مجلد 9 من
كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
وقال حسين بن أبي علي الكرخي : أنا إنسان لا أبالي ما استقبلت به الأحرار .
= وقال عَمرو بن
القاسم : إنما قويت على خصمي بأني لم أتستَّرْ قطُّ عن شيء من القبيح فقال أبو
إسحاق : نلتَ اللذَّة وهتكتَ المروءة وغلبتك النفس الدَّنية فأرَتْك مكروهَ عملك
محبوباً وشيء قولك حسناً ومن كان عَلَى هذا السبيل لم يتلفتْ إلى خير يكون منه ولم
يكترثْ بشرٍ يفعله .
وقال الفرزدق : ( وكان يُجيرُ الناس من سيفِ مالك **
فأصبح يبغي نفسَه من يُجيرُها ) ومن هذا الباب قول التُّوتّ اليمانيِّ : ( عَلَى
أيَّ باب أطلُبُ الإذنَ بعد ما ** حُجِبْتُ عن الباب الذي أنا حاجبُه ) ومن هذا
الشكل قولُ عديِّ بن زيد : ( لو بغير الماء حَلْقِي شرِقٌ ** كنتُ كَالغَصَّانِ
بالماء اعتصاري ) وقال زُهير : ( فلما وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جمامُه ** وضَعْنَ
عِصِيَّ الحاضِرِ المتَخَيِّمِ
)
وكتب سُوَيد بن منجوف إلى مُصعب بن الزبير : ( فأبْلغْ مُصْعَباً عني رسولاً ** وهل يُلفَى النصيحُ بكل وادِ ) وحدثني إبراهيم بن عبد الوهاب قال : كتب شيخٌ من أهل الريّ عَلَى باب داره : جزى اللّه من لا يعرفنا ولا نعرفه خيراً فأمّا أصدقاؤنا الخاصة فلا جزاهمُ الله خيراً فإنا لم نُؤْتَ قطُّ إلا منهم وأنشدني النهشليُّ لأعرابي يصف نخْلاً : ( ترى مخارفَها ثِنيَيْ جوانبها ** كأَنَّ جانيَ بَيْضِ النَّحْلِ جَانِيها ) ووصف آخر نخلاً فقال : إذا عَلا قِمَّتَها الرَّاقي أهَلّ وقال الشاعر :
( ومن تَقْلِلْ حلوبَتُهُ وَينْكُلْ ** عن الأعداء يَغْبَقُهُ القَراحُ ) ( رأيتُ مَعاشِراً يُثْنى عليهم ** إذا شَبِعوا وأَوجُهُهُمْ قِبَاحُ ) ( ظلُّ المُصْرِمُونَ لهمُ سُجُوداً ** وإن لم يُسْقَ عندهُم ضَياحُ ) وقال الشاعر : ( البائتين قريباً من بيوتهمُ ** ولو يشاؤون آيبوا الحيّ أوْ طرَقوا ) يقول : لرَغبته في القِرَى وفي طعام الناس يبيت بهمْ ويدعُ أهلَه ولو شاء أنْ يبيت عندهم لَفعل . ( تَقرِي قدورُهم سُرَّاءَ ليلهِمُ ** ولا يبيتون دون الحيِّ أَضيافا ) وقال جرير : ( وإني لأسْتَحيي أخِي أن أرى له ** عَليَّ من الحق الذي لا يَرى لِيَا )
قال :
أستحيي أن يكون له عندي يدٌ ولا يرى لي عندَه مثلها .
وقال امرؤ القيس : ( وهلْ ينعمْنَ إلا خلِيٌّ منعَّمٌ **
قليلُ الهموم ما يبيتُ بأوْجالِ ) قال : وهو كقوله : استراحَ من لا عقْلَ لهَ
وأنشد مع هذا البيت قول عمر بن أبي ربيعة ويحكى أن المنصور كان يعجبُه النصف
الأخير من البيت الثاني جدّاً ويتمثل به كثيراً حتي انتقده بعض من قضى به عليه أَن
المعنى قدَّمَهُ دهراً وكان استحسانه عن فضل معرفته بإحقاقه فيه وصواب قوله : ( وأعجَبَها من
عيشها ظِلُّ غُرْفَة ** ورَيَّانُ مُلْتَفُّ الحدائِق أخَضرُ ) ( ووالٍ كَفَاها
كلَّ شيء يَهُمُّها ** فليَستْ لشيء آخر الدهرِ تَسْهَرُ ) وأنشد : ( إذا
ابْتَدَرَ الناسُ المعالي رأيتهمْ ** وقُوفاً بأيديهم مسُوكُ الأرانب ) ( إذا
ابتدرَ الناسُ المكارمَ والعُلاَ ** أقاموا رُتوباً في النُّهُوجِ اللهاجمِ )
يخْبر
أنهم يسألون الناس والنهج واللهْجم : الطريق الواسع .
وقال الآخر : ( لنا إبلٌ يَروين يوماً عِيالَنا ** ثلاثُ
وإن يكثرْنَ يوماً فأربعُ ) ( نُمِدُّهمُ بالماء لا مِنْ هَوانِهِمْ ** ولكِنْ إذا
مَا قلَّ شيءٌ يوسَّعُ )
وقال الآخر : ( من المُهْدَيات الماءَ بالماء بعدما **
رمى بالمقادي كلُّ قادٍ ومُعْتَمِ ) وقال الآخر : ( وداعٍ دعا والليلُ مُرخٍ
سُدولَه ** رجاءَ القِرَى يا مُسلمَ بنَ حِمارِ ) ( دَعا جُعَلاً لا يهتدي
لِمَبيته ** من اللوم حتى يهتدي ابنُوبارِ ) وقال الحسن بن هانئ : ( أَضْمرتُ
للنِّيل هِجْراناً ومَقليةً ** إذ قيل لي إنما التِّمساحُ في النيل ) ( فمن رأَى
النِّيل رأيَ العَينِ من كثَبٍ ** فما أرى النّيلَ إلا في البواقيل )
وقال ابن ميَّادة : ( فإن الذي ولاّكَ أمْرَ جماعةٍ ** لأنقَصُ مَن يمشي على قَدم عْقلا ) ومن هذا الباب قوله : ( إني رأيت أبا العوراء مُرتفقاً ** بشَطِّ دِجْلَة يَشْرِي التَّمر والسَّمكا ) ( كَشِرَّةِ الخيل تبقَى عند مِذْودِها ** والموتُ أَعلم إذْ قَفَّى بمن تركا ) ( هَذِي مساعيكَ في آثارِ سادَتِنا ** ومن تكنْ أنت ساعيه فقد هَلكا ) ومن هذا الباب قوله : ( ورِثنا المجدَ عن آباء صِدق ** أسأنا في ديارهم الصَّنيعَا ) ( إذا المجدُ الرفيعُ تعاورتْه ** وُلاة السُّوء أوشك أن يضِيعا ) وقال جِران العَوْدِ : ( أُراقبُ لمحاً من سُهيل كأنه ** إذا ما بَدَا في دُجْيةَ الليل يطرفُ )
وقال : (
ولَمْ أَجِدِ الموقوذَ تُرجى حياتُه ** إذا لم يرعْه الماءُ ساعةَ يُنضَحُ ) وكان
أبو عبادِ النُّميريُّ أتى باب بعض العمال يسأله شيئاً من عمل السلطان فبعثه إلى
أُسْتقَانَا فسرقوا كل شيء في البَيْدر وهو لا يشعر فعاتبه في ذلك فكتب إليه أبو
عبّاد : ( فتقنَّصْتَ بيَ الصَّ ** عْو فأوهنْتَ القُدَامى ) ( وإذا ما أُرسل البا
** زِي عَلَى الصعْو تَعَامَى )
أراد قول أبي النجم في الراعي : ( يمرُّ بين الغانيات
الجهَّلِ ** كالصقر يجفو عن طِرادِ الدُّخّلِ )
وبات أبو عبّادِ مع أبي بكر الغِفاريّ في ليالي شهر رمضان في المسجد الأعظم فدبّ إليه وأنشأ يقول : ( يا ليلةً لي بتُّ ألْهُو بها ** مع الغِفاريِّ أبي بكرِ ) ( قمتُ إليه بعد ما قد مضى ** ثُلْثٌ من الليل على قدْرِ ) ( في للة القدْرِ فيا مَنْ رأى ** أدَبَّ منِّي ليلةَ القَدْرِ ) ( ما قام حَمْدانٌ أبو بكرِ ** إلا وقد أفزَعَهُ نَخْري ) وقال في قلْبانَ صديقتِه : ( إنَّ قلبانَ قد بَغَتْ ** لشقائي وقد طَغَتْ ) ( وإذا لم تُنَك بأيْ ** رٍ عظيم القِوى بكتْ ) وقال مسكينٌ الدَّارمي : ( لدَى كلِّ قرموص كأنَّ فراخهَ ** كُلًى غير أن كانت لهنَّ جُلودُ )
وقال أبو الأسود الدؤلي واسمه ظالم بن عمرو بن سفيان : ( أمِنْتَ على السّرِّ امْرأً غيرَ كاتمٍ ** ولكنه في النصحِ غيرُ مُريبِ ) ( أذاعَ بِهِ في الناسِ حتَّى كَأَنَّهُ ** بعَلياء نارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ ) ( وكنتَ متى لم تَرْع سِرَّك تنتشرْ ** قوارعُه مِنْ مخطئ ومُصيبِ ) ( وما كل ذي لُبٍّ بمؤْتيكَ نُصْحَهُ ** وما كلُّ مؤتٍ نصحَهُ بِلَبيبِ ) ( ولكن إذا ما استَجْمعا عند واحدٍ ** فحقّ له مِنْ طاعةٍ بِنَصيبِ ) وقال أيضاً : ( إذا كنتَ مظلوماً فلا تُلفَ راضياً ** عَنِ القَوْمِ حتَّى تأخُذَ النصفَ واغْضَبِ ) ( وَإن كنتَ أنتَ الظَّالمُ القومَ فاطَّرِحْ ** مقالتهم وَأشْغب بهم كل مَشغَبِ ) ( وقارِبْ بذي جهلٍ وباعدْ بعالمٍ ** جَلوبٍ عليكَ الحقَّ مِنْ كلِّ مَجلبِ )
( فإن حَدِبوا فاقعَسْ وإن هم تقاعَسُوا ** ليستمسكون مما وراءك فاحدَبِ ) ( ولا تُذْعِنَنْ للحقِّ واصبر على التي ** بها كنتُ أَقضِي للبعيد على أبي ) ( فإني امرؤٌ أخشَى إلهي وأَتَّقي ** مَعادي وقد جرّبتُ ما لم تجربِ ) ( إني إذا الأصواتُ في القوم عَلَتْ ** في مَوْطِنٍ يَخشى به القومُ العَنَتْ ) ( مُوَطِّنٌ نفسي على ما خَيَّلَتْ ** بالصَّبر حتَّى تنجلي عَمَّا انجلَتْ ) وقال الكميت : ( وبيضٍ رِقاقٍ خفاف المُتُونِ ** تسمعُ للبَيْضِ منها صريرا ) ( تُشبَّهُ في الهامِ آثارُها ** مَشافِرَ قَرْحَى أكلْن البَريرا ) وأنشدني أبو عبيدة : ( نُصْبِحُها قيساً بلا استبقائها ** صفائحاً فيها فضولُ مائها ) ( من كلِّ غَضْبٍ علَّ من دِمائها ** إذا علا البيضة في استوائها ) ( رونقُه أوقَدَ في حِرْبائها ** ناراً وقد أمخض من ورائها ) وأنشدني لرجُل من طيئ : ( لم أَرَ فتيانَ صباحٍ أصبَراً ** منهم إذا كان الرماحُ كِسَرا )
( سفْعَ الحدودِ دُرَّعاً وحُسَّرا ** لا يشتهون الأجَل
المؤخَّرا ) وقال ابن مفرِّع :
( قبُّ البطون والهوادي قودُ ** إن حادتِ الأبطالُ لا
تحيدُ ) ومن المجهولات : ( عليكَ سلامَ اللّه من مَنزلٍ قَفْرِ ** فقد هِجْتَ لي شوقاً
قديماً وما تدرِي ) ( عهدتك من شهر جديداً ولم أخَلْ ** صُروفَ النّوَى تُبلي
مغانيك في شهرِ ) الخرَيميُّ أبو يعقوب : ( لعمرك ما أخلقتُ وجهاً بذلتُه ** إليك
ولا عَرَّضْتُه للمعايرِ ) أي لا أعيَّرُ لقصدك . ( فتًى وفَرتْ أَيدي المحامِدِ
عِرضَه ** عليه وخلَّتْ ماله غيرَ وافرِ ) وقال مطيعُ بنُ إياسٍ : ( قد كَلَّفْتَني
طويلةُ العُنُقِ ** وحُبُّ طُولِ الأَعْناقِ مِنْ خُلُقي ) ( أَقْلَقُ مِنْ بُعْدِها فإنْ قَربَتْ
** فالقُرْبُ أيضاً يزيدُ في قَلَقي
)
وقال سهلُ بنُ هارون : إذا امرؤٌ ضاقَ عنِّي لم يَضِقْ
خُلُقي مِنْ أَنْ يراني غَنِيّاً عنه بالياسِ
( ولا يراني إذا لم يَرْعَ آصِرَتي ** مُسْتَمْرِياً دِرَراً منه بإبساسِ ) ( لا أَطْلُبُ المالَ كي أُغْنَي بفضلته ** ما كان مَطْلَبُهُ فقراً إلى الناسِ ) ( عدّ تلادِ المال فيما ينوبه ** منوعٌ إذا ما منْعُه كان أحْزَما ) ( فِسيَّان حالاه له فضْل منْعِه ** كما يستحقُّ الفضلَ إن هو أنْعَمَا ) ( مذلِّلُ نفس قد أبتْ غير أن ترى ** مَكارِهَ ما تأتي من الحقِّ مَغْنما ) وقال أبو الأسود لزياد : ( لعَمْرُكَ ما حَشاكَ اللّهُ رُوحاً ** به جَشَعٌ ولا نَفْساً شَرِيرهْ ) ( ولكنَّ أنتَ لا شَرِسٌ غليظٌ ** ولا هَشٌّ تنازِعُه خؤُورَهْ ) ( كأنا إذْ أتَيناهُ نزلْنا ** بجانِبِ رَوْضة رَيَّا مَطيرة ْ )
الجزء السادس
الخطوط ومرافقها
بسم الله
والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم .
اللهم جنبنا فضول القول بما عندنا ولا تجعلنا من
المتكلفين . قد قلنافي الخطوط ومرافقها وفي عموم منافعها وكيف كانت الحاجة إلى
استخراجها وكيف اختلفت صورها على قدر اختلاف طبائع أهلها وكيف كانت ضرورتهم إلى
وضعها وكيف كانت تكون الهلة عند فقدها
.
وقلنا في العقد ولم تكلفوه وفي الإشارة ولم اجتلبوها ولم
شبهوا جميع ذلك ببيان اللسان حتى سموه بالبيان . ولم قالوا : القلم أحد اللسانين
والعين أنم من اللسان .
وقلنا في الحاجة إلى المنطق وعموم نفعه وشدة الحاجة إليه
وكيف صار أعم نفعاً ولجميع هذه الأشكال أصلاً وصار هو المشتق منه
والمحمول
عليه وكيف جعلنا الأجسام الصامتة نطقاً والبرهان الذي في الأجرام الجامدة بياناً .
وذكرنا جملة القول في الكلب والدِّيك في الجزْأين
الأوَّلين وذكرْنا جملة القول في الحمام وفي الذِّبَّان ) و في الغربان وفي
الخنافس وفي الجعلان إلاّ ما بقي من فضْل القول فيهما فإنّا قد أخَّرنا ذلك لدخوله
في باب الحشرات وصواب موقعهما في باب القول في الهمج في الجزء الثالث .
وإذا سمعت ما أودعها اللّه تعالى من عظيم الصَّنعة وما
فطرها اللّه تعالى عليه من غريب المعرفة وما أجْرى بأسبابها من المنافع الكثيرة
والمِحن العظيمة وما جعل فيها من الدَّاء والدَّواء أجلَلْتها أنْ تسميها همجاً
وأكبرت الصنف الآخر أنْ تسمِّيه حشرة وعلمت أنَّ أقدارَ الحيوان ليست على قدر
الاستحسان ولا على أقْدار الأثمان
.
وذكرنا جملة القول في الذّرّة والنَّملة وفي القرد
والخنزير وفي الحيَّات والنّعام وبعض القول في النَّار في الجزء الرابع .
والنار حفظك اللّه وإنْ لم تكن من الحيوان فقد كان جرى
من السَّبب المتَّصل بذكرها ومن القول المضمر بما فيها ما أوجبَ ذِكْرها والإخبار
عن جملة القول فيها .
وقد ذكرنا بقيَّة القول في النّارِ ثمَّ جملة القول في
العصافير ثمَّ جملة القول في الجرذان والسَّنانير والعقارب وِلجَمْعِ هذه الأجناس
في باب واحد سببٌ سيعرفه من قرأه ويتبيّنه من رآه .
ثمَّ القولَ في القمل والبراغيث والبعوض ثمَّ القول في
العنكبوت والنَّحل ثمَّ القولَ في الحُبارى . ثمَّ
الإطناب والإيجاز
وقد بقيتْ أبقاك اللّه تعالى أبوابٌ توجب الإطالة وتُحوج إلى الإطناب وليس بإطالةٍ ما لم يُجاوزْ مِقْدارَ الحاجة ووقف عند منتهى البغية .
وإنما الألفاظ على أقدار المعاني فكثيرُها لكثيرها
وقليلها لقليلها وشريفُها لشريفها وسخيفها لسخيفها والمعاني المفردةُ البائنة بصٍُ
ورها وجهاتها تحتاج من الألفاظ إلى أقلَّ مما تحتاج إليه المعاني المشتركة
والجهاتُ الملْتبسة .
ولو جَهِد جميعُ أهل البلاغة أن يُخبروا من دونهم عن هذه
المعاني بكلام وجيز يُغْني عن التفسير باللِّسان والإشارة باليد والرأس لما
قَدَرُوا عليه وقد قال الأوّل : إذا لم يكنْ ما تُريدُ فأرِدْ ما يكون وليس ينبغي
للعاقل أن يسُوم اللُّغاتِ ما ليس في طاقتها ويسومَ النُّفوس ما ليس في جِبلَّتها
ولذلك صار يحتاجُ صاحبُ كتاب المنطق إلى أنْ يفسِّره لِمَنْ طُلب مِنْ قبَلِه علم
المنطق وإن كان المتكلمُ رفيق اللِّسان حسن البيان إلاّ أنِّي لا أشُكُّ على حالٍ
أنَّ النفوسَ إذْ كانتْ إلى الطَّرائف أحنَّ وبالنَّوادر أشغف وإلى قصار الأحاديث
أمْيل وبها أصبَّ أنَّها خليقةٌ لاستثقال الكثير وإن استحقَّت
تلك المعاني الكثيرة وإنْ كان ذلك الطَّويلُ أنفعَ وذلك الكثيرُ أردّ .
رجع إلى سرد سائر أبواب الكتاب
وسنبدأ بعون اللّه تعالى وتأييده بالقول في الحشرات والهمج وصغار السباع والمجهولات الخاملة الذِّكْر من البهائم ونجعل ذلك كله باباً واحداً ونتَّكل بعد صُنْع اللّه تعالى على أنّ ذلك الباب إذْ كان أبواباً كثيرة وأسماء مختلفة أنّ القارئ لها لا يملُّ باباً حتَّى يخرجه الثَّاني إلى خلافه وكذلك يكون مقامُ الثَّالث من الرَّابع والرابع من الخامس والخامس من السَّادِس
مقياس قدر الحيوان
وليس الذي يُعتمد عليه من شأن الحيوان عِظم الجثة ولا كثرة العدد ولا ثقل الوزن والغايةُ التي يُجرى إليها والغرض الذي نرمي إليه غير ذلك
لأن خلْق
البعوضة وما فيها من عجيب التركيب ومن غريب العمل كخلْق الذَّرَّة وما فيها من
عجيب التركيب ومن الأحاسيس الصَّادقة والتدابير الحسنة ومن الرويَّةِ والنظر في
العاقبة والاختيارِ لكلِّ ما فيه صلاحُ المعيشة ومع ما فيها من البُرهانات النيرة
والحججِ الظَّاهرة .
وكذا خلق النَّحْلة مع ما فيها من غريب الحكم وعجيب
التَّدبير ومن التقدُّم فيما يُعيشها والادخارِ ليوم العجْز عن كسبها وشمِّها ما
لا يُشَمُّ ورؤيتها لما لا يُرى وحُسن هدايتها والتّدبير في التأمير عليها وطاعة
ساداتها وتقسيط أجناس الأعمال بينها على أقدار معارفها وقُوّة أبدانها .
فهذه النَّحلة وإن كانت ذبابة فانظر قبل كل شيء في ضروب
انتفاع ضُروب الناس فيها فإنَّك تجدُها أكبر من الجبل الشامخ والفضاء الواسع .
وكلُّ شيء وإن كان فيه من العجب العاجب ومن البُرهان
النّاصع ما يوسِّع فِكر العاقل ويملأ صدْر المفكّر فإنّ بعض الأمور أكثرُ أعجوبة
وأظهر علامة وكما تختلف بُرهاناتها في الغموض والظُّهور فكذلك تختلف في طبقات
الكثْرةِ وإن شملتها الكثرةُ ووقع عليها اسم البرهان .
( رجْع إلى سرد سائر أبواب الكتاب ) ولعلَّ هذا الجزء الذي نبتدئُ فيه
بذكر ما في الحشرات والهمج أنْ يفضل من ورقه شيءٌ فنرفعه ونتِمَّه بجملة القول في
الظّباء والذئاب فإنَّهما بابان يقصُران عن الطوال ويزيدان على وقد بقي من الأبواب
المتوسِّطة والمقتصدة المعتدلة التي قد أخذت من القِصر لمنَ طلب القصر )
بحظٍّ ومن الطُّول لمن طلب الطُّول بحظّ وهو القولُ في
البقر والقولُ في الحمير والقولُ في كِبار السِّباع وأشرافِها ورؤسائها وذوِي
النَّباهة منها كالأسد والنَّمر والبَبْر وأشباه ذلك مما يجمعُ قوَّة أصل النَّاب
والذَّرب وشَحْو الفم والسَّبُعيّة وحدّة البرثن وتمكُّنه في العصب وشدّة القلب
وصرامته عند الحاجة ووثاقة خَلْق البدن وقوّته على الوثْب .
وسنذكر تسالُمَ المتسالمةِ منها وتعادِي المتعادية منها
وما الذي
أصلح
بينها على السَّبُعيَّة الصِّرف واستواء حالها في اقتيات اللُّحمان حتَّى ربَّما
استوت فريستُها في الجنس .
وقد شاهدْنا غير هذه الأجناس يكون تعاديها من قِبل هذه
الأمور التي ذكرناها وليس فيما بين هذه السِّباع بأعيانها تفاوتٌ في الشِّدَّة
فتكون كالأسد الذي يطلب الفهد ليأكله والفهدُ لا يطمع فيه ولا يأكله فوجدنا
التَّكافؤ في القُوَّة والآلة من أسباب التَّفاسُد وإنَّ ذلك ليعملُ في طباع عقلاء
الإنس حتَّى يخُرجوا إلى تهارُشِ السِّباع فما بالها لم تعمل هذا العمل في أنفُس
السِّباع وسنذكر علَّة التسالم وعِلَّة التعادي ولِم طُبعت رؤساء السِّباع على
الغفلة وبعض ما يدخلُ في باب الكرَم دون صغار السِّباع وسفْلتها وحاشيتها وحَشْوها
وكذلك أوساطها والمعتدلة الآلة والأسر منها .
ولم نذكر بحمد اللّه تعالى شيئاً من هذه الغرائب وطريفة
من هذه الطرائف إلا ومعها شاهد من كتاب مُنْزلٍ أو حديثٍ مأثور
أو خبرٍ
مستفيض أو شعرٍ معروف أو مثل مضروب أو يكون ذلك ممّا يشهد عليه الطبيب ومن قد أكثر
قراءة الكتب أو بعض من قد مارَس الأسفار وركب البحار وسكنَ الصَّحارِي واستَذْرى
بالهضاب ودخل في الغياض ومشى في بطون الأودية .
وقد رأيْنا أقواماً يدَّعُون في كتبهم الغرائب الكثيرة
والأمور البديعة ويخاطرون من أجل ذلك بمروءاتهم ويُعرِّضون أقدارهم ويسلِّطون
السُّفهاء على أعراضهم ويجترُّون سُوء الظَّنِّ إلى أخبارهم ويحكِّمون حُسّاد
النِّعم في كتبهم ويمكِّنون لهم من مقالتِهم وبعضهم يتّكل على حُسْن الظَّنِّ بهم
أو على التسليم لهم والتقليد لدعواهم وأحسنهم حالاً من يُحِبُّ أن يُتفضَّلَ عليه
ببسط العُذْر له ويُتكلّف الاحتجاجُ عنه ولا يبالي أن يُمَنّ بذلك على عقبه أو من دان
بدينه أو اقتبس ذلك العلم من قِبل كُتُبه .
ونحن حفظك اللّه تعالى إذا استنطقْنا الشَّاهد وأحَلْنا
على المثل فالخصومة حينئذٍ إنَّما هي
)
بينهم وبينها إذْ كنّا نحنُ لم نستشهد إلاّ بما ذكرنا
وفيما ذكرنا مقنعٌ عند علمائنا إلاّ أن يكون شيءٌ يثبتُ بالقياس أو يبطلُ بالقياس
فواضعُ الكتاب ضامنٌ لتخليصه وتلخيصه ولتثبيتِهِ فأمَّا الأبوابُ الكبارُ فمثلُ
القَوْل في الإبل والقولِ في فضيلة الإنسان على جميع الحيوان كفضل الحيوان على
جميع النامي وفضل النَّامي على جميع الجماد .
وليس يدخلُ في هذا الباب القولُ فيما قسم اللّه عزّ وجلّ
لبعض البقاع من التَّعظيم دون بعض ولا فيما قسم من السّاعات والليالي والأيَّام
والشُّهور وأشباه ذلك لأنّه معنًى يرجع إلى المختبرين بذلك من الملائكة والجنّ
والآدميِّين .
فمن أبواب الكبار القول في فصْل ما بين الذُّكورةِ
والإناث وفي فصْل ما بين الرّجل والمرأة خاصَّة .
وقد يدخل في القول في الإنسان ذكر اختلاف النّاس في
الأعمار وفي طول الأجسام وفي مقادير العقول وفي تفاضل الصِّناعات وكيف
قال من
قال في تقديم الأوَّل وكيف قال من قال في تقديم الآخر .
فأما الأبوابُ الأُخر كفضْل الملكِ على الإنسان وفضلِ
الإنسان على الجانّ وهي جملة القول في اختلاف جواهرهم وفي أيِّ موضع يتشاكلون وفي
أيِّ موضع يختلفون فإن هذه من الأبوابَ المعتدلة في القصَر والطّول . وليس من
الأبواب بابُ إلاّ وقد يدخلُه نُتفٌ من أبوابٍ أُخرَ على قدْرِ ما يتعلّق بها من
الأسباب ويعرض فيه من التضمين ولعلك أن تكون بها أشدَّ انتفاعاً .
وعلى أني ربما وشّحْت هذا الكتاب وفصَّلت فيه بين الجزء
والجزء بنوادر كلام وطرف أخبار وغُرر أشعار مع طرف مضاحيك ولولا الذي نُحاول من
استعطاف على استتمام انتفاعكم لقد كنَّا تسخَّفْنا وسخَّفْنا شأن كتابنا هذا .
وإذا علم اللّه تعالى موقع النِّيَّة وجهة القصْد أعان
على السَّلامة من كلّ مخوف .
العلة في عدم إفراد باب للسمك
ولم نجعل
لما يسكن المِلحَ والعذوبة والأنهارَ والأدوية والمناقع والمياه الجارية من
السَّمَك وممَّا يخالف السَّمك ممَّا يعيش مع السمك باباً مجرّداً لأنِّي لم أجدْ
في أكثره شِعراً يجمع الشّاهد ويُوثق منه بحسْنِ الوصف وينشِّط بما فيه من غير ذلك
للقراءة ولم يكن الشّاهد عليه إلاّ أخبار البحْريِّين وهم قومٌ لا يعدُّون القول
في باب الفِعْل وكلّما كان الخبرُ أغرب كانوا به أشدّ عُجْباً مع عبارة غثَّة
ومخارج سَمِجة .
وفيه عيبٌ آخر : وهو أنّ معه من الطّول والكثْرة ما لا
تحتملونه ولو غنَّاكم بجميعه مُخارِق وضرب عليه زلْزل وزمر به
بَرْصُوماً
فلذلك لم أتعرَّضْ له .
وقد أكثر في هذا الباب أرسطاطاليس ولم أجد في كتابه على
ذلك من الشّاهد إلاّ دعْواه .
ولقد قلت لرجل من البحريِّين : زعم أرسطاطاليس أنّ
السّمكة لا تبتلعُ الطُّعم أبداً إلاّ ومعه شيءٌ من ماء مع سعة المدخل وشرّ النفس
فكان من جوابه أن قال لي : ما يعلم هذا إلاّ مَنْ كان سمكة مرَّةً أو أخبرته به
سمكة أو حدَّثه بذلك الحواريُّون أصحاب عيسى فإنهم كانوا صيّادين وكانوا تلامذة
المسيح .
وهذا البحريُّ صاحبُ كلام وهو يتكلَّف معرفة العِلل وهذا
كان
جوابه
ولكني لن أدع ذِكْرَ بعض ما وجدته في الأشعار والأخبار أوْ كان مشهوراً عند من
ينزل الأسيافَ وشطوط الأودية والأنهار ويعرفه السَّمَّاكون ويُقِرُّ بهِ الأطبَّاء
بقدر ما أمكن من القول .
زعم إياس بن معاوية في الشبُّوط وقد روى لنا غيرُ واحد
من أصحابِ الأخبار أنّ إياسَ بن مُعاوية زعم أنّ الشَّبُّوطة كالبغْل وأنّ أُمّها
بُنيّة وأباها زَجْرٌ وأنّ من الدّليل على ذلك أنّ الناس لم يجدوا في بطن شَبُّوطة
قطُّ بيضاً .
وأنا أخبرك أنِّي قد وجدته فيها مِراراً ولكنِّي وجدتُهُ
أصغر جُثّةً وأبعد من الطِّيب ولم أجده عامّاً كما أجده في بطون جميع السمك .
فهذا قول أبي واثلة إياس بن معاوية المزني الفقيه القاضي
وصاحب الإزكان وأقْوف من كرْز الشك في أخبار البحريين والسّماكين والمترجمين فكيف
أسكُنُ بعد هذا إلى أخبار البحْريِّين وأحاديث السمَّاكين وإلى ما في كتابِ رَجُل
لعلَّه أنْ لو وجد هذا المترجم أن يُقِيمَهُ على المِصْطبة ويبرأ إلى النَّاس من
كذبه عليه ومن إفساد معانيه بسوء ترجمته .
