
فقد ينبغي أن يزعم أن الدقيقَ حادثٌ وَأن البُرّ قد بطَلَ .
وإذا زعم ذلك زعم أنّ الزُّبْدَ الحادثَ بعد المخْضِ لم
يكن في اللبنِ وأنَّ جُبْنَ اللبنِ حادث وقاسَ ماءَ الجُبْن على الجبن وليس اللبنُ
إلا الجُبْنَ والماءَ .
وإذا زعم أنهما حادثان وَأن اللبن قد بَطَلَ لزمَه أن
يكون كذلك الفَخَّارُ الذي لم نجِده حتى عَجَنَّا الترابَ اليابسَ المتهافتَ على
حِدَته بالماءِ الرَّطْبِ السّيال على حِدَتِهِ ثم شوَيناهُ بالنار الحارَّةِ
الصَّعَّادَةِ على حِدَتِها ووجدنا الفخار في العينِ واللمس والذَّوق والشَّمّ
وعند النَّقْر والصّكِّ على خلاف ما وجدنا عليه النارَ وحدها والماءَ وحده
والتُّرابَ وَحْدَهُ
فإنّ ذلك
الفخار هو تلك الأشياءُ والحطبَ هو تلك الأشياءُ إلا أن أحدَها من تركيب العِباد
والآخرَ من تركيب اللّه .
والعبد لا يقلبُ المَركَّباتِ عن جواهرها بتركيبه ما ركب
منها .
فإن زعموا أن الفخار ليس ذلك التُّرابَ وذلك الماءَ وتلك
النار وقالوا مثل ذلك في جميعِ الأخبصة والأنبذة كان آخرُ قياسهم أن يُجِيبوا
بجواب أبي الجهجاه فإنه زعم أن القائمَ غيرُ القاعد والعجينَ غيرُ الدقيق وزعم ولو
أنه لم يقل ذلك أن الحبَّة متى فلقت فقد بطل الصحيح وحدثَ جِسْمان في هيئةِ نصفَي
الحبَّة وكذلك إذا فلقت بأربعِ فلق إلى أن تصيرَ سَويقاً ثم تصيرَ دقيقاً ثم تصير
عجيناً ثم تصير خُبزاً ثم تعودَ رجيعاً وزبْلاً ثم تعودُ رَيحاناً وبَقلاً ثم يعود
الرجيع أيضاً لبناً وزُبداً لأن الجلاَّلة من البهائم تأكله فيعودُ لحماً ودماً .
وقال : فليس القولُ إلا ما قال أصحابُ الكُمونِ أو قولَ
هذا .
ردّ النظام على أصحاب الأعراض قال أبو إسحاق : فإن اعترض
علينا مُعترضٌ من أصحاب الأعراض فزعم أن النارَ لم تكن كامنةً وكيفَ تكمُنُ فيه
وهي أعظم منه ولكنّ العودَ إذا احتكّ بالعود حَمِيَ العودان وحمي من الهواءِ
المحيط بهما الجزءُ الذي بينهما ثم الذي يَلي ذلك منهما فإذا احتدم رقّ ثم جفّ
والتهب فإنما النارُ هواءٌ استحالَ
.
والهواءُ في أصل جوهرهِ حارٌّ رقيق وهو جسم رقيق وهو
جسمٌ خَوَّارٌ جيِّد القبول سريع الانقلاب .
والنار التي تراها أكثرَ من الحطب إنما هي ذلك الهواءُ
المستحيل وانطفاؤها بطلان تلك الأعراضِ الحادثة من النارية فيه فالهواءُ سريعُ
الاستحالة إلى النار سريعُ الرجوع إلى طبعهِ الأول وليس أنها إذا عُدِمَتْ فقد
انقطعتْ إلى شكل لها عُلْوِيٍّ واتصلت وصارتْ إلى تِلادها ولا أنَّ أجزاءَها أيضاً
تفرقتْ في الهواء ولا أنها كانت كامنةً
في الحطَب
متداخلةً منقبضة فيه فلما ظهرت انبسطت وانتشرت وإنما اللهبُ هواءٌ استحال ناراً
لأن الهواءَ قريبُ القرابةِ من النار والماءَ هو حجازٌ بينهما لأنَّ النار يابسةٌ
حارة والماءَ رطبٌ بارد والهواءَ حارٌّ رطب فهو يُشبه الماء من جهة الرطوبة
والصفاء ويُشبه النار بالحرارةِ والخفة فهو يخالفهما ويوافقهما فلذلك جازَ أن
ينقلبَ إليهما انقلاباً سريعاً كما ينعصر الهواء إذا استحال رطباً وحدث له كثافة
إلى أن تعود أجزاؤه مطراً فالماء ضدُّ النار والهواء خلافٌ لهما وليس بضِدٍّ ولا
يجوز أن ينقلب الجوهر إلى ضده حتى ينقلب بَديّاً إلى خلافه فقد يستقيم أن ينقلبَ
الماء هواءً ثم ينقلبَ الهواءُ ناراً وينقلبَ الهواءُ ماء ثم ينقلبَ الماءُ أرضاً
فلا بدّ في الانقلاب من الترتيبِ والتدريج وكلُّ جوهر فله مقدمات لأن الماءَ قد
يحيل الطين صخراً وكذلك في العكس فلا يستحيل الصخرُ هواءً والهواءُ صخراً إلا على
هذا التنزيل والترتيب .
وقال أبو إسحاق لمن قال بذلك من حُذَّاق أصحاب الأعراض : قد زعمتم أن
النار التي عاينّاها لم تخرج من الحطَب ولكنَّ الهواءَ المحيط بهما احتدَمَ
واستحالَ ناراً فلعلّ الحطب الذي يسيل منه الماءُ الكثيرُ أن يكون ذلك الماءُ لم
يكن في الحطَب ولكنَّ ذلك المكان من الهواءِ
استحالَ
ماء وليس ذلك المكان من الهواء أحقَّ بأن يستحيل ماءً من أن يكون سبيلُ الدخان في
الاستحالةِ سبيلَ النار والماء . )
فإن قاسَ القومُ ذلك فزعموا أن النار التي عاينَّاها
وذلك الماء والدخان في كثافة الدخَان وسَوادِه والذي يتراكمُ منه في أسافل القدور
وسُقف المطابخ إنما ذلك هواء استحال فلعلَّ الرماد أيضاً هواءٌ استحالَ رماداً .
فإِن قلتم : الدُّخان في أول ثقله المتراكم على أسافل
القدور وفي بُطونِ سُقُفِ مواقِدِ الحمامات الذي إذا دُبِّرَ ببعض التدبير جاء منه
الأنقاسُ العجيبةُ أحق بأن استحال أرضيّاً فإن قاسَ صاحب العَرَضِ وزعم أن الحطب
انحلَّ بأسرِه فاستحال بعضه رماداً كما قد كان
بعضُه
رماداً مرةً واستحال بعضه ماءً كما كان بعضه ماءً مرة وبعضه استحال أرضاً كما كان
بعضه أرضاً مرة ولم يقلْ إن الهواءَ المحيطَ به استحالَ رماداً ولكنَّ بعضَ أخلاطِ
الحطبِ استحالَ رماداً ودُخاناً وبعض الهواء المتصل به استحال ماءً وبعضه استحال
ناراً على قدرِ العوامل وعلى المقابِلات له وإذا قال صاحبُ العرض ذلك كان قد أجاب
في هذه الساعةِ على وهذا باب من القول في النار وعلينا أن نستقصيَ للفريقَين
واللّه المعين . ( ردٌّ
على منكري الكُمون ) وبابٌ آخرُ وهو أن بعض من ينكرُ كُمونَ النار في الحطب قالوا :
إن هذا الحرّ الذي رأيناه قد ظهرَ من الحطب لو كان في الحطب لكان واجباً أن يجده
مَنْ مَسّه كالجمر المتوقد إذا لم يكن دونه مانعٌ منه ولو كان هناك مانعٌ لم يكن
ذلك المانعُ إلا البردَ لأن اللونَ والطعمَ والرائحة لا يفاسِد الحرَّ ولا يُمانعه
إلا الذي يُضادُّه دون الذي يخالفه ولا يضاده .
فإِن زعم زاعمٌ أنه قد كان هناكَ من أجزاء البرد ما
يعادلُ ذلك الحرَّ ويُطاوله ويكافيه ويوازيهِ فلذلك صرنا إذا مَسَسْنَا الحطبَ لم
نجدْه مؤذياً وإنما يظهر الحرْقُ ويُحْرِقُ لزوال البرد إذا قام في مكانه وظهر
الحرُّ وحْده فظهر عمله ولو كان البردُ المعادلُ لذلك الحرِّ مقيماً في العود على
أصلِ
كمونه فيه
لكانَ ينبغي لمن مَسَّ الرَّمادَ بيده أن يجده أبرد من الثلج فإذا كان مسه كمسِّ
غيره فقد علمنا أنه ليس هناك من البرد ما يعادلُ هذا الحرَّ الذي يُحرق كلّ شيءٍ
لَقِيَه .
فإن زعم أنهما خرجا جميعاً من العود فلا يخلو البردُ أن
يكونَ أَخَذَ في جهته فلِمَ وجدنا الحرّ وحده وليس هو بأحق أن نجده من ضِدّه وإن
كان البردُ أَخَذَ شَمَالاً وأخذَ الحرُّ جنوباً فقد قالوا : فلما وجدنا جميعَ
أقسامِ هذا البابِ علمنا أن النار لم تكن كامنة في الحطبِ .
قال أبو إسحاق : والجواب عن ذلك أنا نزعم أن الغالبَ على
العالَم السفليِّ الماءُ والأرض وهما
)
جميعاً باردانِ وفي أعماقهما وأضعافهما من الحر ما يكون
مغموراً ولا يكون غامراً ويكون مقموعاً ولا يكون قامعاً لأنه هناك قليل والقليلُ
ذليل والذليلُ غريب والغريبُ محقور فلما كان العالَمُ السفلي كذلك اجتذبَ ما فيه
من قوة البرد وذلك البرد الذي كان في العود عند زوالِ مانعه لأن العودَ مقيمٌ في
هذا العالم ثم لمْ ينقطع ذلك البردُ إلى برد الأرض الذي هو كالقُرْص
له إلا
بالطَّفرة والتخليف لا بالمرور على الأماكن والمحاذاةِ لها وقام بَرْدَ الماء منه
مقام قرصِ الشمسِ من الضياء الذي يدخل البيتَ للخَرْق الذي يكون فيه فإذا سُدَّ
فمع السَّدِّ ينقطعُ إلى قُرْصه وأصلِ جوهره .
فإذا أجابَ بذلك أبو إسحاق لم يجد خصمُه بُدّاً من أن
يبتدئ مسألة في إفساد القول بالطفرة والتخليف .
ولولا ما اعترض به أبو إسحاق من الجواب بالطفرة في هذا
الموضع لكان هذا مما يقع في باب الاستدلالِ على حدوثِ العالم .
قول النظام في الكمون وكان أبو إسحاق يزعُمُ أن احتراق
الثوب والحطب والقطن إنما هو خروجُ نيرانه منه وهذا هو تأويل الاحتراق وليس أن
ناراً جاءت من مكانٍ فعملت في الحطب ولكن النار الكامنة في الحطب لم تكن تقوى على
نفي ضدِّها عنها فلما اتصلت بنار أخرى واستمدَّت منها
قوِيَتَا
جميعاً على نفي ذلك المانع فلما زال المانع ظهرت فعند ظهورها تجزَّأ الحطبُ وتجففَ
وتهافتَ لمكان عملها فيه فإحراقك للشيء إنما هو إخراجك نيرانه منه .
وكان يزعم أن حرارة الشمس إنما تحرق في هذا العالم
بإخراج نيرانها منه وهي لا تُحرق ما عقد العَرضُ وكَثَّفَ تلك النداوة لأن التي
عقدت تلك الأجزاء من الحر أجناس لا تحترق كاللون والطعم والرائحة والصوت
والاحتراقُ إنما هو ظهورُ النار عند زوال مانِعها فقط .
وكان يزعم أن سمَّ الأفعى مقيماً في بدن الأفعى ليس
يَقْتُل وأنه متى مازَجَ بدناً لا سمَّ فيه لم يقتل ولم يُتْلِفْ وإنما يتلفُ
الأبدان التي فيها سموم ممنوعة مما يُضَادُّها فإذا دخل عليها سم الأفعى عاون السم
الكامنُ ذلك السمَّ الممنوعَ على مانعهِ فإذا زال المانعُ تلف البدن فكان المنهوشُ
عند أبي إسحاقَ إنما كان أكثرُ ما أتلفه السمّ الذي معه .
وكذلك كان يقول في حرِّ الحمَّام والحر الكامنِ في
الإنسان : أَنَّ الغَشْيَ الذي يعتريه في الحمام ليس )
من الحر القريب ولكن من الحر الغريب حرّك الحرَّ الكامن
في الإنسانِ وأمَدّهُ ببعض أجزائه فلما قوِيَ عند ذلك على مانِعِهِ فأزاله صار ذلك
العملُ الذي كان يُوقعه بالمانع واقعاً به وإنما ذلك كماءٍ حار يحرِقُ اليَد صُبَّ
عليه ماءٌ
باردٌ
فلما دخل عليه الماء البارد صار شُغْله بالداخل وصار من وضَعَ يده فيه ووضع يدَه
في شيء قد شُغِل فيه بغيره فلما دفع اللّه عزّ وجلّ عنه ذلك الجسم الذي هو مشغولٌ
به صار ذلك الشُّغْل مصروفاً إلى من وضع يده فيه إذ كان لا ينفكُّ من عمله .
وكان مع ذلك يزعم أنك لو أطفأتَ نارَ الأتُّون لم تجدْ
شيئاً من الضوء ووجدت الكثير من الحر لأن الضياء لما لم يكن له في الأرض أصلٌ ينسب
إليه وكان له في العلوِّ أصلٌ كانَ أولَى به .
وفي الحقيقة أنهما جميعاً قد اتصلا بجوهرهما من العالم
العلويِّ وهذا الحر الذي تجده في الأرض إنما هو الحرُّ الكامن الذي زال مانعه .
هكذا كان ينبغي أن يقول وهو قياسُه .
وكان يزعم أنك إن أبصرتَ مصباحاً قائماً إلى الصُّبح أن
الذي رأيته في أول وهلةٍ قد بَطلَ من هذا العالَم وظَفِر من الدهن بشيء من وزنه
وقدره بلا فضل ثم كذلك الثالث والرابع والتاسع فأنت إن ظننتَ أن هذا المصباحَ ذلك
فليس به ولكن ذلك المكان لما كان لا يخلو من أقسامٍ متقاربة متشابهة و لم يكن في
الأول
شِيةٌ ولا علامة وقع عندك أن المصباحَ الذي رأيته وكان يزعم أن نار المصباح لم تأكل شيئاً من الدُّهن ولم تشربْه وأن النار لا تأكل ولا تشرب ولكن الدهن ينقص على قدرِ ما يخرجُ منه من الدخان والنار الكامنَين اللذَينِ كانا فيه وإذا خرج كلُّ شيء فهو بُطْلاَنه .
المجاز والتشبيه الأكل
وقد
يقولون ذلك أيضاً على المثل وعلى الاشتِقاق وعلى التشبيه .
فإن قلتم : فقد قال اللّه عزّ وجلّ في الكتاب :
الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللّه عَهِدَ إلَيْنا أَنْ لاَ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى
يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تأْكُلُهُ النَّارُ علِمْنَا أن اللّه عزّ وجلّ إنما
كلمهم بلغتهم .
وقد قال أوسُ بنُ حَجَر : ( فأشْرَط فيها نفسَه وهْو
مُعْصِمٌ ** وألقى بأسبابٍ له وتوكَّلاَ )
( وقد أكَلَتْ أظْفَارُه
الصَّخْرُ كلما ** تَعَايا عليه طولٌ مَرْقًى تَوَصَّلاَ ) فجعل النحتَ
والتَّنَقُّصَ أكلاً .
وقال خفَافُ بن نَدْبَة : ( أبا خُرَاشَةَ أَمَّا كنْتَ
ذَا نَفَرٍ ** فإنَّ قوْمِيَ لمْ تَأْكلْهُمُ الضبُعُ )
باب آخر مما يسمونه أكلاً . وقال مِرْداسُ بن أُدَيّة : ( وأدّتِ الأرضُ مِنِّي مِثْلَ مَا أَكَلَتْ ** وقرّبُوا لحِسَابِ القِسْطِ أعمالي ) وأكْلُ الأرض لما صارَ في بطنها : إحالتها له إلى جَوْهَرِها .
باب آخر في المجاز والتشبيه بالأكل
وهو قول
اللّه عزّ وجلّ : إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظلْماً وقوله
تعالى عزَّ اسمُه : أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وقد يقال لهم ذلك وإن شربوا بتلك
الأموال الأنبذة ولبسوا الحُللَ وركبوا الدوابَّ ولم ينفقوا منها دِرْهَماً واحداً
في سبيل الأكل .
وقد قال اللّه عزّ وجلّ : إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونهمْ ناراً وهذا مجازٌ آخر
.
وقال الشاعر في أخذ السِّنِينَ من أجزاء الخمر : ( أكَلَ
الدَّهْرُ ما تجسَّمَ منها ** وتَبَقَّى مُصَاصَهَا المكنونا )
وقال الشاعر : ( مَرّتْ بِنَا تَخْتَالُ فِي أرْبَعٍ ** يأكُلُ منها بعضُهَا بعضَا ) وهلْ قوله : وقد أكَلَتْ أظْفَارَه الصَّخْرُ إلا كقوله :
وإذا
قالوا : أكلَهُ الأسَد فإنما يذهبون إلى الأكل المعروف وإذا قالوا : أكَلَهُ الأسْوَد فإنما
يعنون النَّهْشَ واللَّدْغَ والعضَّ فقط .
وقد قال اللّه عزّ وجلّ : أيُحبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ويقال : هم لحوم الناس .
وقال قائلٌ لإسماعيل بن حماد : أيّ اللُّحْمَانِ أطيب
قال : لحومُ الناس هي واللّهِ أطيبُ من الدجاج ومن الفراخ والعُنُوز الحُمْر .
ويقولون في باب آخر : فلانٌ يأكل الناس وإن لم يأكلْ من
طعامهم شيئاً .
وأما قولُ أوس بن حَجَر : ( وذو شُطباتٍ قَدّهُ ابنُ
مجدِّعٍ ** له رَونقٌ ذرِّيُّهُ يتأكَّلُ )
فهذا على خلاف الأول وكذلك قول دُهْمان النهري : ( سألْتِني عنْ أُنَاسٍ أَكلُوا ** شَرِبَ الدَّهْرُ عليهمْ وأكَلْ ) فهذا كله مختلف وهو كله مجاز .
باب آخر في مجاز الذوق
وهو قول الرَّجل إذا بالغ في عقوبةِ عبده : ذُقْ و : كيف ذقته و : كيف وجدتَ طعمَه
وأما
قولهم : ما ذقْت اليوم ذَواقاً فإنه يعني : ما أكلتُ اليوم طعاماً ولا شربتُ
شراباً وإنما أراد القليل والكثير وأنه لم يذقه فضلاً عن غير ذلك .
وقال بعض طبقات الفقهاء ممن يشتهي أن يكون عند الناس
متكلماً : ما ذقت اليوم ذواقاً على وجهٍ من الوجوه ولا على معنًى من المعاني ولا
على سبب من الأسباب ولا على جهةٍ من الجهات ولا على لون من الألوان .
وهذا من عجيب الكلام .
قال : ويقول الرجل لوكيله : اِيتِ فلاناً فذُقْ ما عنده .
وقال شمّاخ بن ضِرار : ( فذاق فأعطَتْه من اللِّين
جانباً ** كَفى ولَهَا أن يُغرِقَ السهمَ حاجزُ ) وقال ابن مُقْبِل : ( أو
كاهتزازِ رُدَيْنِيٍّ تَذَاوَقهُ ** أَيْدِي التِّجَارِ فَزَادُوا مَتْنَهُ لِينَا )
وقال
نَهْشَلُ بن حَرِّيٍّ : ( وعَهْدُ الغَانِيَاتِ كَعَهْدِ قَيْن ** وَنَتْ عنهُ
الجعائلُ مستذاقِ ) الجعائلُ : من الجُعْل .
وتجاوزوا ذلك إلى أن قال يزيدَ بن الصّعِق لبني سُليم
حين صنعوا بسيِّدهم العباسِ ما صنعوا وقد كانوا توّجوه ومَلَّكوه فلما خالفَهُم في
بعض الأمر وثَبوا عليه وكان سببَ ذلك قلة رَهْطِه وقال يزيد بن الصّعِق : ( وإن
اللّه ذاق حُلُوم قَيْسٍ ** فلما ذاق خِفَّتَهَا قَلاَها )
( رآها لا تطيعُ لها أميراً
** فخلاَّها تردَّدُ في خلاها ) فزعم أن اللّه عزَّ وجلَّ يذوق .
وعند ذلك قال عباس الرِّعلي يخبر عن قلَّتِهِ وكثرتهم
فقال : ( وأمُّكمُ تُزْجي التُّؤَام لِبَعْلِهَا ** وأمُّ أخيكم كَزَّة الرِّحمِ
عاقرُ ) وزعم يونس أنَّ أسلم بن زرعة لما أُنشدَ هذا البيت اغرَوْرَقَتْ عيناه . )
وجعل عباسٌ أمّه عاقراً إذْ كانت نَزَوراً وقد قال
الغنويّ : ( وتحدثوا مَلأً لِتُصْبِحَ أمُّنَا ** عَذْرَاءَ لا كَهْلٌ وَلا
مَوْلُودُ ) جَعَلَهَا إذْ قلَّ ولدُها كالعذراء التي لم تلد قَطُّ لما كانت كالعذراء
جعلها عذراء .
وللعربِ إقدام على الكلام ثقةً بفهمِ أصحابهم عنهم وهذه
أيضاً فضيلةٌ أخرى .
وكما جوَّزُوا لقولهم أكل وإنما عضَّ وأكَلَ وإنما
أفْنَى وأكلَ وإنما أحاله وأكل وإنما أبطلَ عينه ( وإنْ شِئْتُ حَرَّمتُ النساءَ
سِوَاكمُ ** وإن شئتُ لم أطعمْ نُقاخاً ولا بَرْدَا ) وقال اللّه تعالى : إنَّ اللّهَ
مُبْتَلِيكمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَربَ مِنْهُ فلَيْسَ مِنِّي ومَنْ لَمْ يَطْعَمْه
فإنهُ مِنِّي يريد : لم يذقْ طعمه
.
وقال عَلقمة بن عَبَدَةَ : ( وقد أُصاحِبُ فتياناً
طعامُهُمُ ** حُمْرُ المَزاد ولحمٌ فيه تنشيمُ )
يقول : هذا طعامهم في الغزو والسفرِ البعيد الغايةِ وفي الصيف الذي يُغَيِّرُ الطعام والشراب والغزوُ على هذه الصفةِ من المفاخر ولذلك قال الأول : ( لا لا أعقُّ ولا أحُو ** بُ ولا أُغيرُ عَلَى مُضَرْ ) ( لَكِنّما غَزْوي إذا ** ضجَّ المَطِيُّ من الدَّبَرْ ) وعلى المعنى الأولِ قولُ الشاعر : ( قالت ألاَ فاطْعِمْ عُمَيْراً تمرا ** وكان تَمْري كهرةً وزَبرا ) وعلى المعنى الأولِ قال حاتم : هذا فَصْدِي أنَهْ
ولذلك قال
الرّاجز : لعامراتِ البيتِ بالخرابِ ( تأويل النظام لقولهم : النار يابسة ) وكان أبو إسحاق
يتعجبُ من قولهم : النار يابسة قال : أما قولهم : الماء رَطْب فيصح لأنا نراه سيَّالاً
وإذا قال الأرض يابسة فإِنما يريد الترابَ المتهافتَ فقط فإن لم يُرِدْ إلا بَدَنَ
الأرض الملازمَ بعضُه لبعض لما فيها من اللُّدُونة فقط فقد أخطأ لأن أجزاءَ الأرض
مخالطةٌ لأجزاءِ الماء فامتنعتْ من التهافتِ على أقدار ذلك .
ومتى حفرنا ودخلنا في عُمْق الأرض وجدنا الأرض طيناً بل
لا تزال تجدُ الطين أرطبَ حتى )
تصيرَ إلى الماء والأرض اليوم كلها أرضٌ وماء والماء
ماءٌ وأرض وإنما يلزمها من الاسم على قدر الكثرة والقلة فأما النار فليست بيابسة
البدن ولو كانت يابسة البدنِ لتهافتتْ تهافت التراب ولتَبَرّأ بعضها من بعض كما أن
الماء لما كان رطباً كان سيَّالاً
.
ولكن القوم لما وجدوا النار تستخرج كل شيء في العودِ من
النار فظهرت الرطوباتُ لذلك السببِ ووجدوا العودَ تتميزُ أخلاطه عند
خروج
نيرانه التي كانت إحدى مراتعها من التمييز فوجدوا العودَ قد صار رماداً يابساً
مُتهافتاً ظنوا أن يُبْسَهُ إنما هو مما أعطته النار وولَّدتْ فيه .
والنارُ لم تُعْطِهِ شيئاً ولكن نار العودِ لما فارقَتْ
رطوباتِ العودِ ظهرت تلك الرطوباتُ الكامنة والمانعة فبقيَ من العودِ الجزءُ الذي
هو الرماد وهو جزء الأرض وجَوْهَرُها لأن العود فيه جزء أرضيٌّ وجزءٌ مائيٌّ وجزءٌ
ناريٌّ وجزءٌ هوائيٌّ فلما خرجتِ النارُ واعتزلت الرطوبة بقيَ الجزءُ الأرضيّ .
فقولهم : النار يابسةٌ غلطٌ وإنما ذهبوا إلى ما تراه
العيون ولم يغوصوا على مُغَيَّبَاتِ العِلَل وكان يقول : ليس القوم في طريق
خُلَّصِ المتكلمين ولا في طريق الجهابذةِ المتقدِّمين .
قول النظام في علاقة الذكاء بالجنس وكان يقول : إنَّ
الأُمَّة التي لم تنْضِجْها الأرحام ويخالفون في ألوان أبدانِهم وأحداقِ عيونهم
وألوانِ شعورهم سبيلَ الاعتدال لا تكون
عقولهم
وقرائحهم إلا على حسبِ ذلك وعلى حسبِ ذلك تكون أخلاقهم وآدابهم وشمائلهم وتصرُّف
هممهم في لؤمهم وكرمهم لاختلاف السّبْكِ وطبقاتِ الطبخ وتفاوتُ ما بين الفطير
والخمير والمقصِّر والمجاوز وموضع العقل عضوٌ من الأعضاء وجزءٌ من تلك الأجزاء
كالتفاوت الذي بين الصَّقالبِةِ والزّنج .
وكذلك القولُ في الصور ومواضع الأعضاء ألا ترَى أن أهل
الصين والتُّبَّتِ حُذَّاقُ الصناعات لها فيها الرِّفق والحِذْق ولُطفُ المداخل
والاتساعُ في ذلك والغَوْصُ على غامِضِه وبعيده
تخطئة من زعم أن الحرارة تورث اليبس قال : وكان يخطِّئهم
في قولهم : إن الحرارة تورث اليُبْس لأن الحرارة إنما ينبغي أن تورثَ السخونة
وتولّدَ ما يشاكلها ولا تولدُ ضرباً آخر مما ليس منها في شيء ولو جازَ أن تولّد من
الأجناس التي تخالفها شكلاً واحداً لم يكن ذلك الخلاف بأحقَّ من خلافٍ آخر إلا أن
يذهبوا إلى سبيلِ المجاز : فقد يقول الرجلُ : إنما رأيتك لأني التفتُّ وهو إنما
رآه لطبع
في البصر
الدرَّاك عند ذلك الالتفاتِ .
وكذلك يقول : قد نجد النار تداخلُ ماءَ القُمقمِ
بالإيقاد من تحته فإذا صارت النارُ في الماء لابسَتْه واتصلت بما فيه من
الحرَاراتِ والنار صَعَّادةٌ فيحدثُ عند ذلك للماء غليانٌ لحركة النار التي قد
صارت في أضعافه وحركتها تصعُّدٌ فإذا تَرَفّعت أجزاءُ النار رَفَعَت معها لطائف من
تلك الرُّطوباتِ التي قد لابَسَتْها فإذا دام ذلك الإيقادُ من النار الداخلةِ على
الماء صعدت أجزاء الرطوباتِ الملابسةُ لأجزاء النار ولقوة حركة النار وطلبِها
التِّلاَدَ العُلْوِيَّ كان ذلك فمتى وجد من لا عِلْمَ له في أسفل
القمقم
كالجِبس أو وجد الباقيَ من الماء مالحاً عند تصعُّدِ لطائفه على مثال ما يعتري
ماءَ البحر ظنَّ أن النار التي أعطته اليُبْسَ .
وإن زعموا أن النار هي الميَبِّسَة على معنى ما قد فسرنا
فقد أصابوا فإن ذهبوا إلى غير وكذلك الحرارة إذا مُكنت في الأجساد بعثَتِ الرطوبات
ولابَسَتْهَا فمتى قويَتْ عَلَى الخروج أخرجتها منه فعند خروج الرطوباتِ توجد
الأبدان يابسةً ليس أن الحرّ يجوز أن يكون له عملٌ إلا التسخينَ والصعودَ والتقلبُ
إلى الصعود من الصعود كما أن الاعتزال من شكل الزوال .
وكذلك الماء الذي يفيض إلى البحر من جميع ظهور الأرضينَ
وبطونها إذا صار إلى تلك الحفرة العظيمة فالماء غسَّال مصّاص والأرض تقذف إليه ما
فيها من الملوحة .
وحرارةُ الشمس والذي يخرج إليه من الأرض من أجزاء
النيران المخالطة يرفعان لطائفَ الماء بارتفاعهما وتبخيرهما فإذا رَفَعَا اللطائفَ
فصار منهما مطرٌ وما يشبه المطر وكان ذلك دأبهما عادَ
ذلك الماء
ملحاً لأن الأرض إذا كانت تعطيه الملوحة والنيران تخرجُ منه العذوبة واللطافة كان
واجباً أن يعود إلى الملوحة ولذلك يكون ماء البحرِ أبداً عَلَى كيلٍ واحدٍ ووزن
واحد لأن الحراراتِ تطلب القرارَ وتجري في أعماق الأرض وترفع اللطائف فيصير مطراً
وبَرَداً وثلجاً وطَلاًّ ثم تعود تلك الأمواه سيولاً تطلب الحَدورَ وتطلب القرار
وتجري في )
أعماق الأرض حتى تصير إلى ذلك الهواء فليس يضيع من ذلك
الماء شيء ولا يبطلُ منه شيء والأعيانُ قائمة فكأنه مَنْجَنُونٌ غرف من بحر وصبَّ
في جدول يفيضُ إلى ذلك النهر .
فهو عملُ الحرارات إذا كَانت في أجواف الحطب أو في أجواف
الأرَضينَ أو في أجواف والحر إذا صار في البدَن فإنما هو شيء مُكْرَه والمكرهُ لا
يألو يتخلصُ
وهو لا
يتلخص إلا وقد حَمَل معه كلَّ ما قويَ عليه مما لم يشتد فمتى خرج خرج معه ذلك
الشيءُ .
قال : فمن هاهنا غَلط القَوم .
قول الدُّهرية في أركان العالم قال أبو إسحاق : قالت
الدهرية في عالَمِنَا هذا بأقاويلَ : فمنهم من زعم أن عالمنا هذا من أربعة أركانٍ
: حرّ وبرد ويبس وبِلَّة وسائر الأشياء نتائجُ وتركيبٌ وتوليد وجعلوا هذه الأربعة
أجساماً .
ومنهم من زعم أن هذا العالم من أربعةِ أركانٍ : من أرض
وهواءٍ وماءٍ ونار وجعلوا الحر والبرد واليُبْس والبلَّة أعراضاً في هذه الجواهر
ثم قالوا في سائر الأراييح والألوان والأصوات : ثمارُ هذه الأربعة عَلَى قدر
الأخلاط في القلة والكثرة والرقة والكثافة .
فقدَّموا ذِكر نصيب حاسَّةِ اللمس فقط وأضربوا عن أنصباء
الحواسِّ الأربع .
قالوا : ونحن نجد الطُّعومَ غاذيةً وقاتلة وكذلك الأراييح
ونجد
الأصوات
مُلذة ومؤلمة وهي مع ذلك قاتلة وناقصةٌ للقوى مُتْلفة ونجد للأَلوان في المضار
والمنافع واللّذَاذَةِ والألَمِ المواقعَ التي لا تجهل كما وجدنا مثل ذلك في الحر
والبر واليُبْس والبِلَّة ونجن لم نجد الأرض باردة يابسة غير أنا نجدها مالحة أي
ذات مَذاقةٍ ولون كما وجدناها ذات رائحةٍ وذات صوتٍ متى قَرَعَ بعضها بعضاً .
فبردُ هذه الأجرامِ وحرها ويُبْسُهَا ورطوبتها لم تكن
فيها لعلة كون الطُّعوم والأراييح والألوان فيها وكذلك طعومها وأراييحها وألوانها
لم تكن فيها لمكانِ كمون البرد واليُبْس والحر والبِلَّة فيها .
ووجدنا كلَّ ذلك إما ضارّاً وإما نافعاً وإما غاذياً
وإما قاتلاً وإما مؤلماً وإما مُلِذّاً
.
وليس يكون كون الأرض مالحة أو عذبة ومنتِنَةً أو طيبة
أحقَّ بأن يكون علة لكون اليُبْس والبرد والحر والرطوبة من أن يكون كون الرطوبةِ
واليُبْس والحر والبرد عِلَّة لكون اللون والطعم )
والرائحةِ
.
وقد هجم الناسُ على هذه الأعراض الملازمةِ والأجسام
المشاركةِ هجوماً واحداً عَلَى هذه الحِلْية والصورة ألفَاها الأولُ والآخِرُ .
قال : فكيف وقع القول منهم عَلَى نصيب هذه الحاسَّةِ
وحدها
ونحن لم
نر من البِلَّة أو من اليُبْس نفعاً ولا ضرّاً تنفرد به دونَ هذه الأمور .
قال : والهواء يختلف على قَدْرِ العوامل فيه من تحت ومن
فوق ومن الأجرام المشتملة عليه والمخالطة له وهو جسم رقيق وهو في ذلك محصورٌ وهو
خَوّارٌ سريعَ القَبول وهو مع رقّته يقبل ذلك الحصر مثل عمل الريح والزِّقِّ فإنها
تدفعه من جوانبه وذلك لعلة الحصر ولقَطْعه عن شكلهِ .
والهواء ليس بالجسم الصعاد والجسمِ النَّزَّال ولكنه جسم
به تعرف المنازل والمصاعد .
والأمور ثلاثة : شيء يصعدُ في الهواء وشيء ينزِل في
الهواء وشيء مع الهواء فكما أن الصاعد فيه والمنحدرَ لا يكونان إلا مخالفين
فالواقُع معه لا يكون إلا موافقاً
.
ولو أنَّ إنساناً أرسل من يده وهو في قَعْر الماء زِقّاً
منفوخاً فارتفع الزِّقُّ لدفع الريح التي فيه لم يكن لقائل أن يقول : ذلك الهواءُ
شأنه الصعود بل إنما ينبغي أن يقول : ذلك الهواء من شأنه أن يصير إلى جوهره ولا يقيم
في غير جوهره إلا أن يقول : من شأنه أن يصعد في الماء كما أن
من شأن
الماء أن ينزل في الهواء وكما أن الماء يطلبُ تِلاَدَ الماء والهواءَ يطلب تلاد
الهواء .
قالوا : والنار أجناسٌ كثيرة مختلفة وكذلك الصاعد ولا
بدّ إذا كانت مختلفة أن يكون بعضها أسرع من بعض أو يكون بعضها إذا خرج من عالم
الهواء وصار إلى نهاية إلى حيث لا منفذ ألاّ يزال فوق الآخر الذي صعد معه وإن وجد
مذهباً لم يقم عليه .
ويدلُّ على ذلك أنا نجد الضياء صعَّاداً والصوت صعّاداً
ونجد الظلام رابداً وكذلك البردَ والرُّطوبة فإذا صح أن هذه الأجناس مختلفة فإذا
أخذت في جهة علمنا أن الجهة لا تخالف بين الأجناس ولا توافق وأن الذي يوافق بينهما
ويخالف اختلافُ الأعمال .
ولا يكون القطعانِ متفقين إلا بأن يكون سرورهما سواء
وإذا صارا إلى الغاية صار اتصال كل واحد منهما بصاحبه كاتصال بعضِه ببعض ثم لا
يوجد أبداً إلا إمّا أعْلَى وإما أسفل
.
قال أبو إسحاق : فيستدل على أن الضياء أخفُّ من الحر
بزواله وقد يذهب ضوء الأتّون )
وتبقى سخونته
.
قال أبو إسحاق : لأمر ما حُصر الهواء في جوف هذا الفَلَك
ولا بد لكل محصور من أن يكون تقلبه وضغطه على قدر شدة الحصار وكذلك الماء إذا
اختنق .
قال : والريح هواء نزل لا غير فلِمَ قضَوا على طبع
الهواء في جوهريته باللدونة والهواء الذي يكون بقرب الشمس والهواء الذي بينهما على
خلاف ذلك ولولا أن قُوَى البرد غريزيةٌ فيه لما كان مروِّحاً عن النفوس ومنفِّساً
عن جميع الحيوان إذا اختنق في أجوافها البخارُ والوهجُ المؤذي حتى فزعتْ إليه
واستغاثتْ به وصارت تجتلب من رَوْحه وبردِ نسيمه في وزن ما خَرَجَ من البخار
الغليظ والحرارة المسْتَكِنَّة
.
قال : وقد علموا ما في اليُبْس من الخصومة والاختلاف وقد
زعم قومٌ أَن اليُبْس إنما هو عدم البلَّة قالوا : وعلى قدر البلة قد تتحول عليه
الأسماء حتى قال خصومهم : فقولوا أيضاً إنما نجدُ الجسم بارداً على قدر قلة الحَرِّ فيه .
وكذلك قالوا في الكلام : إن الهواء إنما يقع عندنا أنه
مُظلم لفِقْدان الضياء ولأن الضياء قرصٌ قائم وشعاع ساطعٌ فاصل وليس للظلام قرص
ولو كان في هذا العالم شيء يقال له ظلامٌ لما قام إلا في قرص فكيف تكون الأرض
قُرْصَةً والأرض غبراء ولا ينبغي أن يكون شعاع الشيء أسبغَ منه .
قال :
والأول لا يشبِه القول في اليُبْس والبلة والقولَ في
الحر والبرد والقول في اليُبْس والرطوبة والقول في الخشونة واللين لأن التراب لو
كان كله يابساً وكان اليبس في جميع أجزائه شائعاً لم يكن بعضه أحق بالتقطيع
والتبرد والتهافت من الجزء الذي نجده متمسكاً .
قال خصمه : ولو كَان أيضاً التهافت الذي نجده فيه إنما
هو لعدمِِ البلة وكله قد عدم البِلَّة لكان ينبغي للكل أن يكون متهافتاً ولا نجد
منه جزأين متلازقين .
فإن زعمتم أنه إنما اختلف في التهافت على قدر اختلاف
اليُبْس فينبغي لكم أن تجعلوا اليُبْس طبقات كما يُجعل ذلك للخُضرة والصُّفرة .
وقال إبراهيم
: أرأيت لو اشتمل اليُبس الذي هو غاية التُّراب كله كما
عرض لنصفه أما كان وأبو إسحاق وإن كان اعترض على هؤلاء في باب القول في اليبس فإنّ
المسألة عليه في ذلك أشد . )
وكان أبو إسحاق يقول : من الدليل على أن الضياء أخفُّ من
الحرِّ أنَّ النارِ تكون منها على قاب غلوة فيأتيك ضوؤها ولا يأتيك حرها ولو أن
شمعة في بيت غير ذي سقف لارتفع الضوء في الهواء حتى لا تجد منه عَلَى الأرض إلا
الشيء الضعيف وكان الحرُّ عَلَى شبيهٍ بحاله الأول .
رد النظام على الديصانية وقال أبو إسحاق : زعمت
الديصانية أن أصلَ العالَمِ إنما هو من ضياءٍ وظلام وأن الحرَّ والبردَ واللون
والطعمَ والصوت والرائحة إنما هي نتائج عَلَى قدر امتزاجهما .
فقيل لهم
: وجدنا الحِبْر إذا اختلطَ باللبن صار جسماً أغبر وإذا
خلَطْتَ الصَّبِرَ بالعسل صار جسماً مُرَّ الطعم عَلَى حساب ما زدْنا وكذلك نجدُ
جميع المركبات فما لنا إذا مزجنا بين شيئين من ذواتِ المناظر خرجنا إلى ذوات
الملامس وإلى ذوات المَذَاقة والمشَّمة
وهذا نفسُه
داخلٌ عَلَى من زعم أن الأشياء كلها تولدت من تلك الأشياء الأربعة التي هي نصيبُ
حاسةٍ واحدة .
نقد النظام لبعض مذاهب الفلاسفة وإن زعموا أن الأشياء
يحدثُ لها جنسٌ إذا امتزجتْ بضربٍ من المزاجِ فكيف صار المزاجُ يُحْدِث لها جنساً
وكلُّ واحد منه إذا انفرد لم يكن ذا جنس وكان مفْسِداً للجسم وإن فصَل عنها أفسدَ
جنسها وهل حكمُ قليلِ ذلك إلا كحكم كثيرهِ ولم لا يجوز أن يُجمعَ بين ضياءٍ وضياءٍ
فيحدُثَ لهما منع الإدراك .
فإن اعتلَّ القومُ بالزاج والعفْص والماء وقالوا : قد
نجدُ كلَّ واحد من هذه الثلاثة ليس بأسودَ وإذا اختلطت صارت جسماً واحداً أشدَّ
سواداً من الليل ومن السَّبَج ومن الغراب قال أبو إسحاق :
بيني
وبينكم في ذلك فَرْق أنا أزعمُ أن السواد قد يكون كامناً ويكون ممنوع المنظرة فإذا
زال مانعهُ ظهر كما أقولُ في النار والحجَرِ وغير ذلك من الأمور الكامنة فإن قلتم
بذلك فقد تركتم قولَكم وإن أبيتم فلا بدَّ من القول قال أبو إسحاق : وقد خلط أيضاً
كثيرٌ منهم فزعموا أن طباع الشيخ البلغَم .
ولو كان طباعُهُ البلغَم والبلغم ليّنٌ رَطْبٌ أبيضُ لما
ازداد عَظمه نحولاً ولونهُ سواداً وجلدهُ تقبُّضاً .
وقال النَّمِرُ بنُ تَوْلب : ) ( كَأَنَّ مِحَطَّاً في
يَدَيْ حَارِثِيّةٍ ** صَنَاعٍ عَلتْ مِنِّي به الجِلْدَ مِنْ عَلُ ) وكثرت فواضل
الإهابِ قال : ولكنهم لما رأَوْا بَدَنَهُ يَتَغَضّنُ ويظهرُ من ذلك
التغضُّنِ
رطوبات
بدنية كالبلغم من الفم والمخاطِ السائل من الأنف والرَّمَص والدمع من العين ظنوا
أن ذلك لكثرة ما فيه من أجزاء الرطوبات وأرادوا أن يقسِّموا الصِّبا والشباب
والكهولة والشيوخة على أربعة أقسام كما تهيأ لهم ذلك في غير بابٍ .
وإذا ظهرت تلك الرطوباتُ فإنما هي لنفْي اليُبْس لها
ولعَصْرِهِ قُوى البَدَنِ ولو كان الذي ذكروا لكان دمعُ الصِّبا أكثرَ ومخاطه
أغزرَ ورطوباته أظهر وفي البقول والرياحين والأغصان والأشجار ذلك إذ كانت في
الحداثة أرطبَ وعَلَى مرور السنينَ والأيام أيْبَس .
قال الرَّاجز : ( اسمع أنبئك بآيات الكبر ** نوم العشي
وسعال بالسحر ) ( وقلة النوم إذا الليل اعتكر ** وقلة الطعم إذا الزاد حضر )
( وسرعة الطرف وضعف في
النظر ** وتركي الحسناء في قبل الطهر ) ( وحذر أزداده إلى حذر ** والناس يبلون كما
يبلى الشجر ) وكان يتعجَّب من القول بالهيولَى .
وكان يقول : قد عرفنا مقدارَ رزانة البِلَّة وسنعطيكم أن
للبرد وزناً أليس الذي لا تشُكُّونَ فيه أن الحر خفيف ولا وزن له وأنه إذا دخل في
جِرمٍ له وزنٌ صار أخفّ وإِنكم لا تستطيعون أن تثبتوا لليبس من الوزن مثل ما
تثبتون للبِلَّة وعلى أنَّ كثيراً منكم يزعم أن البرد المجْمِدَ للماء هو أيبس .
وزعم بعضهم أن البرد كثيراً ما يصاحب اليبس وأن اليبس
وحده لو حلَّ بالماء لم يُجمِدْ وأن البرد وحده لو حلَّ بالماء لم يَجْمُدْ وأن
الماء أيضاً يجمد لاجتماعهما عليه وفي هذا القولُ أن شيئين مجتمعين قد اجتمعا على
الإجماد فما تنكرون أن يجتمع شيئان عَلَى الإذابة .
وإن جاز لليبس أن يُجمد جاز للبِلَّة أن تُذِيب .
قال أبو إسحاق : فإن كان بعض هذه الجواهر صعّاداً وبعضها
نزَّالاً ونحن نجد الذهب أثقلَ من مثله من هذه الأشياء النزّالة فكيف يكون أثقل
منها وفيه أشياء صَعّادة . )
فإن زعموا أن الخفة إنما تكونُ من التَّخَلْخُل
والسُّخْف وكثرةِ أجزاء الهواء في الجرم فقد ينبغي أن يكون الهواء أخفَّ من النار
وأن النار في الحجَرِ كما أن فيه هواءً والنار أقوى رفع الحجَر من الهواء الذي فيه .
وكان يقول : من الدليل على أن النار كامنةٌ في الحطب أن
الحطب يُحرقُ بمقدار من الإحراق ويُمنع الحطب أن يخرج جميع ما فيه من النيران
فيجعل فحماً فمتى أحببت أن تستخرِج الباقيَ من النار استخرجته فترى النار عند ذلك
يكون لها لهبٌ دون الضرام فمتى أخرجت تلك النار الباقية ثم أوقدْت عليها ألف عامٍ
لم تَسْتَوْقِدْ وتأويل : لم تستوقد إنما هو ظهور النار التي كانت فيه فإذا لم يكن
فيه شيءٌ فكيف يستوقد .
وكان يُكثِر التعجُّبَ من ناس كانوا ينافسون في الرّآسة
إذا رآهم يجهلون جهلَ صغارِ العلماء وقد ارتفعوا في أنفسهم إلى مرتبةِ كبار
العلماء .
وذلك أن بعضهم كان يأخذ العود فيَنقِيه فيقول : أين تلك
النار الكامنة ما لي لا أراها وقد ميّزْتُ العود قشراً بعد قشر . 4
استخراج الأشياء الكامنة
فكان يقول
في الأشياء الكامنة : إن لكل نوع منها نوعاً من الاستخراج وضرباً من العلاج
فالعيدَانُ تُخرجُ نيرانُها بالاحتكاك واللبنُ يُخرَج زبدُه بالمخْض وجُبْنه يُجمع
بإنْفَحَّةٍ وبضروب من علاجه .
ولو أن إنساناً أراد أن يخرج القَطِرَانَ من الصّنَوْبَرِ
والزِّفْتَ من الأَرْزِ لم يكن يخرج له بأن يقطع العود ويدُقّه ويقشِره بل يوقد له
ناراً بقربه فإذا أصابه الحرُّ عَرِق وسالَ في ضروب من العلاج .
ولو أن إنساناً مَزَجَ بين الفضة والذهب وسبكهما سبيكة
واحدة ثم أراد أن يعزل أحدهما من صاحبهِ لم يُمكنه ذلك بالفَرْضْ
والدَّق
وسبيل التفريق بينهما قريبة سهلة عند الصَّاغة وأرباب الحُمْلانات .
رد النظام على أرسطاطاليس وزعم أبو إسحاق أن أرسطاطاليس
كان يزعم أن الماء الممازِجَ للأرض لم ينقلب أرضاً وأن النار الممازجة للماء لم
تنقلب ماء وكذلك ما كان من الماء في الحجَر ومن النار في الأرض والهواء وأن
الأجرامَ إنما يخفُّ وزنها وتَسْخُفُ على قدر ما فيها من التخلخلُ ومن أجزاء
الهواء وأنها ترزُنُ وتصلب وتَمْتُن على قدر قلَّةِ ذلك فيها .
ومن قال هذا القولَ في الأرض والماء والنار والهواء
وفيما تركّب منها من الأشجار وغير ذلك لم يصل إلى أن يزعمَ أن في الأرض عرضاً يحدث
وبالْحَرَا أن يَعجِز عن تثبيت كون الماء والأرض والنار عرضاً .
وإذا قال في تلك الأشجار بتلك القالة قال في الطول
والعرض والعُمق وفي التربيع والتثليث والتدوير بجواب أصحاب الأجسام وكما يُلزِمُ
أصحابُ الأعراضُُ أصحابَ الأجسام بقولهم في تثبيت السكون والحركة أن القول في
حِرَاكِ الحجَر كالقول في سكونه كذلك أصحاب الأجسام يلزِمون كلّ من زعم أن شيئاً
من الأعراض لا يُنقَض أنَّ الجسمَ يتغير في المَذَاقةِ والملْمَسَة والمنْظرَةِ
والمشَمّة من غير لون الماء وفي برودة نفس الأرض وتثبيتها كذلك .
ومتى وجدْنا طينة مربَّعة صارت مدوَّرة فليس ذلك بحدوثِ
تدويرٍ لم يكن فكان عنده تغيُّره في العَين أوْلَى من تَغَيُّر الطينةِ في العين
من البياض إلى السواد وسبيلُ الصلابة والرَّخاوة والثقل والخِفَّة سبيل الحلاوةِ
والملوحة والحرارة والبرودة .
أصحاب القول بالاستحالة وليس يقيس القول في الأعراض إلا
من قال بالاستحالة وليس في الاستحالة شيءٌ أقبحُ من قولهم في استحالة الجبل
الصَّخير إلى مقدار خردلةٍ من غير أن يدخل أجزاءَه شيءٌ على حال فهو عَلَى قولِ من
زعم أنّ الخردلة تتنصَّفُ أبداً أحسن فأما إذا قال بالجزء الذي لا يتجزأ وزعم أن
أقلَّ الأجسام الذي تركيبه من ثمانيةِ أجزاءٍ لا تتجزأ أو ستة أجزاءٍ لا تتجزأ
يستحيل جسْماً عَلَى قدر طول العالَم وعرضه وعُمْقه فإنّا لو وجدناه كذلك لم نجد
بدّاً من أن نقول : إنا لو رفعنا من أوهامنا من ذلك شبراً من الجميع فإن كان مقدار
ذلك الشبرِ جزءاً واحداً فقد وجدناه جِسماً أقلَّ من ثمانية أجزاء ومن ستة أجزاء
وهذا نقضُ الأصل مع أنّ الشبرَ الذي رفعناه من أوهامنا فلا بدَّ إن كان جسماً أن
يكون من ستةِ أجزاء أو من ثمانية أجزاء وهذا )
كله فاسد
.
الأضواء والألوان
والنار
حرٌّ وضياء ولكلِّ ضياء بياضٌ ونور وليس لكلِّ بياض نورٌ وضياء وقد غلط في هذا
المقام عالمٌ من المتكلمين .
والضياء ليس بلون لأن الألوان تتفاسد وذلك شائعٌ في كلها
وعامٌّ في جميعها فاللبَن والحِبر يتفاسدان ويتمازجُ التراب اليابس والماء السائل
كما يتمازج الحارُّ والبارد والحلو والحامض فصنيع البياض في السواد كصنيعِ السواد
في البياض والتفاسُدُ الذي يقع بين الخُضْرَةِ والحمرة فبذلك الوزنِ يقع بين
البياض وجميعِ الألوان .
وقد رأينا أن البياضَ مَيّاعٌ مفسِدٌ لسائر الألوان فأنت
قد ترى الضياء عَلَى خلافِِ ذلك لأنه إذا سقط عَلَى الألوان المختلفةِ كان عملُه
فيها عملاً واحداً وهو التفصيل بين أجناسها وتمييزُ بعضها من بعض فيبين عن جميعها
إبانة واحدة ولا تراه يخصُّ البياضَ إلا بما يخص بمثله السواد ولا يعملُ في
الخُضْرة إلا مثلَ عملِه في الحُمرة فدلَّ ذلك عَلَى أن جنسه خلافُ أجناسِ الألوان
وجوهرَه خلافُ جواهرها وإنما يدل عَلَى اختلافِ الجواهرِ اختلافُ الأعمال فباختلاف
الأعمالِ واتفاقها تعرِفُ اختلافَ الأجسام واتفاقَها .
جملة القول في الضد والخلاف والوفاق
قالوا :
الألوان كلها متضادّة وكذلك الطعوم وكذلك الأراييح وكذلك الأصوات وكذلك المَلاَمِس
: من الحرارة والبرودة واليبس والرطوبة والرخاوة والصلابة والملاَسة والخشونة وهذه
جميع الملامس .
وزعموا أن التضادُ إنما يقع بين نصيبِ الحاسّة الواحدةِ
فقط فإذا اختلفت الحواس صار نصيب هذه الحاسةِ الواحدة من المحسوسات خِلاف نصيب تلك
الحاسة ولم يضادّها بالضِّدِّ كاللَّون واللون لمكان التفاسد والطعم والرائحة
لمكان التفاسُد .
ولا يكون الطعم ضدَّ اللون ولاَ اللون ضدَّ الطعم بل
يكونُ خِلافاً ولا يكون ضداً ولا وفاقاً لأنه من غير جنسه ولا يكون ضدّاً لأنه لا
يفاسده .
وزعم من لا علم له من أصحاب الأعراض أن السوادَ إنما
ضادّ البياضَ لأنهما لا يتعاقبان ولا قال القوم : لو كان ذلك من العلة كان ينبغي
لذهابِ الجسمِ قُدُماً أن يكون بعضه يضاد بعضاً لأن كونَه في المكان الثاني لا
يوجدُ مع كونه
في المكان
الثالث وكذلك التربيع : كطينة لو رُبِّعت بعد تثليثها ثم رُبِّعت بعد ذلك ففي قياسهم
أن هذين التربيعين ينبغي لهما أن يكونا متضادَّين إذ كانا متنافيين لأن الجسم لا
يحتمل في وقت واحد طولَين وأن الضدَّ يكون عَلَى ضدين : يكون أحدهما أن يخالف
الشيءُ الشيءَ من وجوهٍ عدة والآخرُ أن يخالفه من وجهين أو وجهٍ فقط .
قالوا : والبياض يخالف الحمرةَ ويضادُّها لأنهُ
يُفاسِدُها ولا يفاسِدُ الطعم وكذلك البياض للصفرة والحُوّةِ والخُضرة فأما السواد
خاصة فإن البياض يضاده بالتفاسد وَكذلك التفاسد وكذلك السواد .
وبَقِيَ لهما خاصة من الفصول في أبواب المضادة : أن البياض ينصبِغ
ولا يَصْبُغ والسواد يصبغ ولا ينصبغ وليس كذلك سائر الألوان لأنها كلها تصبُغ
وتَنْصَبِغ .
قالوا : فهذا بابٌ يساق . ( إن الصفرة متى اشتدت صارت حُمْرة ) ( ومتى اشتدت
الحمرةُ صارت
سوادا
ً وكذلك الخضرةُ متى اشتدت صارتْ ) ( سواداً . )
والسواد
يضاد البياضَ مضادة تامة وصارت الألوان الأخر فيما بينها تتضاد عادة وصارت
الطُّعوم والأراييح والملامس تخالفها ولا تضادها .
أصل الألوان جميعها وقد جعل بعض من يقول بالأجسام هذا
المذهب دليلاً عَلَى أن الألوان كلَّها إنما هي من السواد والبياض وإنما تختلفان
عَلَى قدر المزاج وزعموا أن اللونَ في الحقيقة إنما هو البياض والسواد وحكموا في
المقالة الأولى بالقوة للسواد علَى البياض إذ كانت الألوان كلها كلما اشتدت قربت
من السواد وَبَعُدت من البياض فلا تزال كذلك إلى أن تصيرَ سواداً .
وقد ذكرنا قبل هذا قولَ من جعل الضياء والبياض جنسين
مختلفين وزَعَم أن كلَّ ضياء بياضٌ وليس كلُّ بياضٍ ضياء . عِظَم شأن المتكلمين
وما كان أحْوَجَنَا وأحوجَ جميعَ المرضى أن يكون جميعُ الأطباء متكلمين وإلى أن
يكون المتكلمون علماء فإن الطبّ لو كان من نتائج حُذاق المتكلمين ومن تلقيحهم له
لم نجدْ في الأصول التي يبنون عليها من الخَلَلِ ما نجدُ .
ألوان النِّيران والأضواء وزعموا أن النار حمراء وذهبوا
إلى ما ترى العينُ والنار في الحقيقة بيضاء ثم قاسوا عَلَى خلافِ الحقيقة المِرَّة
الحمراء وشبّهوها بالنار ثم زعموا أن المرة الحمراء مُرّة وأخْلِقْ بالدخان أن
يكون مرّاً وليس الدخان من النار في شيء .
وكل نور وضياء هو أبيض وإنما يحمرُّ في العين بالعرَض
الذي يَعرِض للعين فإذا سَلِمَتْ من ذلك وأفضت إليه العين رأته أبيضَ وكذلك نار
العود تنفصل من العود وكذلك انفصال النار من الدُّهن ومعها الدخَان . ً لأجزائها
فإذا وقعت الحاسة على سوادٍ أو بياض في مكان واحد كان نتاجهما في العين منظرةَ
الحمرة .