فصيلة الضب
والذي حضرني من أسماء الحشرات ممَّا يرجع عمود صُورها إلى
قالبٍ
واحد وإن اختلفتْ بعد ذلك في أمور فأوَّل ما نذكر من ذلك الضبّ .
والأجناسُ التي ترجع إلى صورة الضّبّ : الورلُ والحرباء
والوحرة والحُلْكة وشحمة الأرض وكذلك العظاء والوزغ والحرذون وقال أبو زيد : وذكر
العظاية هو العضْرَفُوط ويقال في أمِّ حُبين حُبيْنة وأشباهُها مما يسكن الماء : الرّقُّ
والسُّلحفاة والغيلم والتِّمساح وما أشبه ذلك .
الحشرات
وممّا نحن قائلون في شأنه من الحشرات : الظربان والعُثّ والحُفَّاث
والعِربِدُ والعضْرفوط والوبْر وأم حبين والجعل والقرَنْبى والدَّسَّاس والخنفساء والحيّة والعقرب والشّبث والرُّتيلاء والطَّبُّوع والحرقُوص والدَّلم وقمْلة النَّسْر والمثل
والنِّبْر
وهي دويْبَّة إذا دبَّتْ على جلد البعير تورَّم ولذلك يقول الشاعر وهو يصف إبله
بالسِّمن : ( كأنّها
من بُدُنٍ واستيقارْ ** دَبَّتْ عليها ذربات الأنبارْ ) وقال الآخر : ( حمر تحقّنت
النَّجيلَ كأنما ** بجلودهن مدارِجُ الأنبارِ )
والضَّمْج والقنفذ والنَّمْل والذّرِّ والدّساس ومنها ما
تتشاكل في وجوه وتختلف من وجوه : كالفأر والجرذان والزباب والخلد واليربوع وابن
عِرس وابن مقرض
ومنها العنكبوت الذي يقال له منونة وهي شرُّ من الجرَّارة والضّمْج .
ما فيه الوحشي والأهلي من الحيوان
وسنقول في
الأجناس التي يكون في الجنس منها الوحشيُّ والأهليّ كالفيلة والخنازير والبقر
والحمير والسَّنانير .
والظِّباء قد تَدْجُن وتُولّد على صُعوبةٍ فيها وليس في
أجناس الإبل جنس وحشيٌّ إلاّ في قول الأعراب .
وممَّا يكون أهليّاً ولا يكون وحشيّاً وهو سبعُ الكلاب
وليس يتوحّش منها إلاّ الكلب الكَلِب فأمّا الضِّباع والذِّئاب
والأسد
والنمور والبُبور والثعالب وبنات آوى فوحشيَّةٌ كلها وقد يقلّم الأسد وتُنزع
أنْيابه ويطول ثواؤُه مع الناس حتى يهرم مع ذلك ويحسّ بعجزه عن الصَّيد ثمَّ هو في
ذلك لا يُؤتمن عُرامه ولا شروده إذا انفرد عن سوَّاسه وأبصر غيضة قُدّامها صَحراء .
قصة الأعرابي والذئب وقد كان بعض الأعراب ربّى جرو ذئب
صغيراً حتَّى شبَّ وظنَّ أنه يكونُ أغْنى غناءً من الكلب وأقوى على الذّبِّ عن
الماشية فلمَّا قوي شيئاً وثب على شاةٍ فذبحها وكذلك يصنعُ الذِّئب ثمَّ أكل منها
فلمَّا أبصر الرّجل أمرهُ قال :
( أكَلْتَ شوَيهتي وَربيت فينا ** فمن أنباك أنّ أباك
ذيبُ )
وقد أنكر
ناسٌ من أصحابنا هذا الحديث وقالوا : لم يكنْ ليألفه ويقيم معه بعد أن اشتدّ
عظْمُه ولِمَ لَمْ يذهَبْ مع الذِّئاب والضِّباع ولم تكن الباديةُ أحبَّ إليه من
الحاضرة والقفارُ أحبَّ إليه من المواضع المأنوسة .
كيف يصير الوحشيُّ من الحيوان أهلياً وليس يصير السبعُ
من هذه الأجناس أو الوحشيُّ من البهائم أهليّاً بالمقام فيهم وهو لا يقدر ما يعتري
الوحشي إذا صار إلى الناس وقد تتسافد وتتوالد في الدُّور وهي بعد وحشيَّة وليس ذلك
فيها بعامّ ومن الوحْش ما إذا صار إلى النّاس وفي دُورهم ترك السّفاد ومنها ما لا
يطعم ولا يشربُ البتَّة بوجْهٍ من الوجوه ومنها ما يُكره على الطُّعْم
ويدخل في
حلقة كالحيّة ومنها ما لا يسفد ولا يدْجُن ولا يطعم ولا يشرب ولا يصيحُ حتى يموت
وهذا المعنى في وحشيِّ الطَّير أكثر .
السوراني ورياضته للوحوش والذي يحكى عن السوراني
القَنَّاص الجبليّ ليس بناقضٍ لما قُلنا لأنّ الشَّيء الغريبَ والنادر الخارجيّ لا
يقاس عليه وقد زعموا أنّه بلغ من حذْقه بتدريب الجوارح وتضْرِيتها أنّه ضرَّى ذئباً
حتّى اصطاد به الظِّباء وما دونها صيداً ذريعاً وأنه ألفه حتى رجع إليه من ثلاثين
فرسخاً وقد كان بعضُ العُمَّال سرقه منه وقد ذكروا أنّ هذا الذِّئب قد صار إلى
العسكر وأن هذا السُّوراني ضرّى أسداً حتى اصطاد له الحمير فما دونها صيداً ذريعاً
وأنه ضرَّى الزَّنابيرَ فاصطاد بها الذِّبّان وكلُّ هذا عجب وهو غريبٌ نادرٌ بديعٌ
خارجيّ
وذكروا
أنّه من قيس عيلان وأن حليمة ظئر النبي صلى الله عليه وسلم قد ولدته .
الحيوانات العجيبة وليس عندي في الحمار الهنديِّ شيء وقد
ذكره صاحب المنطق فأما الدِّباب وفأرة المسك والفنك والقاقُم والسِّنجاب
والسَّمُّور وهذه الدوابّ ذوات الفِراء والوبر الكثيف النّاعم والمرغوب فيه
والمنتفع به فهي عجيبة .
وإنّما نذكر ما يعرفه أصحابنا وعلماؤنا وأهلُ باديتنا
ألا ترى أنّي لم أذكر لك الحريش والدُّخس ولا هذه السِّباع المشتركة الخلق
المتولّدة
فيما بين السِّباع المختلفة الأعضاء المتشابهة الأرحام التي إذا صار بعضُها في
أيدي القرّادين والمتكسِّبين و الطوّافين وضعوا لها أسماء فقالوا : مقلاس وكيلاس
وشلقطير وخلقطير وأشباه ذلك حين لمْ تَكُنْ من السِّباع الأصلية والمشهورة النسب
والمعروفة بالنّفع والضّرر .
وقد ذكرنا منها ما كان مثل الضبع والسِّمع والعِسبار إذ
كانت معروفةً عند الأعراب مشهورة في الأخبار منوَّهاً بها في الأشعار .
الاعتماد على معارف الأعراب في الوحش وإنَّما أعتمد في
مثل هذا على ما عند الأعراب وإن كانوا لم يَعْرِفوا شكل ما احتِيجَ إليه منها من
جهة العناية والفلاية ولا من جهة التذاكر والتكسُّب ولكن هذه الأجناس الكثيرة ما
كان منها سبعاً أو بهيمةً أو مشترك الخلْق فإنّما هي مبثوثة في بلاد الوحْش : من صحراء أو
وادٍ أو غائط أو غيضة أو رملةٍ أو رأس جبل وهي في منازلهم ومناشئهم فقد نزلوا كما
ترى بينها وأقاموا معها وهم أيضاً من بين النّاس وحشٌ أو أشباه الوحش .
وربَّما بلْ كثيراً ما يُبتلون بالناب والمخلب وباللدغ
واللَّسع والعضّ والأكل فخرجتْ بهم الحاجة إلى تعرُّف حالِ الجاني والجارح والقاتل
وحال المجنيِّ عليه والمجروحِ والمقتول وكيف الطَّلبُ والهرب وكيف الداء والدواء
لطول الحاجة ولطول وُقوع البصر مع ما يتوارثون من المعرفة بالدَّاء والدواء
4
معرفة العرب للآثار والأنواء والنجوم
ومن هذه
الجهة عرفوا الآثار في الأرض والرَّمل وعرفوا الأنواءَ ونجوم الاهتداء لأنَّ كلَّ
من كان بالصَّحاصح الأماليس حيث لا أمارة ولا هادي مع حاجته إلى بعد الشَّقّة
مضطرٌّ إلى التماس ما ينجيه ويُؤْديه .
ولحاجته إلى الغيث وفِراره من الجدْب وضنِّه بالحياة
اضطرته الحاجة إلى تعرُّف شأنِ الغيث
.
ولأنه في كلِّ حالٍ يرى السَّماء وما يجري فيها من كوكب
ويرى التَّعاقب بينها والنّجوم الثوابت
4
أقوال لبعض الأعراب في النجوم
وسئلت
أعرابيَّة فقيل لها : أتعرفين النجوم قالت : سبحانَ اللّه أما أعرف أشباحاً
وُقوفاً عليَّ كلَّ ليلة .
وقال اليقطريّ : وصف أعرابيٌّ لبعض أهل الحاضرة نجوم
الأنواء ونجوم الاهتداء ونجوم ساعات اللّيل والسُّعودِ والنُّحوس فقال قائلٌ لشيخ
عباديٍّ كان حاضراً : أما ترى هذا الأعرابيَّ يعرف من النُّجوم ما لا نعرف قال : ويل أمِّك منْ
لا يعرف أجذاع بيته قال : وقلت لشيخٍ من الأعراب قد خرِفَ وكان من دُهاتهم : إني
لا أراكَ عارفاً بالنُّجوم قال : أما إنّها لو كانت أكثر لكنتُ بشأنها أبصر ولو
كانت أقلَّ لكنت لها أذْكر .
وأكثرُ سببِ ذلك كلِّه بعد فَرْط الحاجة وطول المدارسة
دِقّةُ الأذهان وجودة الحفظ ولذلك قال مجنونٌ من الأعراب لَمّا قال
له أبو الأصْبَغِ بن رِبْعيّ : أما تعرِف النجوم قال : وما لي أعرفُ من لا يعرفني فلو كان لهذا الأعرابيِّ المجنون مثلُ عُقول أصحابه لعرف مثل ما عرفوا .
ما يجب في التعليم
ولو كان عندي في أبْدان السَّمُّور والفنَك والقَاقُم ما عِندي في أبدان الأرانب والثَّعالب دون فرائها لذكرتها بما قَلَّ أو كثُر لكنّه لا ينبغي لمن قلَّ علمُه أن يدعَ تعليم من هو أقلُّ منه علماً ( الدساس وعلة اختصاصه بالذِّكر ) ولو كانت الدَّسَّاس من أصناف الحيّات لم نخصَّها من بينها بالذِّكر ولكنها وإن كانت على قالب الحيَّات وخَرْطها وأفرغت
كإفراغها
وعلى عَمُود صُورها فخصائصها دون خصائصها كما يناسبها في ذلك الحُفَّاث والعِرْبِد
وليسا من الحيّات كما أن هذا ليس من الحيّات لأنّ الدّسَّاس ممسوحة الأذن وهي مع
ذلك ممَّا يلد ولا يبيض والمعروف في ذلك أنّ الولادة هي في الأشرف والبيض في
الممسوح .
وقد زعم ناسٌ أنّ الولادة لا تُخرج الدَّسَّاسَ من اسم
الحيّة كما أن الولادة لا تخرج الخفَّاش من اسم الطير .
وكلّ ولد يخرج من بيضه فهو فرْخ إلا ولد بيض الدَّجاج
فإنّه فَرُّوج .
والأصناف التي ذكرناها مع ذكر الضَّبّ تبيض كلُّها ويسمى
ولدُها بالاسم الأعم فرْخاً .
وزعم لي ابنُ أبي العجوز أنّ الدّسّاس تلد وكذلك خبّرني
به محمد بنُ أيوبَ ابن جعفر عن أبيه وخبَّرني به الفضل بنُ إسحاق
بن سليمان
فإن كان خبرهما عن إسحاق فقد كان إسحاق من معادن العلم .
وقد زعموا بهذا الإسناد أنّ الأرْويَّة تضعُ مع كلِّ ولد
وضعَتْه أفعى في مشيمةٍ واحدة .
وقال الآخرون : الأرويّة لا تعرف بهذا المعنى ولكنه ليس
في الأرض نمرة إلا وهي تضعُ ولدها وفي عنقه أفعى في مكان الطَّوق وذكروا أنَّها
تنهش وتعضّ ولا تقتل .
ولم أكتب هذا لتقرَّ بهِ ولكنها رواية أحببت أن تسمعها
ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر وكذلك لا يعجبني الإنكار له ولكن ليكنْ قلبك إلى
إنكاره أميلَ .
الشك واليقين
وبعد هذا
فاعرف مواضع الشّكّ وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة
له وتعلم الشَّكّ في المشكوك فيه تعلُّماً فلو لم يكن في ذلك إلاّ تعرُّف التوقُّف
ثمَّ التثبُّت لقد كان ذلك ممَّا يحتاج إليه .
ثمّ اعلم أنّ الشكّ في طبقاتٍ عند جميعهم ولم يُجْمعوا
على أن اليقين طبقاتٌ في القوَّة والضعف .
ولمّا قال ابن الجهم للمَكِّيِّ : أنا لا أكاد أشكّ قال
المكّيّ : وأنا لا أكاد أوقن ففخر عليه المكيّ بالشكّ في مواضع الشّك كما فخر عليه
ابنُ الجهم باليقين في مواضع اليقين
.
وقال أبو إسحاق : نازعت من الملحدين الشاك والجاحد
فوجدتُ الشُّكّاك أبصر بجوهر الكلام من أصحاب الجحود .
وقال أبو إسحاق : الشاك أقربُ إليك من الجاحِد ولم يكنْ
يقينٌ
قط حتى
كان قبله شكّ ولم ينتقل أحدٌ عن اعتقادٍ إلى اعتقاد غيره حتّى يكون بينهما حالُ
شكّ .
وقال ابنُ الجهم : ما أطمعني في أوْبة المتحيِّر لأنّ كل
من اقتطعته عن اليقين الحيرة فضالته التبيُّن ومنْ وجد ضالته فرِح بها .
وقال عمرو بن عُبيد : تقرير لسانِ الجاحد أشدُّ من
تعريفِ قلب الجاهل .
وقال أبو إسحاق : إذا أردت أن تعرِف مقدار الرجل العالِم
وفي أيِّ طبقةٍ هو وأردت أن تدخِله الكورَ وتنفخ عليه ليظهر لك فيه الصّحَّةُ من
الفساد أو مقدارُه من الصّحَّة والفساد فكن عالماً في صورة متعلِّم ثم اسأله سؤال
من يطمع في بلوغ حاجتهِ منه .
فصل ما بين العوام والخواص في الشك والعوامُّ أقلُّ
شكوكاً من الخواص لأنَّهم لا يتوقَّفون في التصديق
والتكذيب
ولا يرتابون بأنفسهم فليس عندهم إلاّ الإقدامُ على التَّصديق المجرّد أو على
التكذيب المجرد وألغوا الحال الثالثة من حال الشَّكّ التي تشتمل على طبقات الشك
وذلك على قدر سُوء الظنِّ وحُسن الظّن بأسباب ذلك وعلى مقادير الأغلب .
حرمة المتكلمين وسمع رجلٌ ممَّن قد نظر بعض النظر تصويب
العلماء لبعض الشكّ فأجرى ذلك في جميع الأمور حتّى زعم أنّ الأمور كلها يُعرف حقها
وباطُلها بالأغلب .
وقد مات ولم يخلّف عَقِباً ولا واحداً يدينُ بدينه فلو
ذكرت اسمه مع هذه الحال لم أكنْ أسأت ولكنِّي على حالٍ أكرهُ التّنويه بذكر من قد
تحرّم بحُرمة الكلام وشارك المتكلِّمين في اسم الصِّناعة ولا سيَّما إنْ كان ممّن
ينتحل تقْديم الاستطاعة .
الأوعال والثياتل والأيايل فأمّا القولُ في الأوعال
والثّياتِل والأيايل وأشباه ذلك فلم يحضرْنا فيها ما إن نجعل لذكرها باباً مبوباً
ولكننا سنذكرها في مواضِع ذكرها من تضاعيف هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى .
الضب
وأنا مبتدئٌ على اسم اللّه تعالى في القول في الضَّبّ على أنِّي أذمُّ هذا الكتابَ في الجملة لأنَّ الشواهد على كلِّ شيء بعينه وقعتْ متفرِّقة غير مجتمعة ولو قدرتُ على جمعها لكان ذلك أبلغ
في تزكية الشَّاهد وأنور َ للبُرهان وأملأ للنفس وأمْتع لها بحسن الرّصف وأحمده لأنّ جُملة الكتاب على حالٍ مشتملةٍ على جميع تلك الحجج ومحيطة بجميع تلك البرهانات وإن وقع بعضُه في مكان بعضٍ تأخَّر متقدِّم وتقدّم متأخر .
جحر الضب وما قيل فيه من الشعر
وقالوا : و من كيْس الضّبّ أنّه لا يتخذ جُحره إلاّ في كُدْية وهو الموضع الصُّلب أو في ارتفاعٍ عن المسيل والبسيط ولذلك توجدُ براثنُه ناقصةً كليلة لأنّه يحفر في الصَّلابة ويعمِّق الحفْر ولذلك قال خالد بن الطَّيْفان : ( ومَولى كمولى الزِّبرقانِ دَمَلْته ** كما دُمِلَتْ ساقٌ تهاضُ بها كَسْرُ )
( إذا ما أحالتْ والجبائرُ فَوْقها ** مضى الحوْل لا بُرْءٌ مُبينٌ ولا جَبرُ ) ( تراه كأنّ اللّه يَجْدَعُ أنفه ** وأذْنَيْهِ إنْ مولاهُ ثابَ له وفرُ ) وقال كثيِّر : ( فإن شئت قلت له صادقاً ** وجدْتك بالقُفِّ ضَباً جَحُولا ) ( من اللاءِ يحفِرْن تحت الكُدى ** ولا يَبْتَغين الدِّماث السُّهولا ) وقال دُريد بن الصِّمَّة : وجدْنا أبا الجبَّار ضَبّاً مورَّشاً لهُ في الصَّفاة بُرثنٌ ومعاوِلُ
( له كدْيَةٌ أعيت على كلِّ قانصٍ ** ولو كان مِنهمْ حارشان وحابلُ ) ( ظَلِلْتُ أراعي الشمس لولا ملالتي ** تزلَّع جلدي عِنْدَهُ وهو قائِلُ ) وأنشد لدريد بن الصمة : ( وعوْراء مِنْ قيلِ امرئٍ قد ردَدْتُها ** بسالمةِ العَيْنينِ طالبةٍ عُذْرا ) ( ولو أنني إذ قالها قلْت مِثْلَها ** وأكثر منها أورثتْ بَيْنَنا غِمْرا ) ( فأعْرَضْتُ عنها وانتظرت به غداً ** لعلَّ غداً يُبدي لمُنْتظِر أمرا ) ( لأُخرج ضباً كان تحت ضلوعِه ** وأقْلِمَ أظفاراً أطال بها الحفرا )
وقال أوسُ بنُ حَجَر في أكل الصَّخرِ للأظفار : ( فأشرط
فيها نفسهُ وهو مُعْصِمٌ ** وألْقى بأسبابٍ لَهُ وتوَكّلا ) فقد وصفوا الضَّبّ كما
ترى بأنه لا يحفِرُ إلاّ في كدية ويطيلُ الحفْرَ حتّى تفنى براثنه ويتوخّى به
الارتفاع عن مجاري السّيل و المياه وعن مدق الحوافر لكيلا يَنْهارَ عليه بيته .
الموضع الذي يختاره الضب لجحره
ولمّا علم أنَّهُ نَسَّاءٌ سيِّئ الهداية لم يحفر وجاره إلاَّ عند أكمة أو صخْرةٍ أو شجرة ليكون متى تباعد من جُحره لطلب الطُّعم أو لبعض الخوف فالتفت ورآه أحسن الهداية إلى جحره ولأنّه إذا لم يُقِمْ عَلَماً فلعلّه أن يلِجَ على ظرِبانٍ أو وَرَل فلا يكون
دون أكله
له شيءٌ .
فقالت العرب : خبٌّ ضبّ و : أخبُّ من ضبّ و أخْدع من ضبّ
و : كلُّ ضبٍّ عِنْد مِرْداتِهِ
.
وإذا خَدع في زوايا حفيرته فقد توثَّق لنفسه عند نفسه .
حذر بعض الحيوان ولهذه العلّة اتخذ اليربوع القاصعاء
والنافقاء والدَّامَّاء والرَّاهطاء وهي أبوابٌ قد اتخذها لحفيرته فمتى أحسَّ
بشرٍّ خالف تلك الجهة إلى الباب
.
ولهذا وشبهه من الحذر كان التوبير من الأرانب وأشباهها
والتوبير : أنْ تطأ على زمعاتها فلا
ولما أشبه هذا التَّدبير صار الظبي لا يدخل كناسَه إلاّ وهو مستدبر يستقبل بعينه ما يخافه على نفسه وخشفه .
شعر في حزم الضب واليربوع
وقد جمع
يحيى بن منصورٍ الذُّهليّ أبواباً من حزم الضب وخبثه وتدبيره إلاّ أنّه لم يرد
تفضيل الضب في ذلك ولكنه بعد أنْ قدَّمه على حمْقى الرِّجال قال : فكيف لو فكّرتم
في حزْم اليربوع والضبّ .
وأنشدني فقال : ( وبعضُ النّاسِ أنقصُ رأي حَزْمٍ ** من
اليربُوع والضبِّ المكونِ )
( يَرى مِرْداتهُ مِن رأسِ مِيلٍ ** ويأمَنُ سَيْلَ بارقةٍ
هَتُونِ ) ( وَيَحْفِرُ في الكُدى خَوْفَ انهيارٍ ** ويجعلُ مَكْوَهُ رأسَ الوجينِ ) ( ويخْدَعُ إنْ
أردْتَ له احتيالاً ** رواغَ الفهْدِ من أسدٍ كمينِ ) ( ويدخِلُ عَقْرَباً تحت الذّنابى ** ويعمِلُ
كيد ذي خدٍ ع طبينِ ) ( فهذا الضبُّ ليس بذي ** حريمٍ مع اليربوعِ والذِّئب
اللَّعين ) وقد ذكر يحيى جميع ما ذكرنا إلاّ احتياله بإعداد العقرب لكفِّ المحترش
فإنه لم يذكر هذه الحيلة من عمله وسنذكر ذلك في موضعه والشِّعر الذي يُثبتُ له ذلك
كثير .
فهذا شأنُ الضّبُ في الحفر وإحكام شأن منزلِه .
الورل وعدم اتخاذه بيتاً ومن كلام العرب أنّ الورل
إنَّما يمنعه من اتِّخاذ البُيوت أنَّ اتخادها لا يكونُ إلاّ بالحفر والورل يُبقي
على براثنه ويعلم أنّها سلاحه الذي به يقوى على ما هو أشدُّ بدناً منه وله ذنبٌ
يؤكل ويُستطاب كثيرُ الشَّحم .
قول الأعراب في مطايا الجن من الحيوان
والأعراب
لا يصيدون يربوعاً ولا قُنفذاً ولا ورلاً من أول الليل وكذلك كل شيءٍ يكونُ عندهم
من مطايا الجنّ كالنَّعام والظّباء .
ولا تكون الأرنبُ والضَّبع من مراكب الجن لأن الأرنب
تحيض ولا تغتسل من الحيض والضبِّاع تركبُ أيورَ القتلى والموتى إذا جيَّفتْ
أبدانهم وانتفخوا وأنعظوا ثم لا تغتسل عندهم من الجنابة ولا حنابة إلا ما كان
للإنسان فيه شِرْك ولا تمتطي القرود لأن القرد زان ولا يغتسل من فإنْ قتلَ
أعرابيٌّ قُنفذاً أو ورلاً من أول الليل أو بعض هذه
المراكب
لم يأمنْ على فحل إبله ومتى اعتراه شيءٌ حكم بأنه عقوبةٌ من قبلهم .
قالوا : ويسمعون الهاتف عند ذلك بالنَّعي وبضروب الوعيد .
قول الأعراب في قتل الجان من الحيات وكذلك يقولون في
الجانّ من الحيّات وقتلُ الجان عندهم عظيم ولذلك رأى رجلٌ منهم جاناً في قعر بئر
لا يستطيع الخروج منها فنزل على خطر شديد حتَّى أخرجها ثم أرسلها من يده فانسابت
وغمَّض عَيْنيه لكيلا يرى مدخلها كأنّه يريد الإخلاص في التقرُّب إلى الجن .
قال المازني : فأقبل عليه رجلٌ فقال له : كيف يقدر على
أذاك مَنْ لم ينقذه من الأذى غيرك
ما لا يتم له التدبير إذا دخل الأنفاق
وقال : ثلاثة أشياء لا يتمُّ لها التَّدبير إذا دخلت الأسراب والأنفاق والمكامِن والتّوالج حتَّى يغص بها الخرْق . فمن ذلك :
أن
الظربان إذا أراد أن يأكل حِسلة الضب أو الضبّ نفسه اقتحم جُحر الضّب مستدبراً ثم
التمس أضيق موضع فيه فإذا وجده قد غَصَّ به وأيقنَ أنّه قد حال بينه وبين والآخر :
أن الرجل إذا دخل وِجَارَ الضبع ومعه حَبْل فإن لم يسُدّ ببدنه وبثوبه جميع
المخارق والمنافذ ثم وصل إلى الضبع من الضياء بمقدار سمّ الإبرة وثبتْ عليه
فقطّعته ولو كان أشدّ من الأسد . والثالث : أنّ الضب إذا أراد أن يأكل حُسوله وقف
لها من جحرها في أضيق موضعٍ من منفذه إلى خارج فإذا أحكم ذلك بدأ فأكل منها فإذا
امتلأ جوفه انحطَّ عن ذلك المكان شيئاً قليلاً فلا يُفْلِتُ منه شيءٌ من ولده إلا
بعد أنْ يشبع ويزولَ عن موضعه فيجد منفذاً .
وقال بعض الأعراب :
( ينْشب في المسلكِ عِنْدَ سَلَّتِهْ ** تزاحمَ الضبِّ عصى في كُدْيتِهْ ) ( شعر في أكل الضبّ ولدَه ) وقال : الدَّليل على أنّ الضّبّ يأكلُ ولدَه قول عَمَلَّس بن عقيل بن عُلّفَة لأبيه : ( أكَلْتَ بَنيك أكْل الضّبِّ حتى ** وجدت مَرارَة الكلأ الوبيلِ ) ( فلو أنّ الأُولى كانوا شهوداً ** مَنَعْتَ فِناءَ بيتكَ من بجيلِ ) وأنشد لغيره :
وقال عمرو
بن مسافر : عتبت على أبي يوماً في بعض الأمر فقُلت : ( كيف ألومُ أبي طيْشاً
ليرْحَمَني ** وَجَدُّه
الضَّبُّ لم يَتْرك لَهُ وَلَدَا ) وقال خداش بنُ زُهير : ( فإن سمعُتْم بجيشٍ
سالِكاً سَرِفاً ** أو بطْن قَوٍّ فأخْفُوا الجرْس واكتَتِمُوا ) ( ثمَّ ارجِعُوا
فأكِبُّوا في بُيُوتِكُمُ ** كما أكبّ على ذي بَطْنه الهرِمُ ) جعله هَرِماً لطول
عمره وذي بطنه : ولده .
وقال أبو بكر بن أبي قُحافة لعائشة رضي اللّه عنهما :
إنِّي كنتُ نحلتكِ سبعين وَسْقاً من مالي بالعالية وإنّك لمْ تحُوزيه وإنما هو
مالُ الوارث وإنما هو أخواك وأختاك قالت : ما أعرِفُ
لي أختاً
غير أسماء قال : إنَّه قد أُلقي في رُوعي أن ذا بطن بنت خارجة جارية .
قال آخرون : لم يعْنِ بذي بطنه ولده ولكنَّ الضَّبَّ
يرمي ما أكل أي يقيء ثم يرجعُ فيأكله فذلك هو ذو بَطْنه فشبَّهُوه في ذلك بالكلب
والسّنّور .
وقال عمرو بن مسافر : ما عنى إلا أولاده فكأنَّ خداشاً
قال : ارجعوا عن الحرب التي لا تستطيعونها إلى أكل الذُّريَّة والعيال .
قول أبي
سليمان الغنوي في أكل الضبة أولادها
قال : وقال أبو سليمان الغنويّ : أبرأ إلى اللّه تعالى
من أن تكون الضَّبَّة تأكل أولادها ولكنها تدفنهنَّ وتطمُّ عليهنَّ التُّراب
وتتعهدهنَّ في كلِّ يوم حتَّى يُخرَّجن وذلك في ثلاثة أسابيع غير أنّ الثَّعالب
والظَّرِبان والطَّير تحفر عنهنَّ فتأكلهنَّ ولو أفلت منهنَّ كلُّ فراخ الضِّباب
لَملأْنَ الأرض جميعاً .
ولو أنَّ إنساناً نحل أمَّ الدَّرداء أو مُعاذة
العدويَّة أو رابعة القيسيَّة أنهنَّ يأكلن أولادهنَّ لما كان عند أحدٍ من النّاس
من إنكار ذلك ومن التكذيب عنهنَّ ومن استعظام هذا القول أكثر مما قاله أبو سليمان
في التَّكذيب على الضِّباب أن تكون تأكل أولادها . )
قال أبو سليمان : ولكن الضبّ يأكلُ بعْره وهو طيِّبٌ
عنده وأنشد : ( يَعود في تَيْعِه حِدْثانَ مَوْلدِهِ ** فإنْ أسنَّ تغدَّى
نَجْوَهُ كَلِفا )
قال :
وقال أفَّار بن لقيط : التَّيْع : القيء ولكنّا رويناهُ هكذا إنما قال : يعودُ في
رَجْعِه وكذلك الضَّبُّ يأكُلُ رجْعَه .
وزعم أصحابنا أنَّ أبا المنْجُوف السَّدوسيَّ روى عن أبي
الوجيه العُكْليّ قوله : ( وأفطنَ مِنْ ضَبٍّ إذا خافَ حَارِشاً ** أعدَّ لهُ
عِنْدَ التلمُّس عَقْرَبا )
جملة
القول في نصيب الضباب من الأعاجيب والغرائب أوَّل ذلك طولُ الذَّماء وهو بقيَّة
النَّفْس وشدَّة انعقاد الحياة والرُّوحِ بعد الذبحِ وهَشْمِ الرّأس والطَّعنِ
الجائف النافذ حتَّى يكون في ذلك أعجب من الخنزير ومن الكلب ومن الخنفساء وهذه
الأشياء التي قد تفرَّدت بطول الذَّماء .