ولو أنَّ دخاناً عرض بينك وبينه قرص الشمس أو القمر
لرأيته أحمر وكذلك قرص الشمس في المشرق أحمر وأصفر للبخار والغبارِ المعترض بينك
وبينه والبخار والدخان أخوانِ .
ومتى تحلَّق القرص في كبد السماء فصار على قمة رأسك ولم
يكن بين عينيك وبينه إلا بقدر ما تمكن البخار من الارتفاع في الهواء صُعُداً وذلك
يسيرٌ قليل فلا تراه حينئذٍ إلا في غاية البياض .
وإذا انحطَّ شرقاً أو غرباً صار كلُّ شيء بين عينيك وبين
قرصها من الهواء ملابساً للغبار والدخان والبخار وضروب الضَّباب والأنداء فتراها
إما صفراء وإما حمراء .
ومن زعم أن النار حمراءُ فلم يكذب إن ذهب إلى ما ترى
العين ومن ذهب إلى الحقيقة والمعلوم في الجوهرية فزعم أنها حمراءُ ثم قاس على ذلك
جهِلَ وأخطأ .
وقد نجد النار تختلف على قدر اختلاف النِّفط الأزرقِ
والأسود والأبيض وذلك كله يدور في العين مع كثرة الدخانِ وقلته .
ونجد النار تتغير في ألوانها في العين عَلَى قدر جفوفِ
الحطَب ورطوبته وعَلَى قدر أجناس العيدان والأدهان فنجدُها شقراء ونجدها خضراء إذا
كان حطبُها مثلَ الكبريت الأصفر
.
علة تلون السحاب ونجد لون السحاب مختلفاً في الحمرة
والبياض عَلَى قدر المقابلات والأعراض ونجد السحابةَ بيضاء فإذا قابلت الشمسَ بعض
المقابلة فإن كانت السحابة غربية أفقية والشمسُ منحطَّة رأيتَها صفراء ثم سوداء
تعرض للعين لبعض ما يدخلُ عليها
.
وقال الصَّلَتَان الفهْمِيّ في النار : ( وتُوقدها
شقراءَ في رأسِ هَضْبةٍ ** ليعْشُو إليها كلُّ باغٍ وجازِعِ )
وقال
مزرِّد بن ضِرار : ( فأبصَرَ ناري وهْيَ شقراءُ أُوقِدَتْ ** بعلياء نَشْزٍ
للعيونِ النواظرِ ) وقال آخر : ( ونار كسَحْرِ العَوْد يرفعُ ضَوْءَها ** مع الليل
هَبّاتُ الرياح الصَّوَارِدُ ) والغبار يناسب بعضَ الدخان ولذلك قال طُفَيْلٌ
الغَنَويّ : ( إذا هبطتْ سَهْلاً كأنّ غبارَه ** بجانبها الأقصى دواخنُ تَنضُبِ ) لأن
دخَانَه يكون أبيض يشبه الغبار وناره شقراء .
والعرب تجمَعُ الدخان دواخِن وقال الأزرق الهمْدَانيّ :
( ونوقدها شقراء من فَرعِ
تَنضُبٍ ** وَلَلْكُمْتُ أرْوَى للِنِّزَالِ وأشْبَعُ ) وذلك أن النار إذا
أُلْقِيَ عليها اللحمُ فصار لها دخَان اصْهَابَّتْ بدخَان ماء اللحم وسوادِ
القُتَار وهذا يدل أيضاً عَلَى ما قلنا
.
وفي ذلك يقول الهَيّبَان الفَهميّ : ( ولكن للطبيخ وقد
عراها ** طليح الهم مستلب الفراء ) ( وما غذيت بغير لظى فنارى ** كمرتكم الغمامة ذي
العفاء ) وقال سحر العود : ( له نارٌ تُشَبُّ عَلَى يَفَاعٍ ** لكلِّ مُرْعَبَلِ
الأهدام بالي )
( ونار فوقها بُجْرٌ
رِحَابٌ ** مُبَجّلَةٌ تَقَاذَفُ بالمَحَالِ )
علة اختلاف ألوان النار ويدلُّ أيضاً على ما قلنا : أن
النار يختلف لونُها على قدر اختلاف جنس الدُّهن والحطب والدخَان وعََلَى قدر كثرةِ
ذلك وقلَّته وعَلَى قدر يُبْسه ورطوبته قولُ الراعي حين أراد أن يصف لونَ ذئبٍ
فقال : ( وقع الربيع وقد تقارب خطوه ** ورأى بعقوته أزل نسولا )
( متوضح الأقراب فيه شهبة ** هش اليدين تخاله مشكولا ) ( كدخان مرتجل بأعلى تلعة ** غر ثان ضرم عرفجاً مبلولا ) المرتجل : الذي أصاب رِجلاً من جرادٍ فهو يشويه وجعله غَرْثان لكون الغَرِث لا يختار الحطب اليابس عَلَى رطْبه فهو يشويه بما حضَره وأدار هذا الكلام ليكون لون الدخَان بلون الذئب ( تعظيم زرادُشت لشأن النار ) وزرادُشت هو الذي عظم النار وأمر بإحيائها ونهى عن إطفائها ونهى الحيَّض عن مسها والدنوِّ منها وزعم أن العقاب في الآخرة إنما هو بالبردِ والزمهرير والدَّمَق .
علة تخويف زرادشت أصحابه بالبرد والثلج وزعم أصحاب
الكلام أن زَرَادُشت وهو صاحب المجوس جاء من بَلْخ وادعى أن الوحي نزل عليه عَلَى
جبال سيلان وأنه حين دعا سكان تلك الناحية الباردة الذين لا يعرفون إلا الأذى
بالبرد ولا يضربون المثل إلا به حتى يقول الرجل لعبده : لئن عدت إلى هذا لأنزعنَّ
ثيابك ولأقيمنَّك في الريح ولأُوقفنَّك في الثلج فلما رأى موقِع البردِ منهم هذا الموقع
جعل الوعيد بتضاعُفِه وظنَّ أنّ ذلك أزجَرُ لهم عما يكره .
وزَرادُشت في توعده تلك الأمة بالثلج دون النار مُقِرٌّ
بأنه لم يُبعث إلا إلى أهل تلك الجبال وكأنه إذا قيل له : أنت رسول إلى من قال
لأهل البلاد الباردة الذين لابدّ لهم من وعيدٍ ولا وعيدَ لهم إلا بالثلج .
وهذا جهلٌ منه ومن استجاب له أجهلُ منه .
رد على
زرادشت في التخويف بالثلج
والثلج لا يكْمُل لمضادَّة النار فكيف يبلغ مبلغها
والثلج يُؤْكَلُ ويشرب ويُقضم قضماً ويمزَج بالأشربة ويدفن فيه الماء وكثير من
الفواكه .
وربما أخذ بعض المترفين القطعة منه كهامَة الثور فيضعها
عَلَى رأسه ساعة من نهار ويتبرّد
)
بذلك
.
ولو أقام إنسان عَلَى قطعة من الثلج مقدارِ صخرة في
حَمدان ريح ساعةً من نهار لما خيفَ عليه المرض قَطُّ .
فلو كان المبالغة في التنفير والزجر أراد وإليه قَصدَ
لذَكَر ما هو في الحقيقة عند الأمم أشدُّ والوعيد بما هو أشد وبما يعم بالخوف سكان
البلاد الباردة والحارة أشبه إذا كان المبالغةَ يريد .
والثلج قد يداوَى به بعض المرضى ويتولد فيه الدود وتخوضه
الحوافرُ والأظلاف والأخفاف والأقدام بالليل والنهار في الأسفار .
وفي أيام الصيد يهون عَلَى من شرِب خمسة أرطال نبيذ أن
يعدوَ عليه خمسة أشواط .
معارضة بعض المجوس في عذاب النار وقد عارضني بعض المجوس
وقال : فلعلَّ أيضاً صاحبكم إنما توعَّد أصحابه بالنار لأن بلادهم ليست ببلاد ثلج
ولا دَمقَ وإنما هي ناحية الحرور والوهَج والسَّموم لأن ذلك المكروه أزجر لهم فرأي
هذا المجوسي أنه قد عارضني فقلت له : إن أكثر بلاد العرب موصوفة بشدة الحر في
الصيف وشدة البرد في الشتاء لأنها بلاد صخور وجبال والصخر يقبل الحر والبرد ولذلك
سمت الفرس بالفارسية العرب والأعراب : كَهْيَان والكَه بالفارسية هو الجبل فمتى
أحببت أن تعرف مقدار برد بلادهم في الشتاء وحرِّها في الصيف فانظر في أشعارهم وكيف
قسَّموا ذلك وكيف وضعوه لتعرف أن الحالتين سواء عندهم في الشدة .
القول في البرودة والثلج والبلاد ليس يشتد بردها عَلَى
كثرة الثلج فقد تكون بلدة أبرد وثلجها أقل والماء ليس يجمدُ للبرد فقط فيكون متى
رأينا بلدة ثلجها أكثر حكمنا أن نصيبها من البرد أوفر .
وقد تكون الليلة باردة جداً وتكون صِنّبْرَةً فلا يجمد
الماء ويجمد
فيما هو
أقلُّ منها برداً وقد يختلف جمود الماء في الليلة ذات الريح عَلَى خلاف ما
يقدِّرون ويظنون .
وقد خبرني من لا أرتاب بخبره أنهم كانوا في موضعٍ من
الجبَل يستَغْشُونَ به بلبس المبطَّنات ومتى صبوا ماءً في إناء زجاجٍ ووضعوه تحت
السماء جَمَدَ من ساعته .
فليس جُمُود الماء بالبرد فقط ولا بد من شروطٍ ومقادير
واختلافِ جواهر ومقابلات أحوال كسرعة البرد في بعض الأدهان وإبطائه عن بعض
وكاختلاف عمله في الماء المغْلَى وفي الماء المتروك عَلَى حاله وكاختلاف عمله في
الماء والنبيذ وكما يعتري البَوْل من الخُثُورة والجمود عَلَى قدر طبائع الطعام
والقلة .
والزَّيت خاصة يصيبه المقدار القليل من النار فيستحيل من
الحرارة إلى مقدار لا يستحيل إليه ما هو أَحرّ .
ردٌّ آخر على المجوس وحجةٌ أخرى عَلَى المجوس وذلك أن
محمداً صلى اللّه عليه وسلم لو كان قال : لم أُبعثْ إلا إلى أهل مكة لكان له متعلق
من جهة هذه المعارضة فأما وأصل نبوَّته والذي عليه مخرجُ أمرهِ وابتداءُ مبعثه إلى
ساعة وفاته
أنه
المبعوث إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة وقد قال اللّه تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللّه إلَيْكُم جَمِيعاً وقد قال تعالى : نذِيراً
لِلْبَشَرِ فلم يبق أن يكون مع ذلك قولهم معارضة وأن يُعَدّ في باب الموازنة .
مما قيل في البرد ومما قالوا في البرد قول الكميت : (
إذا التفّ دون الفتاةِ الضَّجِيعُ ** ووَحْوَحَ ذو الفَرْوَةِ المُرْمِلُ )
( سقط : بيت الشعر ) ( وراح
الفنيق مع الرائحات ** كإحدى أوائلها المرسل ) وقال الكميت أيضاً في مثل ذلك : (
وجاءت الريح من تلقاء مَغْرِبها
** وَضَنَّ من قِدْره ذُو القِدْرِ بالْعُقَبِ ) (
وكهْكَهَ المدْلِجُ المقرورُ في يَدِهِ ** واستدفأ الكلب في المأسور ذي الذِّئب )
وقال في مثله جِرَانُ العَودِ : ( ومشبوح الأشاجعِ
أريحيٍ ** بعيد السمعِ كالقمر المنير ) ( رفيع الناظرين إلى المعالي ** عَلى
العِلاتِ في الخلقُ اليسير ) ( يكاد المجدُ ينضحُ من يديهِ ** إذا دُفع اليتيمُ عن الجزورِ )
( وألجأتِ الكلاب صباً بليلٌ ** وآل نباحهنّ إلى الهرير ) ( وقد جعلتْ فتاةُ الحي تدنو ** مع الهلاك من عَرَنِ القدور ) وقال في مثل ذلك ابن قميئة : ليس طعمي طعم الأنامل إذ قلَّص درُّ اللقاح في الصنبرِ ( ورأيتَ الإماء كالجعثنِ البا ** لي عكوفاً عَلى قرارة قِدر ) ( ورأيتَ الدخَان كالودع الأه ** جنِ ينباع من وراء السترِ )
( حاضر شركم وخيركمُ دَ ** رُّ خروسٍ من الأرانبِ بكرِ ) ( وإذا العَذارى بالدُّخان تَقَنَّعتْ ** واستعجلت نَصْبَ القدور فملَّتِ ) ( دَرَّتْ بأرزاق العيالِ مَغَالِقٌ ** بيديَّ من قَمَع العشار الجِلَّةِ )
وقال الهذليّ : ( وليلة يصطلي بالفرث جازرُها ** يختصُّ بالنَّقَرَى المثْرينَ دَاعيها ) ( لا ينبح الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ ** من الشِّتاء ولا تَسرِي أفاعيها ) وفي الجَمدِ والبرد والأزمات يقول الكميت : ( وفي السنةِ الجمادِ يكون غيثاً ** إذا لم تعط دِرَّتها الغضوبُ ) ( ورُوِّحت اللِّقاحُ مُبْهَلاَتٍ ** ولم تُعْطَف عَلَى الرُّبَعِ السَّلوبُ )
( وكان السَّوف للفتيان
قوتاً ** تعيش به وهُيِّبت الرقوب ) وفي هذه القصيدة يقول في شدة الحر : ( وخَرْقٍ
تعزف الجِنَّانُ فيه ** لأفئدة الكماةِ لها وَجِيب ) ( قطعتُ ظلامَ ليلته ويوماً ** يكاد حَصَى
الإكام به يذوب ) وقال آخر لمعشوقته : ( وأنتِ التي كلفتني البرد شاتياً **
وأوردتِنيه فانظري أيَّ مورِدِ
)
فما ظنك ببرد يؤدِّي هذا العاشق إلى أن يجعل شدَّته
عذراً له في تركه الإلمام بها وذلك قوله في هذه القصيدة : ( فيا حسنها إذ لم أعُجْ
أن يقالَ لي ** تروَّحْ فشيعنا إلى ضحوة الغَدِ ) ( فأصبحتُ مما كان بيني وبينها
** سِوى ذكرها كالقابض الماءَ باليد ) ومما يقع في الباب قبل هذا ولم نجد له باباً
قول مسكين الدَّارِميّ :
( وإني لا أقومُ على قناتي
** أسبُّ الناسَ كالكلب العقور ) ( وإني لا أحلُّ ببطن وادٍ ** ولا آوي إلى البيتِ
القصيرِ ) ( وإني لا أحاوِص عقدَ ناد ** ولا أدعو دعائي بالصغيرِ ) ( ولستُ بقائل
للعَبْدِ أو قدْ ** إذا أوقدتَ بالعودِ الصغيرِ ) ولو تأملتَ دخان أتُّون واحد من
ابتدائه إلى انقضائه لرأيت فيه الأسود الفاحم والأبيض الناصع .
والسواد والبياض هما الغاية في المضادَّة وذلك عَلَى قدر
البخار والرطوبات وفيما بينهما ضروب من الألوان .
وكذلك الرماد منه الأسود ومنه الأبيض ومنه الأصهب ومنه
الخَصِيف وذلك كله على فهذا بعضُ ما قالوا في البرد .
بعض ما قيل في صفة الحر
وسنذكر بعض ما قالوا في صفة الحر قال مضرِّس بن زُرارة بن لقيط : ( تدلّت عليها الشمسُ حتى كأنه ** من الحر يُرمى بالسكينة نُورُها ) ( سجوداً لدَى الأرْطَى كأن رؤوسها ** علاها صداعٌ أو فَوَالٍ يصُورها ) وقال القطاميُّ :
( فهن معترضاتٌ والحصى رمِضٌ ** والريحُ ساكنةٌ والظلُّ معتدلُ ) ( حتى وردْن رَكِيَّاتِ الغُوَيْرِ وقد ** كاد المُلاءُ من الكتَّان يشتعلُ ) وقال الشماخ بن ضِرار : ( كأن قُتودي فوق جأب مطرد ** من الحقب لاحتْه الجداد الغوارز ) ( طوى ظمأها في بيضة القيظ بعد ما ** جرَت في عِنان الشِّعرَيين الأماعزُ ) ( وظلتت بيمؤودٍ كأن عيونها ** إلى الشمس هلا تدنو ركيٌّ نواكز )
ولهذه الأبيات كان الحطيئة والفرزدق يقدِّمان الشماخَ بغاية التقديم . ( ونار وديقة في يوم هَيْجٍ ** من الشِّعرى نصْبتُ لها الجبينا ) ( إذا مَعزاءُ هاجرةٍ أونَّتْ ** جَنادُبها وكان العيسُ جُونا ) وقال مسكينٌ الدارمي : ( وهاجرةٍ ظَلَّتْ كأنّ ظباءَها ** إذا ما أتَّقتها بالقرون سجودُ ) ( تلوذ لشُؤبوبٍ من الشَّمس فوقَها ** كما لاذَ من حَرِّ السِّنان طريدُ ) وقال جرير : ( وهاجدِ موماةٍ بعثتُ إلى السُّرى ** وللنومُ أحلى عنده من جنى النحلِ )
( يكون نزولُ الركب فيها كَلاَ وَلاَ ** غشاشاً ولا يدنون رحلا إلى رحل ) ( ليوم أتتْ دون الظلال سمومهُ ** وظلَّ المها صوراً جماجمها تغلي ) وفيها يقول جرير : ( تمنَّى رجال من تميمٍ لي الرّدى ** وما ذاد عن أحسابهم ذائدٌ مثلي )
احتجاج النظام للكمون
وقال أبو إسحاق : أخطأ من زعم أن النار تصعدُ في أول العود وتنحدر وتغوص فيه وتظهر وقال : العود النار في جميعه كامنة وفيه سائحة وهي أحد أخلاطه والجزء الذي يُرى منها في الطرف الأول غير الجزء الذي في الوسط
والجزء
الذي في الوسط غير الجزء الذي في الطرف الآخر فإذا احتكّ الطرف فحميَ زال مانعه
وظهرت النار التي فيه وإذا ظهرت حَمِيَ لشدة حرها الموضعُ الذي يليها وتنحَّى
أيضاً مانعه وكذلك الذي في الطرَف الآخر ولكن الإنسان إذا رأى النار قد اتصلت في
العود كله وظهرت أولاً فأوَّلاً ظن أن الجزء الذي كان في المكان الأول قد سَرَى
إلى المكان الثاني ثم إلى المكان الثالث فيخبرُ عن ظاهر ما يرى ولا يعرف حقيقة ما
بطن من شأنها .
وقال أبو إسحاق : ولو كانت العيدان كلها لا نار فيها لم
يكن سرعةُ ظهورها من العراجين ومن المرْخِ والعَفار أحقّ منها بعودِ العُنَّابِ
والبَرديِّ وما أشبه ذلك لكنها لمَّا كانت في بعض العيدان أكثر وكان مانعها أضعَفَ
كان ظهورها أسرع وأجزاؤها إذا ظهرت أعظمَ وكذلك ما كمَنَ منها في الحجارة ولو كانت
أجناس
الحجارة
مستوية في الاستسرار فيها لما كان حجَرُ المرْوِ أحقَّ بالقَدْح إذا صُكَّ
بالقدَّاحة من غيره من الحجارة ولو طال مُكثُه في النار ونُفِخَ عليه بالكير .
ولِمَ صار لبعض العيدان جَمْرٌ باق ولبعضها جمر سريع
الانحلال وبعضها لا يصير جمراً ولمَ صار البَرْديّ مع هَشَاشته ويبسه ورخاوته لا
تعمل فيه النيران ولذلك إذا وقع الحريق في السُّوق سَلِمَ كل مكان يكون بين أضعاف
البردي ولذلك ترى النار سريعة الانطفاء في أضعاف البرديّ ومواضعِ جميع اللِّيف .
وقال أبو اسحاق : فلِمَ اختلفَتْ في ذلك إلا على قدر ما
يكونُ فيها من النار وعَلَى قدر قوة الموانع وضعفها .
ولم صارت تقدَح عَلَى الاحتكاك حتى تلهبت كالساج في
السفن إذا اختلط بعضه ببعض عند تحريك الأمواج لها ولذلك أعدُّوا لها الرجال
لتَصُبّ من الماء صَبّاً دائماً وتدوِّم الريحُ فتحتك عيدان الأغصان في الغياض
فتلتهب نار فتحدثُ نيران .
ولِمَ صار العود يحمَى إذا احتكَّ بغيره ولمَ صار
الطّلَقُ لا يحمى فإن قلت لطبيعة هناك
)
فهل دللتمونا إلا عَلَى اسم علَّقتموه عَلَى غير معنًى
وجدتموه أوَ لسنا قد وجدنا عيون ماءٍ حارة وعيون ماءٍ بارد بعضها يبرص ويُنفْط
الجلد وبعضها يُجمِدُ الدمَ ويورث الكُزَاز أولسنا قد وجدنا عيون ريح وعيون نار
فلِمَ زعمتم أن الريحَ والماء كانا مختنقين في بطون الأرض و لم تجوِّزوا لنا مثل
ذلك
في النار
وهل بين اختناق الريح والماء فرق وهل الريح إلا هواءٌ تحرَّكَ وهل بين المختنق
والكامن فرْق .
وزعم أبو إسحاق : أنه رمى بردائه في بئر النبي صلى اللّه
عليه وسلم التي من طريق مكة فردّته الريح عليه .
وحدَّثني رجل من بني هاشم قال : كنت بِرَامةَ من طريق
مكة فرميت في بئرها ببعرة فرجعت إليَّ ثم أعدتها فرجعَتْ فرميْت بحصاة فسمعتُ لها
حَريقاً وحفيفاً شديداً وشبيهاً بالجوَلان إلى أن بلغَتْ قرار الماء .
وزعم أبو إسحاق أنه رأى عين نار في بعض الجبال يكون
دخانُها نهاراً وليلاً أو ليس الأصل الذي بُني عليه أمرُهم : أن جميع الأبدان
من
الأخلاط الأربعة : من النار والماء والأرض والهواء فإذا رأينا موضعاً من الأرض
يخرج منه ماءٌ قلنا : هذا أحدُ الأركان فما بالُنا إذا رأينا موضعاً من الأرض يخرج
منه نارٌ لم نقل مثل ذلك فيه .
ولمَ نقولُ في حجرِ النار إنه متى وُجد أخف من مقدار
جسمه من الذهب والرّصاص والزئبق إنما هو لما خالَطَه من أجزاء الهواء الرّافعة له
وإذا وجدناه أعْلَكَ عُلوكة وأمتَنَ متانة وأبعد من التهافُتِ جعلنا ذلك لما خالطه
من أجزاء الماء وإذا وجدناه ينقض الشرر ويُظهرُ النار جعلنا لك للذي خالطه من
الهواء ولمَ جعلناه إذا خف عن شيء بمقدار جسمه لما خالطه من أجزاء الهواء ولا
نجعله كذلك لما خالطه من أجزاء النار ولا سيما إذا كانت العينُ تجدُه يقدَح بالشرر
ولَمْ تجْر أجزاء الهواء فيه عندنا عِياناً فلِمَ أنكروا ذلك وهذه القصةُ توافقُ
الأصل الذي بَنَوْا عليه أمرهم
.
قال : أو ليس من قوله أنه لولا النيرانُ المتحركة في جوف
الأرض التي منها يكون البُخارُ الذي بعضه أرضيٌّ وبعضه مائيٌّ لم يرتفعْ ضبابٌ ولم
يكن صواعق ولا مطرٌ ولا أنداء .
الصواعق وما قيل فيها
ومتى كان البخار حارّاً يابساً قَدَحَ وقَذَفَ بالنار التي تسمى الصاعقة إذا اجتمعت تلك القوى في موضع منه فإن كانت القِوَى ريحاً كان لها صوتٌ وإن كانت ناراً كانت لها صواعقُ حتى زعم كثير من الناس أن بعض السيوف من خبث نيران الصواعق وذلك شائع على أفواه الأعراب والشعراء قال أبو الهوْل الحِمْيري : حاز صمصامةَ الزبيديِّ من بين جميعِ الأنامِ موسى الأمينُ ( سيفُ عمرو وكان فيما سَمعنا ** خيرَ ما أطبقتْ عليه الجفونُ )
( أوفدتْ فوقهُ لاصواعقُ ناراً ** ثم ساطت به الزعافَ المنون ) وقال منهم آخر : قال الأصمعيّ : الانعقاق : تشقُّق البرق ومنه وصف السيف بالعقيقةِ وأنشد : وسيفي كالعقيقةِ وَهْوَ كِمْعِي وقال الأخطل : ( وأرَّقَني من بعد ما نِمْتُ نَوْمَة ** وعَضْبٌ إباطي كالعقيق يمَانِي )
ونذكرُ
بعَونِ اللّهِ وتأييده جُمْلةً مِنَ القَول في الماء ثمَّ نصير إلى ذكر ما ابتدأنا
به من القول في النار .
ذكروا أن الماء لا يغذو وإنما هو مَرْكَبٌ ومِعْبَرٌ
ومَوْصِلٌ للغِذاء واستدلُّوا لذلك بأن كلّ رقيق سَيّال فإنك متى طبَخْته انعقَد
إلا الماء وقالوا في القياس : إنه لا ينعقد في الجوف عند طبخِ الكبِد له فإذا لم
ينعقِد لم يجئْ منه لحمٌ ولا عظم ولأننا لم نر إنساناً قطُّ اغتذاه وثبت عليه روحُه
وإن السمك الذي يموت عند فقده لَيَغْذُوه سِواه مما يكون فيه دونه .
قال خصمهم : إنما صار الماء لا ينعقد لأنه ليس فيه قُوًى
مستفادةٌ مأخوذة من قُوى الجواهرِ والماء هو الجوهرُ القابلُ لجميع القُوَى فبضربٍ
من القُوى والقبول يصير دُهناً وبضرب آخر يصير خلاًّ وبضرب آخر يصير دماً وبضرب
آخر يصير لبَنَاً وهذه الأمور كلها إنَّما اختلفت بالقُوى العارضة فيها فالجوهرُ
المنقلبُ في جميع الأجرام السّيَّالة إنما هو الماء فيصير عند ضرب من وعصير كل شيء
ماؤه والقابلُ لِقُوى ما فيه فإذا طبخْتَ الماء صِرْفاً سالماً على وجهه ولا قُوَى
فيه لم ينعقد وانحلَّ بُخاراً حتى يتفانى وإنما ينعقد الكامن من الملابس له فإذا
صار الماء )
في البدنِ
وحده ولم
يكن فيه قوًى لم ينعقد وانعقاده إنما هو انعقاد ما فيه .
والماء لا يخلو من بعض القَبُول ولكنَّ البعض لا ينعقد
ما لم يكثُر .
وزعم أصحاب الأعراض أن الهواء سريعُ الاستحالة إلى الماء
وكذلك الماء إلى الهواء للمناسبة التي بينهما من الرطوبة والرقة وإنما هما غير
سيَّارين ويدل على ذلك اجتذابُ الهواء للماء وملابسته له عند مَصِّ الإنسان بفيه
فم الشَّرابة ولذلك سَرَى الماء وجرى في جوف قَصَبِ الخيزُرَانِ إذا وضَعْتَ طرفه
في الماء .
وكذلك الهواء فيه ظلامُ الليل وضياء النهار وما كان فيه
من الأشباح والحدَقة لا ترى من الضياء العارض في الهواء ما تباعد منها .
ألوان الماء
والماء يرقّ فيكون له لون ويكون عمقه مقداراً عَدْلاً فيكون له لون فإنْ بعد غَوْرُه وأفرط عمقه رأيته أسودَ .
وكذلك
يحكون عن الدردور
ويزعمون أن عين حوارا ترمى بمثل الزنوج .
فتجدُ الماء جنساً واحداً ثم تجد ذلك الجنسَ أبيض إذا
قلَّ عمقه وأخضَرَ إذا كان وسطاً وأسودَ إذا بعُدَ غَوْرُه .
تحقيق في لون الماء ويختلف منظره على قدر اختلاف إنائه
وأرضه وما يقابله فدلّ ذلك على أنه ليس بذي لون وإنما يعتريه في التخييل لونُ ما
يقابله ويحيط به ولعلَّ هذه الأمور إذا تقابلت أن تصنع في العين أموراً فيظنَّ
الإنسان مع قُرب المجاورةِ والالتباس أن هذه الألوان المختلفة إنما هي لهذا الماء
الرائق الخالص الذي لم ينقلب في نفسه ولا عَرَضَ له ما يقْلبه وكيف يعرض له ويقلبه
وعينُ كل واحد منهما غيرُ عينِ صاحبه وهو يرى الماء أسودَ كالبحر متى أخذ منه أحدٌ
غُرفة رآه كهيئته إذا رآه قليل العُمق
.