ثمَّ شارك الضَّبُّ الوزغة والحيَّة فإن الحية تُقطعُ من
ثلث جسمها فتعيش إن سلمت من الذَّرّ فجمع الضَّبُّ الخصلتين جميعاً إلا ما رأيت في
دَخّال الأذن من هذه الخصلة الواحدة فإنِّي كنتُ أقطعُه بنصفين فيمضي أحدُ نصفيه
يمنةً والآخر يَسرة إلا أنِّي لا أعرفُ مقدار بقائهما بعد أن فاتا بَصَرِي .
ومن أعاجيبه طولُ العمر وذلك مشهورٌ في الأشعار والأخبار
ومضروبٌ به المثلُ فشارك الحيَّات في هذه الفضيلة وشارك الأفعى الرّمْليَّة
والصَّخرية في أنَّها لا تموتُ حتْفَ أنفِها وليس إلا أن تُقْتل أو تصطاد فتبقى في
جُون الحوّائين تذيلها الأيدي وتُكره على
الطّعم في غير أرضِها وهوائها حتى تموت أو تحتملها السُّيولُ في الشِّتاء وزمان الزَّمْهرير فما أسرع موتها حينئذ لأنَّها صردة . 4
مثل في الحية
وتقول
العرب : أصرد من حيّة كما تقول : أعرى من حية وقال القشيريّ : واللّه
لهي أصْردُ من عنزٍ جرْباء . 4
( حُتوف الحيّات ) وحُتوفها التي تُسرع إليها ثلاثة
أشياء : أحدها مُرور أقاطيع الإبل والشَّاء وهي منبسطةٌ على وجه الأرض إما
للتشرُّق نهاراً في أوائل البرد وإما للتبرُّد ليلاً في ليالي الصَّيف وإمّا
لخروجها في طلب الطُّعم . )
والخصلة الثانية ما يسلَّط عليها من القنافذ والأوعال
والورل فإنها
تطالبها
مطالبة شديدة وتقوى عليها قوّةً ظاهرة والخنازير تأكلها . وقد ذكرنا ذلك في باب
القول في الحيّات .
والخصلة الثالثة : تكسُّب الحوَّائين بصيدها وهي تموت
عِندهم سريعاً .
ما يشارك الضب فيه الحية والضَّبُّ يشاركها في طول العمر
ثمَّ الاكتفاء بالنسيم والتَّعيشِ ببرد الهواء وذلك عند الهرم وفناء الرُّطوبات
ونَقْص الحرارات وهذه كلها عجب
.
عود إلى أعاجيب الضب ثم اتخاذه الجحر في الصَّلابة وفي
بعض الارتفاع خوفاً من الانهدام ومسيل المياه ثم لا يكون ذلك إلا عند عَلََم يرجع
إليه إنْ هو أضلَّ جُحره ولو رأى بالقُرْب تراباً متراكِباً بقدر تلك المِرداة
والصَّخرة لم يحفِلْ بذلك فهذا كله كيْسٌ وحزم وقال الشَّاعر :
( سقَى اللّه أرضاً يَعْلم الضب أنّها ** عَذيّة بَطْنِ القاع
طيّبةُ البَقْلِ ) ( يرود بها بيتاً على رأس كُدْيةٍ ** وكل امرئٍ في حِرْفة
العيْشِ ذو عقْلِ ) وقال البُطين : ( وكلُّ شيءٍ مصيبٌ في تعيُّشِه ** الضبُّ
كالنُّون والإنسانُ كالسّبُعِ ) ومن أعاجيبه أنّ له أيرَين وللضبة حِرَين وهذا
شيءٌ لا يُعْرف إلاَّ لهما فهذا قولُ الأعراب وأمَّا قولُ كثير من العلماء ومن
نقّب في البلاد وقرأ الكتب فإنّهم يزعُمون أنَّ للسَّقَنْقور أيرين وهو الذي
يتداوى به العاجزُ عن النكاح ليورثه ذلك القوة .
قالو : و إن للحِرْذون أيضاً أيرين وإنّهم عاينوا ذلك
معاينة
وآخر من زعم لي ذلك موسى بن إبراهيم .
والحِرذون دويبة تشبه الحِرباء تكون بناحية مِصْرَ وما
والاها وهي دويِّبَة مَليحة موشّاة بألوانٍ ونقط .
وقال جالينوس : الضبُّ الذي له لسانان يصلُح لحمه لكذا
وكذا فهذه أيضاً أعجوبة أخرى في الضبِّ : أن يكونَ بعضه ذا لسانين وذا أيرين .
ومن أعاجيب الضَّبَّة أنّها تأكل أولادها وتجاوز في ذلك
خلُق الهِرَّة حتّى قالت الأعراب : أعقُّ من ضَبٍّ . )
احتيال الضب بالعقرب وزعمت العرب أنّه يُعِدّ العقربَ في
جُحره فإذا سمع صوت الحرْش استثفرها فألصقها بأصْل عَجْب الذَّنَب من تحتُ وضمّ
عليها فإذا أدخل الحارشُ يده ليقبض على أصْل ذنبه لسعَتْه العقرب .
وقال علماؤهم : بل يهيِّئ العقارب في جحره لتلسع
المحترِشَ إذا أدخل يده .
وقال أبو المنجد بن رويشد : رأيت الضب أخْور دابّة في
الأرض على
الحر تراه أبداً في شهر ناجر بباب جُحره متدخِّلاً يخاف أن يقبض قابضٌ بذنبه
فربّما أتاه الجاهلُ ليستخرجه وقد أتى بعقرب فوضَعَها تحت ذنبه بينه وبين الأرض
يحبسها بعَجْب الذنب فإذا قبض الجاهلُ على أصلِ ذنبه لسعَتْه فَشغِل بنفسه .
فأما ذو المعرفة فإنّ معه عُويْداً يحرِّكه هُناك فإذا
زالت العقرب قبض عليه .
وقال أبو الوجيه : كذب واللّه من زعم أنّ الضّبّة تستثفر
عقرباً ولكنَّ العقارب مسالمة للضِّباب لأنها لا تعرض لبيضها وفراخها والضبُّ يأكل
الجراد ولا يأكل ُ العقارب وأنشد قول التميميّ الذي كان ينزل به الأزديُّ : إنه
ليس إلى الطعام يقصد وليس به إلا أنه قد صار به إلفاً وأنيساً فقال : ( أتأنسُ بي
ونَجْرُك غير نَجْري ** كما بين العقارب والضِّبابِ )
وأنشد : (
تجَمَّعْن عند الضّبّ حتى كأنه ** على كلِّ حال أسودُ الجِلدِ خنْفَسُ ) لأن
العقارب تألف الخنافِس وأنشدوا للحَكم بن عمرو البَهْراني : ( والوزَغُ الرُّقطُ على
ذُلِّها ** تُطاعِمُ الحيّاتِ في الجحرِ ) ( والخُنفَسُ الأسود من نَجْره **
مودّةُ العقربِ في السِّرِّ ) لأنك لا تراهُما أبداً إلاّ ظاهرتين يطَّاعمان أو يتسايران
ومتى رأيت مكنة أو اطَّلعْتَ على جُحر فرأيت إحداهما رأيت الأخرى .
قال : ومما يؤكِّد القول الأوَّل قولُه : ( ومُسْتثْفرٍ
دون السَّوِيّةِ عقرباً ** لقد جئت بجْرياً من الدَّهْرِ أعوجا )
يقول :
حين لم ترض من الدهاء والتنكر إلا بما مخالف عنده الناس وتجوزهم 0
إعجاب الضب والعقرب بالتمر وأنشدني ابن داحة لحذيفة بن
دأب عمّ عيسى بن يزيد الذي يقال له ابن دأب في حديث طويل من أحاديث العشَّاق : (
لئن خُدِعتْ حُبَّى بِسبٍّ مُزَعفرٍ ** فقدْ يُخْدع الضَّبُّ المخادع بالتّمرِ )
لأن الضب
شديد العُجْب بالتّمر فضرب الضب مثلاً في الخُبْث والخديعة .
والذي يدلُّ على أن الضب والعقرب يُعجبان بالتّمر عجباً
شديداً ما جاء من الأشعار في ذلك وأنشدني ابن الأعرابيِّ لابن دَغْماء العِجْلي :
( سوى أنكم دُرِّبْتُم فجريْتم ** على دُرْبةٍ والضّبُّ يُحْبَلُ بالتّمْرِ ) فجعل
صيده بالتّمر كصيده بالحِبالة وأنشدني القُشيريُّ : ( وما كنت ضباً يُخرج التّمر
ضِغْنه ** ولا أنا ممنْ يزدهِيهِ وَعيدُ ) وقال بشر بن المعتمر في قصيدته التي ذكر
فيها آيات اللّه عز ذكره في صُنوف خلْقه مع ذكر الإباضيّة والرافضة والحشوية
والنابتة فقال فيها : ( وهِقْلةٌ تَرتاعُ من ظِلِّها ** لها عِرارٌ ولَها زَمْرُ ) ( وضبّة تأكلُ أولادها ** وعُتْرُفانٌ بطنُه صِفْرُ ) ( يؤثِر بالطُّعْم وتأذينهُ ** مُنَجِّمُ ليس له فِكرُ ) ( وظبيةٌ تخضَمُ في حَنْظل ** وعقربٌ يُعجبها التمرُ ) وقال أيضاً بشرٌ في قصيدةٍ له أخرى : ( أما ترى الهِقْلَ وأمعاءَهُ ** يجمعُ بين الصَّخْر والجمْر ) ( وفأرة البيشِ على بيشِها ** أحْرص مِنْ ضبٍّ على تمرِ ) وقال أبو دارة وقد رأيتهُ أنا وكان صاحب قَنْص : ( وما التمْر إلا آفةٌ وبليّةٌ ** على جُلِّ هذا الخَلْقِ من ساكن البَحْرِ ) ( وفي البَرِّ من ذئب وسمع وعقربٍ ** وثُرمُلةٍ تسْعى وخُنفسة تسْري ) ( وقد قيل في الأمثالِ إن كنت واعياً ** عذيرك إنَّ الضَّبَّ يُحْبَلُ بالتمرِ )
وسنفسِّر
معاني هذه الأبيات إذا كتبْنا القصيدتين على وجوههما بما يشتملان عليه من ذكر )
الغرائب والحكم والتّدبير والأعاجيب التي أودع اللّه
تعالى أصناف هذا الخلْق ليعتبر مُعتبر ويفكر مفكر فيصير بذلك عاقلاً عالماً
وموحِّداً مخْلصاً .
طول ذماء الضب والدّليل على ما ذكرْنا من تفسير قولهم : الضّبّ أطولُ
شيءٍ ذماء قولهم : إنَّه لأحيا مِن ضَبّ لأنّ حارشه ربّما ذبحه فاستقْصى فرْي
الأوداج ثم يدعُه فربما تحرك بعد ثلاثة أيام .
وقال أبو ذؤيبٍ الهذلي : ( ذكر الورُود بها وشاقى
أمْرَهُ ** شؤماً وأقْبلَ حينه يتتبَّعُ ) ( فأبَدَّهُنَّ حُتُوفَهُنَّ فهاربٌ **
بذمائه أو ساقطٌ متَجَعْجِعُ ) وكان النّاس يروون : فهاربٌ بدمائه يريدون من الدم
وكانوا
يكسِرون الدال حتى قال الأصمعيّ : بذمائِه معجمة الذال مفتوحة وقال كثير : ( ولقد شهدْت الخيل يحْمِل شِكَّتي ** متلمِّظٌ خذم العِنانِ بَهيمُ ) ( باقي الذماءِ إذا مَلَكْت مُناقِلٌ ** وإذا جَمَعْتُ به أجشُّ هَزيمُ ) خبث الضب والضّبّ إذا خدَع في جُحره وُصِف عند ذلك بالخبث والمكر ولذلك قال الشاعر : ( إنَّا مُنينا بِضَبٍّ من بني جُمحٍ ** يرى الخيانة مِثْلَ الماء بالعسَلِ ) وأنشد أبو عصام : ( إنّ لنا شيخَين لا ينفعاننا ** غنيَّينِ لا يجْدي عَلَيْنا غِناهُما )
( سقط : بيت الشعر ) ( كأنهما ضبان ضبا مغارة ** كبيران غيداقان صفر كشاهما ) ( فإن يُحْبَلا لا يوجدا في حبالةٍ ** وإنْ يُرصدا يوماً يخبْ راصِداهُما ) ولذلك شبَّهُوا الحِقد الكامنَ في القلْب الذي يسري ضررُه وتدبُّ عقاربُه بالضَّبّ فسمَّوا ذلك الحقد ضبّاً قال مَعنُ بنُ أوس : ( ألا مَنْ لمولًى لا يزالُ كأنَّهُ ** صفاً فيه صَدْعٌ لا يُدانيه شاعِبُ ) ( تدِبُّ ضِبابُ الغشِّ تحت ضُلوعِه ** لأهلِ النّدى من قومِه بالعقارب ) وقال أبو دَهْبل الجمحيّ : ( فاعلمْ بأنِّي لِمَنْ عاديتَ مضطغنٌ ** ضبّاً وإني عليك اليوم مَحْسودُ ) وأنشد ابن الأعرابيّ : ) ( يا رُبَّ مولًى حاسدٍ مُباغضِ ** عليَّ ذي ضغنٍ وضبٍّ فارِضِ )
له
قُرُوءٌ كقُروءِ الحائضِ كأنّه ذهب إلى أنّ حِقده يخبو تارةً ثمَّ يستعر ثم يخبو
ثم يستعر .
وقال ابن ميّادة وضرب المثل بنفخ الضب وتوثُّبِه : ( فإن
لقيسٍ من بغيضٍ أقاصياً ** إذا أسدٌ كَشّتْ لفخْر ضِبابُها ) وقال الآخر : ( ولو
ضبَّ أعلى ذي دميثٍ حَبلتما ** إذاً ظلَّ يمطو من حبالكم حَبْلا ) والضب يُوصف
بشدّة الكبر ولا سيّما إذا أخصب وأمِنَ وصارَ كما قال عبْدة بن الطَّبيب فإنهَ ضرب
الضبّ مثلاً حيثُ يقول ليحيى بن هزّال
:
( لأعرِفنّك يومَ الوِرْدِ ذا لغَطٍ ** ضخْم الجُزارةِ بالسَّلْمَينِ وَكّارُ ) ( تكفي الوليدة والرُّعيانَ مؤتزراً ** فاحلُبْ فإنّك حلاّبٌ وصرّارُ ) ( ما كُنْتَ أول ضب صاب تلْعَتَهُ ** غيثٌ فأمْرعَ واسترخت به الدارُ ) وقال ابن مَيّادة : ( ترى الضَّبّ أنْ لم يرهبِ الضَّبُّ غيْرهُ ** يكشُّ لهُ مُسْتكْبِراً ويُطاوِلُهْ ) وقال دَعْلَجٌ عبدُ المِنْجاب : ( إذا كان بيتُ الضب وسْط مَضبّةٍ ** تطاول للشخص الذي هو حابله ) المضبَّة : مكان ذو ضباب كثيرة ولا تكثر إلاّ وبقربها حَيّة أووَرل أو ظرِبان ولا يكون ذلك إلاّ في موضع بعيد من النّاس فإذا أمِن وخلا لَهُ جوُّه وأخصب نفخ وكشَّ نحو كل شيء يُريده .
ما يوصف بالكِبْر من الحيوان ومما يوصف بالكِبْر
الثَّوْرُ في حال تشرُّقه وفي حالِ مشيته الخُيلاء في الرِّياض عند غِبِّ ديمة (
كشبوبٍ ذي كِبرياء من الوَحْ ** دة لا يبْتَغي عليها ظهيرا ) وهذا كثيرٌ وسيقع في
موضعه من القول في البقر .
ومّما يُوصف بالكِبْر الجملُ الفَحْل إذا طافت به نوق
الهجمة ومرَّ نحو ماءٍ أو كلأ فتبعنه وقال الرّاجز : ( فإنْ تشرَّدْن حواليْهِ
وَقَفْ ** قالِبَ حِمْلاقيهِ في مثل الجرُفْ ) ( لو رُضَّ لحدُ عَيْنِهِ لما طرفْ **
كِبراً وإعجاباً وعِزّاً وتَرَفْ ) والنَّاقة يشتدُّ كِبْرها إذا لَقِحت وتزُمُّ
بأنفها وتنفرد عن صحاباتها وأنشد الأصمعيّ :
( وهو إذا أراد منها عِرْسا ** دَهْماءَ مِرْباع الِّلقاح جَلْسا
) ( عاينها بعد السِّنان أنسا **
حتّى تلقَّتْهُ مخاضاً قُعْسا ) ( حتَّى احتشت في كلِّ
نفسٍ نفْسا ** على الدّوامِ ضامِزاتٍ خُرْسا ) خُوصاً مُسِرَّاتٍ لقاحاً
مُلْسا وأمَّا قول الشَّمَّاخ : ( جُماليَّة لو يُجعلُ السَّيفُ غَرضها ** على
حَدِّه لاستكبرتْ أنْ تضوّرا ) فليس من الأوَّل في شيء .
والمذكورون من النَّاس بالكِبْر ثَمَّ من قريشٍ : بنو
محزوم وبنو أميَّة ومن العرب : بنو جعفر بن كلاب وبنو زرارة بن عُدس خاصّة .
فأمَّا الأكاسرة من الفرْس فكانوا لا يعُدُّون النَّاس
إلاّ عبيداً وأنفسهم إلاّ أرباباً
.
ولسنا نُخْبر إلا عن دهماء النّاس وجُمهورهم كيف كانوا
من ملوك وسوقة .
الكبر في الأجناس الذليلة والكِبر في الأجناس الذَّليلة
من النّاس أرسَخ وأعمُّ ولكنّ الذلة والقلّة مانعتان من ظهور كبرهم فصار لا يعرف
ذلك إلاّ أهلُ المعرفة كعبيدنا من السِّنْدِ وذِمَّتنا من اليهود .
والجملةُ أنّ كلّ من قدر من السِّفلة والوُضعاء
والمحقرين أدنى قدرةٍ ظهر من كِبره على منْ تحت قدرته على مراتب القدرة ما لا خفاء
به فإنْ كان ذمِّياً وحَسُنَ بما لَهُ في صدور النّاس تزيَّد في ذلك واستظهرت
طبيعته بما يظنُّ أنّ فيه رَقْع ذلك الخرْق وحِياص ذلك الفتق وسد تلك الثُّلمة
فتفقدْ ما
أقول لك فإنك ستجده فاشياً .
وعلى هذا الحسابِ من هذه الجهة صار المملوك أسوأ ملكةً
من الحُرّ .
وشيءٌ قد قتلته عِلماً وهو أنِّي لم أرَ ذا كِبْر قطُّ
على منَ دونه إلا وهو يذلُّ لمن فوقه بمقدارِ ذلك ووزْنه .
فأمّا بنو مخزوم وبنو أمَيَّة وبنو جعفر بن كلاب وبنو
زرارة بن عُدُس فأبْطرهم ما وجدوا لأنفسهم من الفضيلة ولو كان في قُوى عقولهم
وديانتهم فضلٌ على قوى دواعي الحميّة فيهم )
لكانوا كبني هاشمٍ في تواضُعِهم وفي إنصافهم لمنْ دونهم .
وقد قال في شبيهٍ بهذا المعنى عَبْدةُ بن الطبيب حيث
يقول : ( إن الذين تُرَوْنَهُمْ خلاَّنكُمْ ** يَشْفي صُداع رؤوسهم أن تُصْرعوا )
( فضلت عداوتهم على أحلامِهم ** وأبتْ ضِبابُ صُدورهم لا تنزعُ ) من عجائب الضب
فأمَّا ما ذكروا أنَّ للضبّ أيرين وللضَّبَّة حِرَين فهذا من العجب
العجيب ولم نجدْهم يشكُّون وقد يختلفون ثمَّ يرجعون إلى هذا العمود وقال الفزاريّ : ( جبى المالَ عُمَّالُ الخراجِ وجِبْوتي ** مُحذَّفة الأذناب صُفْرُ الشّواكلِ ) ( رَعين الدَّبا والبَقْلَ حتى كأنما ** كساهُنَّ سُلطانٌ ثيابَ المراجلِ ) ( سِبحْل له نزكانِ كانا فضيلةً ** على كُلِّ حاف في البلاد وناعل )
( ترى كلَّ ذيَّال إذا الشمسُ عارضتْ ** سما بين عِرْسَيْهِ
سُمُوَّ المخايلِ ) واسم أيره النَّزْك معجمة الزّاي والنون من فوق بواحدة وساكنة
الزاي فهذا قول الفزاريّ ( تفرَّقتمُ لا زِلْتم قِرْنَ واحدٍ ** تفرُّق أيْرِ
الضّبِّ والأصل واحدُ ) فهذا يؤكد ما رواه أبو خالد النميري عن أبي حيّة النُّميري
قال أبو خالدِ : سئل أبو حيّة عن ذلك فزعم أنّ أير الضبّ كلسان الحيّة : الأصل
واحدٌ والفرعُ اثنان . 4 ( زعم بعض المفسِّرين في عقاب الحية ) وبعضُ أهل التّفسير يزعم أنّ اللّه
عزّ وجلّ عاقب الحيَّة حين أدخلتْ إبليس في جوفها حتَّى كلّم آدم على لسانها بعشر
خصال منها شقُّ اللسان .
قالوا : فلذلك ترى الحيّة أبداً إذا ضُربت لتُقْتل كيف
تُخرجُ
لسانها
تلويه كما يصنعُ المسترحمُ من النَّاس بإصبعه إذا ترحّم أو دعا لترِيَ الظالمَ
عقوبة اللّه تعالى لها .
قول بعض العلماء في تناسل الضب قال أبو خالد : قال أبو
حيّة : الأصل واحد والفرع اثنان وللأنثى مَدخلان وأنشد لحبَّى المدنيَّة : (
وَدِدتُ بأنّه ضبٌّ وأني ** كضبَّة كُدْيةٍ وجَدَتْ خلاءَ ) قال : قالت هذا البيت
لابنها حين عذلها لأنَّّها تزوّجتْ ابن أمِّ كلاب وهو فتى حدثٌ وقال ابن الأعرابيّ
: للأنثى
سبيلان ولرحمها قُرْنتان وهما زاويتا الرَّحم فإذا امتلأت الزَّاويتان أتأمتْ وإذا
لم تمتلئْ أفردت .
وقال غيرُه من العلماء : هذا لا يكون لذوات البيض
والفراخ وإنما
هذا من
صفة أرحام اللواتي يحْبلن بالأولاد ويضعْن خلقاً كخلقهنَّ ويُرْضعن وكيف تُفرِد
الضبّة وهي لم تتئم قط وهي تبيض سبعين بيضةً في كلِّ بيضةٍ حِسْل .
قال : ولهذه الحشرات أيورٌ معروفة إلاّ أنّ بعضها أحقر
من بعض فأما الخصى فشيءٌ ظاهرٌ لمن شقّ عنها .
تناسل الذباب وجسر أبو خالد فزعم أنه قد أبصر أير ذباب
وهو يكُوم ذبابة وزعم أن اسم أيره المُتْك وأنشد لعبد اللّه بن همام السَّلوليِّ :
( لما رأيْتُ القصْرَ غُلِّقَ بابه ** وتعلَّقَتْ همْدانُ بالأسبابِ ) ( أيقنْتُ
أنّ إمارة ابن مُضاربٍ ** لم يبْقَ منها قِيسُ أيرِ ذُبابِ ) وهذا شعرٌ لا يدلُّ
على ما قال .
وقال أصحابنا : إنّما المتك البظْر ولذلك يقال للعِلْج :
يابن المتْكاء كما يقال له : يابن البظراء .
القول
فيمن استطاب لحم الضب ومن عافه
روى أنَّه أُتي به على خوان النبي صلى الله عليه وسلم
فلم يأكله وقال : ليس من طعام قومي وأكله خالد بن الوليد فلم يُنكر عليه .
ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا أحلُّه ولا
أحرِّمه وأنكر ذلك ابنُ عباس وقال : ما بعثه اللّه تعالى إلاّ ليُحلّ ويحرِّم .
وحرّمه قومٌ ورووا أنَّ أُمّتين مُسختا أخذت إحداهما في
البَرِّ فهي الضِّباب وأخذت الأخرى في طريق البحر فهي الجِرِّيّ . )
وروَوْا عن بعض الفقهاء أنه رأى رجلاً أكل لحم ضبٍّ فقال
: اعلمْ أنَّك قد أكلت شيخاً من مشيخة بني إسرائيل .
وقال بعضُ من يعافه : الذي يدلُّ على أنّه مِسْخ شبه
كفِّه بكفِّ الإنسان .
وقال العُدار الأبرص نديم أيّوب بن جعفر وكان أيوبُ لا
يغبّ أكل الضباب في زمانها ولها في المِرْبد سوقٌ تقوم في ظلّ دار جعفر ولذلك قال
أبو فرعون في كلمة له طويلة : سُوقُ الضبابِ خير سوقٍ في العربْ وكان أبو إسحاق
إبراهيم النظام والعُدار إذا كان عند أيوب قاما عن خوانه إذا وضع له عليه ضبّ ومما
قال فيه العُدار قوله : قول العوام في المسخ
والعوامّ
تقول ذلك وناسٌ يزعمون أن الحيّة مسخ والضبّ مِسْخ والكلبَ مِسْخ والإربيان مِسخ
والفأر مسخ .
قول أهل الكتاب في المسخ ولم أر أهل الكتاب يُقِرُّون
بأنَّ اللّه تعالى مسخ إنساناً قط خنزيراً ولا قرداً إلاّ أنهم قد أجمعوا أنّ
اللّه تبارك وتعالى قد مسخ امرأة لُوطٍ حَجَراً حين التفتتْ .
وتزعم الأعراب : أنَّ اللّه عزّ ذكره
قد مسخ
كلَّ صاحب مَكْس وجابي خراج وإتاوة إذا كان ظالماً وأنه مسخ ماكسين أحدهما ذئباً
والآخر ضبعاً .
شعر الحكم بن عمرو في غرائب الخلق وأنشد محمَّد بن
السَّكن المعلِّم النحويّ للحكم بن عمرو البهراني في ذلك وفي غيره شعراً عجيباً
وقد ذكر فيه ضروباً كلُّها طريف غريب وكلها باطل والأعراب تؤمن بها أجمع .
وكان الحكَم هذا أتى بني العنبر بالبادية على أنَّ
العنبر من بَهْراء فنفوه من البادية إلى الحاضرة وكان يتفقَّه ويفتي فُتيا الأعراب
وكان مكفوفاً ودهريّاً عُدْمُليّاً وهو الذي يقول : ( إنّ ربيِّ لمِا يشاءُ قديرٌ
** ما لشيءٍ أرادهُ منْ مفرِّ )
( بعثَ النملَ والجرادَ وقفّى ** بنجيعِ الرُّعافٍ في حيِّ بكرِ ) ( خرقتْ فارةٌ بأنفِ ضئيلٍ ** عرماً محكمَ الأساسِ بصخرِ ) ( فجَّرته وكانَ جيلان عنهُ ** عاجزاً لو يرومُه بعد دهرِ ) ( مسخَ الضبّ في الجدالة قدْماً ** وسهيلَ السماءِ عمداً بصغرِ ) ( والذي كانَ يكتنى برغالٍ ** جعلَ اللهُ قبرهُ شرَّ قبرِ ) ( وكذا كلُّ ذى سفينٍ وخرجٍ ** ومكوسٍ وكلُّ صاحبِ عشرِ ) ( منكبٌ كافرٌ وأشراطُ سوءٍ ** وعريفٌ جزاؤه حرُّ جمرِ ) ( ونزوجتُ في الشبيبةِ غولا ** بغزالٍ وصدقتي زقُّ خمرِ ) ( ثيبٌ إن هويتُ ذلك منها ** ومتى شئتُ لم أجدْ غيرَ بكرِ ) ( بنتُ عمرو وخالها مسحَل الخي ** ر وخالي هميمُ صاحبُ عمرو ) ( ولها خطةٌ بأرضِ وبارٍ ** مسحوها فكان لي نصفُ شطرِ ) ( أرضُ حوشٍ وجاملٍ عكنانٍ ** وعروج من المؤبًّل دثرِ )
( سادة الجنّ ليس فيها من الج ** نِّ تاجر وآخرَ مكرِ ) ( ونفوْا عن حريمها كلَّ عفرٍ ** يسرقُ السمعَ كل ليلة بدرِ ) ( تأكل القولُ ذا البساطة مسياً ** بعد روثِ الحمار في كل فجر ) ( جعلَ اللهُ ذلك الروثَ بيضا ** من أنوقٍ ومن طروقة نسرِ ) ( ضربت فردةً فصارتْ هباءً ** في محاق القمير آخرَ شهرِ ) ( تركتْ عبدلاً ثمالَ اليتامَى ** وأخوه مزاحم كان بكرِى ) ( وضعتْ تسعةً وكانت نزورا ** من نساء في أهلها غير نزرِ ) ( غلبتني على النجابةِ عرسيْ ** بعد ما طار في النجابةِ ذكرى )
( وأرى فيهمُ شمائلَ إنسٍ ** غيرَ أنْ النجار صورةُ عفرِ ) ( وبها كنتُ راكباً حشراتٍ ** ملجماً قنفذاً ومسرجَ وبرِ ) ( كنت لا أركبُ الأرانب للحي ** ض ولا الضبع أنها ذاتُ نكر ) ( تركبُ المقعصَ المجيف ذا النع ** ظ وتدعو الضباع من كلِّ جحرِ ) ( جائباً للبحار أهدى لعرسي ** فلفُلا مجتنًى وهضمة عطرِ ) ( وأحِّلى هريرَ من صدفِ البح ** رِ وأسقى العيالَ من نيلِ مصرِ ) ( ويسنى المعقودَ نفثى وحلى ِّ ** ثم بخفى على السَّواحر سحري ) ( وأجوب البلاد تحتىً ظبيٌ ** ضاحكٌ سنهُ كثيرٌ التمرى ) ( يحسبُ الناظرون أنِّى ابن ماءٍ ** ذاكرٌ عشهُ بضفةِ نهر ) ( ربَّ يوم أكلت من كبدِ اللي ** ث وأعقبتُ بين ذئبٍ ونمر ) ( ليس ذا كم كمن يبيتُ بطيناً ** من شواءِ ومن قليةِ جزر )
( ثم لاحظتُ خلَّتي في غدوٍ ** بينَ عيني وعينها السمُّ يجرى ) ( ثم أصبحتُ بعد خفضٍ ولهوٍ ** مدنفاً مفرداً محالفَ عسرِ ) ( أتراني مقتُّ من ذبحَ الدي ** كَ وعاديتُ من أهابَ بصقرِ ) ( وسمعتُ النقيقَ في ظلمِ اللي ** لِ فجاوبته بسرٍ وجهرِ ) ( ثم يرمى بي الجحيمُ جهاراً ** في خمير وفي دراهم قمرِ ) ( فلعلْ الإله يرحمُ ضعفي ** ويَرى كبرتي ويقبلُ عذرى )
في حل الضب واستطابته
وسنقول في
الذين استحلوه واستطابوه وقدّموه .