تشابه الماء والهواء ويتشابهان أيضاً لسُرعة قبولهما
للحر والبرد والطّيب والنّتْن والفساد والصلاح .
حجة للنظام في الكمون قال أبو إسحاق : قال اللّه عزَّ
وجلّ عند ذكر إنعامِه على عباده وامتنانه على خلقه فذكَر ما أعانهم به من الماعون : أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ
المنْشِئُون وكيف قال شَجَرَتَهَا وليس في تلك الشجرة شيء وجوفها وجوفُ الطَّلَقِ
في ذلك سواء وقدرة اللّه على أن يَخلق النار عندَ مسِّ الطَّلَق كقدرته على أن
يخلقها عند حكِّ العود وهو تعالى وعز لم يُرِد في هذا الموضع إلا التعجيبَ من
اجتماع النار والماء .
وهل بين قولكم في ذلك وبين من زعم أن البذر الجيِّد
والرديء والماء العذب والملح والسّبَخَة والخبِرَة الرِّخوة والزمان المخالفَ
والموافقَ سواءٌ وليس بينها من الفرْق إلا أن اللّه شاء أن يخلق عند اجتماع هذه
حَبّاً وعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً دون تلك الأضداد .
ومن قال بذلك وقاسه في جميع ما يلزم من ذلك قال كقول
الجَهْمِيّةِ في جميع المقالات وصار إلى الجهالات وقال بإنكار الطبائعِ والحقائق .
وقال اللّه عزّ وجلّ : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ .
ولو كان الأمر في ذلك على أن يخلقها ابتداءً لم يكن بين
خلقها عند أخضرِ الشجر وعند اليابس الهشيم فرق ولم يكن لذكر الخضْرَةِ الدّالة
عَلَى الرطوبةِ مَعْنًى .
وقد ذكرنا جملةً من قولهم في النار وفي ذلك بلاغ لمن
أراد معرفة هذا الباب وهو مقدارٌ قصدٌ لا طويل ولا قصير . )
فأما القولُ في نار جهنم وفي شُواظها ودوامها وتسعُّرها
وخبوِّها والقول في خلق السماء من دُخَان والجانِّ من نار السّموم وفي مَفْخَر
النار على الطين وفي احتجاج إبليس بذلك فإنا سنذكر من ذلك جملة في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
ما قيل في حسن النار
ونحن
راجعون في القول في النار إلى مثل ما كنا ابتدأنا به القول في صدر هذا الكلام حتى
نأتيَ من أصناف النيران على ما يحضرنا إن شاء اللّه تعالى .
قالوا : وليس في العالم جسمٌ صِرْفٌ غير ممزوج ومرسلٌ
غير مركب ومُطلق القُوَى غير محصور ولا مقصور أحسنُ من النار .
قال : والنار سماوية عُلْوِية لأن النار فوق الأرض
والهواء فوق الماء والنار فوق الهواء ويقولون : شراب كأنه النار و كأن لونَ وجهها
النار وإذا وصفوا بالذكاء قالوا : ما هو إلا نار وإذا وصفوا حمرة القِرمز وحمرة
الذهب قالوا : ما هو إلا نار .
قال : وقالت هند : كنتُ واللّه في أيام شبابي أحسنَ من
النار الموقَدَة .
وأنا أقول : لم يكن بها حاجةٌ إلى ذكر الموقَدَة وكان
قولها : أحسنَ من النار يكفيها وكذلك وقال قُدَامة حكيم المشرق في وصف الذِّهن :
شُعاعٌ مركوم ونَسَمٌ معقود ونورٌ بصَّاص وهو النار الخامدة والكِبريت الأحمر .
ومما قال العتَّابي : وجمالُ كل مجلس بأن يكون سَقْفهُ
أحمرَ وبساطُه أحمر .
وقال بشّار بنُ بُرْد : ( هِجانٌ عليها حُمْرةٌ في
بياضِها ** ترُوق بها العَينَين والحسنُ أحمرُ ) وقال أعرابيٌّ : ( هِجانٌ عليها
حمرةٌ في بياضِها ** ولا لونَ أدنى للهِجان من الحُمْر ) ( تعظيم اللّه شأْن النار ) قال : ومما عظم
اللّه به شأن النار أنها تنتقم في الآخرة من جميع أعدائه وليس يستوجبها بَشريٌّ
منْ بَشَريّ ولا جنيٌّ من جنيّ بضغينةٍ ولا ظلمٍ ولا جنايةٍ ولا عُدْوان ولا
يَسْتَوْجِبُ النارَ إلا بعداوة اللّه عزَّ وجلَّ وحده وبها يَشْفي صدورَ أوليائه
من أعدائهم في الآخرة .
عظم شأن ما أضيف إلى الله وكل شيء أضافه اللّه إلى نفسه
فقد عظَّم شأنه وشدَّد أمره وقد فَعَل ذلك بالنار فقالوا بأجمعهم : دَعْهُ في نار
اللّه وسقَرِه وفي غضب
اللّه
ولعنته وسَخَط اللّه وغضبه هما ناره أو الوعيدُ بناره كما يقال : بيتُ اللّه
وزُوّار اللّه وسماءُ اللّه وعرشُ اللّه .
المنة الأولى بالنار ثم ذكرها فامْتَنّ بها على أهل
الأرض من وجهين : أحدهما قوله عزّ وجلّ : الِّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الأَخْضَرِ ناراً فَإذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ فَجَعَلَهَا من أعظم الماعون
معونة وأخفها مَؤُونة .
استطراد لغوي والماعون الأكبر : الماء والنار ثم الكَلأُ
والملح .
قال الشاعر في الماعون بيتاً جامعاً أحسن فيه التأديةَ
حيث قال : ( لا تَعْدِلَنّ أتَاوِيِّينَ قد نزلوا ** وَسْطَ الْفَلاَةِ بِأصْحَابِ
المُحِلاَّتِ ) والمُحِلاَّت هي الأشياء التي إذا كانت مع المسافرين حَلّوا حيثُ
شاؤوا وهي القَدَّاحة والقِرْبة والمِسْحاة فقال : إياك أن تَعْدِلَ إذا أردت
النّزولَ مَنْ مَعَهُ أصنافُ الماعونِ بأتَاوِيِّين يعني واحداً أتى مِنْ هاهنا
وآخر أتى
من هاهنا كأنهم جماعة التقَوْا من غيرِ تعريف بنسب ولا بلد وإذا تجمعوا أفذاذاً لم
يكمل كلّ واحدٍ منهم خصال المحِلاَّت .
قال أبو النجم : وقالت امرأة من الكفار وهي تحرِّض
الأوسَ والخزْرج حين نزل فيهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم وعلى آله وصحبهِ : (
أطعْتُمْ أتَاوِيَّ مِنْ غَيْرِكُمْ ** فَلاَ مِنْ مُرَادٍ وَلاَ مَذْحِجِ ) ولم
ترِدْ أنهما أشرفُ من قريش ومن الحيّيْن كعبٍ وعامر ولكنها أرادت أن تؤلّبَ
وتُذْكِيَ العصبيّة . )
اختيار ما تبنى عليه المدن وقالوا : لا تُبْتَنَى المدن إلا على الماء
والكلإ والمحتطبِ فدخلت النار في المحتطَب إذ كان كلُّ عود يورِي .
المنة الثانية بالنار وأما الوجه الآخرُ من الإمتنان بها
فكقوله تعالى : يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ
تَنْتَصِرَانِ ثم قال على صِلَة الكلام : فبِأيِّ آلاَءِ رَبِّكما تكَذِّبَانِ
وليس يريد أنّ إحراقَ اللّه عز وجلَّ العبدَ بالنار من آلائه ونعمائه ولكنه رأى أن
الوعيدَ الصادق إذا كان في غاية الزجر عما يُطغيه ويُرْدِيه فهو من النعم السابغة
والآلاء العظام .
وكذلك نقول في خلْقِ جهنم : إنها نعمة عظيمة ومِنَّةٌ
جليلةٌ إذا كان زاجراً عن نفْسه ناهياً وكيف تكونُ النقمُ نِعَماً ولو كانت النقمة
نعمةً لكانت رحمة ولكان السّخط رضا وليس يَهْلكُ عَلَى البينة إلا هالك وقال اللّه
عزّ وَجلَّ : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ .
عظات للحسن البصري وقال الحسن : واللّهِ يا ابن آدم ما
توبِقُكَ إلا خطاياك قد أُريد بك النجاةُ فأبيتَ إلا أن توقِعَ نفسَك .
وشهِد الحسَنُ بعضَ الأمراء وقد تعدّى إقامة الحدّ وزاد
في عددِ الضرب فكلمه في ذلك فلما رآهُ لا يقبلُ النصح قال : أمَا إنكَ لا تضرِبُ
إلا نفسكَ فإن شئْتَ فَقَلِّلْ وإن شئتَ فَكثِّر .
وكان كثيراً ما يتلو عند ذلك : فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى
النَّارِ .
عقاب الآخرة وعقاب الأولى والعقاب عقابان : فعقاب آخرةٍ
وعقابُ دنيا فجميعُ عقاب الدنيا بَلِيَّةٌ منْ وجه ونعمةٌ من وجه إذ كان يؤدِّي
إلى النعمة وإن كان مؤلماً فهو عن المعاصي زاجرٌ وإن كان داخلاً في باب الامتحان
والتعبُّد مع دخوله في باب العقاب والنعمة إذ كان زجراً وتنكيلاً لغيره وقد
كلِّفنا الصبرَ عليه والرضا به والتسليم لأمر اللّه فيه .
وعقاب الآخرة بلاءٌ صِرْف وخزيٌ بَحْت لأنه ليس بِمخْرَج
منه ولا يحتملُ وجهين .
وقال أبو إسحاقَ : الجمرُ في الشمس أصهب وفي الفيء أشكلُ
وفي ظلِّ الأرض الذي هو الليل أحمر وأيُّ صوتٍ خالطَتْه النار فهو
أشد
الأصوات كالصاعقة والإعصار الذي يخرج )
من شِقِّ البحر وكصوت المُوم والجَذْوَةِ من العود إذا
كان في طَرَفِه نارٌ ثم غمستَه في إناءٍ فيه ماءُ نَوًى مُنْقَع .
ثم بالنار يعيشُ أهلُ الأرض من وجوه : فمن ذلك صنيعُ
الشمس في بردِ الماء والأرض لأنها صِلاءُ جميعِ الحيوان عند حاجتها إلى دفع عاديةِ
البردِ ثمّ سراجُهم الذي يستصبحون به والذي يميزون بضيائه بين الأمور .
وكلُّ بخار يرتفع من البحار والمياهِ وأصول الجبال وكل
ضبابٍ يعلو وندًى يرتفع ثم يعود بركة ممدودة عَلَى جميع النبات والحيوان فالماء
الذي يحلُّه ويلطِّفه ويفتحُ له الأبوابَ ويأخُذُ بضَبْعه من قَعر البحر والأرضِ
النارُ المخالطة لهما من تحتُ والشمسُ من فوق .
عيون الأرض وفي الأرض عيون نار وعيونُ قَطِران وعيون
نِفْط وكباريت وأصناف جميع الفِلِزّ من الذهب والفضة والرَّصاص والنُّحاس فلولا
ما في
بطونها من أجزاء النار لما ذَابَ في قعرها جامدٌ ولَمَا انسبك في أضعافها شيءٌ من
الجواهر وَلَمَا كان لمتقاربِها جامع ولمختلفها مُفَرِّق .
قال : وتقول العرب الشمسُ أرحَمُ بنا .
وقيل لبعض العرب : أيُّ يوم أنفع قال : يومُ شَمَال
وشَمْس .
وقال بعضهم لامرأته : ( تمَنَّيْنَ الطَّلاَقَ وأنْتِ
عِنْدِي ** بِعَيْشٍ مثلِ مَشْرِقَةِ الشَّمالِ ) وقال عُمَر : الشمسُ صِلاَءُ
العرب قال عُمر : العربيُّ كالبعير حيثما دارت الشمسُ استقبلَهَا بهامَتِه .
ووصف الرّاجز إبلاً فقال : تستقبل الشمسَ بجُمْجُماتها
وقال قَطِران العبسيّ : ( بمستأسد القُرْيَانِ حُوٍّ تِلاعُهُ ** فنُوّارُهُ مِيلٌ
إلى الشمسِ زاهِرُهْ ) الْخِيريّ والخِيريُّ ينضم ورقه بالليل وينفتح بالنهار .
ولإسماعيل بن غزْوان في هذا نادرةٌ وهو أن سائلاً
سألَنَا من غير أهل الكلام فقال : ما بالُ )
ورق الخِيريّ ينضم بالليل وينتشرُ بالنهار فانبَرَى له
إسماعيل بنُ غَزْوان فقال : لأن بردَ الليل وثِقلَه من طباعهما الضمُّ والقبض
والتّنويم وحرّ شمس النهار من طباعه الإذابة والنشر والبسْط والخفَّة والإيقاظ قال
السائل : فيما قلت دليلٌ ولكنه قال إسماعيل : وما عليك أن يكون هذا في يدك إلى أن
تصيبَ شيئاً هو خيرٌ منه .
تسرع الحمر الألوان وفالج ذوي البدانة وكان إسماعيل
أحمَر حَليماً وكذلك كان الحَراميّ وكنت أظن بالحمر الألوانِ التسرعَ والحدَّةَ
فوجدت الحلْمَ فيهم أعمّ وكنت أظن بالسمان الخِدالِ العظامِ أنّ الفالِجَ إليهم
أسرعُ فوجدتُهُ في الذينَ يُخالفون هذه الصِّفَةَ أعَمّ .
أثر الشمس والحركة والجوِّ في الأبدان وقال إياسُ بن
معاوية : صِحَّة الأبدان مع الشمس ذهب إلى أهل العَمَد والوبر .
وقال مثنَّى بن بشير : الحركة خيرٌ من الظل والسُّكون .
وقد رأينا لِمَن مدح خلاف ذلك كَلاَماً وهو قليل .
وقيل لابنة الخسِّ : أيُّمَا أشَدُّ : الشتاء أمِ الصيف
قالت : ومن يجعل الأذى كالزمانة
.
وقال أعرابيٌّ : لا تَسُبُّوا الشَّمال فإنها تضعُ أنفَ
الأفعى وترفع أنف الرِّفقة .
وقال خاقانُ بن صبيح وذكر نُبْلَ الشتاء وفضلَه عَلَى
نُبْلِ الصيف فقال : تغيب فيه الهوام وتنجحر فيه الحشرات وتظهر الفِرْشَة والبزّةُ
ويكثُر فيه الدّجْن وتطيب فيه خِمْرة البيت ويموت فيه الذِّبان والبَعوض ويبرُد
الماء ويسخُن الجوفُ ويطيبُ فيه العِناق .
وإذا ذكرت العربُ بَرْدَ الماء وسخونة الجوِف قالت :
حِرٌّ ةٌ تحت قِرّة .
ويجود فيه الاستمراء لطول الليل لتَفصِّي الحرِّ .
وقال بعضهم : لا تُسَرّنَّ بكثرة الإخوان ما لم يكونوا
أخياراً فإن الإخوان غيرَ الخِيَارِ بمنْزِلةِ النار قليلُها متاعٌ وكثيرها بوار .
نار الزحفتين
قال : ومن
النيران نار الزَّحْفتَيْنِ وهي نار أبي سريع وأبو سريع هو الْعَرْفجُ .
وقال قُتيبة بن مسلم لعُمَرَ بن عبَّاد بن حُصين :
واللّه لَلسُّؤدُدُ أسرعُ إليك من النار في يبيس العَرْفَجِ .
وإنما قيل لنار العَرفج : نار الزحفتين لأن العَرفَج إذا
التهبَتْ فيه النار أسرعَتْ فيه وعَظُمَتْ وشاعت واستفاضت في أسرَعَ من كل شيء فمن
كان في قُرْبها يزحف عنها ثم لا تلبثُ أن تنطفئ من ساعتها في مثل تلك السرعة
فيحتاج الذي يزحف عنها أن يزحَفَ إليها من ساعِته فلا تزالُ للمصْطَلي كذلك ولا
يزال المصطلي بها كذلك فمن أجْلِ ذلك قيل : نار الزَّحْفَتَيْنِ
قال :
وقيل لبعض الأعراب : ما بالُ نسائكم رُسْحاً قال : أرْسَحَهُنَّ عَرْفَجُ
الهَلْبَاءِ .
صورة عقد بين الراعي والمسترعي وهذا شرط الراعي فيما
بينه وبين من استرعاه ماشيته في القارِّ والحارِّ وذلك أن شرطهم عليه أن يقول
المسترعي للراعي : إن عليك أن تردَّ ضالَّتها وتهنأ جرْباها وتلوط حوضَهَا ويدُك
مبسوطةٌ في الرِّسْل ما لم تُنْهِكَ حَلْباً أو تضرّ بنَسْل .
قال : فيقول عند ذلك الراعي لرب الماشية بعد هذا الشرط :
ليس لك أن تَذْكُرَ أُمِّي بخيرٍ ولا شرّ
ولك حذْفَةٌ بالعصا عند غضَبِك أخطأتَ أو أصَبْتَ ولي مَقعدي من النار وموضعُ يدي من الحارّ والقارّ .
شبه ما بين النار والإنسان
قال :
ووَصف بعض الأوائل شبَهَ ما بين النار والإنسان فجعل ذلك قرابة ومشاكلة قال : وليس
بين الأرض وبين الإنسان ولا بين الإنسان والماء ولا بين الهواء والإنسان مثل قرابة
ما بينه وبين النار لأن الأرض إنما هي أمٌّ للنبات وليس للماء إلا أنُه مَرْكَب
وهو لا يغذُو إلاَّ ما يعقِدهُ الطبخ وليس للهواء فيه إلا النسيم والمتقلَّب وهذه
الأمور وإن كانت زائدة وكانت النفوسُ تَتلَفُ مع فَقْدِ بعضها فطريق المشاكلةِ
والقرابةِ غير طريق إدخال المَرْفَق وجَرِّ المنفعة ودفعِ المضَرّة .
قال : وإنما قضيتُ لها بالقرابة لأني وجدت الإنسان
يَحْيَا ويعيشُ في حيثُ تحيا النار وتعيشُ وتموتُ وتَتْلَفُ حيث يموت الإنسانَ
ويتلف .
وقد تدخل نار في بعض المطامير والجِبابِ والمغاراتِ
والمعادن
فتجدها متى ماتت هناك علمنا أن الإنسان متى صار في ذلك الموضِعِ مات ولذلك لا
يدخلها أحدٌ ما دامت النار إذا صارتْ فيها ماتت ولذلك يعمد أصحاب المعادن
والحفايرِ إذا هجموا على فَتْق في بطن الإرض أو مغارة في أعماقها أو أضعافها
قدّموا شمعةً في طرَفها أو في رأسها نارٌ فإن ثبتت النار وعاشت دخلوا في طلب
الجواهر من الذهب وغير ذلك وإلا لم يتعرَّضوا له وإنما يكونُ دخولُهم بحياة النار
وامتناعُهم بموت النار .
وكذلك إذا وقعوا على رأس الجُبِّ الذي فيه الطعامِ لم
يجسُروا على النزول فيه حتى يُرسلوا في ذلك الجبِّ قِنديلاً فيه مصباحٌ أو شيئاً
يقومُ مقامَ القِنديل فإن مات لم يتعرَّضوا له وحرّكوا قال : وممّا يُشَبَّه
النارُ فيه بالإنسان أنك ترى للمصباح قبل انطفائه ونفادِ دهنه اضطراماً وضياءً
ساطعاً وشُعاعاً طائراً وحركة سريعةً وتنقضاً شديداً وصوتاً متداركاً فعندها
يخْمُدُ المصباح .
وكذلك الإنسان له قبلَ حالِ الموتِ ودُوَيْنَ انقضاء
مُدَّته بأقرب
الحالات
حال مُطْمِعَةٌ تزيد في القوة على حاله قَبلَ ذلك أضعافاً وهي التي يسمونها راحة
الموت وليس له بعد تلك الحال لُبث .
قول أحد المتكلَّمين في النفس وكان رئيسٌ من المتكلمين
وأحدُ الجِلَّة المتقدمين يقولُ في النفس قولاً بليغاً عجيباً لولا شُنْعته )
لأظْهَرْتُ اسمه وكان يقول : الهواءُ اسم لكل فتق وكذلك
الحيِّز والفتق لا يكون إلا بين الأجرام الغِلاظ وإلا فإنما هو الذي يسميه أصحاب
الفَلَكِ اللُّجَّ وإذا هم سألوهم عن خُضْرة الماء قالوا : هذا لُجّ الهواء وقالوا : لولا أنكَ في
ذلك المكانِ لرأيت في اللُّجِّ الذي فوق ذلك مثل هذه الخضرةَ وليس شيء إلا وهو
أرقُّ من كَتِيفِه أو من الأجرام الحاصرة له وهو
اسمٌ لكل
متحرَّك ومُتَقَلَّب لكل شيء فيه من الأجرام المركبة ولا يستقيم أن يكون من جنس
النسيم حتى يكونَ محصوراً إما بحصر كَتِيفِيٍّ كالسفينة لما فيها من الهواء الذي
به حَمَلَتْ مثلَ وزنِ جِرمها الأضعاف الكثيرة وإما أن يكون محصوراً في شيء كهيئة
البيضة المشتملة على ما فيها كالذي يقولون في الفَلَكِ الذي هو عندنا : سماء .
قال : وللنسيم الذي هو فيه معنى آخر وهو الذي يجعلُهُ
بعضُ الناس ترويحاً عن النفس يعطيها البَرْدَ والرِّقَّة والطِّيب ويدفعُ النَفسَ
ويُخرج إليه البخارَ والغِلَظ والحراراتِ الفاضلة وكلّ ما لا تقوى النَفسُ على
نفْيه واطِّرادِه .
قال : وليس الأمر كذلك بل أزعمُ أنّ النفس من جنس النسيم
وهذه النفسُ القائمة في الهواء المحصور عرضٌ لهذه النفسِ المتفرِّقة
في أجرام
جميع الحيوان وهذه الأجزاء التي في هذه الأبدان هي من النسيم في موضع الشعاع
والأكثاف والفروع التي تكون من الأصول .
قال : وضياء النفس كضياء دخلَ من كوَّة فلما سُدَّت
الكوَّةُ انقطع بالطَّفْرة إلى عنصره من قُرْص الشمس وشُعاعها المشرِقِ فيها ولم يُقِم
في البيت مع خلاف شكله من الجُروم ومتى عَمَّ السَّدُّ لم تُقِم النفْسُ في الجِرم
فوق لا .
وحكمُ النفْس عند السَّدِّ إذ كنا لا نجدها بعد ذلك كحكم
الضياء بعد السدّ إذ كنا لا نجده بعد ذلك .
فالنفسُ من جنس النسيم وبفساده تفسُدُ الأبدانُ وبصلاحه
تصلحُ وكان يعتمدُ على أن الهواء نفْسَه هو النفسُ والنسيم وأن الحرّ واللدونةَ
وغير ذلك من الخلاف إنما هو من الفساد العارضِ .
قيل له : فقد يفسُدُ الماء فتفسُدُ الأجرام من الحيوان
بفساده ويصلُحُ
فتَصلح
بصلاحه وتمْنَعُ الماء وهي تنازعُ إليه فلا تَحُلُّ بعد المنازعة إذا تمَّ المنْعُ
وتوصَلُ بِجِرْمِ الماء فتقيمُ في مكانها فلعل النفسَ عند بُطلانِها في جسمها قد
انقطعت إلى عُنصر الماء بالطّفرة . )
وبعدُ فما عَلَّمَكَ لعلّ الخنْقَ هيَّجَ عَلى النفس
أضداداً لها كثيرةً غمرتها حتى غرقت فيها وصارت مغمورةً بها .
وكان هذا الرئيس يقول : لولا أن تحت كلِّ شعرةٍ
وزَغَبَةٍ مجرى نَفَسٍ لكان المخنوقُ يموتُ مع أوّلِ حالات الخنق ولكن النفْسَ قد
كان لها اتصالٌ بالنسيم من تلك المجاري على قدر مِنَ الأقدار فكان نَوْطُها جوف
الإنسان فالرِّيح والبُخَارُ لمَّا طلَبَ المنفذ فلم يجِدْه دارَ وكثُفَ وقويَ
فامتدَّ له الجلدُ فسدَّ له المجاري فعند ذلك ينقطع النفَس ولولا اعتصامها بهذا
السبب لقد كانت انقطعت إلى أصلها من القُرْص مع أول حالات الخنق .
وكان يقول : إن لم تكن النفسُ غُمِرت بما هُيّج عليها من
الآفاتِ ولم تنقطع للطَّفْر إلى أصلها جاز أن يكون الضياءُ الساقطُ على أرض البيت
عند سدِّ الكُوّةِ أن يكون لم ينقطع إلى أصله . ولكن
وكان
يعظّم شأنَ الهواء ويُخبر عن إحاطته بالأمور ودخوله فيها وتفضُّل قوّته عليها .
وكان يزعمُ أن الذي في الزّقّ من الهواء لو لم يكن له
مَجَارٍ ومنافسُ ومُنِع من كل وجهةٍ لأقَلَّ الجَمَلَ الضخم .
وكان يقول : وما ظنّك بالرِّطل من الحديد أو
بالزُّبْرَةِ منه أنه متى أُرسل في الماء خَرَقه كما يخرق الهواء قال : والحديد
يسرعُ إلى الأرض إذا أرسلتَه في الهواء بطبعه وقوّته ولطلبه الأرضَ المشاكِلَةَ له
ودفعِ الهواء له وتبرِّيه منه ونفيه له بالمضادة واطِّرَادِهِ له بالعداوة .
قال :
ثمّ تأخذُ تلك الزُّبْرَة فتبسُطها بالمطارق فتنزل
نزولاً دون ذلك لأنها كلما اجتمعت فكان الذي يلاقيها من الماء أصغَر جِرْماً كانت
أقوى عليه .
ومتى ما أشخَصْتَ هذه الزُّبْرَة المفطوحة المبسوطةَ
المسطوحة بنتْق الحِيطان في مقدارِ غِلظ الإصبع حَمَلَ مثلَ زِنَتِهِ المرارَ
الكثيرةَ
وليس إلا
لما حصرَتْ تلك الإصبعُ من الهواء وكلما كان نتوُّ الحِيطان أرفع كان للأثقال
أحْمَلَ وكان الهواء أشدَّ انحصاراً .
قال : ولولا أن ذلك الهواءَ المحصورَ متَّصلٌ بالهواء
المحصور في جرم الحديد وفي جرم الخشبِ والقارِ فرفَعَ بذلك الاتصال السفينةَ
عُلوَّاً لَمَا كان يبلُغُ من حصر ارتفاع إصبعٍ للهواء ما يحملهُ البَغْل .
ويدلّ على ذلك شأن السكّابة فإنَّك تضعُ رأسَ السكّابة
الذي يلي الماء في الماء ثم تمصه من الطرف الآخر فلو كان الهواء المحصورُ في تلك
الأنبوبةِ إنما هو مجاورٌ لوجهِ الماء ولم يكن متصلاً )
بما لابَس جِرْم الماء من الهواء ثم مصصْتَه بأضعافِ ذلك
الجذْبِ إلى ما لا يتناهى لَمَا ارتفع إليك من الماء شيءٌ رأساً .
وكان يقول في السَّبيكة التي تُطيل عليها الإيقاد كيف لا
تتلوّى فما هو إلا أن يُنفخ عليها بالكيرِ حتى تدخلَ النيرانُ في تلك المداخلِ
وتُعاوِنَها الأجزاءُ التي فيها من الهواء .
وبمثل ذلك قامَ الماءُ في جوف كُوزِ المِسْقاة المنكس
ولعلمهم بصَنيع
الهواء
إذا احتَصَر وإذا حُصِر جعلوا سَمْكَ الصِّينية مِثلَ طولها أعني المركبَ
الصِّينيّ .
وكان يخبر عن صنيع الهواء بأعاجيب .
وكان يزعم أنّ الرّجلَ إذا ضُرِبت عنقُه سقط عَلَى وجهه
فإذا انتفخَ انتفخَ غُرمُوله وقامَ وعَظُم فَقَلبَه عند ذلك على القفَا فإذا جاءت
الضّبُع لتأكله فَرَأته على تلك الحال ورأت غُرمُوله على تلك الهيئة استَدْخَلَتْه
وقضتْ وطرَها من تلك الجهة ثم أكلَت الرّجلَ بعد أن يقوم ذلك عندك أكثر من سِفاد
الذِّيخ .
والذِّيخ : ذَكر الضِّباع العَرقاء .
وذكر بعضُ الأعراب أنه عاينَها عند ذلك وعند سِفاد
الضَّبُع لها فوجد لها عند تلك الحال حركةً وصياحاً لم يجده عندها في وقت سِفاد
الذِّيخ لها .