قالوا : الشيء لا يحرم إلاّ من جهة كتابٍ أو إجماعٍ أو
حجةِ عقل أو من جهة القياس على أصل في كتاب اللّه عزّ وجلّ أو إجماع ولم نجدْ في
تحريمه شيئاً من هذه الخصال وإن كان إنَّما يُترك من قِبلِ التقزز فقد أكل الناسُ
الدَّجاجَ والشبابيط ولحوم الجَلاَّلة وأكلوا السراطين والعقصير وفراخ الزّنابير
والصحناء
والرَّبيثا فكان التقزُّز مما يغتذي العذِرةَ رطْبةً ويابسة أولى وأحقَّ من كلِّ شيء يأكل الضروب التي قد ذكرناها وذكرها الرَّاجز حيث يقول : ( يَا رُبَّ ضَبٍّ بين أكنافِ اللِّوَى ** رعى المُرار والكَبَاث والدَّبا ) ( حَتَّى إذا ما ناصِل البُهْمَى ارتمى ** وأجفِئَتْ في الأرض أعْرَافُ السّفَا ) ( ظَلَّ يباري هُبَّصاً وَسْط المَلا ** وهو بَعيْنَي قانصٍ بالمرْتَبَا ) ( كان إذا أخْفَقَ مِن غير الرعا ** رازَمَ بالأكباد منها والكُشَى )
فإن
عفتموه لأكل الدَّبا فلا تأكلوا الجراد ولا تستطيبوا بَيضه .
وقد قال أبو حجين المنقريُّ : ( ألا لَيت شِعرِي هل
أبيتنَّ ليلة ** بأسفل وادٍ ليس فيه أذانُ ) ( وهل آكُلَنْ ضَبّاً بأسفَل تَلْعَةٍ
** وعرْفجُ أكماع المَديد خِواني ) . أقومُ إلى وقْتِ الصَّلاةِ وريحُهُ
بَكَفَّيَّ لم أغسِلْهُما بشُنَانِ ) ( وهل أشرَبَنْ مِنْ ماءِ لِينةَ شرْبةً **
على عطَشٍ من سور أمّ أبانِ ) وقال آخر
:
( أحبُّ إلينا أنْ يجاورَ أرْضَنَا ** من السَّمكِ البُنّيّ والسَّلْجَم الوَخِمْ ) وقال آخرُ في تفضيل أكل الضّبّ : ( أقولُ له يوماً وقد راح صُحْبتي ** وباللّه أبغي صَيْدَهُ وأخاتِلُهْ ) ( فلمَّا التقَتْ كَفّي على فضْل ذَيلِهِ ** وشالت شمالي زايَلَ الضَبّ باطلُهْ ) ( فأصبح محنوذاً نضِيجاً وأصبَحَتْ ** تَمَشَّى على القِيزان حُولاً حلائلهْ ) ( شديد اصفرار الكُشْيَتَيْن كأنّما ** تطَلَّى بوَرْس بَطْنُه وشواكِلُهْ ) ( فذلك أشْهى عنْدَنا من بيَاحِكمْ ** لَحَى اللّه شارِيهِ وقُبِّح آكِلُهْ )
وقال أبو الهنْديّ من ولد شَبَثِ بنِ رِبْعيٍّ : ( أكَلْتُ الضِّبابَ فما عِفْتها ** وإنِّي لأهْوَى قديد الغَنَمْ ) ( ورَكَّبتُ زُبداً على تَمرةٍ ** فنِعْمَ الطَّعام ونِعْمَ الأُدُمْ ) ( وسَمْن السِّلاءِ وكمءَ القصيصِ ** وزينُ السَّديفِ كبودُ النَّعَمْ ) ( ولحمَ الخروف حَنيذاً وقدْ ** أُتيتُ به فائراً في الشَّبمْ )
( فأمَّا البَهطُّ وحِيتانُكمُ ** فما زِلْتُ منها كَثِيرَ السَّقَمْ ) ( وقد نِلْتُ ذاكَ كما نِلْتمُ ** فلم أرَ فيها كضَبٍّ هَرِمْ ) ( ومَكنُ الضِّبابِ طَعَامُ العُرَيبِ ** وَلا تَشْتَهيهِ نُفُوسُ العَجمْ ) وإلى هذا المعنى ذهب جران العود حين أطعمَ ضيفَه ضَبّاً فهجاه ابن عمٍّ له كان يُغمزُ في نسبِه فلما قال في كلمةٍ له : ( وتُطْعِمُ ضَيْفَك الجَوْعَانَ ضباً ** وتأكلُ دُونَهُ تمْراً بزبْدِ ) وقال في كلمةٍ له أخْرَى : ( وتُطْعِمُ ضَيْفَكَ الجَوْعانَ ضبّاً ** كأنَّ الضَّبَّ عندهم عَرِيبُ ) قال جران العود :
( فلولا أنَّ أصْلكَ فارسيٌّ ** لَمَا عبْتَ الضِّبَابَ ومنْ
قَرَاها ) ( قريتُ الضيفَ من حُبِّي كُشَاها ** وأيُّ لَوِيّةٍ إلاّ كُشاها )
واللَّوِيّة
: الطُّعيِّم الطّيب واللَّطف يرفع للشَّيخِ والصبي وقد
قال الأخطل : ( ففلتُ لهُمْ هاتوا لَوِيةَ مالكٍ ** وإنْ كان قد لاقى لَبوساً
ومَطْعما ) بزماورد الزَّنابير وقال مُويس بن عمران : كان بشر بن المعتَمر خاصّاً
بالفضل
بن يحيى فقدِم عليه رجلٌ من مواليه وهو أحد بني هلال بن عامر فمضى به يوماً إلى الفضْل ليكرمَه بذلك وحضرت المائدة فذكروا الضب ومن يأكلُه فأفرط الفضْلُ في ذمِّه وتابَعَهُ القوم بذلك ونظر الهلاليُّ فلم ير على المائدة عربيّاً غيره وغاظه كلامُهم فلم يلبث الفضل أن أُتِيَ بصَحْفة ملآنةٍ من فراخ الزَّنابير ليتّخذ لَه منها بزماورد والدَّبر والنَّحل عند العرب أجناسٌ من الذّبان فلم يشكّ الهلاليُّ أنَّ الذي رأى من ذِبّان البيوت والحشُوش وكان الفضْلُ حين وليَ خُراسان استظرف بها بزماورد الزَّنابير فلمَّا قدم العراق كان يتشَّهاها فتطلبُ له من كلِّ مكان فشمِت الهلاليُّ به وبأصحابه وخرجَ وهو يقول :
( وعِلْج يعافُ الضَّبّ لُؤْماً وبطْنةً ** وبعضُ إدام العِلْج هَامُ ذُبابِ ) ( ولو أن مَلْكاً في الْمَلا ناك أمَّه ** لقالُوا لقَدْ أُوتيتَ فَصلَ خطَابِ ) شعر أبي الطروق في مَهر امرأة لما قال أبو الطروق الضبي : ( يقولُون أصْدِقْها جَرَاداً وضَبَّةً ** فقد جَردَتْ بَيْتي وبَيْتَ عِياليا ) ( وأبْقتْ ضِباباً في الصُّدور جَواثماً ** فيا لك من دَعْوى تُصِمُّ المُناديا ) ( وعاديتُ أعمامي وهمْ شرُّ جِيرةٍ ** يُدِبُّونَ شَطْرَ اللَّيْلِ نحوي الأفاعيا )
( وقَدْ كانَ في قعبٍ وقوس وإنْ أشَأ ** من الأقط ما بلَّغن في المَهْرِ حاجيا ) ( فلو كان قَعباً رضّ قَعْبك جندلٌ ** ولَوْ كان قوساً كانَ للنَّبْلِ أذْكرا ) فقال عمُّها : دعوني والعبد .
شعر في الضب
ّ ) وأنشد للدُّبيري : ( أعامِرَ عبدِ اللّه إنِّي وجدتكمْ ** كعَرْفَجَةِ الضّبّ الذي يتذلَّلُ ) قال : هي ليّنة وعودُها ليّن فهو يعلوها إذا حضروا بالقيظ ويتشوَّف عليها ولستَ تَرَى الضّب إلا وهي ساميةٌ برأسها تنظر وترقب وأنشد :
( بلاد يكون الخَيْمَ أطلال أهْلِها ** إذا حَضَروا بالقَيْظِ والضَّبَُّ نونُها ) وقال عمرو بن خويلد : ( ركاب حُسَيْلٍ أشْهُرَ الصَّيْف بُدَّنٌ ** وناقةُ عَمرٍ و ما يُحَلُّ لها رَحلُ ) ( إذا ما ابتَنيْنَا بيتَنا لمعيشةٍ ** يعُودُ لما نبْني فيهدمُه حِسْلُ ) ( ويزعم حِسْلٌ أنّه فَرْعُ قومِه ** وما أنت فرعٌ يا حُسيلُ ولا أصْلُ ) ( وُلِدْت بحادي النَّجم تسعى بسعيه ** كَما ولَدَتْ بالنَّحْسِ دَيَّانهَا عُكْلُ )
استطراد لغوي وهم يسمُّون بحسل وحسيل : وضبّ وضبّة فمنهم ضبّة بن أدّ وضبة بن محض وزيد بن ضبّ ويقال : حفرة ضب وفي قريش بنو حسل ومن ذلك ضبَّة الباب ويسمّى حلْب الناقة بخمس أصابع ضبّاً يقال ضبَّها يضبُّها ضبّاً : إذا حلبها كذلك وضبَّ الجُرح وبَضّ : إذا سال دماً مثل ما تقول : جذب وجبذ و : إنّه لَخبٌ ّ ضَبّ وإنّه لأخْدع من ضبّ والضبُّ : الحقد إذا تمكَّن وسَرَت عقاربُه وأخفى مكانه والضّبُّ : ورمٌ في خفِّ البعير وقال الرَّاجز : ليس بذي عرك ولا ذي ضبِّ
ويقال ضَبٌّ خَدِعٌ أي مراوغ ولذلك سموا الخزانةِ المخْدع وقال راشد بن شهاب : ( أرقتُ فلم تَخْدَعْ بعينَيَّ نعسةٌ ** وواللّه ما دَهْري بعشق ولا سَقَمْ ) وقال ذو الرُّمَّة : ( مناسِمها خُثمٌ صِلابٌ كأنّها ** روؤس الضِّباب استخرجَتها الظهائرُ ) شعر فيه ذكر الضبّ ويدلُّ على كثْرةِ تصريفهم لهذا الاسم ما أنشدَناهُ أبو الرُّدَينيّ : ( لا يعقر التقبيل إلا زُبِّي ** ولا يُداوي مِنْ صَميم الحُبِّ )
والضّبُّ في صوَّانِهِ مُجَبّ ) ( يا أم سَمَّال ألَمَّا تدْرِي ** أنِّي على مَيَاسري وعَسْرِي ) ( يَكفيكِ رِفْدي رجلاً ذَا وَفْر ** ضَخْم المثاليثِ صغير الأيرِ ) ( إذا تغَدّى قالَ تَمْري تمْري ** كأنَّه بين الذَّرى والكِسْرِ ) ضَبٌّ تَضَحَّى بمكانٍ قَفْرِ وقال أعرابيّ : ( قد اصطدتُ يا يقظان ضَبّا ولم يَكُنْ ** ليُصْطاد ضبٌّ مِثْلُه بالحبائلِ ) ( يَظََلُّ رِعاءُ الشَّاءِ يَرْتَمِضُونهْ ** حَنِيذاً ويُجْنى بَعضُه للحَلائلِ )
( عظيمُ الكشى مثلَُ الصَّبِي إذا عداْ ** يفوتُ الضِّبابَ
حِسلُه في السَّحابِلِ ) وقال العماني : ( إنّي لأرْجُو مِن عَطَايا رَبّي **
ومِنْ وَليِّ العَهد بعد الغِبِّ ) ( رُومِيّةً أولجُ فيها ضَبِّي ** لها حرٌ
مُستهدِفٌ كالقبِ ) مُستَحصِفٌ نِعْم قرابُ الزُّبِّ وقال الآخر : ( إذا اصْطلَحوا
على أمْرٍ تَوَلَّوْا ** وفي أجوافهم منه ضِبابُ ) ( ومن الموالي ضَبُّ جَنْدَلةٍ
** زَمِرُ المروءَة ناقص الشَّبرِ ) فالأول جعل أيره ضَبّاً والثاني جعل الحقد
ضبّاً .
وقال الخليل بن أحمد في ظهر البصرة مما يلي قَصْر أنَس :
( زُرْ وادِيَ الْقَصْر نِعْمَ القَصْرُ والوادي ** لا بُدّ مِنْ زوْرةٍ عَنْ غير مِيعادِ ) ( تَرَى به السُّفْنَ كالظِّلْمانِ واقفةً ** والضبّ والنُّون والملاح والحادي ) وقال في مثل ذلك ابنُ أبي عُيَينة : ( يا جنَّةً فاتَتِ الجِنان فَما ** يَبْلُغُها قِيمةٌ ولا ثَمنُ ) ( ألِفْتُها فاتَّخَذْتُها وَطَناً ** إنَّ فَؤادي لأهْلِها وطَنُ ) ( زُوِّجِ حِيَتانُها الضِّبابَ بها ** فهذه كَنَّةٌ وذا خَتَنُ ) ( فانظُرْ وفَكِّرْ فيما تُطيف به ** إنَّ الأريب المفكِّرُ الفَطِنُ )
( من سُفنٍ كالنّعامِ مقبلةٍ ** ومن نَعَامٍ كأنَّها سُفنُ )
وقال عقبة بن مُكَدَّم في صفة الفَرَس : ( وَلَها
مَنْخِرٌ إذا رَفعَتْه ** في المُجاراةِ مثلُ وَجْرِ الضِّبابِ ) وأنشد : وقال أبو حَيّة
النُّميري : وَقرَّبوا كلَّ قِنعاس قُراسيةٍ أبَدَّ ليس به ضبٌّ ولا سرَرُ وقال
كثير : ( ومحترش ضبَّ العَداوة منهُم ** بِحُلْو الرُّقى حرش الضِّباب الخْوادِعِ
) وقال كثير :
( سقط : بيت الشعر ) ( ومحترش ضب العداوة منهم ** بحلو الرقى حرش في الضباب الخوادع ) وقال كثيِّر أيضاً : وما زالتْ رُقاكَ تَسُلُّ ضِغْني وتُخْرِجُ مِنْ مضائبها ضِبابي
شعر في الهجاء فيه ذكر الضب
فأما الذين ذمُّوا الضب وأكْلَه وضربوا المثل به وبأعضائه وأخلاقه وأعماله فكما قال التميمي : ( لَكِسْرى كان أعْقَلَ مِنْ تميم ** لَيَاليَ فَرَّ مِنْ أرضِ الضِّبابِ ) ( فأنزَلَ أهْلَهُ ببلادِ رِيفٍ ** وأشجارٍ وأنهارٍ عِذابِ ) ( وصار بَنُو بَنِيه بها ملوكاً ** وصرْنَا نحنُ أمثالَ الكِلابِ )
( فلا رَحِمَ الإلهُ صَدَى تميم ** فقد أزْرى بنا في كلِّ بابِ ) وقال أبو نواس : ( تُفاخِرُ أبناء المُلُوكِ سَفاهةً ** وبَوْلُكَ يَجْري فُوق ساقِكَ والكعْبِ ) وقال الآخر : ( فحبَّذَا همْ ورَوَّى اللّه أرضَهُمُ ** مِنْ كلِّ مُنْهمِرِ الأحشاء ذي بَرَدِ ) ( ولا سقى اللّه أياماً غنيتُ بها ** ببَطْنِ فَلْجٍ على اليَنسُوع فالعُقدِ ) ( مواطنٌ مِنْ تميم غير معجِبة ** أهْلِ الجفاءِ وعيْشِ البُؤس والصّرَدِ ) ( همُّ الكرامِ كريمُ الأمْرِ تفْعلُهُ ** وهَمُّ سَعْد بما تُلقي إلى المَعِدِ ) ( أصحاب ضبٍّ ويربوع وحَنْظلةٍ ** وعَيشةٍ سَكَنُوا منها على ضَمَدِ ) ( إنْ يأكلوا الضّبَّ باتوا مُخصبين به ** وزَادُها الجُوعُ إن باتَتْ ولم تصدِ )
( لو أنَّ سعداً لها ريفٌ لقد دُفعَتْ ** عنه كما دُفِعتْ عن صالح البلدِ ) ( من ذا يقارع سعْداً عَنْ مفازتها ** ومَنْ يُنافِسُها في عَيْشها النّكدِ ) وقال في مثل ذلك عَمرُو بنُ الأهتم : ( وتَرَكْنَا عُمَيْرَهُمْ رَهْنَ ضَبْعٍ ** مُسْلَحِباً ورَهْنَ طُلْسِ الذِّئابِ ) ( نَزَلُوا منزلَ الضِّيافة منا ** فقَرى القَومَ غِلمة الأعرابِ ) ( ورَدَدْنَاهُمُ إلى حَرَّتَيْهِم ** حَيْث لا يأكُلون غَير الضّبابِ ) ( جاؤُوا بحارشةِ الضِّباب كأنَّما ** جاؤوا ببنْتِ الحارثِ بن عُبادِ ) وقائلة هذا الشعر امرأةٌ من بني مُرَّة بن عباد .
وقال الحارث الكندي : ( لعمرك ما إلى حَسَن أنخْنَا **
ولا جِئنا حُسيناً يابن أنسِ ) ( ولكنّ ضبّ جَنْدلةٍ أتينا ** مُضِبّاً في مضابئها
يُفسِّي ) ( فلمَّا أنْ أتينَاهُ وقلْنا ** بحاجتنا تَلَوَّنَ لَوْنَ وَرْسِ ) (
وآضَ بكفِّه يحتكُّ ضِرْساً ** يُرينا أنّه وَجعٌ بضرْسِ ) ( فقلتُ لصاحبي أبهِ كُزازٌ **
وقلت أُسِرُّه أتراه يُمسي ) ( وقمْنَا هاربيْن معاً جميعاً ** نحاذر أنْ نزَنّ
بقَتْلِ نَفْسِ ) وقالت عائشة ابنة عثمان في أبان بن سعيد بن العاص حين
خطبها وكان نزل أيْلَة وترك المدينة : ( نَزَلْتَ ببَيتِ الضَّبِّ لا أنت ضائرٌ ** عَدُوّاً ولا مستنفعاً أنت نافعُ ) وقال جرير : ( وجَدْنا بيتَ ضَبَّةَ في تميمٍ ** كبَيْتِ الضَّبِّ ليس له سَواري ) ( يا ضبُعَ الأكهافِ ذاتِ الشّعبِ ** والوثْبِ للعَنْزِ وغير الوثبِ ) ( عِيثي ولا تخشَيْنَ إلاَّ سَبِّي ** فلستُ بالطّبِّ ولا ابن الطَّبِّ ) ( إنْ لم أدع بيْتَك بيتَ الضّبِّ ** يضيق عند ذي القَرَد المكبِّ ) وقال الفرزدق :
( لحى اللّه ماءً حنبلٌ خيرُ أهله ** قفَا ضبَّةٍ عند الصّفَاةِ
مَكُونِ ) ( فلو عَلِمَ الحجَّاجُ عِلمَك لم تَبِعْ ** يمينُك ماءً مُسلماً بيَمينِ )
وأنشد : ( زعمْتَ بأنَّ الضبَّ أعمى ولم يفت ** بأعمى
ولكن فاتَ وهْو بصيرُ ) بل الضبُّ أعمى يوم يخنِسُ باسته إليك بصحراء البياضِ
غريرُ وقالت امرأةٌ في ولدها وتهجو أباه : ( وُهِبْتُه من ذي تُفالٍ خَبِّ **
يقْلبُ عيْناً مثلَ عين الضَّبِّ
)
ليس بمعشوق ولا مُحَبِّ وقال رجلٌ من فزارة : ( وجدناكم رَأْباً بين أمِّ قِرفةٍ ** كأسنانِ حِسْلٍ لا وَفاءٌ ولا غَدرُ ) ( ثلاثون رأباً أو تزيد ثلاثةً ** يقاتلنا بالقَرْنِ ألفٌ مقنَّعُ ) والرأب : السواء والمعنى الأولُ يشبه قوله : ( سَواسٍ كأسنان الحمار فلا تَرَى ** لِذي شَيْبةٍ منهمْ على ناشئٍ فَضلا )
وأنشد ابنُ الأعرابي : ( قُبِّحْتِ من سالفَةٍ ومن صُدُغْ ** كأنَّها كُشْية ضبٍّ في صُقُغْ ) أراد صُقْع بالعين فقلب وقال الآخر : أعقّ من ضبٍّ وأفْسَى من ظَرِبْ وأنشَد : ( فجاءت تهاب الذَّمَّ ليست بضَبّة ** ولا سلفعٍ يلْقَى مِراساً زمِيلُها )
يقول : لا
تخدع كما يخدع الضّبُّ في جُحْره .
وأنشد ابنُ الأعرابي لحيّان بن عبيد الربعي جد أبي محضة
: ( يا سهلُ لو رأيْتَهُ يَوْمَ الجُفَرْ ** إذْ هو يَسْعى يَسْتَجيرُ للسُّوَرْ )
( يَرمي عن الصَّفو ويَرضى بالكَدَرْ ** لازْدَدتَ منه قذراً على قَذرْ ) ( يضحك
عن ثغر ذميم المُكْتَشَرْ ** ولِثَةٍ كأنَّها سَيرُ حَوَرْ ) وأنشد السِّدري : (
هو القَرَنْبى ومَشْيُ الضب تعرفهُ ** وخُصْيَتَا صَرصَراني من الإبلِ )
( والخالُ ذو قُحَم في الجرْي صادقةٍ ** وعاتِقٌ يتعقَّى مأبِض
الرجُلِ )
واعلم حفظك اللّه تعالى أنّه قد أكتِفي بالشّاهد وتبقى
في الشعر فَضلةٌ ممّا يصلح لمذاكرة ولبعض ما بك إلى معرفته حاجة فأصلُه به ولا
أقطعهُ عنه .
وأنشد لابن لجأ : ( وغَنَوي يَرْتمي بأسْهُمِ ** يلصق
بالصّخْر لصوقَ الأرْقَمِ ) لو سئمَ الضبُّ بها لم يسْأم
وقال
أعرابيُّ من بني تميم : ( تسخرُ مِنِّي أنْ رَأتْني أحتَرِش ** ولو حَرَشْتِ
لكَشَفْتِ عن حِرشْ ) يريد عن حِرِك .
قال : وقال أبو سعنَة : ( قَلَهْزَمانِ جعدةٌ لِحَاهما
** عاداهما اللّهُ وقد عادَاهما ) ضَبّاً كُدًى قدْ غمِّرَت كشَاهما
وأنشد الأصمعي : ( إنِّي وجدتُك ياجُرثومُ من نفرٍ ** جرثومة اللُّؤم لا جُرْثومةِ الكرمِ ) ( إنِّا وجَدْنا بني جَلاَن كلَّهمُ ** كسَاعدِ الضَّبِّ لا طولٌ ولا عِظمِ ) وقال ابن ميّادة : ( فإنَّ لقيسٍ مِنْ بَغيضٍ لَنَاصراً ** إذا أسدٌ كَشّتْ لفخرٍ ضِبابُها ) وفي هذه القصيدة يقول : ( ولو أنّ قَيساً قيسَ عَيْلان أقسَمَتْ ** على الشَّمْسِ لم يَطْلُع عليك حجابُها ) وهذا من شكل قول بشَّار : ( إذا ما غضِبنا غَضْبةً مُضَريّةً ** هَتَكْنَا حِجابَ الشَّمْسِ أو مَطَرتْ دمَا )
وأنشد لأبي الطَّمَحانِ : ( مهْلاً نَميرُ فإنَّكُمْ أمسيتُمُ ** مِنَّا بثَغْرِ ثَنيَةٍ لم تسْتَرِ ) ( سُوداً كأنّكمُ ذئابُ خطيطةٍ ** مُطِرَ البلادُ وحِرْمُها لم يُمْطَرِ ) ( يحْبُون بينَ أجاً وبُرْقةِ عالجٍ ** حبّو الضِّبابِ إلى أصول السَّخْبَرِ ) ( وتَرَكْتُمُ قصب الشُّرَيفِ طوامياً ** تهوي ثَنيّتُهُ كعينِ الأعور )
مفاخرة
العث للضب وقال العُثّ واسمه زيد بن معروف للضب غلام رُتْبيل بن غَلاق : وقد رأيت
من سمّى عَنزاً )
وثوراً وكلباً ويربوعاً فلم نر منهم أحَداً أشبَه العنز
ولا الثَّور ولا الكلب ولا اليربوع وأنتَ قد تقيَّلتَ الضَّبَّ حتى لم تغادِرْ منه
شيئاً فاحتمَلَ ذلك عنه فلمَّا قال : ( من كان يدعى باسمٍ لا يناسِبهُ ** فأنتَ
والاسْمُ شَنٌّ فَوقه طبقُ ) فقال ضبٌّ لعثّ : ( إن كنْتُ ضَبّاً فإنَّ الضّبَ
مُحْتَبَلٌ ** والضبُّ ذو ثَمن في السُّوق مَعْلُومِ ) ( وليس للعُثِّ حَبَّالٌ
يُرَاوِغُه ** ولسْتَ شَيئاً سِوَى قرضٍ وتقليمِ ) وما أكثر ما يجيء الأعرابي
بقربةٍ من ماء حتى يفرغها في جحره
ليخرج فيصطاده ولذلك قال الكميت في صفة المطر الشديد الذي يستخرج الضِّباب من جِحَرتها وإن كانتْ لاتتّخذها إلا في الارتفاع فقال : ( وعلته بتركها تحفش الأُكْ ** مَ ويكفي المضبِّبَ التفجيرُ ) والمضبّب هو الذي يصيد الضباب . ( القول في سن الضب وعُمره ) ( تعلّقت واتّصلت بعكْلِ ** خِطْبي وهّزَْتْ رأسها تسْتبْلي )
( تسألني من السِّنينَ كمْ لي ** فَقُلْتُ لو عمِّرتُ عمْر
الحِسْلِ ) ( أو عُمرَ نوحٍ زَمَنَ الفِطَحْلِ ** والصَّخْرُ مُبْتَلٌّ كطِينِ الوَحْلِ
) صِرْتُ رَهينَ هَرَمٍ أو قَتْلِ وهذا الشِّعر يدلُّ على طول عمر الحِسْل لأنه لم
يكن ليقول : ( أو عُمرَ نوحٍ زمنَ الفِطَحْلِ ** والصّخرُ مبتلٌّ كطين الوَحْلِ )
إلاَّ وعمر الحِسل عنده من أطول الأعمار .
وروى ابن الأعرابي عن بعض الأعراب أنّ سِنَّ الضبّ واحدة
أبداً وعلى حال أبداً قال فكأنه قال : لا أفعله ما دامَ سِنها كذلك لا ينقص ولا
يزيد .
وقال زيد بن كَثْوة : سنّ الحِسْل ثلاثة أعوام وزعم أن
قوله ثَمّةَ : لا أفعله سِنَّ الحسل غلَط ولكن الضبَّ طويلُ العمر إذا لم يَعرِضْ
له أمر .
وسنُّ الحِسل مِثلُ سنّ القَلوص ثلاث سنين حتى يلقح
ولو كانت
سنُّ الحِسل على حال واحدة أبداً لم تعرف الأعرابُ الفتيَّ من المُذَكِّي . )
وقد يكون الضّبُّ أعظَمَ من الضّبّ وليس بأكبَر منه
سِنّاً .
قال : ولقد نظرتُ يوماً إلى شيخٍ لنا يفُرُّ ضَبّاً
جَحْلاً سِبَحْلاً قد اصطاده فقلت له : لم تفعلُ ذلك فقال : أرجو أن يكون هرماً .
بيض الضب
قال : وزعم عمرو بن مسافر أن الضّبّة تبيض ستِّين بيضة فإذا كان ذلك سدَّت عليهن باب الجُحر ثم تدعهن أربعين يوماً فيتفقَّص البيض ويظهر ما فيه فتحفر عنهنَّ عند ذلك فإذا كشفَتْ عنهن أحْضَرْن وأحضرَتْ في أثرهن تأكلهن فيحفر المنفلت منها لنفسه جُحراً وَيرْعى من البقْل .
قال : وبيض الضبّ شبيهٌ ببيض الحمام قال : وفرخه حين
يخرج يخُرج كيّساً كاسياً خبيثاً مُطيقاً للكَسْب وكذلك ولد العقرب وفراخ البطّ
وفراريج الدَّجاج وولد العناكب
. ( سنّ الضب
) وقال زيدبن كَثْوة مَرَّةً بعد ذلك : إنّ الضب ينبت
سِنُّه معه وتكبر مع كِبر بدنه فلا يزال أبداً كذلك إلى أن ينتهي بدنُه منُتهاه
قال : فلا يُدعى حِسلاً إلا ثلاثَ ليال فقط .
وهذا القول يخالف القول الأوَّل وأنشَدَ : نِعْمَ لعمرُ
اللّه مهْر العِرْسَينْ أنشدني ابن فَضَّال : أمْهَرتها وزعم أنّه كذلك سِمعها من
أعرابيّ .
وقد يكون أن يكون الحسل لا يُثْني ولا يُرْبِع فتكون
أسنانُه أبداً على أمر واحد ويكون قول رؤبة بن العجّاج في طول عمره حَقّاً .
ويدلُّ على أنّ أسنانَه على ما ذكروا قولُ الفزاريّ : (
وجدناكمُ رأباً بني أمّ قِرفةٍ ** كأسنان حِسْلٍ لا وَفَاءٌ ولا غدْرُ ) يقول : لا
زيادة ولا نقصان .