ولذلك قال أبو إسحاق لإسماعيل بن غَزْوان : أشهد باللّه
إنك لَضَبُعٌ لأن إسماعيل شدّ جاريةً له على سُلّم وَحلَف ليضرَبَّها مائةَ سَوْطٍ
دونَ الإزار ليلتزِقَ جلدُ السّوط بجلدها فيكون أوْجَعَ لها
فلما كشفَ
عنها رَطْبةً بَضَّةً خَدْلَةً وقَع عليها فلما قضى حاجته منها وفَرَغَ ضرَبها
مائة سوط فعند ذلك قال أبو إسحاقَ ما قال .
اختلاف أحوال الغرقى وإذا غرقت المرأةُ رسبتْ فإذا
انتفخت وصارت في بطنها ريح وصارت في معنى الزقّ طفا بدنُها وارتفع إلا أنها تكون
مُنْكَبَّةً ويكونُ الرّجل مستلقياً
.
وإذا ضُربتْ عُنقُ الرّجلِ وأُلقيَ في الماء لم يَرسُب
وقام في جوف الماء وانتصب ولم يغْرَق ولم يَلزم القعر ولم يظهر كذلك يكونُ إذا كان
مضروبَ العُنق كان الماء جارياً أو كان ساكناً حتى إذا خفّ وصار فيه الهواء وصار
كالزِّقِّ المنفوخ انقلبَ وظهَرَ بدنه كله وصار مستلقياً كان الماءُ جارياً أو كان
قائماً فوُقوفُه وهو مضروب العُنق شبيهٌ بالذي عليه طباعُ العقربِ التي فيها )
الحياة إذا ألقيتَها في ماء غَمْر لم تطفُ ولم ترسبْ
وبقيتْ في وسط عُمْق الماء لا يتحرَّك منها
ما يسبح
من الحيوان والعقرب من الحيوان الذي لا يسبَح فأما الحيّة فإنها تكونُ جيِّدَةَ
السباحةِ إذا كانت من اللواتي تنساب وتزحف فأمّا أجناس الأفاعي التي تسير على جنبٍ
فليس عندها في السباحة طائل .
والسِّباحة المنعوتة إنما هي للإوزّةِ والبقرةِ والكلبِ
فأمّا السمكةُ فهي الأصل في السباحة وهي المثل وإليها جميع النسبة .
والمضروب العنق يكون في عُمْق الماء قائماً والعقربُ
يكون على خلاف ذلك . ( ثمّ رجع بنا القول إلى ذكر النار ) قال : وللنار من الخصال المحمودةِ
أنَّ الطفل لا يُناغي شيئاً كما يُناغي المِصْباح وتلك المناغاة نافعةٌ له في
تحريك النفْس وتهييج الهمة والبعثِ على الخواطر وفتق اللّهاة وتسديد اللسان وفي
السرور الذي له في النفس أكرمُ أثر
.
قول الأديان في النار قال : وكانت النار معظَّمةً عند
بني إسرائيل حيث جعلها اللّه تعالى تأكل القربان وتدل على إخلاص المتقرِّب وفساد
نية المُدْغِل وحيث قال اللّه لهم : لا تُطْفِئُوا النَّارَ مِنْ بُيُوتِي ولذلك
لا تجد الكنائس وَالبِيَعَ أبداً إلا وفيها المصابيح تزْهر ليلاً ونهاراً حتى
نَسَخَ الإسلام ذلك وأمرنا بإطفاء النيران إلا بقدر الحاجة .
فَذَكَرَ
ابنُ جُريجٍ قال : أخبرني أبو الزّبير أنه سمع جابرَ بن عبدِ اللّه يقول : أمرني رسولُ اللّه صلّى
اللَّه عليه وسلم فقال : إذا رَقَدْتَ فأغلق بابك وخَمِّرْ إناءك وأوْكِ سِقَاءَك
وأطفئ مصباحَك فإِن الشيطان لا يفتح غَلَقاً ولا يكشفُ إناءً ولا يحلُّ وِكاءً وإن
الفأرة الفُويسِقَة تحرقُ أهل البيت
.
وفِطْر بن خليفة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد اللّه قال : قال لنا رسولُ
اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أغْلِقُوا أبوابَكم وأوْكُوا أسقِيتكم وخَمِّروا
آنيتكم وأطفئوا سُرُجكم فإِن الشيطان لا يفتحُ غلَقاً ولا يُحلُّ وِكاءً ولا يكشفٍ
ُ غِطاءً وإن الفويسقَة تضرِّم البيتَ على أهله
وكُفُّوا
مَوَاشِيَكم وأهليكم حينَ تغرُب الشمس حتى تذهبَ فحمةُ العِشاء .
قال : ويدل على أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يأمر بحفظها
إلا بقَدر الحاجةِ إليها ويأمر بإطفائها )
إلا عند الاستغناء عنها ما حدَّث به عبَادُ بن كثير قال
: حدّثَني الحسن بنُ ذكْوان عن شَهْر بن حَوشب قال : أمر رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه
وسلم أن تحبسوا صبيانَكم عند فحمة العشاء وأن تُطفئوا المصابيح وأن توكِئوا
الأسقِية وأن تخمِّروا الآنية وأن تغلِّقوا الأبواب قال : فقام رجلٌ فقال : يا رسول اللّه
إنه لا بدّ لنا من المصابيح للمرأةِ النُّفساءِ وللمريض وللحاجة تكون
قال : فلا
بأسَ إذاً فإن المصباحَ مَطْرَدَةٌ للشيطان مذبَّةٌ للهوام مَدَلَّةٌ على اللصوص .
نار الغول قال : ونارٌ أخرى وهي التي تذكر الأعرابُ أن
الغولَ تُوقِدُها بالليل للعبث والتخليل وإضلال السابلة .
قال أبو المطراب عُبيد بن أيوبَ العَنبَرِيّ : ( فللّه
دَرُّ الغُولِ أيُّ رَفيقةٍ ** لصاحبِ قَفْرٍ خائفٍ مُتَقَتِّرُ ) ( أرنّت بلَحْنٍ
بعدَ لَحْنٍ وَأَوقَدَتْ ** حَوَالَيَّ نِيراناً تبوخُ وتزهرُ ) جَمَرات العرب قال
: وجَمَراتُ العرب : عبسٌ وضَبّةُ ونُمَير يقال لكلِّ واحد منهم : جمرة .
وقد ذكر أبو حَيَّةَ النُّميري قومَه خاصَّةً فقال : (
وهمْ جَمْرَةٌ لا يَصْطَلي الناسُ نارَهم ** تَوَقَّدُ لا تُطْفا لِريْب النّوائبِ
) ويروى : الدوابر .
ثم ذكر هذه القبائل فعمّهُمْ بذلك لأنها كلَّها
مُضَرِيَّة فقال : ( نُمَيْرٌ وعَبْسٌ تُتَّقَى صَقرَاتُهَا ** وضَبّةُ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ
كاذِبِ ) يعني شدّتها . ( إلى كلِّ قومٍ قَدْ دَلَفْنَا بجَمْرَةٍ ** لها عارضٌ
جَونٌ قَويُّ المناكبِ )
4
سقوط الجمرة
وعلى ذلك المعنى قيل : قد سقَطت الجَمْرة إذا كان في اسقبال زمان الدَّفاء ويقولون : قد سقطت الجمرة الأولى والثانية والثالثة . 4
استطراد لغوي
والجمار : الحصى الذي يُرْمَى به والرَّمْي : التجمير قال الشاعر :
( ولم أرَ كالتجميرِ منظَرَ
ناظِرٍ ** ولا كلَيَالِي الحجِّ أفْتَنّ ذا هَوَى ) والتجمير أيضاً : أن يُرْمَى
بالجُنْد في ثغر من الثُّغورِ ثم لا يُؤْذَنَ لهم في الرجوعِ .
وقال حُمَيْدٌ الأرقَطُ : ( فاليومَ لا ظلم ولا تَتْبيرُ
** ولا لغازٍ إنْ غَزَا تَجميرُ ) وقال بعضُ مَنْ جُمِّرَ من الشعراء في بعض
الأجناد : ( أجَمَّرْتَنَا تَجميرَ كِسْرى جُنُودَهُ ** ومَنّيْتَنَا حتى مَلِلنا الأمانيا )
وقال
الجعديُّ : ( كالخلايا أنشأنَ من أهل سابا ** طَ بجنْد مُجَمَّرٍ بِأُوَالِ )
ويقال قد أجمر الرجل : إذا أسرع أوْ أعجلَ مركَبه .
وقال لبيد : ( وإذا حَرَّكْتُ غَزْرِي أجْمَرَتْ ** أَوْ
قِرَابي عَدْوُ جَوْنٍ قَدْ أَبَلْ ) وقال الراجز : أجْمَرَ إجْمَاراً لَهُ تَطْمِيمُ
التّطميم : الارتفاع والعلوُّ ويقال
: أجْمَرَ ثوبَه إذا دخّنه .
والمِجْمرة والمِجْمر : الذي يكون فيه الدُّخنة وهو
مأخوذٌ من الجَمْر .
ويقال : قد جَمَّرت المرأةُ شَعْرَها إذا ضَفَرته
والضَّفر يقال له الجمير قال : ويسمى الهلالُ قبل ليلةِ السِّرار بلَيلةٍ : ابن
جَمِير قال أبو حَرْدَبة : ( فهل الإله يُشِيِّعُني بفوارسٍ ** لبَنِي أمَيّةَ في
سِرار جَميرِ ) وأنشدني الأصمعيُّ : ويقال : قد تجمَّر القوم إذا هم اجتمعو حتى
يصير لهم بأسٌ ويكونوا كالنارِ على أعدائهم )
فكأنهم جمرةٌ أو كأنهمْ جَميرٌ ٌ من شعر مضفور أو حَبل
مُرصّعِ القُوَى .
وبه سمِّيت تلك القبائلُ والبطونُ من تميم : الجمار .
والمجمَّر مشدّد الميم : حيثُ يقع حصى الجمار وقال
الهذلي :
( لأَدْركهمْ شُعْثَ
النّوَاصِي كأنهمْ ** سوابقُ حُجّاجٍ تُوَافي المجمَّرا ) ويقال خُفٌّ مجمَّرَ :
إذا كان مجتمعاً شديداً .
ويقال : عدَّ فلانٌ إبله أو خيله أو رجاله جَمَاراً :
إذا كان ذلك جُملة واحدة وقال الأعشى : ( فَمَنْ مُبْلَغٌ وائلاً قومَنا ** وأعْني
بذلك بَكراً جَمَارَا ) قال : ويقال في النار وما يسقط من الزَّند : السِّقط
والسُّقط والسَّقْط ويقال : هذا مَسقِط الرمل أي مُنْقَطَع الرمل ويقال : أتانا مَسْقِط
النَّجْمِ إذا جاء حين غاب .
ويقال رَفَعَ الطائرُ سِقْطَيْه وقال الشاعر : ( حتى إذا
ما أضاء الصُّبْحُ وانبعثتْ ** عنهُ نعامةُ ذِي سِقْطَينِ مُعْتكرِ )
أراد
ناحيتي الليل .
ويقال : شبّت النار والحرب تَشِبّ شَبّاً وشببْتها أنا
أشبُّها شَبّاً وهو رجل شَبُوبٌ للحرب
.
ويقال : حَسَبٌ ثاقب أي مضيءٌ متوقد وكذلك يقال في العلم
ويقال : هب لي ثقوباً وهو ما أثقَبْتَ به النار من عُطْبَةٍ أو من غيرها ويقال :
أثقب النار إذا فتح عَيْنَهَا لتشتعل وهو لثَّقوب ويقال : ثَقَبَ الزندُ ثُقوباً
إذا ظهرت ناره وكذلك النار والزند الثاقب الذي إذا قدِح ظهرت النار منه .
ويقال : ذَكَتر النارُ تَذْكُو ذُكُوّاً إذا اشتعلت
ويقال ذَكّها إذا أريد اشتعالها وذُكاءُ اسم للشمس مضموم الذال المعجمة وابن ذُكاء
: الصبح ممدود مضموم الذال وقال العجَّاج :
وابنُ
ذُكاءٍ كامنٌ في كَفْرِ وقال ثَعلَبة بن صُعير المازني وذكر ظليماً ونعامةً : (
تذكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بعدَ ما ** لْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ ) وأما
الذكاء مفتوح الذال ممدود فحدَّه الفُؤَاد وسُرعةُ اللَّقْنِ .
وقالوا
: أضْرَمْتُ النار حتى اضطرمتْ وألهبْتُها حتى التهبت
وهما واحد والضِّرام من الحطب : ما ضعُف منه ولان والجَزْل : ما غلُظ واشتدَّ
فالرِّمْث وما فوقه جَزْل والعَرْفَج وما )
دونه ضرام والقصب وكل شيء ليس له جمرٌ فهو ضِرام وكل ما
له جَمر فهو جَزل .
ويقال : ما فيها نافخ ضَرَمَة أي ما فيها أحدٌ ينفخ
ناراً .
ويقال : صَلَيتُ الشاةَ فأنا أصْليها صَلْياً أذا
شَوَيتها فهي مَصْليَّة ويقالُ
:
صَلِيَ
الرجُلُ النار يَصْلاها وأصلاه اللّه حرَّ النارِ إصلاءً وتقول : هو صالٍ حرَّ
النار في قومٍ صالين وصُلَّى .
ويقال : هَمَدت النار تَهمُدُ هُمُوداً وطفِئَتْ تطفَا
طُفُوءاً إذا ماتت وخَمَدَتْ تَخَْمُدُ خُمُوداً إذا سكن لهبُها وبَقِي جمراً
حارّاً .
وشبّت النار تشِبُّ شُبوباً إذا هاجتْ والتهبت وشبّ
الفرسُ بيديه فهو يشِبّ شِباباً وشبَّ الصبيُّ يشِبُّ شَباباً ويقال : ليس لك
عَضَّاضٌ ولا شَبّاب .
ويقال : عَشَا إلى النار فهو يعشو إليها عَشْواً وعُشُوا
وذلك يكون من أول الليل يرى ناراً فيعشو إليها يستضيءُ بها قال الحطيئة : ( متى
تأتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْء نارِهِ ** تجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِدِ ) وقال الأعشى :
وباتَ على النارِ الندى والمحلق ويقال : عَشِيَ الرجل يَعْشَى عَشاوةً وهو رجلٌ
أعشى وهو الذي لا بيبصر بالليل وعشِي الرجلُ علَى صاحبِه يعشَى عَشاً شديداً .
نار الحرب ويذكرون ناراً أخرى وهي على طريق المثل
والاستعارة لا على طريق الحقيقة كقولهم في نار الحرب قال ابن مَيَّادة : ( يداه :
يدٌ تَنْهَلُّ بالخير والنّدا ** وأُخْرَى شديدٌ بالأعادي ضَرِيُرها ) ( وناراهْ :
نارٌ نارُ كَلٍّ مُدَفَّعٍ ** وأخرى يُصيبُ المجرمينَ سَعيرُها ) وقال ابن كُناسَةَ : (
خَلْفَهَا عارضٌ يَمُدُّ عَلَى الآ ** فاقِ سِتْرَيْينِ مِنْ حديدٍ ونار ) ( نارُ
حربٍ يشُبُّها الحَدُّ والجِ ** دّ وتُعْشِي نوافذَ الأبصارِ ) وقال الرَّاعي : ( وَغارَتُنَا
أوْدَتْم ببَهرَاءَ إنها ** تصيبُ الصّرِيحَ مَرّةَ والمواليا )
( وكانت لنا نارانِ : نارٌ
بجاسِمٍ ** ونارٌ بدَمْخٍ يُحرِقانِ الأعاديا ) جاسم : بالشام ودمْخ : جَبَلٌ
بالعالية .
نار القِرى ونار أخرى وهي مذكورةٌ عَلَى الحقيقة لا على
المثل وهي مِن أعظم مفاخر العرب وهي النار التي ترْفَع للسَّفر ولمن يلتمسُ
القِرَى فكلما كان موضِعها أرفَع كان أفخر . ( لا الغياباتُ منْتَوَاكَ ولكنْ **
في ذُرَى مُشْرِفِ القصورِ ثَوَاكَا ) وقال الطائي : ( وبوأت بيتكَ في مَعْلَمٍ **
رفيعِ المباءةِ والمسرحِ )
( كيفتَ العُفاةَ طلابَ
القرى ** ونبح الكلابِ لمستنبحِ ) ( ترى دعسَ آثارِ تلكَ المط ** يِّ أخاديدَ
كاللقمِ الأفيحِ ) ( ولو كنتَ في نفقٍ رائغٍ ** لكنتَ على الشركِ الأوضحِ )
وأنشدني أبو الزِّبرقان : ( له نارٌ تُشَبُّ بكلِّ ريع ** إذَا الظلماءُ جَلَّلَتِ
البقاعَا ) ( وما إن كان أكْثَرَهمْ سَوَاماً ** ولكنْ كان أرْحَبَهُمْ ذِرَاعا )
ويروى : ولَمْ يَكُ أكْثَرَ الفِتْيَانِ مالاً . )
وفي نار القِرَى يقول الآخر : ( عَلَى مِثْلَ هَمَّامٍ
ولَمْ أَرَ مثْلَهُ ** تُبَكِّي البَوَاكي أو لبِشْرِ بنِ عامر ) ( غلامان كان
استَوْرَدَا كلَّ مَوْرِدٍ ** مِنَ المجدِ ثمَّ استوسعا في المصادر )
( كأنَّ سَنَا ناريهما كلَّ شَتْوَةٍ ** سَنَا الفجرِ يبدَو للعُيُونِ النّواظِرِ ) ( ومستنبحٍ يخشي القواءَ ودونهُ ** من الليلِ بابَا ظلمَة وستورُها ) ( رفعتُ لهُ ناري فلما اهتدى بها ** زجرتُ كلابي أن يهرَّ عقورُها ) ( فلا تسأليني واسألي عن خليقتي ** إذا رَدَّ عَافي القدرِ منْ يستعيرُها ) ( ترى أنْ قدري لاتزالُ كأنها ** لذي الفروة المقرور أمُّ يزورُها ) ( مبرزة لا يجعلٌ الستر دونها ** إذا أخمد النيرانُ لاح بشيرها ) ( إذا الشولُ راحتْ ثم لَمْ تفدِ لحمها ** بألبانها ذاقَ السنانَ عقيرها )
خبر وشعر
في الماء أما إن ذكرنا جُملةً من القول في الماء من طريق الكلام وما يدُخل في الطب
فستذكُر من ذلك جملة في باب آخر : قالوا : مدَّ الشعبي يدهُ وهو على مائدة قتيبة
بن مسلم يلتمس الشرابَ فلم يَدْرِ صاحبُ الشرابِ اللبن أم العسلَ أم بعضَ الأشربة
فقال له : أي الأشربةِ أحبُّ إليك قال : أعزُّها مفقوداً وأهونُها موجوداً قال
قُتيبة : اسقِهِ ماءً .
وكان أبو العتاهية في جماعة من الشعراء عند بعض الملوك
إذ شرب رجلٌ منهم ماء ثم قال : بَرَدَ الماءُ وطابَ فقال أبو العتاهية : اجعله
شِعْراً ثم قال : مَنْ يجيز هذا البيت فأطرق القومُ ( بَرَدَ الماءُ وطابا **
حَبَّذَا الماءُ شرابا ) وقال اللّه عز وجل : أَنهَارٌ منْ مَاءٍ غَيرِ آسِنٍ ثم
لم يذكرْهُ
بأكثر من
السلامةٍ من التغيُّر إذْ كان الماء متى كان خالصاً سالماً لم يحتجْ إلى أن يُشربَ
بشيء غيرِ ماً في خلقته من الصَّفاء والعُذوبة والبَرْدِ والطَّيب والحُسنِ
والسَّلَس في الحَلْق وقد قال عديُّ بن زَيد : ( لوْ بغَيْرِ الماء حَلْقِي شَرِقٌ
** كنتُ كالغَصَّانِ بالماء اعتصاري ) قال أبو المطراب عبيد بن أيُّوب العنبريُّ :
( وأوَّلُ خُبْثِ الماء خُبْثُ تُرَابِه ** وأولُ خُبْثِ النَّجْلِ خُبْثُ
الحَلاَئِل )
وأوصَى رجلٌ من العرب ابنته ليلةَ زفافها بوصايا فكان
مما قال لها : احذرِي مَوَاقِعَ أنفه واغتسلي بالماء القَرَاح حتى كأنك شَنٌّ
ممطور .
وأوصتِ امرأةٌ ابنتَها بوصايا فكان منها : وليكنْ أطيبَ
طِيبك الماءُ .
وزعموا أنها القائلةُ لبنتها :
( بُنَيَّتِي إن نامَ نامِي
قَبْلَهُ ** وأكْرِمي تابعهُ وأَهلَهُ ) ( ولا تكوني في الخِصامِ مثْلَهُ **
فَتَخْصِمِيه فتكوني بَعْلهُ ) ومن الأمثال : وأخذ المسيحُ عليه السلام في يده
اليُمْنى ماءً وفي يده اليسرى خُبزاً فقال : هذا أبي وهذا أمِّي فجعل الماء أباً
لأن الماءَ من الأرض يقوم مقام النطفةِ من المرأة .
وإذا طُبخ الماء ثم بَرَدَ لم تَلْقَحْ عليه الأشجار
وكذلك قُضبان الشجر والحبوبف والبذور لو طُبِخت طبخةً ثمَّ بُذِرَت لم تَعْلق .
وقالوا في النظر إلى الماء الدائم الجريان ما قالوا .
وجاء في الأثر : من كان به برصٌ قديمٌ فليأخذْ دِرْهماً
حلالاً فلْيَشْتَر به عَسلاً ثم يَشرَبهُ بماء سماء فإنه يبرأ بإذن اللّه .
والنزيف هو الماء عند العرب .
وما ظنُّكم بشرابٍ خَبُث ومَلحَ فصار مِلْحاً زُعاقاً
وبحراً أُجَاجاً ولّد العنبر الوَرْدَ وأنسل الدّرّ النفيس فهل سِمعْتَ بِنَجْلٍ
أكرمَ ممن نجَله ومن نِتاجٍ أشرفَ ممن نَسَله .
وما أحسن ما قال أبو عبَّاد كاتبُ ابن أبي خالد حيثُ
يقول : ما جلسَ بين يديّ رجلٌ قط إلا تمثَّل لي أنني سأجِلسُ بين يديه وما سَرَّني
دهرٌ قطُّ إلا شغلني عنه تذكرُ ما يليق بالدهور من الغِيَرِ .
قال اللّه عزَّ وجلّ : قِيلَ لَها ادْخُلي الصَّرْحَ
فلمَّا رَأتْهُ حَسِبتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا لأن الزجاج أكثر ما
يمدح به أن يقال : كأنه الماء في الفيافي
وقال
اللّه عز وجل : هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ .
وقال القُطاميّ : وهُنَّ يَنْبِذْنَ مِنْ قَولٍ يُصِبْنَ
به مواقِعَ الماء منْ ذِي الغُلَّةِ الصَّادي وقال اللّه عز وجل : وَاللُّهُ
خَلَقَ كُلَّ دابَّةِ مِنْ مَاء
. )
فيقال : إنه ليس شيء إلا وفيه ماء أو قَدْ أصابه ماء أوخُلقِ
من ماء والنُّطفة ماء والماء يسمى نُطفة وقال اللّه تعالى : وَكَانَ عَرْشُهُ على
المَاء قال ابن عباس : موج مكفوف
.
وقال عز وجل : وَنَزَّلنَا مِنَ السَّماء مَاءً
مُبَاركاً .
التسمية بماء السماء وحين اجتهدوا في تسميةِ امرأةٍ
بالجمال والبركة والحُسنِ والصَّفاء والبَياض قالوا : ماء السماء وقالوا : المنذر
بن ماء السماء .
4
استطراد لغوي
ويقال :
صِبْغٌ له ماء ولونٌ له ماء وفلان ليس في وجهه ماء ورَدَّني فلانٌ ووجهي بمائه قال
الشاعر : شعر
في صفة الماء وقالت أمُّ فَروة في صفة الماء : ( وما ماءُ مزنٍ أيُّ ماء تقوله **
تحدر من غر طِوالِ الذوائبِ ) ( بمنعرج أو بطنِ وادٍ تحدبت ** عليه رياحُ المزن من كلِّ جانب ) (
نفى نسمُ لاريح القذا عن متونه
** فما إنْ به عيب تراه لشارب ) ( بأطيبَ ممنْ يقصرُ
الطرفَ دونه ** تقى الله واستحياء بعض العواقب ) ما يحبه الحيوان من الماء والإبل
لا تحبُّ من الماء إلا الغليظَ والحوافر لا تحبُّ العُذوبة وتكره الماء الصافي حتى
ربَّما ضَرَب الفرسُ بيده الشريعة ليثَوِّر الماء ثمّ يشربَه .
والبقر تعافُ الماءَ الكدِرَ ولا تشرب إلا الصافي .
والظباء تَكرَع في ماء البحرِ الأُجاج وتخضِمُ الحنْظَل . 4
استطراد لغوي
والأبيضان
: الماء واللبن والأسودان : الماء والتمر .
شعر في صفة الماء وقال العُكليّ في صفة الماء : ( عاد من
ذكرِ سلمى عوده ** والليل داجٍ مطلخمٌّ أسوده ) ( فبتُّ ليلى ساهراً ما أرقُده ** حتى
إذا الليل تولى كبده ) ( وانكبّ للغورِ انكبابا فرقدهْ ** وحثَّه حادٍ كميشٌ يطرده
) ( أغرُّ أجلى مغربٌ مجردهُ ** أصبح بالقلبِ جوى ما يبردهُ )
( ماء غمامٍ في الرصاف مقلدهْ ** زل به عن رأس نيقٍ صدده ) ( عن ظهر صفوانٍ مزل مجسده ** حتى إذا السيل تناهى مدده ) ( وشكد الماء الذي يشكده ** بين نعامى ودبورٍ تلهدُه ) ( كلُّ نسيمٍ من صباً تستورده ** كأنما يشهده أو يفقده ) فهو شِفاءُ الصاد مما يَعْمِدُه وقال آخَر في الماء :
( يا كأس ما ثغبٌ برأس شظيةٍ ** نزلٍ أصابً عراصها شؤبوب ) ( ضحيانُ شاهقةٍ يرف بشامُه ** نديانَ يقصر دونهُ اليعقوب ) وقال جرير :
( لو شئتِ قد نَقَعَ الفؤَادُ بشَرْبةٍ ** تَدَعُ الحوائمَ لا يَجُدْنَ غليلا ) ( بالعَذْب من رصَف القِلاتِ مَقِيلُه ** قضُّ الأباطح لا يزالُ ظليلا ) فضل الماء قال : وفي الماء أنَّ أطيب شراب عُمِل وَرُكِّب مثل السَّكَنْجَبِين والجُلاّب والبَنَفْسَجِ وغير ذلك مما يُشْرَبُ من الأشربة فإنْ لذَّ
وطاب فإنّ
تمام لذَّته إن يَجْرعَ شاربُه بعد شُربه له جُرَعاً من الماء يغْسل بها فمه
ويطيِّب بها نفسه وهو في هذا الموضع كالخُلَّة والحَمض جميعاً وهو لتسويغ الطعام
في المرِىء والمركَبُ والمِعْبر والمتوصَّل به إلى الأعضاء .
فالماء يُشربُ صِرْفاً وممزوجاً والأشربة لا تُشرَبُ
صِرفاً ولا يُنْتَفَعُ بها إلا بممازَجَة الماء وهو بعدُ طهورُ الأبدانِ وغسولُ
الأدران .
وقالوا : هو كالماء الذي يطهر كلّ شيء ولا ينجِّّسه شيء .
وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في بئر رُومة : الماءُ
لا ينجِّسُه شيءٌ .
ومنه ما يكون منه المِلْح والبَرَد والثَّلج فيجتمع
الحُسن في العين والكرم في البياض والصفاء وحسنُ الموقع في النفس . )
( غَضبى ولا واللّهِ يا
أهْلَهَا ** لا أشْرَبُ البارِدَ أو تَرْضَى ) ويقولون : لو عِلمَ فلانٌ أنَّ شُرْبَ
الباردِ يَضَعُ من مروءَتِهِ لما ذاقه وسمَّى اللّه عز وجل أصلَ الماء غَيثاً بعد
أن قال : وكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء
.
ومن الماء ماء زمزم وهو لِمَا شَرِبَ له ومنه ما يكونُ
دواءً وشفاءً بنفسه كالماء للحمى
. ( علَّة ذكر النار في كتاب الحيوان ) قد ذكرنا جملة
من القَول في النار وإن كان ذلك لا يدخل في باب القول في أصناف الحيوان فقد يرجع
إليها من وجوه كريمة نافعةِ الذكر باعثةٍ على الفكر وقد يعرِضُ من القَوْلِ ما عسى
أن يكون أنفعَ لقارئ هذا الكتاب من باب القول في الفيل والزَّندبيل
والقرد
والخنزير وفي الدُّب والذئب والضَّبّ والضَّبع وفي السِّمْعِ والعسْبار .
وعَلَى أن الحكمةَ ربما كانت في الذُّبابة مع لطافة
شخصها ونذالةِ قَدْرها وخساسة حالها أظهرَ منها في الفرس الرَّائع وإن كان الفرسُ
أنفع في باب الجهاد وفي الجاموس مع عَظم شخِصه وفي دودة القَزِّ وفي العنكبوت
أظهرَ منها في الليثِ الهصور والعُقابِ الشّغْوَاء .
وربما كان ذكرُ العظيم الجُثة الوثيق البَدَن الذي يجمعُ
حِدَّةَ الناب وصولةَ الخلق أكثرَ فائدةً وأظهرَ حِكمةَ من الصَّغيرِ الحقير ومن
القليل القَمِي كالبعير والصُّؤابة والجاموس والثعلب والقَملة .
وشأن الأرَضةِ أعجَبُ من شأن البَبْرِ مع مسالمة الأسد
له ومحاربته للنمر .
وشأنُ الكُركى ِّ أعجبُ من شأن العَندليب فإن الكركيِّ
من أعظم الطّير والعندليبَ أصغر من ابن تَمْرة .
ولذلك ذكر يونس بعضَ لاطَةِ الرُّواة فقال : يضربُ ما
بين الكُركيِّ إلى العندليب يقول : لا يدع رجلاً ولا صبيًّاً إلاَّ عَفَجَه .
ويشبه ذلك هجاءُ خلفٍ الأحمر أبا عبيدة حيثُ يقول : (
ويضربُ الكُرْكى إلى القُنبَرِ ** لا عانساً يبقى ولا مُحْتَلِمْ ) والعانس من
الرجال مثله من النساء .
فلسنا نُطنبُ في ذكر العطيم الجثة لِعظَم جُثّته ولا
نَرْغَبُ عن ذكر الصّغير الجثة لصغر جُثَّتة وإنما نلتمس ما كان أكثر أعجوبة
وأبلغَ في الحكمة وأدلّ عند العامة على حكمة الرّبّ وعلى )
إنعام هذا السّيّد .
ورُبّ شيء الأعجوبةُ فيه إنما هي في صورته وصَنعته
وتركيب أعضائِه وتأليف أجزائه كالطاووس في تعاريج ريشه وتهاويل
ألوانه
وكالزَّرافة في عجيب تركيبها ومواضع أعضائها والقولُ فيهما شبيهٌ بالقول في
التُّدرُج والنَّعامة .
وقد يكون الحيوانُ عجيبَ صنعةُ البَدن ثم لا يُذكرُ بعدَ
حُسن الخَلْق بخُلُق كريم ولا حِسٍ ثاقبٍ ولا معرفة عجيبة ولا صنعة لطيفة ومنه ما
يكون كالببغاء والنخْلة والحمامة والثعلب والدُّرّة ولا تكون الأعجوبةُ في تصويره
وتركيب أعضائه وتنضيد ألوانِ ريشه في وزن تلك الأشياء التي ذكرناها أو يكون
العَجَبُ فيما أعطى في حنجرته من الأغاني العجيبة والأصوات الشجيَّة المطربة
والمخارج الحسنة مثلَ العجب فيما أعْطِيَ من الأخلاق الكريمة أو في صنعة الكفِّ
اللطيفة والهداية الغريبة أو المِرْفق النافع أو المضرَّة التي تدعو إلى شدَّة
الاحتراس ودقة الاحتيال فيقدَّم في الذكر لذلك .
وأيٌّ شيء أعجبُ من العَقْعَق وصِدْق حِسَّه وشدَّة
حَذَرِهِ وحُسْنِ معرفته ثم ليس في الأرض طائر أشدُّ تضْييعاً لبيضه وفراخه منه
والحُبارَى
مع أنها أحمقُ الطير تحوطُ بيَضها أو فراخَها أشدَّ الحياطة وبأغْمََضِ معرفة حتى
قال عثمانُ بن عفان رضي اللّه عنه : كلُّ شيء يحب والدَه حتى الحبارى يَضْربُ بها
المثلَ في الموق .
العقعق ثم العقعَقُ مع حِذقه بالاستلاب وبسرعة الخطف لا
يستعمل ذلك إلا فيما لا ينتفع به فكَمْ من عِقْدٍ ثمين خَطير ومن قُرْطٍ شريف نفيس
قد اختطف من بين أيدي قومٍ فإمّا رَمَى به بعد تَحَلُّقه في الهواء وإما أحرزه ولم
يلتفت إليه أبداً .
وزعم الأصمعيُّ أنّ عَقعقاً مرةًاً ستلَبَ سِخاباً
كريماً لقومٍ فأخذَ أهلُ السِّخَاب أعرابيَّة كانت عندهم فبينما هي تُضْرَبُ
وتُسْحَبُ وتسَبُّ إذ مرَّ العَقعَقُ والسِّخابُ في منقاره فصاحوا به فرمى به
فقالت الأعرابية وتذكرَّتِ السلامة بعد أن كانت قد ابتُليت ببليَّة أخرى فقالت :
( وَيومُ السِّخَاب منْ
تَعَاجيبِ رَبِّنَا ** كما أنه من بَلْدَةِ السَّوْء نجَّاني ) تَعني الذين كانت
نزلت بهم من أهل الحاضِرة .
كلام في الاستطراد )
ولا بأس بذكر ما يعرض ما لم يكن من الأبواب الطِّوال
التي ليس فيها إلا المقاييس المجرَّدة والكلامية المحضة فإن ذلك مما لا يخفُّ
سماعه ولا تَهَشُّ النفوسُ لقراءته وقد يحتمل ذلك صاحبُ الصناعة وملتمس الثواب
والحِسْبة إذا كان حليفَ فِكَرٍ أليفَ عِبَرٍ فمتى وجدنا من ذلك باباً يحتمل أن
يوشَّح بالأشعار الظريفة البليغة والأخبار الطريفة العجيبة تكلّفنا ذلك ورأيناه
أجمعَ لما ينتفع به القارئ .
وأنا كاتبٌ لك بعد هذا إذْ كنتُ قد أملْلتُكَ بالتطويل
وحملتُك على أصعَب المراكب وأوْعَر الطُّرق إذ قد ذكرنا فيه جملةً صالحةً من كلام
المتكلمين ولا أرى أن أزيد في سآمتك وأُحَمِّلكَ استفراغ طاقتك بأن أبتدئ القول في
الإبل والبقر والغنم والأُسْدِ والذئاب والحمير والظباء وأشباه ذلك مما أنا
كاتِبُهُ لك .
ولكني أبدأ بصغار الأبواب وقصارها ومُحَقَّراتها
ومِلاحها
لئلا تخرج
من الباب الأول إلا وأنت نشيط للباب الثاني وكذلك الثالث والرابع إلى آخر ما أنا
كاتبه لك إن شاء اللّه . ( سَرد منهج سائر الكتاب ) ونبدأ بذكر ما في العصفور ثم نأخذ في
ذكر ما في الفأر والعقرب والذي بينهما من العَداوة مع سائر خصالهما .
ثم القولُ في العقرب والخنفساء وفي الصداقة بينهما مع
سائر خصالهما .
ثم القول في السِّنَّوْر وبعضُ القول في العقرب .
ثم القولُ في البعوض والبراغيث ثم القول في القَمل والصِّئْبان
ثم القول في الورَل والضّبّ ثم القول في اليربوع والقنفذ ثم القول في النسور
والرّخم .
ثم القول في العُقاب وفي الأرنب ثم القول في القِرْدان
والضفادع ثم القول في الحُبارى وما أشبه ذلك وإن كنا قد استعملنا في هذا الكتاب
جمَلاً من أخبار ما سمينا بذلك
.
وسنذكر قبل ذكرِنا لهذا الباب أبواباً من الشعر طريفة
تصلُحُ
للمذاكرة
وتبعث على النشاط معه وتُسْتَخَفّ معه قراءة ما طال من الكتبِ الطوال .
ولولا سوءُ ظني بمن يُظْهِرُ التماسِ العلم في هذا
الزمان ويذكر اصطناعَ الكتبِ في هذا الدهر لَمَا احتجْتُ في مداراتهم واستمالتهم
وترقيق نفوسهم وتشجيع قلوبهم مع كثرةِ فوائد هذا الكتابِ إلى هذه الرياضة الطويلة
وإلى كثرة هذا الاعتذار حتى كأنَّ الذي أُفيدُه إياهم )
أستفيدُهُ منهم وحتى كأنَّ رغبتي في صَلاحِهم رغبةُ منَ
يرْغَبُ في دنياهم ويتضرَّعُ إلى ما حوته أيديهم .
هذا ولم أذكر لك من الأبواب الطوال شيئاً ولوا قد صرت
إلى ذكرِ فرقِ ما بين الجن والإنس وفرق ما بين الملائكة والأنبياء وفرق ما بين
الأنثى والذكر وفرق ما بينهما وبين ما ليس بأنثى ولا ذكر حتى يمتدَّ بنا القولُ في
فضيلة الإنسان على جميع أصنافِ الحيوان وفي ذكر الأمم والأعصار وفي ذكر القَسم
والأعمار وفي ذكر مقادير العقول والعلوم والصناعات ثم القول في طباع الإنسان منذُ
كان نطفة إلى أن يُفْنِيهُ الهرَم وكيف حقيقة ذلك الردّ إلى أرذل العمر فإن
مَلِلْتَ الكتابَ واستَثْقَلْتَ القراءة فأنت حينئذ أعذَرُ ولحظِّ نفسك أبْخَسُ وما
عندي
لك من
الحيلة إلا أن أصوّره لك في أحسن صورة وأقلّبَك منه في الفنون المختلفة فأجعلَكَ
لا تخرجُ من الاحتجاج بالقرآن الحكيم إلا إلى الحديث المأثور ولا تخرجُ من الحديث
إلا إلى الشِّعر الصحيح ولا تخرجُ من الشّعر الصحيِحِ الظريفِ إلا إلى المثلِ
السائر الواقع ولاتخرج من المثل السائر الواقع إلا إلى القول في طُرف الفلسفة
والغرائب التي صحَّحَتْها التجربة وأبرزها الامتحان وكشَف قِناعَها البُرهانُ
والأعاجيبِ التي للنفوسِ بها كلَفٌ شديدٌ وللعقول الصحيِحة إليها النزاع القويّ .
فانظر فيه نظَر المنْصِفِ من الأكفاء والعُلَمَاءَ أو
نَظر المسترشِدِ من المتعلِّمين والأتباع فإن وجَدت الكتابَ الذي كتبتُه لك يخالفُ
ما وصفتُ فانْقُصْني من نشاطك له على قَدْر ما نَقَصْتُكَ مما ينشطك لقراءته وإن
أنت وجدتني إذا صحَّ عقلُك وإنصافك قد وفَّيتُكَ ما ضمنت لك فوجدتَ نشاطك بعدَ ذلك
مدخولاً وحَدَّكَ مفلُولاً فاعلم أنا لم نُؤْتَ إلا من فُسولتِك و من فسادِ طبعك
ومن إيثارك لما هو أضرُّ بك .
مديح النصارى واليهود والمجوس والأنذال وصغار الناس
من ذلك ما
هو مديحُ رغبة ومنه ما هو إحماد .
أنشدنا أبو صالح مسعود بن قنْد الفزاريّ في ناسٍ
خالَطَهم من اليهود : ( وجدنا في اليهودِ رجالَ صدقٍ ** على ما كانَ من دينٍ يريبُ ) (
لعمركَ إنني وابنيْ عريضٍ ** لمثلُ الماء خالطهُ الحليبُ ) ( خيلان اكتسبتُهُمَات
وإني ** لخِلَّةِ ماجد أبداً كسوبُ ) وقال أبو الطَّمَحَان الأسَديّ وكان نديماً
لناسٍ من بني الحَدَّاء وكانوا نَصَارى فأحمدَ نِدامهم )
فقال
:
( كأنْ لم يكنْ قصر مقاتلٍ ** وزورةَ ظلٌّ ناعمٌ وصديق ) ( ولم أرد البحطاء أمزجُ ماءها ** بخمرٍ من البر ُ وقتينِ عتيقُ ) ( معي كلُّ فضفاض لاقميص كأنه ** إذا ما جرى فيه المدامُ فنيق ) ( هو الصلتِ والحداء كلُّ سَمَيْدعٍ ** له في العروق الصالحات عروقُ ) ( وإني وإنْ كانو نصارى أحِبُّهم ** ويرتاحُ قلبي نحوهم ويتوقُ )
وقال ابن
عبدل ، أو غيره ، في مجوسي ساق عنه صداقا فقال : ( شهدتُ عليك بطيب المشا ** شِ
وأنكَ بحرٌ جوادٌ خضمُّ ) ( وأنكَ سيدُ أهلِ الجحيم ** إذا ما ترديتَ فيمن ظلمْ ) ( نظيراً لهامانَ في
قعرهَا ** وفرعونَ والمكتنى بالحكم ) ( كفاني المجدوسيُّ مَهْرَ الربا ** بِ فدى
للمجوسيِّ خالي وعَمّْ ) فقال له المجوسيُّ : جعلْتَنيِ في النار أمَا ترَضى أن
تكون مع مَن سّميتُ قال : بَلى قال : فمن تَعني بالحكَم قال : أبا جهل بن هشام .
وأنشدني أبو الرُّدَيني العُكْليّ لبعض العُكْليِّين
وكان قينٌ
لهم أَحدّ جلماً له فقال يمدحه : يا سودُ يا أكرمَ قينٍ في مضرْ لك المساعي كلها والمفتخرْ على قُيون الناس و الوجهٌ الأغرّْ كانَ أبوكَ رجلاً لا يُقْتَسَر ثبتاً إذا ما هو بالكير ازبأرّْ زادك نفخاً تلتظي منهُ سقرْ حتى يطيرَ حولهُ منها شَرَرْ بالشعب إن شاء وإن شاء سَمَرْ ما زالَ مُذْ كانَ غلاما يشتبر له على العيرِ إكافٌ وثغرْ
والكلبتانِ
والعلاةُ والوتر فانظر ثَوَابي والثَّوَابُ ينتظرْ )
في جَلَمَيَّ والأحاديثُ عِبَر
من أراد أن يمدح فهجا
قال سعيد بن سَلْم : لما قال الأخطلُ بالكوفة : أخطأ الفرزدقُ حين قال : ( أبَني غُدَانةَ إنني حَرّرْتُكُمْ ** فوهبتكم لعَطيّةَ بن جِعالِ ) ( لولا عَطِيَّةُ لاجتَدَعْتُ أُنُوفكُمْ ** منْ بينِ ألأم أعْيُنْ وَسِبَالِ )
كيف يكون
قد وهبهم له وهو يهجوهم بمثل هذا الهجاء قال : فانبرى له فتى من بني تميم فقال له
: وأنتَ الذي قلتَ في سويد بن منجوف : ( وما جِذْعُ سَوْءٍ رَقَّق السُّوسُ
جَوْفَه ** لِمَا حُمِّلَتْهُ وائلٌ بمطيق ) أردت هجاءه فزعمتَ أنّ وائلاً تعصبُ
به الحاجات وقَدْرُ وسويد لا يبلغ ذلك عندهم فأعطيْتَه الكثيرَ ومنعتَه القليلَ .
وأردتَ أن تهجوَ حاتمَ بنَ النعمانِ الباهليّ وأنْ
تصغِّرَ شأنه وتَضَعَ منه فقلتَ : ( وسَوّدَ حاتماً أنْ ليس فيها ** إذا ما أُوقدَ
النيرانُ نارُ ) فأعطيتَه السُّودَدَ من قيس ومنعتَه ما لا يضرُّهُ .
وأردت أن تمدح
سِماك بن زيد الأسدي فهجوتَه فقلت : ( نِعم المجيرُ سِماكٌ من بني أسَدٍ ** بالطَّفِّ إذْ قَتَلْتَ جِيرانَهَا مُضرُ ) ( قد كنتُ أحسِبَهُ قَيْناً وأُنْبَؤُه ** فاليومَ طُيِّرَ عن أثوابه الشرَرُ ) وقلتَ في زُفرَ بنِ الحارث : ( بني أمَيّة إني ناصحٌ لكُمُ ** فلا يَبيتَنَّ فيكُمْ آمِناً زُفَرُ )
( مُفْتَرِشاً كافتراش
الليث كلْكلَهُ ** لوَقْعَةٍ كائن فيها لكم جزَرُ ) فأردت أن تُغْري به بني أُمَيّةَ
فوهّنْتَ أمرهم وتركتَهُمْ ضُعفاءَ ممتَهَنِينَ وأعطيتَ زُفَرَ عليهم من القوةِ ما
لم يكنْ في حسابه .
قال : ورجَعَ أبو العطاف من عند عمرو بن هَدَّاب في
يومين كانا لعمرو وأبو العطَّاف يضحك فسئِل عن ذلك فقال : أما أحدُ اليومين
فَإنَّهُ جَلَس للشعراء فكان أولُ من أنشده المديحَ فيه طريفُ بنُ سَوادة فما زال
يُنشدهُ أرجوزةً له طويلة حتى انتهى إلى قوله : ( أبرصُ فيّاضُ اليَدَينِ أكْلَفُ ** وَاْلبُرْصُ
أَنْدَى باللُّهى وأعْرَفُ )
مجلوِّذٌ في الزَّحَفاتِ مِزْحَفُ المجلوِّذ : السريع .
وكان عمرو أبرص فصاح به ناس : ما لكَ قطع اللّه لسانك :
قال عمرو : مَهْ البرَصُ من مَفاخِر العرب أما سمِعتُم ابن حبناءَ يقول :
( إنِّي امرؤٌ حنظليٌّ حين تنسُبُنِي ** لامِلْ عَتيكِ ولا أخواليَ العَوَقُ ) ( لا تحسِبِنَ بياضاً فِيّ مَنْقَصَةً ** إنّ اللَّهامِيمَ في أقرابِهَا بَلقُ )
أوَ ما
سمعتم قولَ الآخر : ( يا كأسُ لا تستنكري نُحُولِي ** ووضحاً أوْفَى عَلَى خَصِيلي
) ( فإنَّ نَعْتَ الفرَسِ الرّجيلِ ** يكمُل بالغرَّةِ والتّحْجِيلِ ) أوَ ما سمعتُم
بقول أبي مسهر : ( يَشْتُمْنِي
زَيدٌ بأَنْ كُنْتُ أَبْرَصاً ** فكلُّ كريمٍ لا أبالَكَ أبرصُ ) ( يا أُخْتَ
سَعْدٍ لا تَعُرِّي بالرَّوَقْ ** ليس يضرُّ الطِّرْفَ توليعُ الْبَلَقْ ) إذا جرى
في حَلْبَةِ الخيْلٍ سَبَقْ ومحمد بنُ سلاّم يزعمُ أنه لم يَرَ سابقاً قطّ أبلقَ
ولا بَلْقاءَ .
وقد سبق للمأمون فرسٌ إمّا أبلقُ وإما بلقاء .
وأنشدني أبو نواسٍ لبعضِ بني نهشَل : ( نَفَرَتْ سَودةُ
عنِّي أنْ رأتْ ** صَلَعَ الرَّأس وفي الجلدِ وَضَحْ ) ( قلتُ يا سَوْدة هذا
والذي ** يَفْرِجُ الكُرْبَةَ مِنَّا والكلحْ )
( هو زَيْنٌ لِيَ في الوجهِ
كما ** زَيَّنَ الطِّرفَ تحاسينُ القَرَح ) وزعم أبو نُواس أنهم كانوا يتبركون به
وأن جَذِيمةَ الوضّاحَ كان يفخرُ بذلك
.
وزعم أصحابنا أنَ بَلعاءَ بنَ قيس لمَّا شاع في جِلْدِهِ
البَرص قال له قائل : ما هذا يا بَلعاء فقال : هذا سيف اللّه جلاَه وكنانة تقول :
سيف اللّه حَلاَّه .
ثم رجع الحديثُ إلى أبي العَطَّاف وضَحِكه قال : وأما
اليوم الآخرِ فَإنَّ عَمْراً لمَّا ذهبَ بصرهُ ودخلَ عليه الناس يُعَزُّونَهُ دخل
عليه إبراهيمُ بنُ جامع وهو أبو عتَّابٍ من آل أبي مَصاد وكان كالجَمل المحجوم
فقام بين يديْ عمرٍ و فقال : يا أبا أُسَيّد لا تجزعنَّ مِنْ
ذهَابِ
عينَيك وإن كانتا )
كريمتَيكِ فإنك لو رأيتَ ثوابهما في ميزانك تمنيتَ أن
يكونَ اللّه عز وجل قد قطعَ يدَيكَ ورِجْلَيْك ودقَّ ظهرك وأَدمَى ضِلَعَك .
قال : فصاحَ به القومُ وضَحِك بعضهم فقال عمرو : معناه
صحيحٌ ونيتُه حسنة وإن كان قد أخطأ في اللفظ .
وقلتُ لأبي عَّتاب : بلغني أن عبدَ العزيز الغزّال قال :
ليتَ أن اللّه لم يكن خَلَقَني وأني الساعةَ أَعْور قال أبو عتَّاب : بئسَ ما قال
وددتُ واللّه أن اللّه لم يكن خَلَقنِي وأنّى الساعة أعمى مقطوعُ اليدينِ والرِّجلين .
وأتى بعضُ الشعراء أبا الواسع وبنُوهُ حَولَه فاستعفاه
أبو الواسع من إنشاد مديحه فلم يزلْ به حتى أذِن له فلما انتهى إلى قوله : ( فكيف تُنْفَى
وَأَنْتَ الْيَوْمَ رَأْسُهُمُ ** وحَولَكَ الْغُرُّ مِنْ أَبْنَائِكَ الصِّيدِ )
قال أبو الواسع : ليتكَ تركْتَهم رأساً برأس .
ومدح الممزَّق أبو عباد بن الممزِّق بِشْرَ بنَ أبي عمرو
وليس هو بشر بن أبي عمرو بن العلاء فقال : ( من كانَ يزعُمُ أن بِشراً مُلصقٌ **
فالله يجزيهِ وربكَ أعلمُ ) ( أنَّ الصريحَ المحضَ فيه دلالةٌ ** والعرقُ مُنْكَشف
لمَنْ يتوسم ) ( أما لسانك واحتباؤك في المَلاَ ** فزُرارَةٌ العُدُسيُّ عِنْدَكَ
أعجمُ ) ( إني لأرجو أنْ يكونَ مقالهمْ ** زُوراً وشانُئك الحسودُ المرغَمُ )
خطأ الكميت في المديح
ومِن المديح الخطأ الذي لمْ أرَ قَطُّ أعجب منه قولُ الكميتِ بن زيدٍ
وهو يمدح
النبي صلى اللّه عليه وسلم فلو كان مديحه لبني أمَيَّةَ لجاز أن يعيبهم بذلك بعض
بني هاشم أوْ لو مَدَحَ به بعض بني هاشمٍ لجاز أن يعترض عليه بعضُ بني أميَّة أوْ
لو مدح أبا بلال الخارجيّ لجاز أن تعيبه العامّة أو لو مدح عَمرو بن عُبيَدٍ لجازَ
أن يعيبه المخالف أوْ لو مدح المهلَّب لجاز أن يعيبه أصحابُ الأحنفِ .
فأما مديح النبي صلى اللّه عليه وسلم فمن هذا الذي
يسوءهُ ذلك حيثُ قال : ( فاعتتبَ الشوقُ مِنْ فؤاديَ ولاشع ** رُ إلى منْ إليه معُتتَبُ ) ( إلى
السراجِ المنيرِ أحمدَ لا ** يعْدِلني رَغبةٌ ولا رهَبٌ ) ( عنه إلى تغيره ولو
رفعَ النا ** سٌ إلى العيونَ توارتقبُوا ) ( إليكَ يا خير من تضَمنت الأر ** ضُ
ولو عابَ قوليَ العُيُبُ ) ( لج بتفضيلكَ اللسانٌ ولو ** أكثر فيك الضجاج واللجبُ ) ( أنت
المصفى المحضُ المهذَّب في ال ** نسبةِ إنْ نص قومكَ النسبُ )
ولو كان لم يقلْ فيه عليه السلام إلا مِثلَ قوله : ( وَبُورِكَ قَبْرٌ أنْتَ فيه وَبُورِكَتْ ** به وله أهلٌ بذلك يَثْرِبُ ) ( لقد غَيَّبُوا برَّاً وحَزْماً وَنائلاً ** عَشِيَّة وَارَاكَ الصَّفيحُ المنصَّب ) فلو كان لم يمدحْه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب لما كان ذلك بالمحمود فكيفَ مع الذي حَكينا قبل هذا .
غلط بعض الشعراء في المديح والفخر
ومن الأشعار الغائظة لقبيلة الشاعر وهي الأشعار التي لو ظنَّت الشعراءُ أن مَضَرَّتها تَعُودُ بِعُشر ما عادتْ به ولكان الخرسُ أهْوَنَ عليها من ذلك القول فمن ذلك قولُ لبيدِ بنِ ربيعةَ : ( أبني كلابٍ كيفَ تُنفي جعفرٌ ** وبنو ضَبنينةَ حاضرُ والأجبابِ )
( قتلوا ابنَ عروةَ ثمّ لطوا دونه ** حتى تحاكمتمْ إلى جوابِ ) ( متاظهرٌ حلقُ الحديدِ عليهمُ ** كبني زرارة أو بني عتَابِ ) ( قومٌ لهم عَرَفَتْ مقعدٌّ فضلهَا ** والحقُّ يعرفهُ ذوو الألبابِ ) ومن هذا الباب قولُ منظور بن زبّانَ بن سَيَّارِ بن عَمرو بن جابرِ الفَزَارِي وهو أحَدُ سادةِ غَطفان :
( فجاؤوا بَجمْعٍ
مُحْزئِلٍّ كأنهمْ ** بنو دارمٍ إذا كان في الناسِ دَارمُ ) وذلك أن تميماً لما
طالَ افتخارُ قيس عليها بأن شعراء تميم كانت تضربُ المثلَ بقبائل قيس ورجالها
فغَبَرتْ تميمٌ زماناً لا ترفعُ رؤُوسها حتى أصابتْ هذين الشعْرين من هذين
الشَّاعرينِ العظيمَي القدر فزال عنها الذُّلُّ وانتصفت فلو علم هذان الشاعران
الكريمان ماذا يصنعان بعشائرهما لكانَ الخَرسُ أحبّ إليهما .
قال أبو عبيدة : ومن ذلك قولُ الحارث بن حِلِّزَة
وأنشَدَها الملكَ وكان به وضَحٌ وأنشَدَه من وراء سِتر فبلغ من استحسانه القصيدة
إلى أن أمَرَ برفْع السِّتر .
ولكراهتهم لدُنُوِّ الأبرصِ منهم قال لبيدُ بن ربيعة
للنُّعمان بن المنذر في الربيع بن زياد : ( مَهْلاً أَبَيْتَ اللَّعْنَ لا تأكلْ
مَعَهْ ** إنّ استَه مِنْ بَرَصٍ مُلمَّعَهْ ) ( وإنهُ يُدخِلُ فيها إصْبَعَهْ **
يُدْخِلُهَا حتى يُوارِي أشْجعَه
)
كأنما
يطلب شيئا ضيعه قال ابنُ الأعرابيّ : فلما أنشدَ الملكَ لبيدٌ في الربيع بن زيادٍ
ما أنشد قال الربيعُ : أبيتَ اللَّعن واللّه لقد نكتُ أمَّه قال : فقال لبيد : قد كانت
لعَمْرِي يتيمة في حِجْرك وأنتَ ربيتها فهذا بذاك وإلا تكن فعَلْتَ ما قُلتَ فما
أولاك بالكذب وإن كانت هي الفاعلة فإنها منْ نِسوةٍ لذلك فُعُل يعني بذلك أن نساءَ
عَبْس فَواجرُ لأن أُمه كانت عَبْسيّة
.
والعربيُّ يعافُ الشيءَ ويهجو به غيره فإن ابتُلي َ بذلك
فَخَر به ولكنه لا يفخرُ به لنفسه مِنْ جهةٍ ما هجا به صاحبه فافهم هذه فإن الناس
يَغْلطُونَ على العَرَبِ ويزعُمون أنهم قد يمدَحون )
الشيء الذي قد يهجُون به وهذا باطلٌ ُ فإنه ليس شيءٌ إلا
وله وجهان وطَرَفان وطريقان
فإذا مدحوا
ذكروا أحسنَ الوجهين وإذا ذَمُّوا ذكروا أٍ قبحَ الوجهين .