قصة في عمر الضب
وقال زيد بن كَثْوَة المزني : قال العنبريّ وهو أبو يحيى : مكثْتُ في عنفوان شَبيبتي ورَيعانٍ من ذلك أُريغُ ضَبّاً وكان ببعض بلادنا في وِشاز من الأرض وكان عظيماً منها مُنْكراً ما رأيتُ
مِثله فمكثْت دهراً أُرِيغه ما أقدر عليه ثم إنّي هبطت إلى البصرة فأقمت بها ثلاثينَ سنةً ثمَّ إنِّي واللّه كرَرْتُ راجعاً إلى بلادي فمررتُ في طريقي بموضع الضّبّ معتمداً لذلك فقلت : واللّه لأعلمنَّ اليوم عِلمَه وما دَهرِي إلا أن أجعل من جلده عُكَّة للّذي كان عليه من إفراط العِظَم فوجَّهت الرَّواحل نحوه فإذا أنا به واللّه مُحْرنْبئاً على تَلعة فلمّا سمِع حِسّ الرّواحل ورأى سواداً مقبلاً نحوه مرَّ مسرعاً نحو جحره وفاتني واللّه الذي لا إله إلا هو . ( مكن الضَّبة ) وقال ابن الأعرابيّ : أخبرني ابن فارس بن ضِبْعان الكلبيّ أنَّ الضّبّةَ يكون بيضُها في بطنها وهو مكْنها ويكون بيضُها متَّسِقاً فإذا أرادَتْ أن تبيضَه حفَرَتْ في الأرض أُدْحيّاً مثلَ أُدْحِيِّ النعامة ثم
ترمي بمكنها في ذلك الأدحِيّ ثمانين مَكنة وتدفنه بالتُّراب وتدعُه أربعين يوماً ثم تجيءُ بعد الأربعين فتبحثُ عن مَكْنها فإذا حِسَلَةٌ يتعادين منها فتأكلُ ما قدَرت عليه ولو قدرَتْ على جميعهن لأكلتهنّ قال : ومَكنها جلدٌ ليّن فإذا يبست فهي جلد فإذا شويْتَها أو طبخْتها وجَدْت لها مُحّاً كمحِّ بيض الدّجاج . ( عداوة الضَّبة للحية ) قال : والضّبّة تقاتل الحيّة وتضربُها بذَنبها وهو أخشن من السَّفَن وهو سلاحها وقد أُعطيت فيه من القُوَّةِ مثل ما أعطيت العُقاب في أصابعها فربما قطعتها بضربة أو قتلتها أو قَدّتها وذلك إذا كان الضّبّ ذَيّالاً مذنِّباً وإذا كان مرائساً قتلته الحية .
والتذنيب : أنّ الضبّ إذا أرادت الحيّةُ الدُّخول عليه
في جُحره أخرَج الضبُّ ذنبه إلى فم جُحره ثم يضرب به كالمخراق يميناً وشمالاً فإذا
أصاب الحية قطعها والحية عند ذلك تهرُبُ منه والمراءسة : أن يُخرِج الرَّأس ويدَعَ
الذَّنَب ويكون غُمراً فتعضّه الحيَّة فتقتله .
استطراد لغوي قال : وتقول : أمكنت الضبّة والجرادة فهي
تمكن إمكاناً : إذا جمعت البَيضَ في جوفها واسم البَيض المَكن والضّبة مكُون فإذا
باضت الضّبة والجرادةُ قيل قد سرأت والمكن والسَّرء : البيض كان في بطنها أو بعد
أن تبيضه وضَبّة
سرُوء
وكذلك الجرادة تسرَأ سرءاً حين تُلقي بيضها وهي حينئذ سِلْقة .
وتقول : رزّت الجرادة ذنبها في الأرض فهي ترزُّ رزّاً
وضربت بذنبها الأرض ضرباً وذلك إذا أرادت أن تلقي بيضها .
المضافات من الحيوان ويقولون : ذئب الخمَر وشيطان
الحماطة وأرنب الخُلّة وتيس الرَّبْل وضبّ السَّحا والسَّحا : بقلة تحسُن حاله
عنها .
ويقال : هو قنفذ بُرْقة إذا أراد أن يصِفَه بالخُبث .
وما أكثَر ما يذكرون الضَّبَّ إذا ذكَرُوا الصيف مثل قول
الشاعر : ( سار أبو مسلمٍ عنها بصِرْمَتِهِ ** والضبُّ في الجُحْر والعُصفورُ
مُجتمعُ ) وكما قال أبو زبيد : ( أيُّ ساعٍ سَعَى ليقطَع شرْبي ** حين لاحت للصَّابح
الجوزاءُ ) ( واستكنَّ العُصفور كَرْهاً مع الض ** بِّ وأوْفى في عُودِهِ
الحِرباءُ ) وأنشد الأصمعيّ : ( تجاوَزْتُ والعصفور في الجُحر لاجئٌ ** مع
الضَّبِّ والشِّقْذَانُ تَسمُو صدورُها
)
قال : والشِّقذان : الحرَابيّ قوله : تسمو : أي تَرتَفِع
في رؤوس العيدان الواحد من الشّقذان بكسر الشين وإسكان القاف شَقذ بتحريك القاف .
أسطورة الضب والضفدع
وتقول الأعراب : خاصم الضبُّ الضفدعَ في الظّمأ أيُّهما أصبر وكان للضفدع ذنَب وكان الضبُّ ممسوحَ الذنب فلمّا غلبها الضبُّ أخذ ذنَبها فخرجا في الكلأ فصَبرت الضفدع يوماً ويوماً فنادت : يا ضبّ ورداً ورداً فقال الضبُّ : ( إلاّ عَرَاداً عَرِدا ** وصِلِّياناً بَرِدَا ) فلما كان في اليوم الثالث نادت : يا ضَبُّ وِرداً وِرداً قال :
فلمّا لم يُجِبها بادَرَتْ إلى الماء وأتْبعها الضبُّ فأخذ ذنَبها فقال : في تصْداقِ ذلك ابن هَرْمة : ( ألم تأرَقْ لضوءِ البَرْ ** قِ في أسْحَمَ لمَّاحِ ) ( كأعناقِ نساء الهِنْ ** دِ قد شِيبَتْ بأوْضاحِ ) ( تُؤَامِ الوَدْق كالزّاحِ ** فِ يُزْجَى خَلْف أطلاحِ ) ( كأنّ العازف الجنِّ ** يَّ أو أصوات أنْوَاحِ ) ( على أرجائها الغُرّ ** تَهَدِّيها بمصْباحِ )
( فقال الضبُّ للضفدِ ** عِ في بَيداءَ قِرواحِ ) ( تأمّل كيف تنْجوُ اليو ** مَ من كرب وتطْواحِ ) ( فإنيَ سَابحٌ ناجٍ ** وما أنتَ بسَبَّاحِ ) ( فلمّا دق أنف المُزْ ** نِ أبْدَى خيرَ إرْواحِ ) ( وسَحَّ الماء من مُستحْ ** لَب بالماء سَحَّاحِ ) ( رَأى الضبُّ من الضفد ** عِ عَوماً غير مِنْجاحِ ) ( ثَقَالُ المشْي كالسَّكرا ** نِ يمشي خلفه الصَّاحي ) ثم قال في شأن الضفدع والضب الكميتُ بن ثعلبة :
( على أخْذِها يَوْمَ غِبِّ الوُرُود ** وعند الحكومة أذْنَابَها ) وقال عبيد
بن أيوب : ( ظَللت وناقتي نِضْويْ فَلاةٍ ** كفَرْخِ الضبّ لا يبغي ورُودا )
وقال أبوزياد : قال الضبّ لصاحبه : ( أهَدَموا بَيْتَكَ
لا أبالَكا ** وزعموا أنك لا أخالكا ) وأنا أمشي الحَيكى حوالكا
قول العرب أروى من الضب
وتقول العرب : أرْوََى من ضبّ لأن الضب عندهم لا يحتاجُ
إلى شُرب الماء وإذا هرِم اكتفى بَبْرد النَّسيم وعند ذلك تفنى رطوبته فلا يبقى فيه شيءٌ من الدَّم ولا مما يُشبه الدّم وكذلك الحيَّة فإذا صارت كذلك لم تقْتُلْ بلعاب ولا بمجَاج ولا بمخالطةِ ريق وليس إلاّ مخالطة عظم السِّنَّ لدماء الحيوان وأنشدوا : فكلّما أقْصدَ منه الجوعُ شمّْ وأما صاحبُ المنطق فإنه قال : باضطرار إنه لا يعيش حيوانٌ إلاّ وفيه دمٌ أو شيء يشاكل الدم
إخراج الضب من جحره
والضبُّ تذْلقه من جُحره أمور منها السَّيل وربَّما صبُّوا
في جحره قربةً من ماءِ فأذْلقوه به وأنشد أبو عبيدة : ( يُذلقُ الضبَّ وَيخفيه كما ** يُذلقُ السَّيلُ يَرابيعَ النُّفَقْ ) يَخفيه مفتوحة الياء وتذلقه وقْع حوافِر الخيل ولذلك قال امرؤ القيس بن حُجْر : ( خَفَاهُنَّ مِنْ أنْفاقهنَّ كأنَّما ** خَفَاهُنَّ وَدْقٌ من سَحابٍ مُرَكّبِ ) تقول : خَفَيْته أخفِيه خَفْياً : إذا أظهرته وأخفيته إخفاءً : إذَا ستَرته وقال ابن أحمر : ( فإن تَدْفِنُوا الدّاء لا نَخفِهِ ** وإنْ تبعثُوا الحربَ لا نقعُدِ ) ولا بدَّ من أن يكونَ وقعُ الحوافرِ هدَم عليها أو يكونَ أفزَعَها فخرجَتْ وأهلُ الحجاز يسمُّون النّبّاش المُخْتفي لأنّه يستخرج الكفَنَ من القَبْر ويُظهره .
وحكَوا عن بعض الأعراب أنّه قال : إنَّ بني عامر قد
جعلوني على حِنديرة أعينها تريد أن قول أبي عبيدة في تفضيل أبيات لامرئ القيس
وأنشد أبو عبيدة : ( دِيمةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ** طبقُ الأرض تَحَرَّى وتَدُرّْ
) ( تُخرِج الضبَّ إذا ما أشجَذتْ ** وتُواريه إذا ما تَعْتكرْ ) ( وتَرَى الضّبَّ
ذفيفاً ماهراً ** ثانياً بُرثُنَه ما يَنْعَفِرْ )
وكان أبو
عبيدة يقدِّم هذه القصيدة في الغيث على قصيدة عَبيد بن الأبرص أوْ أوس بن حجر التي
يقول فيها أحدهما : ( دانٍ مُسِفٍّ فويْقَ الأرْض هَيْدَبه ** يَكادُ يَدْفعُه
مَنْ قامَ بالرَّاحِ ) ( فمن بنَجْوَتهِ كَمنْ بعَقْوَتِهِ ** والمُستَكنُّ كَمَنْ
يمشي بقِرْواحِ ) وأنا
أتعجّب مِنْ هذا الحكم .
قولهم : هذا أجلُّ من الحرش ومما يضيفون إلى هذه
الضِّباب من الكلام ما رواه الأصمعيّ في تفسير المثل وهو قولهم : هذا أجَلُّ من
الحَرْش أنّ الضَّبَّ قال لابنه : إذا سمعْتَ صَوْتَ الحَرْشِ فلا تخْرُجَنَّ قال
: والحَرْش :
تحريكُ اليدِ عند جُحر الضب ليخرج ويَرى أنّه حيّة قال : فسمع الحِسْل صَوْتَ الحفْر فقال
الضب والضفدع والسمكة
وقال الكميت : ( يُؤَلِّفُ بَيْنَ ضِفدِعَة وضَبٍّ ** ويَعْجَب أنْ نَبَرّ بني أبِينا ) وقال في الضَّبِّ والنُّون : ( وَلوْ أنَّهُمْ جاؤوا بشيءٍ مُقَارِبٍ ** لِشَيءٍ وبالشِّكْل المقارِبِ للشِّكْل ) ( ولَكِنَّهُمْ جاؤوا بحِيتان لُجَّةٍ ** قَوامسَ والمكنيِّ فينا أبا حِسْلِ ) وقال الكميت : ( وما خلْتُ الضّبابَ مُعطَّفاتٍ ** على الحيتان مِنْ شَبَهِ الحسولِ ) وقال آخر : والعَربُ تقولُ في الشَّيءِ المُمْتَنع : لا يكونَ ذلك حتى يَرِدَ الضبُّ وفي تبعيدِ ما بينَ الجِنْسَيْن : حتّى يؤلَّف بين الضَّبِّ والنُّون .
استطراد لغوي قال : ويقال أضبَّت أرض بني فلان : إذا
كَثرتْ ضِبابها وهذه أرضٌ مَضبَّة وأرضُ بني فلان مَضبَّة مثل فَئِرة من الفأر
وجَرِذة من الجُرذان ومَحوَاة ومَحْياة من الحيّات وجَرِدة من الجراد وسرِفة من
السُّرفة ومأسَدَة من الأسود ومَثْعلة من الثّعالب لأن الثَّعلب يسمَّى ثعالة
والذِّئب ذُؤالة . )
ويقال أرضٌ مَذبَّة من الذُّباب مَذْأبَة من الذِّئاب .
ويقال في الضّبِّ : وقَعْنا في مَضابَّ منكَرَة وهي قطعٌ
من الأرض تكثر ضِبابُها .
قال : ويقال أرضٌ مرْبعة كما يقال مضَبَّة إذا كانت ذات
يرابيع وضِباب واسمُ بيضها المَكْن والواحدة مكنِة .
ويقال لفرْخه إذا خرج حِسْل والجميعُ حَسَلة وأحسال
وحُسول
وهو حِسْل
ثم مُطَبِّخ ثم غيداق ثمَّ جَحْل والسَّحْبَلُ : ما عظم منها وهو في ذلك كلِّه
ضبٌّ .
وبعضُهم يقول : يكون غَيداقاً ثم يكون مطبِّخاً ثمَّ
يكون جَحْلاً وهو العظيم ثمَّ هو خُضَرِمٌ ثمَّ يكون ضَباً وهذا خطأ وهو ضَبٌّ قبل
ذلك وقال الرَّاجز : ( ينفي الغياديقَ عن الطَّريقِ ** قلَّص عنه بيضُهُ في نيق )
ما يوصف بسوء الهداية من الحيوان ويقال : أضَلُّ من ضبٍّ والضلال وسوء الهِداية
يكونُ في الضبِّ والورَل والدِّيك
.
الضب وشدة
الحر
وإذا غيّر الحَرُّ لون جلْدِ الضبِّ فذلك أشدُّ ما يكون
من الحر وقال الشَّاعر : ( وهَاجرةٍ تُنْجي عنِ الضَّبِّ جِلْدَه ** قَطَعْتُ
حَشَاهَا بالغُرَيريَّة الصُّهبِ
)
أمثال في الضب
وفي المثل : خلِّ دَرَج الضبّ وفي المثل : تعْلِمني بضبٍّ أنا حرَشْتُه و : هذا أجَلُّ من الحَرْش و : أضلُّ من ضبٍّ و : أخبُّ من ضبّ و : أروى من ضبٍّ و : أعَقُّ من
ضبّ و : أحيَا من ضبٍّ و : أطوَلُ ذَماءً من ضبّ و : كلُّ ضَبٍّ عِندَ مِرْداته ويقال : أقصرُ من إبهام الضّبّ كما يقال : أقصر من إبهام القطاة وقال ابن الطَّثْريّةِ : ويومٍ كإبهام القطاة ومن أمثالهم : لا آتِيكَ سنَّ الحِسْل وقال العجاج :
ثُمَّت لا
آتيه سِنَّ الحِسْلِ كأنّه قال حتّى يكون مَا لا يكون لأنَّ الحسل لايستبدل
بأسنانه أسناناً .
أسنان الذئب وزعم بَعضُهم أنّ أسنان الذِّئب ممطولة في
فكيه وأنشد : وليس في هذا الشعر دَليلٌ على ما قال لأنَّ الشاعر يُشْبع الصفةَ إذا
مَدَح أو هَجا وقد يجوز أن يكونَ ما قال حقّاً .
ما قيل في عبد الصمد بن علي فأما عبد الصَّمد بن علي
فإنه لم يُثغر ودخل القبر بأسنان الصِّبا .
استطراد لغوي وقد يقال للضَّبِّ والحيّة والورَل وما
أشبَهَ ذلك : فحَّ يفحُّ فحيحاً والفحيح : صوت الحية من جَوْفها والكشيش والقشيش :
صَوت جْلدها إذا حكَّت بَعضها ببعض
.
وليس كما قال ليس يُسمع صوت احتكاك الجلد بالجلد إلاَّ
للأفعى فقط وقال رؤبة : ( فِحِّي فلا أفْرَقُ أن تَفِحِّي ** وأن تُرَحّي كرَحَى
المرحِّي ) وقال ابنُ ميادة : ( ترى الضبَّ إن لم يرهب الضبُّ غيره ** يكِشُّ له
مستكبراً ويطاولُه ) ( حديث أبي عمرة الأنصاري ) ويُكتَب في باب حبِّ الضّب للتّمر
حديث أبي عمرة الأنصاري
____________________
رووه من
كلِّ وجه أنّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قالَ لرجل من أهل الطائف : الحُبْلة
أفْضل أم النخلة قال : بل الحُبلة أتزببها وأشَمِّسها وأستظل في ظلّها وأصلح
بُرْمَتي منها قال عمر : تأبى ذاك عليك الأنصار .
ودخل أبو عمرة عبد الرحمن بن محْصن النجَّاري فقال له
عمر : الحبلة أفضل أم النَّخلة قال : الزبيب إنْ آكلْه أضْرَس وإن أتْرُكْه أغرث
ليس كالصّقر في رُؤوس الرَّقل الراسخات في
الوحل المطعمات في المَحْل خُرْفَة الصائم وتُحْفة الكبير وصُمْتة الصغير وخُرسة مريم ويُحْتَرَشُ به الضِّباب من الصَّلعاء يعني الصحراء .
دية الضب واليربوع
قال : ويقالُ في الضّب حُلاَّم وفي اليَربوع جفْرة والجفرة :
التي قد
انتفخ جَنْبَاها وشَدنت والحُلاَّم فوق الجدي وقد صَلُح أن يُذبَح للنُّسك
والحُلاَّن بالنون : الجدي الصغير الذي لا يصلح للنُّسك .
وقال ابن أحمر : ( تهدِي إليه ذراع الجَدْي تَكْرِمَةً
** إمَّا ذَبيحاً وإمَّا كان حُلاّنا ) والحُلاَّن والحُلوان جميعاً : رشوة الكاهن
وقد نُهي عن زَبْدِ المشركين وحُلوان الكاهن وقال مهلهِل : أقوال لبعض الأعراب
وقال الأصمعي : قال أعرابيٌّ يَهزَأ بصاحبه : اشتر لي شاةً قفْعاء
كأنَّها
تضْحَك : مندلقةً خاصرتاها كأنّها في مَحْمِل لها ضرْعٌ أرقط كأنّه ضبّ قال : فكيف
العَفْلُ قال : أو لهذه عَفْل قال : وسأل مَدنيٌّ أعرابيّاً قال : أتأكلون
الضَّبَّ قال : نعم قال : فاليربوع قال : نعم قال : فالورَل قال : نعم قال :
أفتأكلون أمّ حُبَين قال : لا قال : فلْيَهْنِ أمَّ حُبينٍ العافية .
شعر في الضب وقال فِراس بن عبد اللّه الكلابي : ( لَمّا
خَشِيت الجُوع والإرمَالا ** ولم أجد بشَوْلِها بلالا )
( أبصرت ضَبّاً دَحِناً مُخْتالا ** أوفَدَ فَوْقَ جُحْرِهِ وذالا ) ( فدَبّ لي يخْتلني اختيالا ** حتّى رأيتُ دونيَ القَذالا ) ( ومَيْلةً ما مِلْتُ حينَ مالا ** فَدهِشَتْ كَفَّاي فاستطالا ) ( مِني فلا نزْعَ ولا إرسالا ** فحاجزا وبَرَّأَ الأوصالا ) ( مِنِّي ولم أرفَعْ بذاكَ بالا ** لمَّا رأتْ عيني كُشًى خِدَالا )
أسماء لعب
الأعراب البُقَّير وعُظَيمُ وضّاح والخَطْرة والدَّارة والشّحمة والحلق ولُعبة
الضّبّ .
فالبُقيْرَ : أن يجمع يديه على التراب في الأرض إلى
أسفله ثم يقول لصاحبه : اشتَهِ في نفسك فيصيبُ ويخطئ .
وعُظيمُ وَضّاح : أن يأخذ بالليل عظماً أبيضَ ثم يرمي به
واحدٌ من الفَريقين فإنْ وجدَهُ واحدٌ من الفريقَين ركِب أصحابه الفريقَ الآخر من
الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رموا به منه .
والخطرة : أن يعملوا مِخْراقاً ثم يرمي به واحدٌ منهم من
خلفه
إلى
الفريق الآخر فإن عجزوا عن أخذه رموا به إليهم فإن أخذوه ركبوهم .
والدّارة هي التي يقال لها الخَراج .
والشّحمة : أن يمضيَ واحدٌ من أحد الفريقَين بغلامٍ
فيتنحَّون ناحية ثم يقبلون ويستقبلهم الآخرون فإن منَعوا الغلام حتَّى يصيروا إلى
الموضع الآخر فقد غلبوهم عليه ويُدفَع الغلام إليهم وإن هم لم يمنعوه ركبوهم وهذا
كله يكون في ليالي الصَّيف عن غِبِّ ربيعٍ مُخصِب ولُعبة الضّبّ : أن يصوِّروا
الضّبّ في الأرض ثم يحوِّل واحدٌ من الفريقين وجهَه ثم يضع َبعضهم يده على شيءٍ من
الضّبِّ فيقول الذي يحوِّل وجهه : أنف الضّبِّ أو عين الضبِّ أو ذَنب الضّب أو كذا
وكذا من الضّبِّ على الوِلاء حتّى يفرغ فإن أخطأ ما وضَع عليه يدَهُ رُكِب ورُكِب
أصحابه وإن أصابَ حَوَّل وجهه الذي كان وضع يده على الضّبِّ ثم يصيرُ هو السائل .
ويقول : الأطبَّاء : إنَّ خُرء الضّب صالح للبياض الذي
يصير في العين .
والأعرابُ ربَّما تداوَوْا به من وجَع الظهر .
وناسٌ يزعمون أنّ أكل لحمان الحيوان المذكور بطولِ العمر
يزيد في العمر فصدَّق بذلك ابن
)
الخارَكي وقال : هذا كما يزعمون أن أكل الكُلية جيِّد
للكُلية وكذلك الكبدُ والطِّحال والرِّئة واللّحم ينبت اللّحم والشّحم ينبت الشّحم
فغَبرَ سنةً وليس يأكلُ إلاّ قديد لحوم الحمر الوحشية وإلا الورشان والضِّباب
وكلَّ شيء قدَر عليه مما يقضي له بطول العُمر فانتقض بدنه وكاد يموت فعاد بعدُ إلى
غذائه الأوّل .
تفسير قصيدة البهراني نقول في تفسير قصيدة البَهْراني
فإذا فرغنا منها ذكرنا ما في الحشرات من المنافع والأعاجيب والروايات ثم ذكرنا
قصيدتي أبي سهل
بشر بن
المعتمر في ذلك وفسرناهما وما فيهما من أعاجيب ما أودع اللّه تعالى هذا الخلْق
وركّبهُ فيهم إن شاء اللّه تعالى وباللّه تبارك وتعالى أستعين .
أما قوله : ( مَسَخَ الماكِسَينِ ضَبْعاً وذئبا ** فلهذا
تناجلا أمَّ عَمْرِو ) فإن ملوك العرب كانتْ تأخُذُ من التُّجَّار في البرِّ
والبحر وفي أسواقهم المكْس وهو ضريبةٌ كانت تؤخذ منهم وكانوا يظلمونهم في ذلك
ولذلك قال التَّغلبي وهو يشكو ذاك في الجاهلية ويتوعد وهو قوله : ( ألا تَسْتحِي
منّا مُلوكٌ وتَتّقِي ** حارِمنا لا يَبْوُؤُا الدَّمُ بالدَّمِ ) ( في كُلِّ
أسْواقِ العراقِ إتاوةٌ ** ي كلِّ ما باعَ امرؤٌ مَكْسُ دِرْهمِ ) والإتاوة
والأُربان والخرْج كله شيءُ واحد وقال الآخر :
( لاَ ابنَ المُعَلّى خِلْتَنا أمْ حسِبْتنا ** صراري نعطي الماكسينَ مُكُوسا ) وقال الأصمعيُّ في ذكر المكسِ والسُّفن التي كان تُعْشر في قصيدته التي ذكر فيها من أهلك الله عز ذكره من الملوك وقصم من الجبابرة وأباد من الأمم الخالية فقال : ( أعْلقَتْ تُبَّعاً حِبالُ المنونِ ** وانتحت بعده على ذي جُدُونِ ) ( ملكَ الحضر والفُراتِ إلى دِجْ ** لة شرقاً فالطور من عَبْدينِ ) ( كل حِمْلٍ يمرُّ فوق بعير ** فله مكسُهُ ومكسُ السُّفِينِ ) والأعراب يزعمون أن اللّه تعالى عزّ وجلّ لم يدعَ ماكساً ظالماً إلا أنزل به بليةً وأنَّه مسخَ منهم ضبُعاً وذئباً فلهذه القرابةِ
تسافدا
وتناجلا وإن اختلفا في سوى ذلك فمن ولدهما السِّمع )
والعِسبار وإنما اختلفا لأنّ الأمَّ ربما كانت ضبعاً
والأبُ ذئباً وربما كانت الأمُّ ذئبةً والأبُ ذيخاً والذِّيخ : ذكر الضِّباع .
ذكر من أهلك الله من الأمم وأمّا قوله : ( بَعَث
الذَّرَّ والجراد وقفَّى ** بنجيع الرُّعافِ في حَيِّ بَكْرِ ) فإنّ الإعراب تزعم أن اللّه
تعالى قد أهلك بالذرّ أمما وقد قال أميّةُ بن أبي الصّلت : ( أرسل الذَّرَّ
والجراد عليهمْ ** وسنيناً فأهلَكَتْهم ومُورا ) ( ذكرَ الذَّرِّ إنَّه يفعلُ الش ** رّ وإنّ الجرادَ
كان ثُبورا ) وأما قوله : وقفّي بنجيع الرُّعاف في حيِّ بكر فإنّه يريد بكر بن عبد
مناة لأنّ كنانةَ بِنزولها مَكَّة كانوا لا يزالون يصيبهم من الرُّعاف ما يصير
شبيهاً بالموتان ويجارف الطاعون وكان آخِر من
وكان
الرُّعاف مِنْ منايا جرهُم أيام جرهم ولذلك قال شاعرٌ في الجاهلية من إياد : (
ونحنُ إيادٌ عبادُ الإله ** ورهط مُناجِيهِ في سُلّمِ ) ( ونحنُ ولاةُ حجاب العتيق
** زمان الرُّعافِ على جُرهمِ ) ولهذا المناجي الذي كان يناجي الله عز وجل في
الجاهلية على سُلّم حديث .
سيل العرم فأما قوله : ( خَرقتْ فأرةٌ بأنفٍ ضئيلٍ **
عَرِماً مُحكَمَ الأساسِ بصَخْرِ ) فقد قال اللّه عز وجل : فَأَرْسَلْنا عَليْهِمْ
سَيْلَ الْعَرِمِ والعَرِم : المسنّاة التي كانوا أحكموا عملها لتكون حجازاً بين
ضِياعهم وبين
السيل
ففجرته فارة فكان ذلك أعجبَ وأظهر في الأعجوبة كما أفار اللّه تعالى عز وجل ماءَ
الطوفان من جَوف تَنُّور ليكون ذلك أثبتَ في العِبرة وأعجَبَ في الآية .
ولذلك قال خالدُ بنُ صفوان لليمانيّ الذي فخر عليه عند
المهديِّ وهو ساكت فقال المهدي : وما لكَ لا تقول قال : وما أقول لقوم ليس فيهم إلا دابغُ
جِلد وناسجُ بُرْدٍ وسائسُ قرد وراكب عَرْد غرَّقتهم فارة وملَكَتْهم امرأة ودلَّ
عليهم هدهد . ( فَجَّرتْه وكان جِيلان عنه ** عاجزاً لو يَرُومُه بَعْدَ دَهْرِ )
فإنّ جيلان فَعَلة الملوك وكانوا من أهل الجَبَل وأنشد
الأصمعي : ( أرسَلَ جِيلان يَنحَتون له ** ساتيدما بالحديد فانصدعا )
وأنشد : ( وتَبْني له جِيلانُ مِنْ نَحْتِها الصَّفا ** قُصوراً تُعالى بالصَّفيح وتُكْلَسُ ) وأنشد لامرئ القيس : ( أُتِيحَ له جَيلانُ عند جَذَاذِه ** ورُدِّدَ فيه الطَّرْفُ حتّى تحيَّرا ) يقول : فجَّرته فارةٌ ولو أنّ جيلان أرادت ذلك لامتَنعَ عليها لأنَّ الفارةَ إنما خرقته لما سخّر اللّه عز ذكره لها من ذلك العَرِم وأنشدوا : ( مِنْ سَبأ الحاضرِينَ مأرِب إذْ ** يَبْنُون مِنْ دُونِ سَيلِهِ العَرِما )
ومأرب : اسمٌ لقصر ذلك الملك ثم صار اسماً لذلك البلد ويدلُّ على ذلك قول أبي الطَّمحان القيني : ( ألا ترى مَأرباً ما كان أحَصَنَهُ ** وما حَوالَيْهِ مِنْ سُورٍ وبُنْيانِ ) ( ظلَّ العِباديُّ يُسقى فوق قُلّتهِ ** ولم يَهَبْ رَيْبَ دَهرٍ حقّ خَوَّانِ ) وقال الأعشى : ( ففي ذَاكَ للمُؤْتَسي أُسْوةٌ ** ومَأرِبُ قَفّى عليه العَرِمْ ) ( رخامٌ بَنتْه لهُ حِمْيَرٌ ** إذا جاء ماؤُهُم لم يَرِمْ ) ( فأروَى الحُرُوثَ وأعنابَها ** على ساعةٍ ماؤُهُم إذ قُسِمْ ) ( فطار الفُيولُ وفَيَّالها ** بِيَهْماءَ فيها سَرابٌ يطِمّ )
( فكانُوا بذلكمُ حِقْبةً ** فمال بِهمْ جارفٌ مُنْهدمْ ) ( فطارُوا سِراعاً وما يَقدِرُو ** نَ مِنْهُ لِشُرْب صَبِيٍّ فُطِمْ ) ( مسخ الضبّ وسهيل ) وأما قوله : ( مَسَخَ الضَّبّ في الجَدَالةِ قِدْماً ** وسُهَيلَ السَّماءِ عَمْداً بصُغْرِ ) فإنهم يزعمون أنّ الضّبَّ وسُهيلاً كانا ماكِسَين عَشّارين فمسخ اللّه عز وجل أحدهما في الأرض والآخَرَ في السماء والجدالة : الأرض ولذلك يقال : ضربه فجدَّله أي ألْزَقه بالأرض أي بالجَدالة وكذلك قول عنترة : وأنشد أبو زيدٍ سعيدُ بن أوسٍ الأنصاري : ( قد أركب الحالة بعد الحالهْ ** وأتْرُكُ العاجِز بالجَدالهْ )
أبو رغال وأما قوله : ( والذي كان يَكْتَني برِغال ** جَعَل اللّه قَبْرَهُ شَرَّ قَبْرِ ) ( وكذا كلُّ ذي سُفين وخَرْجٍ ** ومُكُوسٍ وكلُّ صاحب عُشْر ) فإنما ذكر أبا رِغال وهو الذي يرجم الناس قبره إذا أتوا مَكة وكان وجّهه صالحٌ النبي صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون على صدقات الأموال فخالف أمره وأساءَ السِّيرة فوثَب عليه ثقيف وهو قَسِيُّ بن مُنَبِّه فقتله قتْلاً شنيعاً وإنما ذلك لسوء سيرته في أهل الحرم فقال غيلان بن سلمة وذكر قَسوة أبيه على أبي رغال : نحنُ قسِيٌّ وقَسا أبونا وقال أُميّة بنُ أبي الصَّلت : ( نفوْا عن أرْضِهمْ عدْنانَ طُرّاً ** وكانوا للقبائل قاهِرِينا ) ( وهم قتلوا الرئيس أبا رغال ** بنخلة إذ يسوق بها الظعينا )
وقال عمرو بن دراك العبدي ، وذكر فجور أبي رغال وخبثه ، فقال : ( وإني إن قطعت حِبال قيسٍ ** وحَالَفْتُ المزُونَ على تمِيمِ ) ( لأعْظَمُ فَجْرةً مِنَ أبي رِغالٍ ** وأجْوَرُ في الحكومةِ من سَدُومِ ) وقال مسكينٌ الدارميّ : ( وأرجُمُ قَبْرَهُ في كلِّ عامٍ ** كرَجْمِ النّاس قَبْرَ أبي رغالِ ) وقال عُمرُ بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه لَغَيلان بن سلَمة حين أعتق عبده وجعل ماله في ) رِتاج الكَعْبة : لئن لم تَرْجِعْ في مالك ثمَّ مُتَّ لأرجُمَنّ قبرك كما رُجِم قبرُ أبي رِغال وكلاماً غير هذا قد كلّمه به .
المنكب والعريف وأما قوله : ( مَنْكِبٌ كافرٌ وأشْرَاطُ
سَوْءٍ ** وعَريفٌ جزاؤُه حَرُّ جَمْرِ ) فإنما ذهب إلى أحكام الإسلام كأنه قد كان
لقى من المَنْكِب والعَرِيف جهْداً وهم ثلاثة : مَنْكِب ونقيب وعَريف وقال
جُبَيْهاءُ الأشجعيُّ : ( رعاع عاونَتْ بَكْراً علَيْه ** كما جُعِل العريفُ على
النَّقِيبِ ) الغول والسعلاة ( وتزوّجْتُ في الشَّبيبةِ غُولاً ** بغزال وصَدْقَتي
زقُّ خَمْرِ ) فالغُول اسمُ لكلِّ شيءٍ من الجن يعرضُ للسُّفّار ويتلوّنُ في ضُروب
الصُّور والثِّياب ذكراً كان أو أنثى إلاّ أنّ أكثر كلامهم على أنّه أنثى .
وقد قال أبو المطْراب عُبيدُ بن أيُّوبَ العنبريّ : (
وحالَفْتَ الوحوشَ وحالَفْتني ** بقرب عُهودهنّ وبالبعادِ ) ( وأمْسَى الذِّئبُ
يرصُدُني مِخشّاً ** لخفّةِ ضربتي ولضعف آدي ) ( وغُولاَ قفرةٍ ذكرٌ وأنثى ** كأنّ
عَلَيْهمَا قِطعَ البجادِ ) فجعل في الغِيلان الذَّكرَ والأُنثى وقد قال الشَّاعر
في تلوُّنها : ( فما تدوم على حالٍ تكون بها ** كما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ
) فالغول ما كان كذلك والسِّعلاة اسم الواحدة من نساء الجن إذا لم تتغوَّل لتفتِنَ
السُّفّار .
قالو : وإنما هذا منها على العَبث أو لعلّها أن تفزّع
إنساناً جميلاً
فتغيِّرَ
عقله فتداخِلَه عند ذلك لأنّهم لم يُسلَّطوا على الصَّحيح العقل ولو كان ذلك إليهم
لبدؤوا بعليّ بن أبي طالب وحمزَة بن عبد المطلب وبأبي بكر وعُمر في زَمانهم
وبغيلان والحسن في دهرهما وبواصل وعمرو في أيامهما . ( وساخرة منِّي ولو أنّ عَينَها **
رأتْ ما أُلاقيهِ من الهوْلِ جُنّتِ
) ( أزلُّ وسِعلاةٌ وغولٌ بقَفْرةٍ ** إذا اللّيل وارَى
الجنَّ فيه أرنّتِ )
وهم إذا رأوا المرأة حديدة الطّرف والذِّهن سريعة الحركة
ممشوقة مُمَحَّصة قالوا : سعلاة وقال الأعشى :
( ورجال قَتْلى بجنْبَيْ أريكٍ ** ونساءٍ كأنهنَّ السَّعالي )
تزاوج الجن والإنس
ويقولون : تزَّوج عمرو بن يربوعٍ السّعلاة وقال الرَّاجز : ( يا قاتلَ اللّهُ بني السّعلاةِ ** عمرو بن يَربوعٍ شِرارَ النَّاتِ ) وفي تلوُّن الغُول يقول عَبَّاسُ بنُ مرداسٍ السُّلَميُّ : أصابَت العام رِعلاً غولُ قومهم وَسْطَ البُيوتِ ولوْنُ الغُولِ ألوانُ وهم يتأوَّلون قوله عز ذكره : وَشَارِكْهُمْ في الأََمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ .
وقوله عز وجل
: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا جَانٌّ قالوا
: فلو كان الجانّ لم يُصِب منهنَّ قَطّ ولم يأتهنّ ولا كان ذلك مما يجوز بين الجن
وبين النساء الآدميات لم يقل ذلك
.
وتأوَّلوا قوله عزّ وجل : وَأنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ
الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الجِنِّ فجعل منهنَّ النِّساء إذ قد جعل منهم
الرِّجال وقوله تبارك وتعالى : أَفَتَتَّخِذونَهُ وَذُرِّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ
دُونِي .
وزعم ابنُ الأعرابيّ قال : دعا أعرابيٌّ ربهُ فقال :
اللّهم إني أعوذُ بك منْ عفاريت الجن اللهمَّ لا تُشْرِكهمْ في ولدي ولا جسدي ولا
دمي ولا مالي ولا تُدخلهم في بيتي ولا تجعَلُهمْ لي شركاء في شيءٍ من أمر الدنيا
والآخرة .
قال أبو عبيدة : فقيل له : لمَ تدعو بهذا الدُّعاء قال
: وكيف لا أدعو به وأنا أسمعُ أيُّوب النبي واللّه تعالى يخبر عنه ويقول : واذكُرْ
عَبْدَنا أيُّوب إذْ نادى رَبّهُ أَنِّي مَسَّنيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وعَذابٍ حتى
قيل له : اركُضْ بِرجْلِكَ هذا
مُغْتَسَلٌ باردٌ وَشرابٌ وكيف لا أستعيذ باللَّه منه وأنا أسمع اللّه يقول :
الَّذين يأْكُلونَ الرِّبا لا يَقومُون إلاّ كما يقُومُ الَّذي يَتَخبَّطُهُ
الشَّيْطانُ من المَسِّ وأسمعه يقول : وإذْ زَيَّن لَهُمُ الشَّيْطانُ أعمالَهُمْ
وقالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وإنِّي جارٌ لَكُمْ فلما رأى
الملائكة نكص على عقبيه كما قال اللّه عزّ ذكره : فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ
نَكصَ على عَقِبيْهِ وقَالَ إنّي بَريءٌ مِنكمْ إنّي أرى مَا لا تَرَوْنَ وقد
جاءهم في صورة الشَّيخ النّجدي وكيف لا أستعيذ بالله منه وأنا أسمع الله عز ذكره
يقول : ولقَدْ جَعَلْنا في السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيّنَّاهَا لِلنَّاظِرينَ
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شيْطانٍ رَجِيمٍ إلاَّ منِ اسْتَرقَ السَّمْعَ
فأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبينٌ وكيف
)
لا أستعيذ باللّه منه وأنا أسمع اللّه تعالى يقول :
ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَوَاحُها شَهْرٌ وأسلْنا لَهُ عيْنَ
الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَديْهِ بإذْنِ ربِّهِ ثم قال :
يَعْمَلَونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحاريبَ وتماثيلَ وجفانٍ كالجوابِ
وقُدُورٍ
راسِياتٍ وكيف لا أدعو بذلك وأنا أسمع اللّه تعالى يقول : قال عِفْريتٌ مِنَ
الجِنِّ أنا آتِيكَ بهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وإنّي عَلَيْه لقويٌّ
أمِينٌ .
وكيف لا أقول ذلك وأنا أسمع اللّه عزّ وجلَّ يقول : ربِّ
اغْفِرْ لي وَهَبْ لي مُلْكاً لا يَنْبغي لأحدٍ مِنْ بَعْدي إنَّكَ أنْتَ
الْوهّابُ فسخَّرْنا لهُ الرِّيحَ تَجْري بِأمْرهِ رُخاءً حَيْثُ أصابَ
والشَّياطينَ كُلَّ بَنّاءٍ وغَوَّاصٍ وآخرِينَ مُقرَّنينَ في الأصفادِ .
تزيد الأعراب وأصحاب التأويل في أخبار الجن
والأعراب يتزيّدون في هذا الباب وأشباهُ الأعراب يغلطون فيه وبعضُ أصحابِ التأويل يجوّز في هذا الباب ما لا يجوز فيه وقد قلنا في ذلك في كتاب النُّبُوّات بما هو كافٍ إن شاء اللّه تعالى .
مذاهب الأعراب وشعرائهم في الجن
وسيقع هذا الباب والجواب فيه تامّاً إذا صرنا إلى القول في الملائكة وفي فرق ما بين الجن والإنس وأما هذا الموضع فإنما مَغْزانا فيه الإخبارُ عن مذاهب الأعراب وشعراءِ العرب ولولا العلم بالكلام وبما يجوز مما لا يجوز لكان في دون إطباقهم على هذه الأحاديث ما يغلط فيه العاقل .
قال عُبيدُ بن أيُّوب وقد كان جَوَّالاً في مجهول الأرض
لمَّا اشتد خوفه وطال تردُّدُه وأبعد في الهرب : ( لقد خِفْتُ حتَّى لو تمُرُّ
حَمامَةٌ ** لقُلْتُ عَدُوٌّ أو طلِيعَة مَعْشَرِ ) ( وخِفت خليلي ذا الصَّفاء
وَرَابَني ** وقيل فلان أو فلانة فاحذرِ ) ( فلله دَرُّ الغُول أيُّ رفيقةٍ ** لصاحِبِ قفْر
خائِفٍ متقتِّر ) ( أرنَّتْ بلحْن بعد لحن وأوقدَتْ ** حواليَّ نيراناً تلوح وتزهرُ ) (
وأصبحت كالوحْشيِّ يتبَعُ ما خلا ** ويترك مَأبُوسَ البلادِ المدَعْثَرِ ) وقال في
هذا الباب في كلمة له وهذا أولها
: ( أذِقني طَعْمَ الأمن أو سَلْ حقيقةًً ** عليَّ فإن
قامتْ ففصِّل بنانيا ) ( خلعتَ فؤادي فاستُطيرَ فأصبَحَتْ ** ترامى بي البيدُ القِفارُ
تراميا ) ( كأني وآجال الظِّباء بقفرةٍ ً ** لنا نسبٌ نرعاه أصبح دانيا )
( رأين ضئيلَ الشَّخْصِ يظهَرُ مَرَّةًً ** ويخْفَى مراراً ضامِرَ الجسم عاريا ) ( فأجْفَلنَ نفْراً ثمَّ قُلنَ ابنُ بلدةٍ ً ** قليلُ الأذى أمْسى لكُنَّ مُصَافيا ) ألا يا ظِباءَ الوَحْشِ لا تُشْهِرُنَّنيً وأخفِينني إذ كنتُ فِيكن خافيَا ( أكلت عُرُوق الشَّرْي مَعْكُنَّ والْتَوىً ** بحَلقي نَوْرُ القَفْرِ حتَّى وَرانيا ) ( وقد لقيتْ مني السِّباعُ بليّةًً ** وقد لاقت الغيلانُ مِنِّي الدّواهيا ) ( ومنهنّ قد لاقيت ذاك فلم أكُنْ ** دجباناً إذا هَوْلُ الجبان اعترَانيا ) ( أبِيتُ ضجيع الأسْوَدِ الجَون في الهُوَى ** كثيراً وأثناءُ الحشاش وسادِيَا )
( إذا هِجْن بي في جُحْرِهنَّ اكتنفننيً ** فليت سُلَيمانَ بن وَبْرٍ يرانيا ) ( فما زِلت مُذ كْنتُ ابن عشرين حِجةً ** أخا الحرب مَجْنيّاً عليَّ وجانيا ) ومما ذكر فيه الغيلان قولُه : ( نقول وقد ألممتُ بالإنس لَمَّةً ** مُخضَّبةُ الأطرافِ خُرْسُ الخلاخِلِ ) ( أهذا خليلُ الغُول والذِّئب والذي ** يهيمُ بِرَبّاتِ الحِجال الكوَاهلِ ) ( رَأتْ خَلقَ الأدراس أشْعَثَ شاحباً ** على الجدْب بَسَّاماً كريمَ الشَّمائلِ ) ( تعوَّدَ من آبائه فَتكاتِهم ** وإطعامَهُمْ في كلِّ غبْراء شامِلِ ) ( إذا صاد صيداً لفَّه بضرامِهِ ** وشيكاً ولم ينْظر لنَصْب المراجلِ ) ( ونهْساً كنَهْس الصقر ثم مِراسهُ ** بكفّيه رأسَ الشَّيخة المتمايل )
( فلم يسحب المِنديلَ بين جماعةٍ ** ولا فارداً مذ صاحَ بيْن القوابلِ ) ومما قال في هذا المعنى : ( علام تُرَى ليلى تعذِّب بالمُنى ** أخا قفَراتٍ كان بالذئب يأنسُ ) وصار خليل الغُول بَعْد عداوةٍ صَفيّاً وربّتهُ القفارُ البسابسُ ( فلولا رجالٌ يا مَنيعُ رأيتَهم ** لهم خُلقٌ عند الجوار حَمِيدُ ) ( لنالكُمُ مِني نكالٌ وغارةٌ ** لها ذنبٌ لم تدركُوه بعيدُ ) ( أقلَّ بنو الإنسان حتَّى أغرتمُ ** على من يثير الجنّ وهي هجودُ )
أخبار وطرف تتعلق بالجن
وقال ابن الأعرابي : وَعدت أعرابيَّةٌ أعرابيّاً أن يأتيها فكمن
في
عُشَرةٍ كانت بقربهم فنظر الزّوجُ فرأى شَبَحاً في العُشرَةَ فقال لامرأته : يا
هَنَتاهُ إنّ إنساناً لَيُطالعنا من العُشَرة قالت : مَهْ يا شيخُ ذاك جانُّ
العُشَرة إليك عنّي وعن ولَدِي قال الشيخ : وعنِّي يرحَمُك اللّه قالت : وعن أبيهم
إن هو غطَّى رأسه ورقد قال : ونام الشَّيخ وجاء الأعرابي فسَفَع برجليها ثمّ
أعطاها حتى رضيت .
وروى عن محمّد بن الحسن عن مُجالِد أو عن غيره وقال :
كنّا عند الشّعبي جُلوساً فمرَّ حمّالٌ على ظهره دَنّ خَلٍّ فلما رأى الشّعبيَّ
وضع الدّنّ وقال للشعبي : ما كان اسمُ امرأة إبليس قال : ذاك نكاحٌ ما شهدناه .
وأبو الحسن عن أبي إسحاق المالِكي قال : قال الحجاج
ليحيى بن سعيد بن العاص : أخبرني عبدُ اللّه بن هلال صديق إبليس أنّك تشبه إبليس
قال : وما ينكر أنْ يكون سيد الإنس يُشبه وروى الهيثم عن داود بن أبي هند قال :
سئل الشّعبي عن لحم الفيل فتلا قولَه عزّ ذكره : قُلْ لا أَجِدُ فيما أُوحِي إليّ
مُحَرَّماً على طاعِمٍ يطْعَمُهُ إلاَّ أنْ يكُونَ مَيْتَةً أوْ دمَاً مَسْفُوحاً
أوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ إلى آخر الآية وسُئل عن لحم الشَّيطان فقال : نحن نرضى منه
بالكَفَاف فقال له قائل : ما تقولُ في الذِّبّان قال : إن اشتهيته فكُلْهُ .
وأنشدوا قول أعرابي لامرأته : ألا تمُوتين إنا نبتغي
بدلاإن اللواتي يموِّتن الميامين ( أم أنت لازلتِ في الدنيا معَمَّرَةً ** كما
يُعَمَّر إبليسُ الشَّياطِين ) وقال أبو الحسن وغيرُه : كان سعيدُ بن خالد بن عبد
اللّه بن أسيد تصيبهُ مُوتة نصف سنة ونصفَ سنةٍ يصح فيحبو ويُعطي ويكسُو
ويَحمِل
فأراد أهلُه أنْ يعالِجُوه فتكلّمت امرأةٌ على لسانه فقالت أنا رُقيَّة بنت ملْحان
سيِّد الجنِّ واللّه أنْ لو علِمتُ مكانَ رجل أشرَف منه لعلِقْتُه واللّه لئن
عالجتموه لأقتُلنّه فتركوا علاجه .
وتقول العرب : شيطان الحمَاطة وغول القَفْرَة وجانُّ
العُشرَة وأنشد : ( فانصَلتَتْ لي مِثْلَ سعلاةِ العُشَرْ ** تروح بالوَيْل
وتَغْدُو بالغِيَرْ ) وأنشد : الغُملول : الخمرَ من الأرض اختبأ فيه هذا الرجل وضغب
ضغبة الأرنب ليفزعه ويوهمه أنّه
)
عامر لذلك الخمر .
رؤية الغيلان وسماع عزيف الجان
( من ادعى من الأَعراب والشعراء أنهم يرون الغيلان ويسمعون عزيف
الجان ) وما يشبهون بالجن والشياطين وبأعضائهم وبأخلاقهم وأعمالهم .
وأنشد
: ( كأنّه لَمَّا تدانى مَقْربُه ** وانقطعت أوْذامُه
وكُرَبُهْ ) ( وجاءت الخيلُ جميعاً تَذنِبُهْ ** شيطان جنّ في هواء يرقُبهْ ) أذنب
فانقضَّ عليه كوكبُهْ وأنشد : ( إنّ العُقَيليَّ لا تلقى له شَبهاً ** ولو صَبرْتَ
لتلقاه على العِيسِ ) ( بَيْنا تَراهُ عليه الخزُّ متَّكِئاً ** إذ مَرَّ يهدج في
خَيش الكرابيس )
( وقد تكنَّفَهُ غُرَّامُه زَمَناً ** أشباهُ جِنٍّ عكوفٍ حَوْل إبليسِ ) وهو الذي يقول : ( أصبحتَ مَا لَكَ غيرُ جِلْدِكَ تَلبَسُ ** قَطرَ السَّماء وأنْتَ عارٍ مُفْلِسُ ) وقال الخطفى : ( يَرْفَعْنَ بالليل إذا ما أسْدفَا ** أعْناقَ جِنَّانٍ وهاماً رُجَّفا ) وَعَنَقاً بعد الرسيم خيطفا
وأنشد ابنُ الأعرابي : ( غناءً كليبياً تَرَى الجنَّ تبتغي ** صَدَاهُ إذا ما آب للجشنِّ آيبُ ) وقال الحارث بن حلزة : ( ربُّنا وابننا وأَفضل منْ يَمْ ** شي ومَنْ دونَ ما لَديْه الثَّناءُ ) ( إرَميٌّ بمثْلهِ جالَتِ الج ** نُّ فآبتْ لخصْمها الأجْلاءُ ) وقال الأعشى : ( فإنِّي وما كَلَّفتُموني ورَبِّكم ** ليعلم من أمْسى أعَقَّ وأحْوَبا ) ( لكالثَّور والجْنيُّ يضربُ ظهْرَهُ ** وما ذنْبُه أنْ عافَتِ الماء مَشْربا )
وقال الزَّفيان العُوافيُّ واسمه عطاء بن أسِيد أحد بني
عُوافةَ بن سعد : وقال ذو الرُّمَّة : ( قد أعسِفُ النَّازحَ المجهُولَ مَعْسِفُه
** في ظلِّ أغْضَف يَدْعو هامَهُ البُومُ ) ( للجِنِّ باللّيل في حافاتها زَجَلٌ
** كما تناوَحَ يوم الريح عيشومُ
)
( داويّةٍ ودُجَى ليل كأنَّهما ** يَمٌّ تراطَنُ في حافاته الرُّومُ ) وقال : ( وكمْ عَرَّستْ بعد السُّرى من مُعَرَّس ** به من كلام الجن أصواتُ سامِرِ ) وقال : ( كمْ جُبْتُ دُونَكَ من يَهْماء مُظْلمةٍ ** تِيهٍ إذا ما مُغَنِّي جِنَّةٍ سَمَرا ) وقال : ( ورَمل عزيف الجنِّ في عَقِداتِه ** هزيزٌ كتضْرابِ المغنِّين بالطّبْلِ ) وقال :
( وتِيهٍ خَبَطْنا غَوْلها وارتمى بنا ** أبو البعد من أرجائها المتطاوحُ ) ( فلاةٌ لِصوت الجنِّ في مُنْكَراتها ** هزيزٌ وللأبوام فيها نوائحُ ) ( وطولُ اغتماسي في الدُّجى كلما دعت ** من اللَّيل أصداءُ المِتَانِ الصوائحُ ) ( بلاداً يبيتُ البومُ يدعُو بناتِه ** بها ومن الأصداءِ والجنِّ سامرُ ) وقال ذو الرمة : ( وللوحشِ والجِنّانِ كُلَّ عشِيةٍ ** بها خِلْفةٌ من عازفٍ وبُغامِ ) وقال الراعي : ( ودَاوِيّةٍ غبراءَ أكثرُ أهْلِها ** عزِيفٌ وبُومٌ آخِرَ الليل صائحُ )
( أقرّ بها جأشِي تأوُّل آيةٍ ** وماضي الحسام غمِدُه متصايحُ )
لطيم الشيطان
ويقال لمن
به لقوة أو شتَر إذا سُبَّ : يا لطيم الشيطان .
وكذلك قال عبيد اللّه بن زياد لعمرو بن سعيد حين أهوى
بسيفه ليطعنَ في خاصرة عبد اللّه بن معاوية وكان مستضعفاً وكان مع الضّحّاك فأسِرَ
فلمّا أهوى له السيفَ وقد استردفه عبيدُ اللّه واستغاث بعبيد اللّه قال عبيد اللّه
لعمرو : يدك يا لطيمَ الشيطان .
قولهم : ظل النعامة وظل الشيطان ويقال للرَّجُل المفرط
الطّول : يا ظلَّ النّعامة وللمتكبِّر الضخم : يا ظلَّ الشيطان كما قال الحجّاج
لمحمد بن سَعْد بن أبي وقاص : بينا أنت يا ظلَّ الشّيطان أشدُّ النَّاس كِبْراً
إذْ صِرتَ مؤذِّناً لفلان .
وقال جريرٌ في هجائه شَبّةَ بن عِقال وكان مُفْرط الطّول
: ( فَضَح المنابرُ يَوْمَ يَسْلَحُ قائماً ** ظِلُّ النّعامةِ شَبّةُ بنُ عِقالِ ) قولهم : ظل
الرمح فأما قولهم : مُنينا بيوم كظلِّ الرمح فإنّهم ليس يريدون به الطول فقط ولكنّهم
يريدون أنّه مع الطول ضيق غيرُ واسع
.
وقال ابن الطّثرية : ( ويَوْمٍ كظِلِّ الرُّمح قَصَّر
طُوله ** دَمُ الزِّقِّ عنّا واصطِفاقُ المَزَاهِرِ ) قال : وليس يوجد لظلِّ الشخص
نهاية مع طلوع الشّمس .
التشبيه بالجن
قال : وكان عمر بن عبد العزيز أوّلَ من نهى النّاسَ عن حمل
الصِّبيان على ظهور الخيل يوم الحَلبة وقال : تحمِلون الصِّبيان على الجِنَّان . ( إنسٌ إذا أمنوا جِنٌّ إذا فزعوا ** مُرزَّؤُونَ بهاليلٌ إذا حَشدوا ) وأنشدوا : ( وقلتُ واللّه لنَرحَلنّا ** قلائصاً تحسِبهنَّ جنا ) وقال ابن ذي الزوائد : ( وَحَوْلي الشَّوْلُ رُزَّحاً شُسُباً ** بَكِية الدَّرِّ حينَ تُمْتَصَرُ )
( ولاذَ بي الكلبُ لا نُباحَ له ** يهِرُّ مُحْرنْجماً وينجَحِرُ ) ( بُحُورُ خَفْضٍ لمنْ ألمَّ بهِمْ ** جِنٌّ بأرماحِهمْ إذا خطروا ) وأنشدوا : ( إنِّي امرؤٌ تابعَني شيطانِيَه ** آخيتهُ عُمْرِي وقد آخانِيه ) ( يشْرَبُ في قَعْبي وقد سقانِيَه ** فالحمدُ للّه الذي أعطانِيَه ) ( قرْماً وخُرْقاً في خُدودٍ واضيه ** تربَّعَتْ في عُقدٍ فالماويه ) ( َبقلاً نَضِيداً في تِلاعٍ حاليه ** حتّى إذا ما الشّمْسُ مَرَّتْ ماضيه ) ( قام إليها فتيةٌ ثمانيه ** فثوَّروا كلَّ مَرِيٍّ ساجيَه )
أخلافها لِذي الأكف مالِيَه وقال ابنُ الأعرابي : قال لي أعرابي مَرّة مِن غنيٍّ وقد نزلت به قال : وهو أخفُّ ما نزلتُ به و أطيَبُه فقلت : ما أطيب ماءكم هذا وأعْذى منزلكم قال : نعم وهو بعيدٌ من الخَير كله بعيد من العراق واليمامة والحجاز كثير الحيات كثير الجنان فقلت : أتَروَنَ الجن قال : نعم مكانُهم في هذا الجبل وأشار بيدهِ إلى جبل يقال له سُواج قال : ثمَّ حدَّثني بأشياء .
شعر فيه ذكر الجن
وقال عبيد بن أوس الطائي في أخت عَدي بن أوس :
( هلْ جاءَ أوساً ليلتي ونعيمها ** ومقامُ أوْسٍ في الخِباء الْمُشْرَجِ ) ( ما زِلتُ أطوي الجِنّ أسمع حِسَّهُمْ ** حَتّى دَفَعْتُ إلى ربيبة هودجِ ) ( فوضعت كفِّي عند مقطع خَصْرِها ** فَتَنَفّستْ بُهْراً ولمَّا تنهجِ ) ( فتناولتْ رأْسي لِتعرفَ مَسّهُ ** بمخضّبِ الأطرافِ غيرِ مُشنّجِ ) ( قالتْ بعَيْشِ أخي وحُرمة والدي ** لأُنَبِّهَنَّ الحيّ إنْ لم تخرجِ ) ( فخرجتُ خيفةَ قومها فتبسَّمَتْ ** فعلمْتُ أنّ يمينها لم تلججِ ) ( فلثمْت فاهاً قَابضاً بقُرونِها ** شُرْبَ النَّزيفِ ببرْدِ ماء الحشْرَج )
( ذَهَبْتُمْ فعُذْتمُ بالأمير وقُلْتُمُ ** تركْنا أحاديثاً ولحماً مُوضعاً ) ( فما زَادَني إلاّ سناءً ورِفعة ** ولا زادكُمْ في القوم إلاّ تخشّعا ) ( فما نفرتْ جِنِّي ولا فُلَّ مِبردِي ** وما أصبحت طيري من الخوفِ وُقَّعَا ) وقال حسّانُ بنُ ثابت في معنى قولِه : وللّه لأضربنَّه حتَّى أنزع من رأسِه شيطانه فقال : ( وداوِيةٍ سَبسَبٍ سَمْلَقٍ ** مِنَ البيِد تَعْزِفُ جنّانُها ) ( قطَعْتُ بِعَيْرانةٍ كالفَنِي ** قِ يَمْرَحُ في الآل شَيْطانُها ) فجمع في هذا البيت تثبيت عزيف الجن وأنَّ المراح والنشاط والْخُيلاء والغرب هو شيطانُها
وأبينُ منْ ذلك قولُ منظور بن رواحة : ( أتاني وأهْلي بالدِّماخ فغمرةٍ ** مَسبُّ عويفِ اللؤم حيَّ بني بدرِ ) ( فلمّا أتاني ما يقولُ ترقّصت ** شياطينُ رأسي وانْتشْينَ من الخَمْرِ )
من المثل والتشبيه بالجن
ومن المثَل والتّشبيه قولُ أبي النّجم : ( وقام جِنِّيُّ السَّنام الأميَلِ ** وامْتَهَدَ الغاربَ فِعْلَ الدُّمَّلِ ) ( بهَجْلٍ من قساً ذفِر الخُزامَى ** تداعى الجربياءُ به الحنينا )
( تكسَّر فوقه القَلَعُ السَّوارِي ** وجُنَّ الخازِبازِ به جُنونا ) وقال الأعشى : ( وإذا الغيثُ صَوْبُه وضع القِدْ ** حَ وجُنَّ التِّلاعُ والآفاقُ ) ( لم يزدهم سفاهَةً شُرُبُ الْخمْ ** رِ ولا اللهوُ بينهُم والسِّباق ) وقال النابغة : ( وخَيِّس الجِنَّ إنِّي قد أذِنْتُ لَهُمْ ** يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ )
ما يزعمون أنه من عمل الجن
وأهلُ
تدمُر يزعمون أنّ ذلك البناء بُنيَ قبل زمن سليمان عليه السلام بأكثرَ مما بيننا
اليوم وبين سليمان بن داود عليهما السلام قالوا : ولكنّكم إذا رأيتمْ بنياناً
عجيباً وجهلتم موضع الحِيلة فيه أضفْتُموه إلى الجنِّ ولم تعانوه بالفكر .