والحارثُ بنُ حِلِّزَة فَخَرَ ببكر بنِ وائلٍ على
تَغْلِبَ ثم عاتَبهم عِتاباً دلَّ على أنهم لا ينتصفون منهم فقال : ( وأتانا عن
الأراقمِ أنبا ** ءٌ وخطبٌ نُعْنَى به ونساءُ ) ( يخلطونَ البريءَ منا بذي الذن
** بِ ولا ينفعُ الخليَّ الخلاءُ ) ( زعموا أن كلَّ منْ ضرب العي ** رَ مَوَالِ
لنا وأنا الولاء ) ( إنَّ إخواننا الاراقمَ يغلو ** ن علينا في قولهم إحفاءُ ) ( واتركوا الطيخ
والتعاشي وإما ** تتعاشوا ففي التعاشي الداءُ ) ( واذكروا حلفَ ذي المجازِ وما ق
** دِّمَ فيه العهودُ والكفلاءُ ) ( حذَرَ الجورِ والتعدي وهل ين ** قُضُ ما في
المهارقِ الأهواءُ )
( واعلموا أننا وإياكم في ** ما اشترطنا يومَ اختلفنا سواءُ ) ( أم علينا جناُ كندةَ أن يغ ** نمَ غازيهمُ ومنا الجزاءُ ) ( أم علينا جرا حنيفة أم ما ** جمعتْ من محاربٍ غبراءُ ) ( أم علينا جراً قضاعةً أم لي ** س علينا فيما جنوا أنداءُ ) ( ليس مِنا المضربونَ ولا قي ** سٌ ولا جندلٌ ولا الحداءُ ) ( أم جنايا بني عتيق . فمن يَغ ** در فإنا من غدرهم برآءُ ) ( عنتاً باطلاً شدوخاً كماتُع ** تر عن حجرةِ لاربيض الظباءُ ) ومن المديح الذي يقبُح قولُ أبي الحَلال في مَرْثِيَةِ يزيدَ بن مُعاويةَ حيث يقول :
( يا أيُّها الميْت بحُوَّاريِنا ** إنّك خيرُ الناسِ أجمعينا ) وقال الآخر : ( مدحتُ خير العالمين عَنْقَشَا ** يشبُّ زهراءَ تقود الأعمشا ) ( إنَّ الذي أمْسى يُسمَّى كُوزَا ** اسماً نبيهاً لم يكن تَنْبيزا ) ( لما ابْتَدَرْنَا القصَبَ المركوزا ** وَجَدْتُني ذا وثْبة أبُوزَا ) ودخل بعضُ أغثاث شعراءِ البَصريين على رجل من أشراف الوجوه يُقال في نسَبِه فقال : إني ) مَدَحْتُكَ بشعر لم تُمْدَحْ قطُُّ بشعر هو أنفعُ لك منه قال : ما أحْوَجَني إلى المنفعة ولا سيَّما كلُّ شيء منه يخلدُ على الأيام فهاتِ ما عندك فقال : ( سَأَلتُ عَنّْ أَصْلِكَ فيما مضى ** أبناءَ تِسْعِين وقد نَيّفُوا )
( فكُلُّهُمْ يخبرُني أنه
** مُهَذَّبٌ جَوْهَرُهُ يُعْرَفُ ) فقال له : قمْ في لعنةِ اللّه وسَخَطِهِ
فَلَعَنَكَ اللّه ولعنَ مَنْ سَأَلْتَ ولعنَ من أجابك . ( في السُّخف والباطل ) وسنذكر لك باباً
من السُّخْف وما نتسَخَّفُ به لك إذ كان الحق يثقلُ ولا يخفُّ إلا ببعضِ الباطل .
أنشدنا أبو نُوَاسِ في التدليك : ( إنْ تَبْخَلِي
بالرَّكَبِ المحلوقِ ** فإنَّ عندي رَاحَتي ورِيقِي ) ومما يُظَنُّ أَنه ولَّدَه
قولُه : ( لم أرَ كاللَّيلةِ في التوفيقِ ** حِراً على قارِعةِ الطريق ) كأنَّ فيه
لَهَبَ الحريقِ وأنشدني ابن الخارَكي لبعضِ الأعربِ في التدليك : ( لا بارَك
الإله في الأحْراحِ ** فإن فيها عَدَمَ اللِّقاحِ ) ( لا خَيرَ في السفاح واللِّقاحِ
** إلا مُناجاة بطونِ الرَّاحِ
)
وأنشدني محمد بنُ عَبَّاد : ( تَسْألُني ما عَتِدي وعنددي ** فإنني يا بِنْتَ آلِ مَرْثَدِ ) راحلتي رِجلايَ اسْرَاتِي يَدِي وأنشدني بعض أصحابنا لبعض المدنيِّين : ( أُصفِي هَوى النفسِ غيرَ مُتَّئبٍ ** حَليلةً لا تَسْومُني نَفقَهْ ) ( تكونُ عوني على الزمانِ لِلْ ** كَسْبِ إذا ما أخْفَقْتُ مُرْتَفِقَه ) وشعرٌ في ذلك سمعناه على وجه الدهر وهو قولُه : ( إذا نَزَلْتَ بوادٍ لا أنيسَ به ** فاجلِدْ عُمَيرةَ لا عارٌ ولا حَرَجُ )
وأنشدنا أبو خالد النميري ( لو أنها رَخْصَةٌ قَضَّيْتُ مِنْ وطَري ** لكنََّ جِلْدَتَها تُرْبي عَلَى السَّفَن ) ( أشكو إلى اللّه نعْظا قدْ بُليتُ به ** وما ألاقي مِنَ الإمْلاقِ وَالحزَنِ ) وقال الذَّكوانيُّ يردُّ على الأولِ قولَه : ( جَلْدِي عُميرةََ فيه العار والحُوبُ ** والعَجْزُ مُطَّرح والفُحْشُ مَسْبُوبُ ) ( وبالعراق نساءٌ كَالَمهَا قُطُفٌ ** بأرخصِ السَّوْمِ خَدْلاَتٌ مَناجِيبُ ) ( وما عُميرةُ منْ ثدْياءَ حاليةٍ ** كالعاج صَفّرها الأكنانُ والطِّيب ) قال : مَثَلُ هذا الشعرِ كمثل رجُل قيلَ له : أبوكَ ذاك الذي ماتَ جُوعا قال : فَوَجَدَ شيئاً فلم يأكله وقال الحَرامي : ( عِيَالٌ عالَةٌ وكسادُ سُوقٍ ** وأَيرٌ لا ينامُ ولا يُنِيمْ )
مما قالوا في السر
ّ ) قال ابن ميّادة : (
أَتُظْهِرُ ما في الصَّدْرِ أمْ أنتَ كاتمُهْ ** وكِتمانُهُ داءٌ لِمَنْ هو كاتمُه
) وتقول العرب : من ارتاد لسِرِّه موضعاً فقد أشاعه .
وأرى الأول قد أذِنَ في واحدٍ وهو قولُه : ( وسِرُّكَ ما
كانَ عندَ امرئٍ ** وسرُّ الثلاثةِ غيرُ الخِفي ) وقال الآخر فيما يوافق فيه المثل
الأول : ( فلا تُفْشِ سرَّك إلا إليكَ ** فإنَّ لكلِّ نصيحٍ نصيحا )
( فإني رأيتُ غُواة الرجا ** ل لا يترُكون أديماً صحيحا ) وقال مسكينٌ الدََّارِميّ : ( إذا ما خليلي خانني وائتمنتُه ** فذاكَ وداعِيهِ وذاكَ وَداعُها ) ( رَدَدْتُ عليه وُدّهُ وتركتُها ** مطلَّقةً لا يُستطاعُ رِجاعُها ) ( وإني امرؤٌ مني الحياءُ الذي تَرَى ** أعيشُ بأخلاق قليل خِداعُها ) ( أُوَاخي رجالاً لستُ أُطِلعُ بعضَهمْ ** على سرِّ بعض غيرَ أني جِماعُها ) ( يَظلُّونَ شَتَّى في البلادِ وسِرُّهم ** إلى صخرةٍ أعيا الرِّجالَ انصداعُها ) وقال أبو مِحْجَنٍ الثَّقَفيّ : ) ( وقد أجُودُ وما مالي بذي فَنَعٍ ** وأكتُمُ السِّرَّ فيه ضربةُ الْعُنُقِ )
وقال عمر
بن الخطاب ، رض الله عنه : من كتم سره كان الخيار بيده وقال بعضُ الحكماء : لا
تُطلعْ واحداً من سِرِّك إلا بقدر ما لا تجدُ فيه بدَّاً من معاونتك وقال آخر : إنَّ سِرَّكَ مِنْ
دَمِكِ فانظرْ أينَ تُريقُهُ .
وقال الشاعر : ( ولو قَدَرْتُ عَلَى نسيانِ ما
اشْتَمَلَتْ ** مني الضلوعُ من الأسرارِ والخَبَرِ ) ( لكنت أوَّلَ من ينسى سرائره
** إذ كنت من نشرها يوماً على خَطَرِ ) وقال الآخر : ( فإذا اسْتَودَعْتَ سِرّاً
أحَداً ** فقد استودعت بالسرِّ دَمَكْ ) وقال قيس بنُ الخطيم : ( وإنْ ضَيَّعَ
الإخْوانُ سِرّاً فإنني ** كتُومٌ لأَسْرَارِ العَشير أمينُ ) ( يكونُ له عندي إذا
ما ائتُمِنْتُهُ ** مكانٌ بسَوداءِ الفُؤَادِ مَكينُ )
وقيل لمَزبِّد : يا مُزَبِّد ما هذا الذي تحتَ حضنك فقال : يا أحمق فلمَ خبأتُه وقال أبو الشِّيص : ( ضعِ السرّ في صَمَّاءَ ليستْ بصخرةٍ ** صَلودٍ كما عايَنْتَ من سائر الصَّخر ) ( ولكنها قلب امرئٍ ذي حفيظةٍ ** يَرَى ضَيْعَةَ الأسرارِ هتراً من الهتر ) وقال سُحَيمٌ الفقعسيّ في نشر ما يُودَعُ من السِّرِّ :
( ولا أكتُمُ الأسرارَ لَكِنْ أُذيعُها ** ولا أدَعُ الأسرارَ تَغْلي عَلَى قلبي ) ( وإن قليلَ العقلِ من باتَ ليلهُ ** تقلِّبه الأسرارُ جنباً إلى جنب ) وقال الفَرّارالسُّلَمى وهذا الشعر في طريقِ شعرِ سُحَيمٍ وإن لم يكن في معنى السرِّ وهو قوله : ( وكتيبةٍ لبستها بكتيبةٍ ** حتى إذا التبستْ نفضتُ بهايدي ) ( وتركتُهُمْ تقصُ الرماحُ ظهورهم ** من بينِ منجدلٍ وآخر مسندِ ) ( ما كانَ ينفعني مقالُ نسائهم ** وقتلتُ دون رجالهمْ : لا تَبْعَدِ ) تخاذل أسلم بن زرعة وقيل لأسلم بن زَرْعة إنك إن انهزمتَ من أصحاب مِرْدَاسِ
بن أديَّة
غضِبَ عليك الأمير عبيدُ )
اللّه بن زياد قال : يغضبُ عليَّ وأنا حيٌّ أحبُّ إليَّ
مِنْ أن يرضَى عني وأنا مَيِّت
.
قال : ووليَ دسْتَبى فخرج إليها في أصحابه فلما شارفَها
عرضَتْ له الخوارجُ وكان أكثر منهم عدداً وعُدّة فقال : واللّه لأصافَّنَّهم
وَلأُعَبِّيَنّ أصحابين فلعلهم إذا رأوا كثْرَتهُم انصرفوا ولا أزال بذلك قويَّاً
في عملي هذا فلما رأت الخوارج كثرةَ القوم نزلوا عن خيولهم فعَرْقَبُوهَا وقطَّعوا
أجفانَ سيوفهم ونبذوا كل دقيقِ كان معهم وصَبُّوا أسقِيَتَهُم فلما رأى ذلك رأى
الموتَ الأحمر .
فأقبل عليهم فقال : عرقبتم دوابَّكم وقطَّعتم أجفان
سيوفِكم ونبذتم دقيقكم خارَ اللّه لنا ولكم ثم ضربَ وجوهَ أصحابه وانصرفَ عنهم .
ضيق النطَّام بِحَمْلِ السرّ وكان أبو إسحاقَ إبراهيمُ
بن سيّارٍ النظَّام أَضْيقَ الناس صدراً بحملِ سرٍّ وكان شرَّ ما يكون إذا
يُؤَكِّد عليه صاحبُ السر وكان إذا لم يؤكِّدْ عليه ربما نسِي القِصَّةَ فيسلمُ
صاحبُ السرّ .
وقال له مرةً قاسمٌ التمَّار : سبحان اللّه ما في الأرض
أعجبُ منك أودعتُك سِرّاً فلم تصبر عن نشره يوماً واحداً واللّه لأشكونّك للناس .
فقال : يا هؤلاء سَلُوه نَمَمْتُ عليه مرةً واحدةً أو
مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً فلمن الذنبُ الآن لم يرضَ بأن يشاركه في الذَّنب حتى
صيَّرَ الذّنبَ كله لصاحب السرّ
.
شعر في حفظ السر
ّ ) وقال بعضُ الشعراء : ( هوَى بي إلى حُبِّها نظْرةٌ ** هُوِيَّ الفراشةِ للجاحمِ ) وقال البَعيث : ( فإنْ تَك لَيلَى حَمَّلَتْني لُبانَةً ** فلا وأبي ليلى إذاً لا أخُونُها ) ( حَفِظْتُ لها السرّ الذي كان بيننا ** ولا يحفَظُ الأسرارَ إلا أمينُها ) وقال رجلٌ من بني سَعد : ( إذا ما ضاق صدرُك عن حديثٍ ** فأفشتهُ الرجالُ فمنْ تلومُ ) ( إذا عاتبتُ من أفشى حديثي ** وسري عنده فأنا الظلومُ ) ( وإني حين أسأَمُ حملَ سرى ** وقد ضَمنتُهُ صدري سؤومُ ) ( ولستُ محدثاً سرى خليلاً ** ولا عرسى إذا خطرتْ همومُ ) ( وأطوي السر دونَ الناس إني ** لمكا استودعتُ من سرٍ كتومُ )
عذار شيخ
قال : وقيل لشيخٍ : ويحَك هاهنا ناسٌ يسرق أحدُهم خمسين سنة ويزْني خمسين سنةً
ويَصْنَع العظائم خمسين سنة وهو في ذلك كله مستور جميل الأمر وأنت إنما لُطْتَ
منذُ خمسةِ أشهر وقد شُهرتَ به في الآفاق قال : بأبي أنت ومن يكون سرُّهُ عند
الصِّبْيَان أيُّ شيء تكونُ حالُه .
أبو الحسن عن محمد بن القاسم الهاشمي قال : قال العباسُ
بن عبد المطلب لعبد اللّه ابنه : يا بُنيّ أنتَ أعْلمُ منّي وأنا أَفْقَهُ منك
إن هذا
الرجلَ يُدْنيك يعني عُمَر بن الخطاب فاحفظْ عني ثلاثاً : لاتُفْش له سرّاً ولا
تَغْتَابَنَّ عنده أحداً ولا يَطَّلِعَنَّ منك على كِذْبة . ( في ذكر المُنى ) قال : سئل ابن
أبي بكرة : أيُّ شيء أدْوَم إمتاعاً قال : المُنَى .
قال : وقال يزيد بن معاوية على مِنبرِه : ثلاثٌ
يُخْلِقْنَ العقْل وفيها دليل على الضّعف : سرعةُ الجواب وطُول التمنِّي
والاستغراق في الضَّحك .
وقال عبايةُ الجُعْفي : ما سرّني بنصيبي من المنى حُمْرُ
النَّعم .
وقال الأصمعي : قال ابن أبي الزِّناد : المنى والحُلُم
أخَوانِ .
وقال مُعمَّر بن عَبَّاد : الأماني للنَّفس مثُلُ
التُّرَّهات لِلِّسان .
وقال الشاعر : ( اللّهُ أصْدَقُ والآمالُ كاذبةٌ ** وجُلُّ
هذِي المنَى في الصَّدور وِسْواسُ ) وقال الآخر : ( إذا تمَنَّيْتُ مالاً بتُّ
مُغتبطاً ** إنّ المنى روسُ أموالِ المفاليسِ ) ( لولا المنى مِتُّ من هَمٍّ ومن حَزَن
** إذا تذكرتُ ما في داخلِ الكيسِ ) وقال بعضُ الأعراب :
( أمانيُّ مِن سَلمى حسانٌ
كأنما ** سَقتْني بها سَلمَى على ظمأ بردَا ) وقال بشار : ( كَرَرْنا أحاديثَ
الزمانِ الذي مَضى ** فلذهَ لنا محمودُها وذمِيمها ) وروَى الأصمعيُّ عن بعضهم أنه
قال : الاحتلام أطيبُ من الغِشْيان
.
وتمنِّيك لشيء أوفرُ حظاً في اللَّذةِ من قُدْرتك عليه .
قال : كأنه ذَهَبَ إلى أنه إذا ملَكَ وجَبَتْ عليه في
ذلك المِلْكَ حقوقٌ وخاف الزوالَ واحتاجَ إلى الحفظ .
وقال : وفي الحديث المأثور : ما عظُمتْ نعمةُ اللَّه على
أحدٍ إلاَّ عظمتْ مؤونةُ الناسِ عليه
.
قال : وقيل لمزبِّد : أيسرُّك أن عندَك قنِّينةَ شَرَابٍ
قال : يا ابنَ أُمِّ من يسرُّهُ دخولُ النار بالمجاز .
قال : وقدّموا إلى أبي الحارث جُمَّيز جامَ خبيصٍ وقالوا
له :
أَهذا
أطيَبُ أم الفالوذَج قال : لا أقْضي على غائب . )
قال : وقال مَدينيٌّ لرجل : أيسرُّك أن هذه الدار لك قال
: نعم قال : وليس إلا نَعَمْ فقط قال : فما أقول قال : تقول : نَعم وأحمّ سَنة قال
: نعم وأنا أعْور .
قال : وقيل لمزبِّد : أيسُرُّك أن هذه الجُبَّةَ لك قال : نعم وأُضرَبُ
عشرين سوطاً قال : ولمَ تقولُ هذا قال : لأنه لا يكون شيءٌ إلا بشيء .
قال : وقال عبدُ الرحمن بن أبي بَكْرة : مَنْ تمنَّى طول
العمر فلْيوَطِّنْ نفسه على المصائِب
.
يقول : إنه لا يخلو من موتِ أخٍ أو عمٍّ أو ابن عمٍّ أو
صديق أو حَميم وقال المجنون : ( أيا حرجات الحيِّ حيثُ تحملوا ** بذي سلمٍ لا
جادَكنّ ربيعُ )
( وخيماتكِ اللاتي بمنعَرج
اللوى ** بلينَ بلى لم تبلهنَّ ربوعُ ) ( فقدتكَ من قلبٍ شعاعِ قطالما ** نهيتك عن
هذا وأنت جميعُ ) ( فقربت لي غيرَ القريبِ وأشرفتْ ** مناكَ ثنايا ما لهنّ طلوعُ ) ( أمانيّ بعض
الخوارج ) قال : وقال عبدُ الرحمن بن محمد بن الأشعث : لولا أربعُ خِصال ما أعطَيتُ
عربيّاً طاعة : أو ماتت أمّ عَمْرو يعني أمّه ولو نَسَبْت ولو قَرَأتُ القرآن ولو
لم يكن رأسي صغيراً .
قال : وقدِم عبدُ الملك وكان يحبُّ الشِّعر فبعثْتُ إلى
الرواة فما أتَتْ عَلَيَّ سنةٌ حتى رويتُ الشاهدَ والمثَل وفَضُولاً بعد ذلك وقِدم
مُصْعبٌ
وكان يحبُّ النّسَب فدعوتُ النَّسَّابين فتعلّمتُه قال : وقال يزيدُ بنُ المهلَّب
: لا أخرجُ حتى أحجّ وأحفَظَ القرآن وتموت أُمِّي فخرج قبل ذلك كلِّه .
وقال عُبَيْدُ اللّه بنُ يحيى : كان من أصحابنا بمَرْو
جماعة فجلَسنا ذات يومٍ نتمنَّى فتمنَّيتُ أن أصيرَ إلى العراق من أيامي سالماً
وأن أقْدَمَ
فأتزوّج
سَمَاعِ ألي كَسْكر .
قال : فقدِمتُ سالماً وتزوجتُ سَمَاعِ وولِيتُ كسْكَر .
خبر وشعر في نهري دجلة والفرات
قال :
ووقف هشامُ بنُ عبد الملك على الفرات ومعه عبدُ الرحمنِ بنُ رستَم فقال هشام : ما
في الأرض نهرٌ خيرٌ من الفُرات فقال عبد الرحمن : ما في الأرض نهرٌْ شرٌّ من
الفرات أوَّلُه للمُشْرِكِين وآخِرُه للمنافقين .
وقال أبو الحسن : الفرات ودِجلة رائِدان لأهل العراق لا
يكذبان .
قال الأصمعيّ وأبو الحسن : فهما الرائدان وهما
الرَّافدان .
وقال الفرزْدَق : ( أميرَ المؤمنين وأنتَ عَفٌّ ** كريم
لستَ بالوالي الحريصِ ) ( ولم يكُ قَبْلهَا راعي مَخَاضٍ ** لِيَأْمَنَهُ على
وَرِكَيْ قَلُوصِ ) ( تَفَيْهَقَ بالعِراق أبو المثَنَّى ** وعَلَّمَ قَوْمَهُ
أكلَ الخَبيصِ )
قال :
وبينا غَيْلان بن خرَشَة يسيرُ معبد اللَّه بن عامر إذ وَرَدَا على نهر أمِّ عبد
اللّه فقال ابنُ عامر : ما أنفَعَ هذا النهرَ لأهل هذا المصر قال غيلان : أجَلْ
أيها الأمير واللّه إنهم ليَسْتَعْذِبُون منه وتفيضُ مياهُهم إليه ويتعلمُ صبيانهم
فيه العَوم وتأتيهمْ مِيرَتهم فيه .
فلما أن كان بعد ذلك سايَرَ ذاتَ يوم زياداً وكان زيادٌ
عدُوّاً لابن عامر فقال زياد : ما أضَرَّ هذا النهرَ بأهل هذا المصر فقال : أجَلْ
واللّه أيها الأمير تنِزُّ منه دُورُهم ويغرقُ فيه صبيانهم ويُبْعَضون
ويُبَرْغَثُونَ .
القول في العصافير
وسنقول
باسم اللّه وعونه في العصفور بجملةٍ من القول .
وعلى أنّا قد ذكرنا من شأنه أطرافاً ومقطَّعاتٍ من القول
تفرّقْنَ في تضاعيف تلك الأصناف وإذا طال الكلامُ وكثُرت فنونه صار الباب القصيرُ
من القولِ في غِماره مُسْتَهْلَكاً وفي حومته غَرِقاً فلا بأسَ أن تكون تلك الفقرُ
مجموعاتٍ وتلك المقطَّعاتُ موصولاتٍ وتلك الأطراف مستقصياتٍ مع الباقي من ذِكْرِنا
فيه ليكون البابُ مجتمعاً في مكانٍ واحد فبالاجتماع تجتمع القوة ومن الأبعاض يلتئم
الكُلُّ وبالنظام تظهرُ المحاسن
.
دعوى الإحاطة بالعلم
ولستُ أدَّعي في شيء من هذه الأشكالِ الإحاطة به والجمعَ لكل شيء فيه ومن عَجَز عن نظم الكثير وعن وضعِه في مواضعه كان عن بُلوغ آخره وعن استخراج كل شيء فيه أعجز والمتح أهونَ من الاستنباط والحصْدَ أيسَرُ من الحرث .
وهذا البابَ لو ضمَّنه على كتابه من هو أكثرُ مني رواية
أضعافاً وأجود مني حِفظاً بعيداً وكان أوسع مني علماً وأتمَّ عزماً وألطفَ نظراً
وأصدَقَ حِسّاً وأغوصَ على البعيد الغامض وأفهَمَ للعويص الممتنع وأكثرَ خاطراً
وأصحَّ قريحةً وأقلَّ سآمَةً وأتمَّ عنايةً وأحسنَ عادةً مع إفراط الشهوةِ وفراغ
البال وبُعْدِ الأمَل وقوةِ الطمعِ في تمامه والانتفاع بثمرته ثم مُدَّ له في
العمر ومكَّنته المقدرة لكان قد ادَّعى مُعْضِلة وضمِنَ أمراً معجزاً وقال قولاً
مرغوباً عنه متعجّباً منه ولكان لغْواً ساقطاً وحارضاً بَهْرَجاً ولكان ممن يفضلُ
قوله على فعله ووَعدُه على مقدار إنجازه لأن الإنسان وإن أُضيفَ إلى الكمال وعُرف
بالبَراعة وغَمَر العلماء فإنه لا يكْمُلُ أن يُحيط علمُه بكلِّ ما في جناح
بَعوضةٍ أيام الدنيا ولو استمد بقوةِ كلِّ نظَّارٍ حكيم واستعارَ حِفظ كلّ بحّاثٍ
واعٍ وكلِّ نَقَّاب في البلاد ودَرّاسة للكتب .
تفاوت
الخلق في العلم
وما أشكُّ أَن عندَ الوُزراء في ذلك ما ليس عند الرعيَّة
من العلماء وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء وعند الأنبياء ما ليس عند الخلفاء
وعند الملائكةِ ما ليس عند الأنبياء والذي عندَ اللّه أكثر والخلقُ عن بلوغه أعجز
وإنما عَلَّمَ اللّهُ كلَّ طبقة من خَلْقِهِ بِقَدْرِ احْتِمالِ فِطَرِهم ومقدارِ
مَصْلحتهم . ( القول في : علَّمَ آدمَ الأسماء كلها ) )
فإن قلت
: فقد علَّم اللّهُ عزّ وجلَّ آدمَ الأسماءَ كلّها ولا
يجوز تعريفُ الأسماء بغير المعاني وقلتَ : ولولا حاجةُ الناس إلى المعاني وإلى
التعاوُن والترَافُد لَمَا احتاجوا إلى الأسماء وعلى أن المعانيَ تفضلُ عن الأسماء
والحاجاتِ تجوزِ مقاديرَ السِّمات وتفَوت ذَرْع العلامات فممَّا لا اسم له خاصُّ
الخاصّ والخاصِّيَّاتُ كلها ليست لها أسماءٌ قائمة .
وكذلك تراكيب الألوان والأراييح والطعوم ونتائجها .
وجوابي في ذلك : أن اللّه عزّ وجلّ لم يخبرْنا أنه قد
كان علَّم آدمَ كلّ شيء يعلمه تعالى كما لا يجوز أن يُقْدِرَه على كلِّ شيء يقدرُ
عليه .
وإذا كان العبدُ المحدودُ الجسمِ المحدود القوَى لا
يبلُغُ صِفَةَ ربِّه الذي اخترعه ولا صفةَ خالِقه الذي ابتدعه فمعلومٌ أنه إنما
عَنَى بقوله : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّهَا ) عِلْمَ مصلحتِه في
دُنياه وآخِرته .
وقال اللّه عزّ وجلّ : وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ وقال اللّه عزَّ وجلَّ : وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ
أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِ سَبْعَةُ أَبْحرٍ مَا نَفِدَتْ
كَلِمَاتُ اللّهِ وقال اللّه تعالى : يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وقال تَقَدَّسَتْ أسماؤه : وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلاَّ هُوَ
وقال اللّه عزَّ وجلّ : وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعلَمُونَ .
وهذا الباب من المعلوم غيرُ باب عِلْم ما يكونُ قبلَ أن
يكون لأن بابَ كَانَ قد يُعْلَمُ بعضُه وبابُ يكون لا سبيل إلى معرفةِ شيء منه
والمخاطبةُ وقَعَتْ على جميعِ المتعبَّدين واشتملت على جميع أصناف الممتَحَنين ولم
تقع على أهْلِ عَصْرٍ دونَ عصر ولا على أهل بلدٍ دونَ بلد ولا على جنسٍ دونَ جنس
ولا على تابع دون متبوع ولا على آخرٍ دونَ أوَّل .
( أجناس الطير التي تألفُ
دورَ الناس ) العصافير والخطاطيف والزّرازِير والخفافيش فبين هذه وبين الناس مناسَبَةٌ
ومُشاكلة وإلْفٌ ومحبّةٌ .
والخطاطيفُ تقطع إليهمْ وتعْزُب عنهم والعصافير لا
تفارِقهم وإن وجدَتْ داراً مبنيةً لم تَسْكنْها حتى يَسْكُنَها إنسان ومتى سكنتها
لم تُقِم فيها إذا خرج منها ذلك الإنسان فبفراقه تُفارِق وبسُكناه تسكُن وهذه
فضيلةٌ لها على الخطاطيف .
الحمام لا يقيمُ معهم في دُورهم إلا بعد أن يثبِّتوه
ويعلِّموه ويُرتِّبو حاله ويدرِّجوه ومنها ما هو وحشيٌ طُورانيّ وربما توحّش بعد
الأُنْس والعصافير على خلاف ذلك فلها بذلك فضيلةٌ على الحمام وعلى الخُطَّاف .
وقد يُدرَّب العصفورُ ويثَبَّتُ فيستجيبُ من المكان
البعيد ويثْبُتُ
ويَدْجُن
فهو مما يثبُت ويُعايش الناسَ من تلقاء نفسه مرةً وبالتثبيتِ مرةً وليس كذلك شيء
مما يأوِي إلى الناس من الطير .
وقد بلَغني أن بعضَ ما يستجيب منها قد دُرِّبَ فرجع من
مِيل فأما الهدايةُ من تلقاء نفسه فمن الفراسخ الكثيرة .