وقال العَرْجيُّ : ( سدّتْ مسامِعها بفرْجِ مراجِل **
مِنْ نَسْج جِنٍّ مثله لا يُنسَجُ
)
وقال الأصمعيُّ : السيوف المأثورة هي التي يقال إنها من عمل الجن والشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام فأمّا القوارير والحمامات فذلك ما لا شك فيه وقال البعيث : ( بَنَى زِيادٌ لذِكْرِ الله مَصْنَعَةً ** من الْحِجارة لم تُعملْ من الطِّينِ ) ( كأنَّها غير أنّ الإنسَ ترفَعُها ** مما بنتْ لسليمانَ الشياطينُ ) وقال المقنَّع الكِنْديُّ : ( وفي الظّعائِنِ والأحْداجِ أمْلَحُ منْ ** حَلَّ العِراقَ وَحَلَّ الشامَ واليَمنَا ) ( جِنِّيّةٌ مِنْ نِسَاءِ الإنسِ أحسَنُ مِنْ ** شَمْسِ النّهارِ وبَدْرِ اللّيلِ لو قُرِنَا ) ( مَكتومةُ الذكرِ عندي ما حيِيتُ له ** قَدْ لَعَمْري مَلِلتُ الصَّرمَ والحَزَنَا ) وقال أبو النَّجم : ) ( أدرك عقلاً والرهان عمله ** كأنّ تُرْبَ القاع حينَ تَسحَلُه ) صيقُ شياطينَ زَفَتْهُ شَمْألهْ
وقال الأعشى في المعنى الأوّل من بناء الشياطين لسليمان بن داود عليهما السلام : ( أرى عَادِيا لمْ يمنع الموْتَ رَبُّه ** ووَرْدٌ بتيماءِ اليهوديِّ أبلقُ ) ( بناهُ سُليمانُ بنُ داودَ حِقْبةً ** له جَنْدَلٌ صُمٌّ وطيٌّ موثَّقُ ) وكما يقولون : قنفذ بُرْقة وضبُّ سحاً وأرنب الخلَّة وذئب خَمر فيفرقون بينها وبينَ ما ليست كذلك إمَّا في السِّمن وإمّا في الخُبث وإمَّا في القوة فكذلك أيضاً يفرقون بين مواضع الجن فإذا نَسبُوا الشّكل منها إلى موضعٍ معروف فقد خَصُّوه من الخُبث و القُوة والعَرامة بما ليس لجملتهم وجمهورهم قال لبيد :
( غُلْب تَشَذّرُ بالذُّحولِ كأنّها ** جنُّ البَدِيِّ رواسِياً أقدامُها ) وقال النّابغة : ( سهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهُمْ ** تحتَ السَّنَوَّرِ جِنَّةُ البقّارِ ) وقال زهير : ( عَلَيْهِنَّ فِتْيانٌ كَجِنّةِ عَبقرٍ ** جديرون يوماً أن يُنيفوا فيَسْتعلوا ) وقال حاتم : ( عليهنّ فِتْيانٌ كَجِنّة عبقر ** يهزُّون بالأيدي الوشِيجَ المقوّما ) ولذلك قيل لكلِّ شيء فائق أو شديدٍ : عبقري .
وفي الحديث في صفة عمر رضي اللّه عنه فلم أر عبقريّاً
يفري فَرِيّه قال أعرابي : ظلمني واللّه ظُلماً عبقريّاً .
ثمَّ ينزلون الجن في مراتب فإذا ذكروا الْجِنِّيَّ
سالماً قالوا : جني فإذا أرادوا أنّه ممن سكن مع النَّاس قالوا : عامر والجميع
عُمّار وإنْ كان ممن يعرض للصبيان فهُمْ أرواح فإن خبُث أحدُهم وتعرَّم فهو شيطان
فإذا زاد على ذلك فهو مارد قال اللّه عز ذكره : وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
ماردٍ فإن زاد على ذلك في القوَّة فهو عفريت والجميع عفاريت قال اللّه تعالى : قال
عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أنَا آتيكَ بِهِ قبْلَ أنْ تَقْومَ منْ مقامِك .
وهم في الجملة جنٌّ وخوافي قال الشاعر : )
ولا يُحَسُّ سِوى الخافي بها أثرُ
فإن طهَرَ
الجني ونَظُف ونَقِيَ وصار خيراً كلُّه فهو مَلَك في قول من تأول قوله عز ذكره :
كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ على أنّ الجنَّ في هذا الموضع
الملائكة .
وقال آخرون : كان منهم على الإضافة إلى الدّار والدّيانة
لا على أنّه كان من جنْسهم وإنّما ذلك على قولهم سليمان بن يزيد العدوي وسليمان بن
طرْخان التّيمي وأبو علي الحرمازي وعَمْرو بن فائد الأسواري أضافوهم إلى المحالّ
وتركوا أنسابهم في الحقيقة .
استطراد لغوي وقال آخرون : كلُّ مُستْجِنٍّ فهو جِنّيٌّ
وجانّ وجنين وكذلك الولدُ قيل له جنينٌ لكونه في البطْن
( ولا شمْطاءُ لم تَدعِ المنايا ** لها منْ تِسْعَةٍ إلاّ جنينا
) يُخبر أنّها قد دَفَنَتْهُم كلُّهم
.
قالوا : وكذلك الملائكة من الحَفَظة والحمَلة
والكَرُوبيِّينَ فلا بدّ من طبقات وربُّما فُرِّق بينهم بالأعمال واشتُقَّ لهم
الاسمُ من السّبب كما قالُوا لواحدٍ من الأنبياء : خليل اللّه وقالوا لآخر : كليم
اللّه وقالوا لآخر : روح اللّه
. 4
مراتب الشجعان
والعرب تُنزل
الشُّجعاء في المراتب والاسم العامُّ شجاع ثمَّ بطلَ ثم بُهْمة ثم أليَس هذا قول
أبي عبيدة .
فأمّا قولهم : شيطان الحماطة فإنّهم يعنون الحيّة وأنشد
الأصمعي : ( تُلاعِبُ مَثْنى حَضْرَميٍّ كأنّهُ ** تَعمُّجُ شيطان بذي خِرْوَع قَفْرِ )
وقد
يُسَمُّون الكِبر والطغيان والخُنْزُوانة والغضبَ الشّديدَ شيطاناً على التّشبيه
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه : والله لأنزِعَنّ نُعْرتَه ولأضربنَّه حتى
أنزع شيطانه من نخرته .
مراتب الجن والأعراب تجعل الخوافِي والمستجِنّات من قبل
أن ترتِّب المراتب جنسين يقولون جِنّ وحنّ بالجيم والحاء وأنشدوا : ( أبيتُ أهْوي
في شياطينَ تُرِنّ ** مختلفٍ نجواهمُ حِنٌّ وجنّ ) ويجعلون الجِنّ فوق الحنّ وقال
أعشى سليم : ) ( فما أنا منْ جِنٍّ إذا كنتُ خافياً ** ولستُ من النَّسْناسِ في
عنصُرِ البَشَرْ )
ذهب إلى
قول من قال : البشر ناسُ ونسناس والخوافي حنّ وجنّ يقول : أنا من أكرم الجِنسين
حيثما كنت .
شيطان ضعفة النُّسّاك والعباد وضَعَفة النسّاك وأغبياءُ
العُبّاد يزعمون أنّ لهم خاصّة شيطاناً قد وُكِّل بهم ويقال له المذهِب يُسْرِج
لهم النِّيران ويُضيء لهم الظُّلْمة ليفتنهم وليريهم العجب إذا ظنُّوا أنّ ذلك من
قِبَل اللّه تعالى .
شيطان حفظة القرآن وفي الحديث أنّ الشّيطانَ الذي قد
تفرّد بحفظة القرآن يُنْسِيهم القرآن يسمى خَنْزَب وهو صاحب عثمان بن أبي العاص .
الخابل
والخبل
قال : وأما الخابل والخَبَل فإنما ذلك اسمٌ للجنّ الذين
يخبلون النّاسَ بأعيانهم دون غيرهم وقال تناوح جِنّان بهنَّ وخُبَّلُ كأنّه أخْرج
الذين يخبلون ويتعرَّضون ممّن ليس عنده إلاّ العزيف والنّوح وفصل أيضاً لبيدٌ
بينهم فقال : ( أعاذلُ لو كان النِّداد لقُوتلوا ** ولكنْ أتانا كُلُّ جنّ وخابلِ
) وقد زعم ناسٌ أنَّ الخبلَ والخابل ناس قالوا : فإذا كان ذلك كذلك فكيف يقول أوس
بن حجر : تناوح جِنّان بهن وخُبّلُ 4
استطراد لغوي
قالوا : وإذا تعرّضَت الجنّيّة وتلوَّنتْ وعَبِثت فهي شيطانة ثم غُول والغُول في كلام العرب الدَّاهية ويقال : لقد غالَتْهُ غول وقال الشاعر :
( تقول بيتي في عِزّْ وفي سعَةٍ ** فقدْ صدقْتَ ولكنْ أنت مدخولُ ) ( لا بأسَ بالبَيْتِ إلاّ ما صنعت به ** تَبْني وتَهْدِمُه هدّاً له غولُ ) وقال الرَّاجز : ( تَقْلِبُ للأوتارِ والذُّحُولِ ** حِملاقَ عَيْنٍ ليس بالمكْحُولِ )
زواج الأعراب للجن
ومن قول الأعراب أنهم يظهرون لهم ويكلِّمونهم ويناكحونهم ولذلك قال شمر بن الحارث الضّبي : ( ونارٍ قد حضأتُ بُعَيْدَ هَدْءٍ ** بدارٍ لا أُريدُ بها مُقامَا ) ( سِوى تَحْليلِ راحلةٍ وعينٍ ** أُكالئُها مخافَة أنّ تناما )
( أتَوْا نَارِي فقلتُ منونَ قالوا ** سراةُ الجنِّ قلتُ عِموا ظلاما ) ( فقُلْتُ إلى الطَّعامِ فقالَ مِنْهُمْ ** زعيمٌ نحسد الإنسَ الطَّعاما ) وذكر أبو زيدٍ عنهم أن رجلاً منهم تزوج السِّعلاة وأنها كانت عنده زماناً وولدت مِنْه حتَّى رأت ذات ليلةٍ بَرْقاً على بلاد السَّعالي فطارَتْ إليهنّ فقال : ( رأى بَرْقاً فأوْضعَ فوقَ بَكْرٍ ** فلا بكِ ما أسال وما أَغامَا ) فمن هذا النِّتاج المشترك وهذا الخلْقِ المركَّب عندهم بنو السِّعلاة من بين عمرو بن يربوع وبلقيسُ ملكة سبأ وتأوَّلوا قول الشاعر :
( سقط : بيت الشعر ) ( لا هم إن جرهما عبادكا ** الناس طرف وهم
تلادكا ) فزَعموا أن أبا جُرهمٍ من الملائكة الذين كانوا إذا عصوا في السَّماء
أُنزلوا إلى الأرض كما قيل في هاروت وماروت فجعلوا سُهيلاً عشّاراً مُسِخ نجماً
وجعلوا الزُّهرة امرأة بغيّاً مُسِخت نجماً وكان اسمها أناهيد .
وتقول الهند في الكوكب الذي يسمّى عُطارِدَ شبيهاً بهذا .
المخدومون ويقول الناس : فلانٌ مخدوم يذهبون إلى أنّه
إذا عَزَم على الشَّياطين والأرواح والعُمَّار أجابوه وأطاعوه منهم عبد اللّه بن
هلال الحميريّ الذي كان يقال له صديق إبليس ومنهم كرباش الهنديّ وصالح المديبري .
شروط إجابة العامر للعزيمة وقد كان عبيد مُجّ يقول : إن
العامِر حريصٌ على إجابة العزيمة ولكنّ البدنَ إذا لم يصلُحْ أن يكون له هيكلاً لم
يستطعْ دخوله والحيلةُ في ذلك أن يتبخَّرَ باللبان الذّكر ويراعي سَيْرَ المشتري
ويغتسلَ بالماء القراح ويدعَ الجماعَ وأكلَ الزُّهُومات ويتوحّش في الفيافي ويُكثر
دخول الخراباتِ حتى يرقَّ ويلطف ويصفو ويصير فيه مشابِهُ من الجنّ فإن عزم عند ذلك
فلم يُجب فلا يعودنّ )
لمثلها فإنه ممَّن لا يصلح أن يكون بدنه هيكلاً لها ومتى
عاد خُبط فربما جُنّ وربما مات
.
قال فلو كنت ممن يصلح أن يكون لهم هيكلا لكنت فوق عبد
الله بن هلال .
رؤية الجن
قال
الأعراب : وربما نزلنا بجمعٍ كثير ورأينا خياماً وقباباً وناساً ثم فقدناهم من
ساعتنا .
والعوامّ ترى أنّ ابن مسعود رضي اللّه عنه رأى رجالاً من
الزُّطِّ فقال : هؤلاء أشبه من رأيت بالجنّ ليلة الجنّ .
قال : وقد رُوي عنه خلاف ذلك .
وتأوّلوا قوله تعالى : وأنَّه كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ
يَعُوذُونَ بِرجالٍ مِنَ الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهَقاً ولم يُهلك الناس كالتأويل .
ومما يدلُّ على ما قُلنا قولُ أبي النّجم حيث يقول :
بحيثُ تُستنُّ مع الجنّ الغُولُ فأخرج الغول من الجِنّ للذِي بانَتْ به من الجنّ .
وهكذا عادتهم : أن يُخرجوا الشيء من الجملة بعد أنْ
دخَلَ ذلك الشيء في الجملة فيظهر لأمر خاصّ .
وفي بعض الرِّواية أنهم كانوا يسمعون في الجاهلية من
أجواف الأوثان همهمةٍ وأن خالد بن الوليد حين هدم العُزَّى رمته بالشّرَر حتى
احترق عامّةُ فخذه حتى عادهُ النبيَ صلى الله عليه وسلم .
وهذه فتنةٌ لم يكن اللّه تعالى ليمتحنَ بها الأعراب
وأشباه الأعراب من العوامّ وما أشك أنه قد كانتْ للسَّدنة حِيَلٌ وألطاف لمكان
التكسُّب .
ولو سمعت أو رأيت بعض ما قد أعدّ الهِنْدُ من هذه
المخاريق في بيوت عباداتهم لعلمت أنّ اللّه تعالى قد مَنَّ على جملة الناس
بالمتكلِّمين الذين قد نشؤوا فيهم
.
افتتان بعض النصارى بمصابيح
كنيسة قمامة وقد تَعْرِف ما في عجايز النصارى وأغمارهم من الافتنان بمصابيح كنيسة قمامة فأما علماؤُهم وعقلاؤُهم فليسوا بمتحاشِين من الكذب الصِّرف والجراءةِ على البُهتان البَحْت وقد تعوَّدُوا المكابرة حتى درِبوا بها الدَّرب الذي لا يفطن له إلا ذو الفِراسة الثّابتة والمعرفة الثّاقبة .
إيمان الأعراب بالهواتف
والأعرابُ وأشباهُ الأعراب لا يتحاشَون من الإيمان بالهاتف بل يتعجَّبون ممن ردَّ ذلك فمن ذلك حديث الأعشى بن نبّاش بن زرارة الأسدي أنه سمع هاتفاً يقول : قال : فقلتُ مجيباً له : ( ألا أيُّها الناعي أخا الجود والنّدَى ** مَن المرْءُ تَنْعاهُ لنا من بين فِهْرِ ) فقال : ( نَعيْت ابن جدْعان بن عمروٍ أخا النَّدى ** وذا الحسب القُدْمُوس والحسب القهرِ )
وهذا
الباب كثير .
قالوا
: ولنَقل الجنّ الأخبارَ علمَ الناس بوفاةِ الملوك
والأمور المهمة كما تسامعُوا بموت المنصور بالبصرة في اليوم الذي تُوفي فيه بقرب
مكة وهذا الباب أيضاً كثير . ( من له رَئيٌّ من الجن ) وكانوا يقولون : إذا ألف الجنّي
إنساناً وتعطَّف عليه وخبّره ببعض الأخبار وجد حِسّه ورأى خياله فإذا كان عندهم
كذلك قالوا : مع فلان رئَيٌّ من الجن وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لُحيّ بن قَمَعة
والمأمور الحارثي وعتيبة بن الحارث بن شهاب في ناسٍ معروفين من ذوي الأقدار من بين
فارس رئيس وسيِّد مُطاع .
فأما الكهّان : فمثل حارثة جهينة وكاهنة باهلة وعُزّى
سلمة ومثل شِقّ وسَطيح وأما العرّاف وهو دون الكاهن فمثل الأبلق الأسدي والأجلح
الزهري وعروة ابن زيد الأسدي وعرّاف اليمامة رباح بن كَحْلة
وهو صاحب
بنت المستنير البلتعي وقد قال الشاعر : ( فقلت لعراف اليمامة داوِني ** فإنَّك إنّ
أبْرَأتني لَطبِيبُ ) وقال جُبَيهاء الأشجعيّ : ( أقامَ هَوى صفيَّة في فؤادي **
وقد سيَّرتُ كلَّ هوى حبيبِ ) ( لكِ الخيراتُ كَيْفَ مُنِحتِ وُدِّي ** وما أنا
مِنْ هَواكِ بذي نَصيبِ ) ( أقول وعروةُ الأسديُّ يرقي ** أتاك برُقْيةِ المَلِق الكذوبِ ) (
لَعَمْرُك ما التّثاؤبُ يا ابن زيدٍ **
بشافٍ من رُقاك ولا مُجيبِ ) ( لَسَيْرُ النّاعجات أظنُّ
أشفى ** لما بي منْ طبيب بني الذَّهوبِ
)
وليس البابُ الذي يدّعيه هؤلاء من جنس العيافة والزّجر
والخطوط والنّظر في أسرار الكفّ وفي مواضع قرض الفار وفي الخيلان في الجسد وفي
النظر في الأكتاف والقضاء بالنجوم والعلاج بالفكر .
وقد كان مُسيلمة يدّعي أن معه رئيّاً في أوّل زمانه
ولذلك قال الشّاعر حين وَصَفَ مخاريقه وخُدَعه :
( سقط : بيت الشعر ) ( ببيضة قارور وراية شادن ** وخلة جني وتوصيل طائر ) ألا تراه ذكر خُلّة الجني .
ظهور الشق للمسافرين
ويقولون :
ومن الجنِّ جنسٌ صورةُ الواحدِ منهم على نصف صورة الإنسان واسمه شٍ قّ وإنّه
كثيراً ما يعرض للرّجُل المسافر إذا كان وحْدَه فرَّبما أهلَكه فزعاً وربما أهلَكه
ضرباً وقتلاً .
قالوا : فمن ذلك حديثُ علقمة بن صفْوان بن أميَّة بن
محرِّث الكناني جدّ مروان بن الحكم خرج في الجاهلية وهو يريد مالاً له بمكة وهو
على حمار وعليه إزارٌ ورداء ومعه مِقْرعة في ليلةٍ إضْحِيانة حتى انتهى إلى موضعٍ
يقال له حائط حزمان فإذا هو بشقّ له يدٌ ورجل وعينٌ ومعه سيف وهو يقول : ( عَلْقمُ
إني مقتولْ ** وإن لحمي مأكولْ
)
( أضْربُهُمْ بالهذْلولْ ** ضربَ غلامٍ شُملولْ ) رحبِ الذَّراع
بُهلولْ فقال علقمة : ( يا شِقَّها مالي ولك ** اغمِدَ عنِّي مُنْصُلك ) فقال شِقّ
: ( عَبيت لك عَبيتُ لك ** كيما أُتِيحَ مَقْتلك ) فاصبر لما قَدْ حُمَّ لَكْ قال : فضرب
كلُّ واحدٍ منهما صاحبه فخرَّا ميِّتين فممَّن قتلت الجنّ علقمةُ ابن صفوان هذا
وحَرْب بن أميّة .
قالوا : وقالت الجنّ : ( وقَبْرُ حَرْبٍ بمكانٍ قفر **
وليس قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُِ
)
قالوا : ومن الدَّليل على ذلك وعلى أنَّ هذين البيتين من
أشعار الجن أن أحداً لا يستطيع أن ينشدَهما ثلاث مراتٍ متصلة لا يَتتَعْتع فيها
وهو يستطيع أن يُنشد أثْقل شعر في الأرض وأشقَّه عشْر مرّات ولا يَتَعْتَعُ . ( ذكر من قتلته
الجنّ أو استهوته ) قال : وقتلت مِرْداسَ بن أبي عامر أبا عبّاس بن مرداسٍ وقتلت
الغريضَ خنْقاً بعد أن غنَّى بالغناء الذي كانوا نهَوه عنه وقتلت الجنُّ سعد بن
عُبادة بن دُلَيم وسمعوا الهاتف يقول
:
( سقط : بيت الشعر ) ( قد قتلنا سيد الخز ** ج سعد بن عباده ) (
رَمَيْناه بِسَهمين ** فَلَمْ نُخْطِ فُؤادَهُ ) واستهوَوا سِنانَ بن أبي حارثة
ليستفحلوه فمات فيهم واستهووا طالب بن أبي طالب فلم يوجد له أثرٌ إلى يومنا هذا .
واستهووا عَمرو بن عَدِيٍّ اللَّخميّ الملك الذي يقال
فيه : شَبّ عَمْرٌ و عن الطّوق ثمَّ ردُّوه على خاله جذيمة الأبرش بعد سنين
وسنين .
واستهوَوا عمارة بن الوليد بن المغيرة ونفخوا في إحليله
فصار مع الوحش .
ويروون عن عبد اللّه بن فائد بإسنادٍ له يرفعه أنّ النبي
صلى الله عليه وسلم قال : خرافة رَجُل من عُذْرةَ استهوتْه الشّياطين وأنّه تحدَّث
يوماً بحديثٍ فقالت امرأةٌ من نسائه : هذا من حديث خُرافة قال : لا وخُرافةُ حقٌّ .
طعام الجن
ورووا عن عُمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أنّه سأل المفقود الذي استهوته الجن : ما كان طعامهم قال : الفول قال : فما كان شرابهم قال : الجدف .
ورووا أن طعامهم الرِّمة وما لم يذكر اسمُ اللّه عليه .
ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح أنه قال
: خَمِّروا آنيتكم وأوكئوا أسقيتكم وأجيفُوا الأبواب وأطفئوا المصابيح واكفُفُوا
صِبيانكم فإن للشّياطين انتشاراً وخَطْفة
رؤوس الشياطين
وقد قال
الناس في قوله تعالى : إنّها شَجَرةٌ تَخْرُجُ في أصْلِ الجحيمِ طلْعُها كأَنَّهُ
رُؤُوس الشَّياطِين فزعم ناس أنّ رؤوس الشياطين ثمر شجرةٍ تكون ببلاد اليمن لها
منظر كرِيه .
والمتكلّمون لا يعرفون هذا التَّفسير وقالوا : ما عنى
إلاّ رؤُوس
الشياطين
المعروفين بهذا الاسم من فَسَقة الجن ومَرَدتهم فقال أهل الطَّعن والخلاف : كيف
يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نرَه فنتوهَّمه ولا وُصِفت لنا صورته في كتابٍ ناطق أو
خبر صادق ومخرج الكلام يدلُّ على التخويف بتلك الصُّورة والتفزيع منها وعلى أنّه
لو كان شيءٌ أبلغَ في الزَّجر من ذلك لذكَرَه فكيف يكون الشَّأن كذلك والناس لا
يفزعون إلاّ من شيء هائل شنيعٍ قد عاينوه أو صوّره لهم واصفٌ صدوقُ اللسان بليغٌ
في الوصف ونحن لم نعاينها ولا صوَّرها لنا صادق وعلى أنَّ أكثر الناس من هذه الأمم
التي لم تعايشْ أهل الكتابين وحَمَلَة القرآن من المسلمين ولم تسمع الاختلاف لا
يتوهَّمون ذلك ولا يقفون عليه ولا يفزعون منه فكيف يكون ذلك وعيداً عاماً .
قلنا : وإن كنّا نحن لم نر شيطاناً قطّ ولا صوّر رؤوسها
لنا
صادقٌ
بيده ففي إجماعهم على ضرْب المثل بقُبح الشيطان حتَّى صاروا يضعُون ذلك في مكانين
: أحدهما أن يقولوا : لهو أقبح من الشيطان والوجه الآخر أن يسمَّى الجميلُ شيطاناً
على جهة التطيُّر له كما تُسمَّى الفرسُ الكريمةُ شَوهاء والمرأة الجميلة صَمّاء
وقرناء وخَنْساء وجرباء وأشباه ذلك على جهة التطيُّر له ففي إجماع المسلمين والعرب
وكلِّ من لقيناهُ على ضرْب المثل بقُبْح الشيطان دليلُ على أنه في الحقيقة أقبحُ
من كل قبيح .
والكتابُ إنَّما نزل على هؤلاء الذين قد ثبّت في طبائعهم
بغاية التثبيت .
وكما يقولون : لهو أقبحُ من السحر فكذلك يقولون كما قال
عمر بن عبد العزيز لبعض من )
أحسنَ الكلام في طلب حاجته هذا واللّه السِّحر الحلال .
وكذلك أيضاً ربّما قالوا : ما فلانٌ إلا شيطان على معنى
الشَّهامة والنَّفاذ وأشباه ذلك
.
صفة الغول والشيطان والعامّة تزعم أنَّ الغول تتصوَّر في
أحسن صورة إلا أنه لا بدَّ أن تكون رِجْلُها رجلَ حمارٍ .
وخبَّروا عن الخليل بن أحمد أنّ أعرابيّاً أنشده : (
وحافر العَير في ساقٍ خَدَلَّجةٍ ** وجفنِ عينٍ خلاف الإنسِ في الطولِ ) وذكروا
أنّ العامَّة تزعم أنّ شقَّ عين الشيطان بالطول وما أظنُّهم أخذوا هذين المعنين
إلاّ عن الأعراب .
ردّ على أهل الطعن في الكتاب وأما إخبارهم عن هذه الأمم
وعن جهلها بهذا الإجماع والاتِّفاق والإطباق فما القول في ذلك إلاّ كالقول في
الزَّبانِية وخزنةِ جهنَّم وصُورِ الملائكة الذين يتصوّرون في أقبح الصُّور إذا
حضروا لقبْض أرواحِ الكفار وكذلك في صور مُنكر ونكير تكون للمؤمن على مثال وللكافر
على مثال .
ونحن نعلم أنّ الكفار يزعمون أنهم لا يتوهّمون الكلامَ
والمحاجَّةَ من إنسان ألقي في جاحِم أتُّون فكيف بأن يُلَقى في نار جهنّم فالحجّة
على جميع هؤلاء في جميع هذه الأبواب من جهةٍ واحدة وهذا الجوابُ قريبٌ والحمد للّه .
وشقُّ فم العنكبوت بالطول وله ثماني أرجل .
سكنى الجن أرض وبار
ِ ) وتزعم الأعرابُ أن اللّه عزّ ذكره حين أهلك الأُمة التي كانت تسمَّى وبارِ كما أهلك طسْماً وجَدِيساً وأميماً وجاسماً وعملاقاً وثموداً وعاداً أنَّ الجنّ سكنت في منازلها وحمتها من كلِّ مَنْ أرادها وأنّها أخصبُ بلاد اللّه وأكثرها شجراً وأطيبُها ثمراً وأكثرها حبّاً وعنباً وأكثرها نخلاً وموزاً فإن دنا اليومَ إنسانٌ من تلك البلاد متعمِّداً أو غالطاً حَثوا في وجهه التراب فإن أبى الرُّجوعَ خبلوه وربّما قَتلوه .
والموضع نفسه باطل فإذا قيل لهم : دُلُّونا على جهته
ووقِّفونا على حدِّه وخلاكُم ذمٌّ زعموا أنّ من أراد أُلقي على قلبه الصَّرْفة
حتَّى كأنهم أصحابُ موسى في التِّيه وقال الشاعر : ( وداعٍ دعا واللَّيلُ مرخٍ
سُدوله ** رجاءَ القِرى يا مُسْلِمَ بن حمارِ ) ( دعا جُعَلاً لا يهتدِي لمقيله **
من اللؤم حتّى يهْتدي لوَبَارِ ) فهذا الشاعرُ الأعرابيُّ جعل أرض وبارِ مثلاً في
الضلال والأعراب يتحدّثون عنها كما يتحدّثون عمّا يجدونه بالدَّوِّ والصَّمّان
والدهناء ورمل يبرين وما أكثر ما يذكرون أرض وبارِ في الشِّعر على معنى هذا الشاعر .
قالوا : فليس اليومَ في تلك البلاد إلاَّ الجنُّ والإبلُ
الحُوشيَّة .
الحوشية من الإبل والحوشُ من الإبل عندهم هي التي ضربتْ
فيها فحولُ إبل الجن فالحوشِيَّة من نَسْل إبل الجن
جَرَّت رَحانا من بلاد الحوشِ وقال ابن هريم : ( كأنّي على حُوشيَّةٍ أو نَعامةٍ ** لها نَسبٌ في الطَّيرِ وهو ظليمُ ) وإنما سمَّوا صاحبة يزيد بن الطَّثرية حُوشيّة على هذا المعنى . ( التحصُّن من الجنّ ) وقال بعضُ أصحاب التفسير في قوله تعالى : وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ من الإنسِ يَعُوذونَ بِرِجالٍ من الْجِنِّ فزادُوهُمْ رَهقاً : إنَّ جماعة من العرب كانوا إذا صاروا في تيه من الأرض وتوسَّطوا بلاد الحُوش خافوا عبث الجنَّانِ والسَّعالي والغيلان والشياطين فيقوم أحدهم فيرفع صوته : إنا عائذرن بسيِّد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحدٌ وتصير لهم بذلك خفارة .
أثر عشق الجن في الصرع
وهم يزعمون أن المجنون إذا صرعَتْه الجنّيّةُ وأنّ المجنونةَ إذا صرعها الجنيّ أنّ ذلك إنما هو على طريق العشْق والهوى وشهوة النِّكاح
وأن
الشيطان يعشق المرأة منّا وأنَّ نظْرته إليها من طريق العُجب بها أشدُّ عليها من
حُمّى أيام وأنّ عين الجانّ أشدُّ من عين الإنسان .
قال :
وسمع عمرو بن عُبيد رضي اللّه عنه ناساً من المتكلّمين
يُنْكِرون صَرْع الإنسان للإنسان واستهواء الجنّ للإنس فقال وما ينكرون من ذلك وقد
سمعوا قول اللّه عزّ ذكره في أكَلة الرِّبا وما يصيبهم يوم القيامة حيث قال : الَّذينَ
يأْكُلُونَ الرِّبا لا يقومُون إلاّ كما يَقُومُ الَّذي يَتَخبَّطهُ الشَّيْطانُ
منَ المَسِّ ولو كان الشَّيطانُ لم يَخْبِطْ أحداً لما ذكر اللّه تعالى به أكلة
الرّبا فقيل له : ولعلّ ذلك كان مرّةً فذهب قال : ولعله قد كثر فازداد أضعافاً قال
: وما يُنكرون من الاستهواء بعد قوله تعالى : كالَّذي استهْوَتْهُ الشّياطينُ في
الأرض حَيْرانَ .
زعم العرب أن الطاعون طعن من الشيطان قال : والعرب تزعم
أن الطاعون طعنٌ من الشيطان ويسمُّون الطَّاعون رماح الجنّ قال الأسديُّ للحارث
الملك الغسّاني :
( لَعَمْركَ ما خَشيتُ على أُبيٍّ ** رِماحَ بني مُقيِّدة
الحمارِ ) ( ولكني خَشيت على أُبيٍّ ** رِماحِ الجنِّ أو إياكَ حارِ ) يقول : لم أكن أخاف على
أُبيّ مع منعته وصرامته أن يقتله الأنذال ومن يرتبط العير دونَ الفَرس ولكني إنما
كنت أخافك عليه فتكونُ أنت الذي تطعَنه أو يطعَنه طاعونُ الشّام .