وحدَّثني حَمّوَيْهِ الخُرَيْبيّ وأبو جَرَاد
الهزَاردَريّ قالا : إذا كان زمان البيادر لم يبق بالبصرة عُصفورٌ إلا صارَ إلى
البساتين إلا ما أقام عَلَى بيضه وفراخه وكذلك العصافير إذا خَرَجَ أهلُ الدّار من
الدَّار فإنه لا يقيمُ في تلك الدار عُصفُورٌ إلا عَلَى بيض أو فِراخ فإذا لم يكنْ
لها اسْتَوْحَشَتْ والتمستْ لأنفسها الأوكارَ في الدُّور المعمورة ولذلك قال أبو
يعقوب إسحاقُ الخُرَيمي : ( فتِلك بغدادُ ما تَبنَّى من ال ** وَحْشةِ في دُورِها
عصافِرُها )
قالا :
فعلى قدْرِ قُرب القبائل من البساتين سبقُ العصافير إليها فإذا جاءت العصافيرُ
التي تلي أقرب القبائل منها إلى أوائل البساتين فوجدت عصافير ما هو أقربُ إليها
منها قد سبقت إليها تعدَّتها إلى البساتين التي تليها وكذلك صنيعُ ما بَقِيَ من
عصافير القبائل الباقية حتى تصير عصافير آخر البصرة إلى آخر البساتين وذلك شبيهٌ
بعشرين فَرْسخاً فإذا قضت حاجتها وانقضى أمرُ البيادر أقبلت من هناك على أماراتٍ
لها معروفةٍ وعلامات قائمة حتى تصير )
إلى أوكارها
.
ضروب الطير
والطيرُ
كله على ثلاثة أضرب : فضربٌ من بهائم الطير وضربٌ كسباع الطير وضربٌ كالمشترَك
المركَّب منها جميعاً .
فالبهيمة كالحمام وأشباه الحمام مما يَغتذي الحبوبَ
والبزُورَ والنبات ولا يغتذي غير ذلك والسبع : الذي لا يَغْتَذِي إلا اللحم .
وقد يأكل الأسدُ الملحَ ليس على طريق التغذي ولكن على
طريق التَّملُّح والتحمُّض .
ما يشارك فيه العصفور الطير والحيات
فممَّا
يُشاركُ فيه العصفور بهائم الطَير أنه ليس بذي مخْلَبٍ ولا مِنْسَر أو هو مما إذا
سقط على عُودٍ قَدّم أصابعه الثلاثَ وأخَّر الدّابرة وسباع الطير تقدِّم إصبَعَينْ
وتؤخِّر إصبَعَيْنِ .
ومما شارك فيه السَّبع أنَّ بهائم الطير تزقّ فراخها
والسِّباع تُلقِم فِرَاخها .
والفراخ على ثلاثة أضربٍ : ففرخٌ كالفرُّوج لا يُزَق ولا
يُلْقَم وهو يظهر كاسباً وفرخ كفرخ الْحمام وأشباه الحمام فهو يُزَقُّ ولا يُلْقَم
وفرخ كفرخ العُقاب والبازِي والزرّقُ والشاهين والصقر وأشباهِها من
السِّباع
فهو يُلقَم ولا يُزقّ فأشبهها العُصفورُ من هذا الوجه .
وفيه من أخلاق السِّباع : أنه يصيد الجرادة والنملَ
الطيَّار ويأكل اللحم ويُلقِم فراخَه اللحم وليس في الأرض رأسٌ أشبَهُ برأس
حَيَّةٍ من رأس عصفور الأجناس التي تعايش الناس والأجناس التي تعايش الناس :
الكلبُ والسِّنّور والفرَس والبعير والحمار والبغل والحمام والخُطَّافَ والزّرزور
والخُفَّاش والعصفور .
أطول الحيوان عمراً وأقصره قالوا : وليس في جميعها أطولُ
عُمْراً من البغل ولا أقْصَرُ عمراً من العصفور .
قالوا : ونظن ذلك إنما كان لقلَّةِ سِفاد البغل وكثرة
سفاد العصفور .
ويزعمون أَن محمدَ بنَ سليمان أنزَى البغالَ على البغلات
كما أنزَى العِتاق على الحُجور والبَرَاذِينَ على الرِّماك والحمير على الأتن فوجد
تلك الفُحُولة من البغالِ بأعيانها أقصَرَ أعماراً من سائر الحافر حين سوَّى بينها
في السِّفاد ووَجد البغالَ تلقح إلقاحاً فاسداً لا يتمّ ولا يعيش . )
وذكروا أن قِصَر العُمر لم يعرض لإناثها كما عَرَض
لذكورتها .
وهذا شبيهٌ بما ذكر صاحبُ المنطق في العصافير فإنه ذكر
أن إناثها أطولُ أعماراً وأن ذكورتها لا تعيش إلا سنةً واحدة .
أثر السمن في الحمل والمرأة تنقطع عن الحَبل قبل أن
ينقطعَ الرجُلُ عن الإحبال بدَهْر وتُفرط في السمن فتصيرُ عاقراً ويكونُ الرجُلُ
أسْمَنَ منها فلا يصير عاقراً
وكذلك الحِجر والرَّمَكَة والأتان وكذلك النخلة المطعِمَة ويَسْمَنُ لُبُّ الفُحَّال فيكون أجْود لإلقاحه وهما يختلفان كما ترى .
الأجناس الفاضلة من الحيوان
وللعصفور فضيلة أُخرى وذلك أنَّ من فضْل الجنْس أن تتميز ذكورتُه في العين من إناثه كالرجل والمرأة والدِّيكِ والدجاجة والفُحال والمُطعِمة والتَّيْسِ والصفِيَّةِ والطاوس والتٌّ ُدْرُج والدُّرَّاج وإناثها .
وليس ذلك كالحِجْر والفَرَس والرَّمَكةِ والبِرذَون
والناقة والجمل والعير والأتان والأسد واللَّبُؤَة فإن هذه الأجناسَ تُقْبِلُ
نحوَك فلا ينفصل في العين الأنثى من الذكر حتى تتفقّدَ مواضع القُنْبِ والأطْباء
وموضِع الضّرع والثِّيل وموضِعَ ثَفْر الكلبة من القضيب .
لأنّ للعُصفور الذّكَرِ لحيَةً سوداء وليس اللحية إلا
للرجل والجمل والتيس والدِّيك وأشباهِ ذلك فهذه أيضاً فضيلةٌ للعُصفور وذكر ابنُ
الأعرابيِّ أن للناقة عُثْنُوناً كعثنون الجمل وأنها متى كان عُثنونها أطْوَلَ كان
فيها أحْمَدَ .
حب العصافير فراخها
وليس في الأرض طائرٌ ولا سبعٌ ولا بهيمةٌ أحْنى على ولدٍ ولا أشدّ به شعَفاً وعليه إشفاقاً من العصافير فإذا أصيبت بأولادها أو خافتْ عليها العَطب فليس بينَ شيء من الأجناسِ من
المساعدة
مثلُ الذي مع العصافير لأن العصفورَ يرى الحيَّةَ قد أقبلت نحو جُحره وعُشّه
ووَكره لتأكُلَ بيضه أو فراخه فيصيح ويُرَنِّق فلا يسمعُ صوته عُصفورٌ إلا أقبل
إليه وصنَعَ مِثلَ صنيعهِ بتحرُّق ولوعةِ وقَلَقٍ واستغاثةٍ وصُراخ وربما أفلت
الفرْخ وسقط إلى الأرض وقد ذهبت الحيّة فيجتمعن عليه إذا كان قد نَبَتَ ريشه أدنى
نبات فلا يزلْنَ يُهَيِّجْنَهُ ويَطِرْنَ حوله لعلمها أن ذلك يحدِثُ للفَرْخ قوةً
عَلَى النُّهوض فإذا نهضَ طِرْنَ حواليه ودونه حتى يحتثِثْنَهُ بذلك العمل .
وكان الخُرَيميّ ينشد :
وينشد :
واحْتَثَّ مُحْتَثَّاتُهَا الخَدُورا وتقول العرب : العاشِية تهيجُ الآبية ولو أن
إنساناً أخذ فرّْخَيْ عُصْفورٍ من وكره ووضعهما بحيثُ يراهما أبواهما في منزله
لوجدَ العصفور يتقحّم في ذلك المنزل حتى يدخل في ذلك القفص فلا يزالُ في تعهُّدِه
بما يُعيشه حتى يستغنِيَ عنه ثم يحتملانِ في ذلك غاية التغْريرِ والخِطار وذلك من
فرط الرِّقَّة على أولادهما .
ما لا يسمح بالمشي من الحيوان وأجناس الحيوان التي لا
تستطيع أن تُسمحَ بالمشي ضروب : منها
الضبع لأنها خُلقت عرْجاء فهي أبداً تخمَع قال الشاعر : ( وجاءتْ جَيْأَلٌ وأبو بنيها ** أَحَمُّ المَأْقِيَيْنِ به خُمَاعُ ) وقال مدرك بن حِصْن : ( من الغُثْرِ ما تَدْرِي أرجُلُ شمالُها ** بها الظَّلع إمَّا هَرْوَلَتْ أمْ يَمينُها ) والذئب أقزل شَنِج النسا وإن أُحِثَّ إلى المشي فكأنه يتوجَّى .
وكذلك الظَّبيُ شَنِجُ النَّسا فهو لا يُسْمِحُ بالمشي
قال الشاعر : ظبيٌ أَشعب : إذا كان بعيد ما بين القرنين ولا يسمع له نُباح وإذا
أراد العَدْو فإنما هو النَّقْز
)
والوثب ورفع القوائم معاً .
ومن ذلك الأسد فإنه يمشي كأنه رَهِيص وإذا مشى تخَلَّع .
قال أبو زبيد : ( إذا تبهْنَسَ يمشي خِلْتَهُ وعِثا **
وعَتْ سواعدُ منه بعد تكسيرِ ) ومن ذلك الفرسُ لا يُسمِح بالمشْي وهو يوصف بشَنَج
النسا .
وقال الشاعر : شَنِح الأنْساءِ من غيرِ فَحَجْ
ومن ذلك
الغراب فإنه يحجِل كأنه مقيَّد قال الشاعر : ( كتاركِ يوماً مشْيةٍ من سَجِيَّةٍ
** لأُخْرى ففاتَتْه فأصبحَ يحجِلُ ) وقال الطِّرِمّاح : ( شُنِجَ النسا أدفَى الجَناحِ كأنهُ
** في الدّار بعدَ الظَّاعِنين مُقيَّدُ ) والسِّنّورُ والفَهْد وأشباهُهما في طريق
الأسَد .
والحيَّة تمشي ومنها ما يَثِب ومنها ما ينتصِبُ ويقومُ
على ذنَبه .
والأفعى إذا نَهَشت أو انباعت للنَّهش لم تستقلّ ببدنها
كلِّه ولكنها تَستقِلُّ ببدنها الذي يلي الرأس بحركةٍ ونَشْطٍ أسرعَ من اللَّمْح .
والجرادة تطير وتمشي وتطمر فإذا صِرتَ إلى العصفور ذهب
المشي البتّة وأكثر ما عند البرغوث الطُّمور والوثوب .
وقال الحسنُ بن هانئ يصفُ رجلاً يفْلي القَمْلَ
والبُرغوث بأنامله : ( أو طامريٍّ واثبٍ ** لم يُنْجِهِ منه وِثابُهْ ) لأن
البرغوث مشّاء وثَّاب .
قال : وقول الناس : طامر بن طامر إنما يريدون البرغوث .
والعصفور ليس يعرِفُ إلا أنْ يجمعَ رجليه ثم يثِب
فيضعهما معاً ويرفَعهما معاً فليس عنده إلا النَّقَزَانُ ولذلك سُمِّي العصفورُ
نقَّازاً .
وهو العصفور والجمع عصافير ونقَّاز والجمع نقَاقيز وهو
الصّعْو ويزعمون أن العرب تجعلُ الخرّق والقُنْبر والحُمَّر وأشباه ذلك كله من
العصافير والعصفور طَيرَانه نَقَزانٌ أيضاً فهو لا ) يُسمِحُ بالطيران كما لا يسمح
بالمشي .
شدة وطء
العصفور
وليسَ لشيء جسمُه مثلُ جسمِ العُصفور مراراً كثيرةً من
شدَّة الوطء وصلابة الوقْع عَلَى الأرض إذا مشى أو عَلَى السطح ما للعصفور فإنك
إذا كنتَ تحت السّطح الذي يمشي عليه العصفور حسِبتَ وقْعَه عليه وقْعَ حَجَر .
والكلبُ منعوتٌ بشدة الوطء وكذلك الخِصْيانُ من كل شيء
والعصفور يَأخذ بنصيبه من ذلك أكثرَ من قِسْط جِسْمِهِ من تلك الأجسام بالأضعاف
الكثيرة .
ما يجيد المشي من الحيوان والذُّباب من الطير الذي يجيدُ
المشي ويمشي مشياً سَبْطاً حَثِيثاً وحسناً مستوياً .
والقطاة مَلِيحةُ المِشْية مقاربَة الخطْو .
وقد توصف مِشْيَةُ المرأةِ بمِشية القَطَاة وقال
الكُمَيت : ( يمشينَ مَشْيَ قَطَا البُطاحِ تأوُّداً ** قُبَّ الْبُطونِ رَوَاجِحَ
الأكْفَالِ )
وقال الشاعر
: ( يتمشين كما تم ** شي قطا أو بقراتُ ) لأن البقرةَ تتبخترُ في مِشْيتها .
وقلت لابن دَبُوقاء : أي شيء أول التَّشاجي قال :
التباهُر والقَرْمَطة في المشي وقال : وكلُّ حيوان من ذوات الرجلين والأربع إذا
انكسرت لها قائمة تحامَلَت بالصحيحة إلا النعامة فإنها تسقُط البتَّة
سفاد العصفور
قال : وكثرةُ عددِ السِّفاد والمبالغة في الإبطاء والدّوامُ في كثرة العدد لضروبٍ من الحيوان فالإنسانُ يغلبُ هذه الأجناس بأن ذلك دائم منه في جميع الأزمنة فأما الإبطاءُ في حال السِّفاد فللجمل
والوَرَل والذِّبّان والخنازير فهذه فضيلةُ لذة لهذه الأجناس والأصناف فأما كثرةُ العدَد فللعصافير .
سفاد التيس
وقد زعم
أبو عبد اللّه العتبيّ الأبْرَصُ وكان قاطعَ الشهادة عند أصحابنا البَصريِّين أن
الذي يقال له المِشْرَطِيُّ قَرعَ في يومٍ واحدٍ نيفاً وثمانين قَرْعة .
إلا أن ذلك منه ومن مثله ينمحقُ حتى يعودَ جافراً في
الأيام القليلة . ( تيس بني حِمَّان
) وبنو حِمّان يزعمون أن تيسَ بني حِمّان قَرَع وألقَحَ
بعد أن ذُبح وفخَرُوا بذلك فقال بعضُ من ( أَلهى بَنِي حِمّان عَسْبُ عَتُودِهم **
عن المجْدِ حتى أَحْرَزَتْه الأكارمُ
)
زعم لصاحب
المنطق وزعمَ صاحبُ المنطق في كتاب الحيوان أن ثَوْراً فيما سلف من الدهر سَفِدَ
وأَلْقَحَ من ساعته بعد أنْ خُصِي .
فإِذا أفرطَ المديحُ وخرجَ من المقدار أو أفرطَ التعجيبُ
وخرج من المقدار احتاج صاحبُه إلى أن يثْبته بالعيان أو بالخبر الذي لا يكذّبُ
مثله وإلا فقد تعرَّض للتكذيب .
ولو جعلوا حركتهم خبراً وحكاية وتبرؤوا عن عيْنبه ما
ضرَّهم ذلك وكان ذلك أصْوَن لأقدارهم وأتمَّ لمروءات كتبهم .
القول في الجناح واليد والرجل
وقالوا :
وكلُّ طائر جيِّد الجناح يكونُ ضعيفَ الرجلين كالزُّرزُور والخُطَّاف وجناحاهما
أجْود من جناح العصفور ورجل العُصفور قويَّة .
والجناحان هما يدا الطائر لأنهم يجعلون كلَّ طائر وإنسان
ذا أربع :
فجناحا الطائر يداه ويدا الإنسان جناحاه ولذلك إنْ قُطعت يدُ الإنسان لم يُجِد
العَدْو وكذلك إن قُطِعَتْ رجلُ الطائر لم والدابة قد تقوم على رجلين دون يديها
والإنسان قد يمشي على أربع قالوا : فَهُم في عدد الأيدي والأرجل سواء وفي الآلات
الأربع إلا أن الآلة تكونُ في مكان ببعض الأعمال أليَقَ وهو عليها أسهل فتجذبُها
طبائعها إلى ما فيها من ذلك كمشي الدابة عَلَى يديها وثِقَل ذلك على الإنسان .
والحمام يضربُ بجناحِه الحمامَ ويقاتلُه به ويدفع به عن
نفسه فقوادمه هي أصابعه وجناحُه هُو يدُه ورجله كالقدم وهي رجلٌ وإنْ سمّوها كفّاً
حين وجدوها تكفُّ به كما يصنع الإنسانُ بكفِّه .
وكلُّ مقطوعِ اليدينِ وكل من لم يُخلق له يدانِ فهو
يصنعُ برجليه عامَّةَ ما يصنَعُه الوافرُ الخلق بيديه .
وكل سبُع يكون شديدَ اليدين فإنه يكونُ ضعيفَ الرجلين .
وكل شيء من ذوات الأربع من البراثن والحوافر فإن أيديَها
أكبرُ من
أرجُلها والناس أرجلهم أكبرُ من أيديهم وأقدامهم أكبر من أكفِّهم .
وجعلوا رُكَبَهُم في أرجُلهم وجعلوا رُكَبَ الدّواب في
أيديها .
وللعصافير طَبَاهِجَات وقلايا تُدْعَى العصافيريَّة ولها
حَشاوي يطِعمها العوامّ المَفلوجَ والعوامُّ تأكلها للقوَّة على الجِماع وعِظامُ
سُوقِها وأفخاذِها أحَدُّ وأذْرَب من الإبر وهي مَخُوفةٌ على المعدة والأمعاء .
وهي تخرِّب السُّقف تخريباً فاحشاً وتجتلبُ الحيّات إلى
منازل الناس لحرْص الحياتِ على ابتلاع العصافير وفراخها وبيضها .
عمر العصفور
والذين
زعموا أن ذكورتها لا تعيش إلا سنةً يحتاجون إلى أن يعرِّفوا الناس ذلك وكيفَ
يستطيعون تعريفَهم وقد تكون القُرى بقُرب المزارعِ والبيادر مملوءة عصافيرَ
ومملوءة من بَيْضها وفراخها وهم مع ذلك لم يروْا عصفوراً قط ميتاً .
والذين يزعمون أن الذبابَ لا يعيشُ أكثر من أربعين يوماً
وكانوا لا يكادون يروْن ذبابة ميتة أعْذرُ لأنهم ذهبوا إلى الحديث وأصحاب الحديث
لا يؤاخذون بما يؤاخَذ به الفلاسفة
.
والذين زعموا أن البغل إنما طال عمره لقلَّة السِّفاد
والعصفورَ إنما قصُرَ عمره لكثرة السِّفاد وغُلمته لو قالوا بذلك عَلى جهة الظنِّ
والتقريب لم يلُمْهم أحد من العلماء والأمور المقرّبة غيرُ الأمور الموجَبة فينبغي
أن يعرفوا فصْل ما بين الموجب والمقرَّب وفصلَ ما بين الدليل وشبه الدليل ولعلّ
طول عمر البغل يكون للذي قالوا ولشيء آخر .
وليس ينبغي لنا أن نجزِمَ على هذه العِلّة فقط إلا بعد
أن يحيط علمنا بأن عمرَه لم يفْضُلْ على أعمار تلك الأجناس إلا لهذه العلّة .
بعض خصال العصفور
والعصفورُ
لا يستقرُّ ما كان خارجاً من وكْره حتى كأنه في دوام الحركة صبيٌّ له صوت حديدٌ
مؤْذ .
وزعموا أن البُلبل لا يستقر أبداً وهذا غَلَطٌ لأن
البُلبل إنما يقْلَقُ لأنه محصورٌ في قفص والذين عاينوا البلابلَ والعصافير في
أوكارها وغير محصورة في الأقفاص يعلَمون فضلَ العصفورِ عَلَى البُلبل في الحركة .
فأما صدْق الحِسِّ وشدَّة الحذَر والإزكان الذي ليس عند
خبيث الطير ولا عند الغُرَاب إن عند العصفور منه ما ليسَ عندَ جميع ما ذكرنا لو
اجتمعت قوهم ورُكِّبوا في نصاب واحد
.
من ذلك أنه يغمّ بحدَّة صوته بعضَ من يقرُب منه فيصيح به
ويُهوي بيديه إلى الأرض كأنه يريد أن يرميَه بحجر فلا يراه
يحفِل
بذلك فإن وقعت يدُه على حصاةٍ طارَ من قبل أن يتمكّنَ من أخذها .
وزعم صاحبُ المنطق أن بين الحِمار وعصفورِ الشَّوك
عداوةً وقال : لأن الحمارَ يدخل الشجر والشّوك فربما زاحَمَ الموضع الذي فيه
وَكْرُه فيبدِّد عُشَّه وربما نهق الحِمارُ فسقَطَ فرخُ العُصفور أو بيضه من جوفِ
وكْره قال : ولذلك إذا رآه العصفورَ رَنَّق فوقَ رأسه وعلى عينيه وآذاه بطيرانه
وصِياحه .
وربّما كان العصفورُ أبْلَق ويصابُ فيه الأصبغ
والجرادِيّ والأسود والفيق والأغْبَس فإذا أصابوه كذلك باعوه بالثَّمن الكثير .
وقال أبو بدر الأُسَيديّ : قيل لعبد الأعلى القاصّ : لم
سمّي العصفورُ
عُصفوراً قال : لأنه عَصى وقرّ وقيل : ولم سمّي الطَّفْشِيل طفشيلاً قال : لأنه طفا وشال وقيل له : لم سمي الكلبُ القَلَطِيُّ قَلَطِيّاً قال : لأنه قلَّ ولَطِئَ وقيل له : لم سمي الكلبُ السَّلوقيُّ سَلوقيّاً قال : لأنه يسْتَلّ ويَلقَى قال : وحدّثنا سُفيان بن عيينة عن عَمرو بن دِينار عن صُهَيب مولى ابن عامر عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم : ما مِنْ إنسان يقتل عصفوراً أو ما فوقها بغير حقها إلا سأله اللّه عنها قيل : يا رسول اللّه : وما حقها قال : أن تذْبحها فتأكُلَها ولا تقطع رأسَها فترميَ بها .
صياح العصافير ونحوها
ويقال : قد صرّ العصفورُ يصرُّ صريراً قال : ويقال للعصافير
والمَكاكيّ والقنابر والْخُرّق والحُمَّر : قد صفَر يصفِرُ صفيراً وقال طَرَفة بنُ العبْد : ( يا لَكِ مِنْ قُبَّرة بمعْمَرِ ** خَلا لكِ الجوُّ فبِيضي واصفِري ) ونَقِّري ما شِيتِ أن تُنَقِّري ويقال : قد نطق العصفور وقال كثَيِّر : ( سوى ذِكرةٍ منها إذا الرَّكبُ عَرَّسُوا ** وهَبَّتْ عصافيرُ الصَّريمِ النواطقُ ) ولذِكْر العصفور موضعٌ آخر : وذلك أنَّ العصافير تصيحُ معَ الصُّبح وقال كلثومُ بنُ عمرو :
( يا ليلةً لي بحُوّارينَ ساهرةً ** حتى تكلم في الصبحِ العصافير ) وقال خلفٌ الأحمر : ( فما أصاتَتْ عصافيرُه ** ولاحت تَباشِيرُ أرْواقِهِ ) وقال الوليد بنُ يزيد : ( فلما أنْ دنا الصبحُ ** بأصواتِ العَصافير )
أحلام العصافير
ولها موضع آخر وذلك أنهم يضربون المثلَ بأحلامِ العصافير لأحلام السُّخَفَاءِ وقال دُرَيد بنُ الصِّمَّة : ( يا آلَ سُفيانَ ما بالي وبالُكمْ ** أنتم كثير وفي أحلامِ عُصفورِ ) وقال حسَّانُ بنُ ثابت : ( لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عِظَمٍ ** جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ ) ومن هذا الباب في معنى التَّصغير والتَّحقير قولُ لبيد : ( فإنْ تسألينا فيمَ نحنُ فإننا ** عَصافيرُ من هذا الأنامِ والمسحَّرِ ) المخدَّع على قوله : ونُسحَرُ بالطعامِ وبالشَّرابِ وقال لبيد :
فكأنه
يخبر عن ضَعْف طِباع الإنسان .
وقال قوم : المسحّر يعني كلّ ذي سَحْر يذهب إلى الرئة لقوله
: ونُسْحَر بالطعامِ وبالشراب
قولهم صريم سحر
ولذِكر
السَّحْر موضعٌ آخر يقول الرجلُ لصاحبه : صرَمْت سَحْري منك أيْ لستُ منك وقال
خُفافُ بن نُدْبة : ( ولولا ابنا تُماضِر أن يُساؤوا ** وأنّي منك غيرُ صَريمِ سَحْرِ )
فكأنه قال : لستُ كذلك منك .
وقال قيسُ بنُ الخطيم : ( تقولُ ظَعينَتِي لما
استَقَلَّتْ ** أتَتْرُكُ مَا جَمَعْتَ صَرِيمَ سَحْرِ ) أي قد تركتَه آيساً منه .
وأنشد الآخر
:
( أَيَذْهَبُ ما جمعتُ صَرِيمَ سَحْرٍ ** ظلِيفاً أنَّ ذا لهو العجيبُ )
العصفور والضب
وإذا
وصفوا شدّة الحرّ وصفوا كيفَ يُوفِي الحِرباءُ على العُود والجِذْل وكيف تلجأ
العصافيرُ إلى جِحَرة الضِّباب من شدة الحرّ .
وقال أبو زُبَيد : ( أيُّ ساعٍ سعى ليقطع شربي ** حين
لاحتْ للصابح الجوزاءُ )
واستكنَّ العصفورُ كزهاً مع الضبِّ وأوفى في عوده الحرباءُ ( ونفى الجندبُ الحصى بكراعي ** هِ وأذْكتُ نيرانها المعزاءُ ) ( من سمومٍ كأنها لفحُ نار ** صقرتها الهجيرةُ الغراء ) وأنشدوا : ( تجاوزتُ والعَصفورُ في الجُحْر لاجئٌ ** مع الضّبِّ والشِّقذانُ تسمو صدورها ) قال : الشِّقْذان : الحَرَابيّ قوله : تسمو أي ترتفع عَلَى رأس العُود والواحد من الشِّقْذان شَقَذَان بتحريك القاف وفتح الشين .
عصافير النعمان
وكانوا
يقولون : صنعَ به الملكُ كذا وكذا وحَبَاه بكذا وكذا ووهب له مائة من عصافيره .
وعصفور ودَاعر وشاغِر وذو الكَِبْليْن : فحولة إبل
النعمان .
وعصافير الرَّحْل واحدها عصفور .
عصفور القواس
وعصفور القَوّاس إليه تضاف القِسِيُّ العُصفورية وقد ذكره
ابن يَسير حين دعَا على حمام له بالشّواهين والصُّقورة والسَّنانير والبنادق فقال : ( من كلِّ أكلفَ باتَ يدجنُ ليلهُ ** فغدا بغدوةِ ساغب ممطور ) ( ضرم يقلب طرفه متأنساً ** شيئاً فكنَّ له من التقديرُ ) ( يأتي لهنْ ميامناً ومياسراً ** صكاً بكلِّ مذلق مطورِ ) ( لا ينجُ منه شريدهنّ فإنْ بحا ** شيءٌ فصار بجانبات الدور )
( لمشمرينَ عن السواعدِ خُسر ** عنها بكلِّ رشيقةٍ التوتير ) ( ليس الذي تشوي يداه رمية ** فيهم بمعتذر ولا معذور ) ( ينبوعون مع الشروق غديَّة ** في كل معطيةِ الجذاب نتورِ ) ( ينفثنَ عن جذبِ الأكفِّ سواسياً ** متشابهاتِ صغنَ بالتدوير ) ( تجري لها مهجُ النفوسِ وإنها ** لنواصلٌ سلبٌ من التحسير )
( ما إن ينى متباينٌ متباعدٌ ** في الجو يحسر طرف كل بصير ) ( عن سمتهنَّ إذا قصدنَ لجمعهِ ** متقطراص متضمخاً بعبير ) ( فيؤوب ناجيهنَّ بينَ مجلهق ** دامٍ ومخلوبٍ إلى منسور ) ( عاري الجناح من القوادم والقرا ** كاسٍ عليه بصائرُ التامورِ )
شعر في العصفور
وقال أبو السِّرِيّ وهو مَعْدَانُ الأعمى المديبريّ وهو يذكر ظهورًاً لإمام وأشراطَ خُروجه فقال :=