وقال العُمانيّ يذكر دولة بني العبّاس : وقال زيد بن
جُندب الإياديّ : ( ولولا رِماحُ الجنِّ ما كان هزهم ** رِماح الأعادي من فصيح
وأعجم )
ذهب إلى قول أبي دؤاد : ( سُلِّط الموتُ والمنونُ عليهم
** فلهم في صَدى المقابر هامُ ) يعني الطاعون الذي كان أصاب إياداً .
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر
الطَّاعون فقال : هو وَخْزٌ من عَدُوِّكم : وأنَّ عَمْرو بن العاص قام في النّاس
في طاعون عَمَواس فقال : إنّ هذا الطاعون قد ظهر وإنما هو وخْزٌ من الشَّيطان
ففِرُّوا منه في هذه الشِّعاب .
وبلغ مُعاذ بن جبَلٍ فأنكر ذلك القول عليه . ( تصور الجنّ
والغيلان والملائكة والناس ) وتزعم العامَّة أنّ اللّه تعالى قد مَلّك الجن والشياطين
والعُمَّار والغيلانَ أنْ يتحوّلوا في أيِّ صورة شاؤوا إلاّ الغول فإنّها تتحوَّل
في جميع صُورة المرأة ولباسها إلاّ رجليها فلا بُدَّ من أن تكون رجليْ حمار .
وإنما قاسُوا تصوُّر الجن على تصوُّر جبريل عليه السلام
في صورة دَحْية بن خليفة الكلبي وعلى تصوُّر الملائكة الذين أتوا مريم وإبراهيم
ولوطاً وداود عليهم السلام في صورة الآدميِّين وعلى ما جاء في الأثر من تصوُّر
إبليس في صورة سُراقة بن مالك بن جعْشم وعلى تصوّره في صورة الشيخ النجدي وقاسوه
على تصوُّر مَلَكَ الموت إذا حضر لقبض أرواح بني آدم فإنه عند ذلك يتصوّر على قدر
الأعمال الصالحة والطالحة .
قالوا : وقد جاء في الخبر أنّ من الملائكة من هو في صورة
الرِّجال ومنهم من هو في صورة الثِّيران ومنهم من هو في صورة النسور ويدلُّ
على ذلك
تصديقُ النبي صلى الله عليه وسلم لأميّة بن أبي الصّلت حين أُنشِد : ( رَجُلٌ وثَوْرٌ تحت
رِجْلِ يمينه ** والنَّسْر للأُخرى ولَيْثٌ مُرْصدُ ) قالوا : فإذ قد استقام أن
تختلف صُورهم وأخلاط أبدانهم وتتفق عقولهم وبيانهم واستطاعتهم جاز أيضاً أن يكون
إبليس والشّيطان والغول أن يتبدلوا في الصُّور من غير أنْ يتبدلوا في العقل
والبيان والاستطاعة .
قالو : وقد حوَّل اللّه تعالى جعفر بن أبي طالب طائراً
حتى سماه المسلمون الطّيّار ولم يخرجْه ذلك من أن نراه غداً في الجنة وله مثلُ عقل
أخيه علي رضي اللّه عنهما ومثل عقل عمه حمزة )
أحاديث في إثبات الشيطان
قالوا :
وقد جاء في الأثر النهي عن الصّلاة في أعطان الإبل لأنّها خلقت من أعنان الشياطين .
وجاء أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهى عن الصَّلاة
عند طلوع الشَّمس حتى طلوعها فإنّها بين قرني شيطان .
وجاء أنَّ الشياطين تُغلّ في رمضان .
فكيف تنكر ذلك مع قوله تعالى في القرآن : والشَّياطينَ
كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاص وآخَرينَ مُقَرَّنينَ في الأصفادِ .
ولشهرة ذلك في العرب في بقايا ما ثبتوا عليه من دين
إبراهيم عليه السّلام قال النابغة الذبياني : ( إلا سُلَيمانَ إذْ قال الإلهُ لَهُ
** قُم في البَرِيَّةِ فاحْددْها عن الفَنَد ) ( وخيِّس الجِنَّ إنِّي قدْ أذِنتُ
لَهُمْ ** يَبْنُون تَدْمُر بالصُّفَّاح والعمدِ ) ( فمنْ عصاك فعاقِبْهُ مُعاقبةً
** تنهى الظّلوم ولا تقْعد على ضمدِ ) وجاء في قتل الأسود البهيم من الكلاب وفي ذي
النُّكْتتين
وفي الحية
ذات الطُّفْيتين وفي الجانّ .
وجاء : لا تشربوا من ثُلمة الإناء فإنَّه كِفْل
الشَّيطان وفي العاقد شَعره في الصلاة : إنَّه كِفْل الشيطان وأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : تراصُّوا بينكم في الصلاة لا تتخللكم الشّياطين كأنّها بنات
حذف وأنَّه نهى عن ذبائح الجن .
ورووا : أن امرأة أتتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت : إنّ ابني هذا به جنونٌ يصيبه عند الغداء والعَشَاء قال : فمسح النبيُّ صلى
الله عليه وسلم صدْرَه فثعَّ ثعة فخرج من جوفه جروٌ أسود يسعى .
قالوا : وقد قضى ابن عُلاثة القاضي بين الجنّ في دم كان
بينهم بحكمٍ أقنعهم .
رجع إلى تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى
تفسير قصيدة البهّراني : أما قوله : ( وتزوّجْتُ في الشبيبة غولاً ** بغزال
وصَدْقتي زِقُّ خمرِ ) فزعم أنه جعل صداقها غزالاً وزِقَّ خمر فالخمر لطيب الرائحة
والغزالُ لتجعله مَرْكباً فإنّ الظَّباء من مراكب الجن . )
وأما قوله : ( ثيِّبٌ إن هَوِيتُ ذلك منها ** ومتى شئتُ
لم أجِدْ غير بِكرِ )
شياطين الشعراء
وأما قوله : ( بنت عَمْرٍ و وخالها مِسحل الخي ** ر وخالي هُميمُ صاحب عَمْرِو ) فإنهم يزعمون أنّ مع كلِّ فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحلُ على لسانه الشعر فزعم البهراني أنّ هذه الجنّية بنت عمرو صاحب
المخبَّل
وأن خالها مِسْحل شيطان الأعشى وذكر أن خاله هُمَيم وهو همّام وهمّام هو الفرزدق
وكان غالبُ بن صعصعة إذا دعا الفرزدق قال : يا هميم .
وأما قوله : صاحب عمرو فكذلك أيضاً يقال إن اسم شيطان
الفرزدق عمرو وقد ذكر الأعشى مِسْحلاً حين هجاه جُهُنَّام فقال : ( دَعَوْتُ خليلي
مِسْحلاً ودعَوا له ** جُهُنّامَ جَدْعاً للهجين المذَمَّمِ ) وذكره الأعشى فقال : ( حباني أخي
الجنِّيُّ نفسي فداؤُه ** بأفْيَحَ جَيَّاشِ العَشيّات مِرْجمِ ) وقال أعشى سُليم :
( سقط : بيت الشعر ) ( وما كان جني الفرزدق قدوة ** وما كان فيهم مثل فحلي المخبل ) ( وما في الخوافي مثل عَمْرو وشيخِهِ ** ولا بعدَ عمرو شاعرٌ مثلٌ مِسْحلِ ) وقال الفرزدق في مديح أسد بن عبد اللّه : ( ليُبلغَنّ أبا الأشبال مِدْحتنا ** مَنْ كان بالغُورِ أو مَرْوَيْ خُراسانا ) ( كأنّها الذَّهب العقْيانُ حبّرها ** لسانُ أشْعر خلْقِ اللّه شيطانا ) وقال : ( فلو كنْتَ عنْدي يوم قوٍّ عذرْتني ** بيوم دهتْني جِنُّهُ وأخابلُه ) فمن أجل هذا البيت ومن أجل قول الآخر : ( إذا ما راعَ جارَتهُ فلاقى ** خبالَ اللّه منْ إنس وجِنِّ ) زعموا أنّ الخابل النّاس .
ولما قال بشّار الأعمى : ) ( دعاني شِنِقْناقٌ إلى
خَلْفِ بكرةٍ ** فقلتُ : اتركنِّي فالتفرُّدُ أحمدُ ) يقول : أحمدُ في الشعر أن لا
يكون لي عليه معين فقال أعشى سُليم يردُّ عليه : ( إذا ألِفَ الجنّيُّ قِرداً
مُشَنّفاً ** فقل لخنازير الجزيرةِ أبْشري ) فجزِع بشّارٌ من ذلك جزعاً شديداً
لأنّه كان يعلم مع تغزُّله أنَّ وجهه وجْهُ قردٍ وكان أوّل ما ( ويا أقبحَ مِن
قِرْدٍ ** إذا ما عَمِيَ القِرْدُ ) وأما قوله : ( ولها خِطَّةٌ بأرض وبار ** مسَحُوها
فكان لي نصْفُ شطرِ ) فإنما ادّعى الرُّبع من ميراثها لأنه قال :
( تركتْ عَبْدلاً ثمالَ اليتامى ** وأخوه مزاحم كان بكر ) ( وَضَعَتْ تِسْعةً وكانتْ نَزوراً ** من نِساءٍ في أهْلِها غير نُزْرِ ) وفي أنَّ مع كلِّ شاعر شيطاناً يقول معه قول أبي النجم : ( إني وكلّ شاعر من البَشرْ ** شيطانه أنْثى وشَيطاني ذكر ) وقال آخر : ( إني وإن كنتُ صغير السِّنّ ** وكان في العين نُبُوٌّ عنِّي ) فإنّ شيطاني كبير الجنِّ
كلاب الجن
وأما قول عمرو بن كلثوم : فإنهم يزعمون أنّ كلاب الجنِّ هم الشعراء .
أرض الجن
وأما قوله : ( أرض حُوشٍ وجاملٍ عَكَنَانٍ ** وعُروجٍ من المؤبّلِ دَثْر )
فأرض الحوش هي أرضُ وَبارِ وقد فسَّرنا تأويل الحوش والعَكَنَان : الكثير الذي لايكون فوقه عدد قوله : عروج جمع عَرْج والعَرْج : ألف من الإبل نقص شَيئاً أوْ زاد شيئاً والمؤبّل من الإبل يقال إبل مؤبَّلة ودراهم مُدَرهمة وبدَر مبدَّرة مثل قوله تعالى : وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَة وأما قوله : دثر فإنهم يقولون : مال دَثر ومالٌ دَبْر ومال حَوْم : إذا كان كثيراً .
استراق السمع
وأما قوله
: ( ونَفَوْا عَنْ حريمها كلَّ عِفْر ** يسرقُ السَّمعَ كلَّ ليلةِ بَدْرِ )
فالعِفْر هو العفريت وجعله لا يسرق السمع إلا جهاراً في أضوإ ما يكون البدر من
شدَّة معاندته وفرط قوته .
وأما قوله : ( في فُتُوٍّ من الشَّنقناق غُرٍّ ** ونِساء
من الزَّوابعِ زُهْرِ )
الزوابع :
بنو زَوْبعة الجنِّيّ وهم أصحاب الرَّهج والقَتَام والتَّثوير وَقال راجزهم : (
إنّ الشياطين أَتوْني أربعهْ ** في غَبَش الليل وفيهم زَوبعه ) فأما شِنِقناق
وشَيْصَبان فقد ذكرهما أبو النجم : لابن شنقْناق وشَيْصَبَانِ فهذان رئيسان ومن
آباء القبائل وقد قال شاعرهم : ( إذا ما ترَعْرَعَ فينا الغلامُ ** فليس يقال له
من هُوَهْ ) ( إذا لم يَسُدْ قبل شدِّ الإزار ** فذلك فينا الذي لا هُوَهْ ) ( ولي
صاحبٌ من بني الشَّيصبا ** ن فطوراً أقولُ وطوراً هُوَهْ )
وهذا البيت أيضاً يصلح أن يلحق في الدَّليل على أنهم
يقولون : إن مع كلِّ شاعر شيطاناً ومن ذلك قولُ بشَّار الأعمى : ( دَعاني
شِنِقْناقٌ إلى خَلْف بَكرَةٍ ** فقلت : اترُكَنِّي فالتَّفَرُّدُ أحَمدُ ) قال :
وأصحاب الرُّقى والأُخذ والعزائم والسِّحر والشَّعبذة
يزعمون
أنّ العدد والقوّة في الجنِّ والشياطين لنازلة الشام والهند وأنَّ عظيم شياطين
الهند يقال له : تنكوير وعظيم شياطين الشام يقال له : دركاذاب .
وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد بن يَسِير حين ادّعى
هذه الصناعة فقال : ( قد لعمْرى جمعت مِلْ آصفيّا ** تِ ومن سفْر آدم والجرابِ ) (
وتفردتَ بالطوالق والهي ** كل والرهنباتِ من كلِّ بابِ )
( وعلمتَ الأسماء كيما تُلاقى ** زُحلاً والمريخَ فوق السحابِ ) ( واستثرتَ الأرواح بالبحْر يأت ** ينَ لصرعِ الصحيح بعدَ المصابِ ) ( جامعاً من لطائف الدنهشيَّا ** تِ كبوسا نمقتها في كتابِ ) ( ثمَّ أحكمت متقن الكرويا ** ت وفعل الناريس والنجابِ ) ( ثمَّ لم تعْيك الشعابيذ والخد ** مةُ والاحتفاء بالطلابِ ) ( بالخواتيم والمناديل والسع ** يِ بتنكوير ودركاذابِ ) قتل الغول بضربة واحدة وأما قوله : فإنّ الأعرابَ والعامّة تزعُم أن الغول إذا ضربت ضَربةً ماتت إلاّ أن يُعيد عليها الضّارب قبل أن تقْضي ضربة أخرى فإنّه إن فعل ذلك لم تمُتْ وقال شاعرهم :
( فَثنّيتُ والمِقدارُ يحرُسُ أهلَهُ ** فَلَيْتَ يميني قبل ذلك شلّتِ ) وأنشد لأبي البلاد الطُّهَويّ : ( لهَانَ علَى جهينةً ما أُلاقي ** من الروعاتِ يومَ رحَى بطانِ ) ( لقيتُ الغول تسرِى في ظلامٍ ** بسهبٍ كالعباية صحصحانِ ) ( فقلتُ لها كلانا نقض أرضٍ ** أخُو سفَر فصدِّى عن مَكانى ) ( فصدتْ وانتحيتُ لها بعضبٍ ** حسامٍ غيرِ مؤتشبٍ يمانى ) ( فقدّ سَراتها والبرك منها ** فخرتْ لليدين وللجران ) ( فقالت زدْ فقلتُ رويدَ إنِّى ** على أمثالها ثبتُ الجنانِ ) ( شددتُ عقالها وحططت عنها ** لأنظرَ غدوةً ماذا دهانى ) ( إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ** كوجْه الهرِّ مشقوق اللسانِ ) ( ورجلا مخدجٍ ولسانُ كلبٍ ** وجلدٌ من فراءِ أو سنانِ )
وأبو
البلاد هذا الطهوي كان من شياطين الأعراب وهو كما ترى يكذِب وهو يَعلَم ويُطيل (
فقالت زِدْ فقلتُ رُوَيْد إنّي ** على أمثالها ثَبْتُ الجَنانِ ) لأنّهم هكذا
يقولون يزعمون أنّ الغول تستزيد بعد الضَّرْبة الأولى لأنّها تموت من ضربةٍ وتعيشُ
من ألْف ضرْبة . ( مناكحة
الجنِّ ومحالفتهم ) وأمّا قوله : ( غلبتني على النَّجابة عرسي ** بعد أنْ طالَ في
النجابة ذكري ) ( وأرى فِيهِمُ شمائِل إنسٍ ** غيرَ أنّ النّجارَ صُورةُ عِفرِ )
فإنَّه يقول : لما تركّب الولدُ منّي ومنها كان شبهُها فيه أكثر .
وقال عبيد بن أيُّوب : ( أخو قَفراتٍ حَالَفَ الجِنَّ
وانتفى ** مِنَ الإنْس حتّى قد تَقَضّتْ وسائلُهْ )
( له نَسَبُ الإنسيّ يُعرَفُ نَجْلُه ** وللجِنِّ منه خَلْقه
وشمائلُه ) وقال : ( وصارَ خليلَ الغُول بَعدَ عداوةٍ ** صَفِيّاً وربَّتْه القِفَارُ
البسابسُ ) ( يظلُّ ولا يبدوُ لشيءٍ نهارَه ** ولكنّه ينْباعُ واللّيْلُ دامِس )
قال : وقال القَعقاع بنُ مَعْبَد بن زُرارة في ابنه عوف بن القعقاع : واللّه لما أرى
من شمائل الجنّ في عوف أكثر ممّا أرَى فيه من شمائل الإنس .
وقال مَسلمة بن محارب : حدّثني رجلٌ من أصحابنا قال :
خرجنا في سَفرٍ ومعنا رجُلٌ فانتهينا إلى واد فدعَوْنا بالغَدَاء فمدّ رجلٌ يدَه
إلى الطعام فلم يقدر عليه وهو قبْلَ ذلك يأكلُ معَنا في كلِّ منزل فاشتدّ اغتمامنا
لذلك فخرجنا نسأل عن حاله فتلقَّانَا أعرابيٌّ فقال : ما لكم )
فأخبرناه خبَر الرَّجُل فقال : ما اسم صاحبكم قلنا : أسد
قال : هذا وادٍ قد أخِذَتْ سباعه فارحلوا فلو قد جاوزتم الواديَ استمرَى الرَّجُل وأكَل .
مراكب الجن
وأمَّا قوله : ( وبها كنتُ راكباً حشراتٍ ** مُلجِماً قُنفُذاً ومُسْرجَ وَبْر ) ( وأجوبُ البلادَ تحتيَ ظبيٌ ** ضاحكٌ سنُّه كثيرُ التمرِّي ) ( مُولجٌ دُبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ ** وهو باللّيل في العفاريت يَسري ) وأنشد ابنُ الأعرابي لبعض الأعراب : ( كلَّ المطايا قد ركبنا فلم نجد ** ألَذَّ وأشهى مِنْ مذاكي الثَّعالبِ ) ( وَمِنْ عنظوان صعبةٍ شمّرية ** تَخُبُّ برجْليها أمام الرَّكائبِ )
( ومنْ جُرَذٍ سُرْح اليدين مفرَّج ** يعوم برَحْلي بين أيدِي المراكب ) ( ومنْ فارةٍ تزداد عِتْقاً وحدّةً ** تبرِّح بالخوصِ العِتاقِ النَّجَائبِ ) ( ومنْ كلِّ فتْلاء الذِّراعَينِ حُرَّة ** مدَرَّبة من عافيات الأرانبِ ) ( ومنْ وَرَل يغتالُ فضْلَ زِمامِهِ ** أضَرَّ به طول السُّرى في السَّباسِبِ ) قال ابنُ الأعرابي : فقلت له : أترى الجن كانت تركبُها فقال : أحلِفُ باللّه لقد كنتُ أجد بالظِّباء التَّوقيعَ في ظهورها والسِّمة في الآذان وأنشد :
( كلّ المطايا قد ركبنا فلم نجدْ ** ألذَّ وأشْهَى من رُكوب
الجَنادِبِ ) ( ومنْ عَضْرفوط حطَّ بي فأقمتهُ ** يبادِرُ وِرداً من عظاءٍ قواربِ
) ( وشرُّ مطايا الجنِّ أرْنبُ خُلّةٍ ** وذئبُ الغضا أوقٌ على كلِّ صاحبِ ) ( ولم
أر فيها مِثْلَ قُنفُذ بُرْقةٍ ** يَقُودَ قطاراً منْ عظام العناكبِ ) وقد فسَّرنا
قولهم في الأرانب لم لا تركب وفي أرنب الخَلّة وقنفذ البُرْقة .
وحدثني أبو نُواس قال : بكرتُ إلى المِربَد ومعي ألواحي
أطلبُ أعرابيّاً فصيحاً فإذا في ظلِّ دار جعفر أعرابيٌّ لم أسمع بشيطان أقبَحَ منه
وجهاً ولا بإنسان أحسنَ منه عقلاً وذلك في يومٍ لم أر كبرده برداً فقلتُ له :
هلاَّ قعدت في الشمس فقال : الخَلْوة أحبُّ إليّ فقلت له
مازحاً :
أرأيت القنفذَ إذا امتطاه الْجِنيُّ وعلا به في الهواء هل القنفذ يحمل الجنِّيّ أم
الجنّيّ يحمل القنفذ قال : )
هذا من أكاذيب الأعراب وقد قلت في ذلك شعراً قلت
فأنشِدْنيه فأنشَدَني بعد أن كان قال لي : قلت هذا الشعر وقد رأيت ليلة قنفذاً
ويربوعاً يلتمسان بعض الرِّزق : ( فما يُعجبُ الجنَّانَ منك عَدِمتَهم ** وفي
الأُسْد أفراسٌ لهم ونجائبُ ) ( أتُسرِج يربوعً وتُلجِم قُنفذاً ** لقَدْ
أعوزَتهُمْ ما علمْتَ المراكِبُ ) ( فإن كانت الجنّانُ جُنّت فبالحَرى ** ولا
ذَنْبَ للأقدار واللّه غالبُ ) ( وما الناس إلا خادعٌ ومخدَّعٌ ** وصاحبُ إسْهَابٍ
وآخر كاذب ) قال : فقلت له : قد كان ينبغي أن يكون البيت الثالث والرابع بيت آخر
قال : كانت واللّه أربعين بيتاً ولكنَّ الحطمة واللّه حَطمتها قال : فقلت : فَهلْ
قلت في هذا الباب غير هذا قال :
نعم شيءٌ ُ قلتُهُ لزوجتي وهو واللّه عندها أصدقُ شيءٍ قلتُه لها : ( أراه سَميعاً للسِّرارِ كقنفذٍ ** لقد ضاع سِرُّ اللّه يا أمَّ مَعْبدِ )
شعر فيه ذكر الغول
ويكتب مع شعر أبي البلاد الطُّهوي : ( فمن لامَني فيها فَوَاجَه مِثلَها ** على غِرَّةٍ ألقَت عطافاً ومئزرا ) ( لها ساعِدَا غُولٍ ورجلا نعامةٍ ** ورأسٌ كمسْحاة اليهُوديِّ أزعَرَا ) ( وبَطْنٌ كأثناء المزادةِ رَفّعتْ ** جوانبُه أعكانَه وتَكَسَّرا )
( وثدْيان كالخُرْجين نيطت عُرَاهُما ** إلى جُؤجُؤٍ جاني الترائب أزْوَرَا ) قال : كان أبو شيطان واسمه إسحاق بن رَزِين أحد بني السِّمط سِمْط جعدة ابن كعب فأتاهم أميرٌ فجعل ينْكُب عليهم جَوراً وجعل آخر من أهل بلده ينقب عليهم : أي يكون عليهم نقيباً . فجعل يقول : ( يا ذا الذي نَكَبَنَا ونَقَبَا ** زَوّجَهُ الرَّحمن غُولاً عقْرَبا ) ( جمّع فيها ماله ولبْلَبا ** لبالب التّيس إذا تَهَبْهبَا ) ( حتَّى إذا ما استطربَتْ واستطرَبَا ** عاينَ أشنا خَلقِ ربّيزرْنبَا ) ذات نواتين وسَلعٍ أُسْقِبَا
يعني فرجها ونواتها . يقول . لم تختن .
جنون الجن وصرعهم
وأما قوله : فإنْ كانت الجِنّان جُنّتْ فبالَحرى فإنهم قد يقولون في مثل هذا وقد قال دَعْلجُ بن الحكم : ( وكيف يفِيق الدهرَ كعبُ بنُ ناشبٍ ** وشيطانه عِندَ الأهلَّة يُصْرَعُ ) شعر فيه ذكر الجنون وأنشدني عبد الرحمن بن منصور الأُسَيْديِّ قبل أن يُجَنَّ : ( جُنونكَ مجنونٌْ ولستَ بواجِدٍ ** طَبيباً يُداوِي منْ جُنونِ جُنونِ ) وأنشدني يومئذ : ( أتَوني بمجْنون يَسِيلُ لُعابُهُ ** وما صاحبي إلا الصَّحيحُ المسَلَّمُ ) وفيما يشبه الأولَ يقولُ ابن ميَّادة :
( فلما أتاني ما تقُولُ محاربٌ ** تَغَنَّتْ شياطيني وجُنَّ جُنونُها ) ( وحاكتْ لها ممّا أقول قصائداً ** ترامَتْ بها صُهْبُ المَهارِي وجُونُها ) ( إنّ شَرخَ الشّبابِ والشّعرَ الأَس ** ودَ ما لم يُعاصَ كان جُنونا ) وقال الآخر : ( قالت عَهِدْتُك مجنوناً فقلتُ لها ** إنّ الشّبابَ جُنُونٌ بُرؤُه الكِبَرُ ) وما أحسنَ ما قال الشّاعر حيث يقول : ( فدقّت وجلّت واسبكرّت وأكمِلت ** فلو جُنَّ إنسانٌ من الحُسْنِ جُنَّتِ )
وما أحسن ما قال الآخر : ( حمراء تامِكةُ السَّنام كأنّها ** جَملٌ بهودج أهلِهِ مظعونُ ) ( جادَتْ بها عند الغداةِ يمين ** كلتا يَدَي عَمْرِو الغَداة يمينُ ) ( ما إن يجودُ بمثلها في مثلها ** إلاّ كريمُ الخِيمِ أو مَجنونُ ) وقال الجميح : ( لو أنّني لم أنَلْ مِنكم مُعاقبةً ** إلاّ السِّنَانَ لذاقَ الموتَ مظعونُ ) ( أُوْ لاختطبتُ فإني قد هَمْمتُ به ** بالسَّيفِ إنّ خطِيبَ السَّيف مجنونُ )
وأنشد : ( هُمُ أَحْمَوا حِمى الوَقَبى بضرْبٍ ** يؤلّفُ
بَيْنَ أشتاتِ المنُون ) وأنشدني جعفر بن سعيد : ( إنَّ الجنونَ سِهامٌ بين أربعةٍ ** الرِّيحُ
والبحْرُ والإنسانِ والجَملُِ ) وأنشدني أيضاً : ( احْذَر مغايظَ أقوامٍ ذوي
حَسَبٍ ** إنّ المغيظ جَهُولُ السَّيفِ مجنونُ ) وأنشدني أبو تمام الطائي : ( منْ
كلِّ أصلَعَ قد مالَت عمامتُه ** كأَنّه من حِذار الضَّيمِ مجنونُ ) وقال القطاميّ
: ( يَتْبَعْنَ سَامِيةَ العَينين تَحْسَبُها ** مجنُونةً أو تُرَى ما لا تُرَى
الإبلُ )
وقال في المعني الأوَّل الزَّفَيانُ العُوافيّ : ( أنا العُوافيُّ فمنْ عاداني ** أذقتُه بوادِرَ الهوان ) حتّى تَرَاهُ مُطرِقَ الشّيطانِ وقال مروانُ بن محمد :
( وإذا تجنّنَ شاعرٌ أو مُفْحَمٌ ** أسعطْتُه بمرارة الشيطانِ )
وقال ابن مُقبِل : وقد صغَر الدُّهيَم ليس على التحقير ولكن هذا مثل قولهم : دبَّت
إليهم دويهيَة الدهر .
أحاديث الفلاة وَقال أبو إسحاق : وأما قول ذي الرُّمَّة
: ( إذا حَثَّهُنََّ الرَّكبُ في مُدْلهِمَّة ** أحاديثُها مثلُ اصطخاب الضّرائر )
قال أبو إسحاق : يكون في النَّهار ساعاتٌ ترى الشّخص الصَّغيرَ في تلك المهامهِ
عظيماً ويُوجَد الصَّوت الخافضُ رفيعاً ويُسمع الصَّوتُ الذي ليس بالرَّفيع مع
انبساط الشّمس غدوة من المكان البعيد ويُوجَد لأوساط الفَيافي والقِفار والرِّمال
والحرار في أنصاف النّهار مثلُ الدَّويّ من طبع ذلك الوقت وذلك المكان عند ما يعرض
له ولذلك قال ذو الرُّمَّة : ( إذا قال حادينا لتَشْبيهِ نَبأةٍ ** صَهٍ لم يكنْ
إلا دويُّ المسامع )
قالوا : وبالدَّويّ سمِّيت دوِّيّة وداوية وبه سمِّي
الدوّ دَوّاً .
تعليل ما يتخيله الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
وكان أبو إسحاق يقول في الذي تذكر الأعرابُ من عزيف الجنان
وتغوُّل
الغيلان : أصلُ هذا الأمر وابتداؤه أنّ القوم لما نزلوا بلاد الوحش عملتْ فيهم
الوَحْشة ومن انفردَ وطال مُقامُه في والوَحدةُ لاتقطع أيامهم إلا بالمُنى أو
بالتفكير والفكرُ ربما كان من أسباب الوَسوَسة وقد ابتلى بذلك غيرُ حاسب كأبي يس
ومُثَنًّّى ولد القُنافر .
وخبَّرني الأعمش أنه فكّر في مسألة فأنكر أهله عقله حتّى
حَمَوه وداووه .
وقد عرض ذلك لكثير من الهند .
وإذا استوحشَ الإنسانُ تمثّل له الشّيء الصغيرُ في صورة
الكبير وارتاب وتفرَّق ذهُنه وانتقضت أخلاطُه فرأى ما لا يُرى وسمع ما لا يُسمع
وتوهم على الشيء اليسير الحقير أنه عظيمٌ جليل .
ثمَّ جعلوا ما تصوَّر لهم من ذلك شعرا تناشدوه وأحاديث
توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ ورُبّي به الطِّفل فصار أحدهم
حين يتوسَّط الفيافيَ وتشتملُ عليه الغيظان في اللَّيالي الحنادس فعند أوَّل
وحْشةٍ وفزْعة وعند صياح بُوم ومجاوبة صدًى وقد رأى كلَّ باطل وتوهَّم كلَّ زُور
وربما كان في أصل الخلْق والطبيعة كذّاباً نفّاجاً وصاحبَ تشنيعٍ وتهويل فيقولُ في
ذلك من الشِّعر على حسب هذه الصِّفة فعند ذلك يقول : رأيتُ الغيلان وكلّمت
السِّعلاة
ثمَّ
يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول قتلتها ثم يتجاوزُ ذلك إلى أن يقول : رافَقتها ثمَّ يتجاوز
ذلك إلى أن يقول : تزوَّجتها . ( فللّه دَرُّ الغُولِ أيُّ رَفيقةٍ ** لصاحبِ
قفْرٍ خائفٍ متقتّرِ ) وقال : ( أهذا خَليلُ الغولِ والذئبِ والذي ** يهيمُ
بَرَبَّاتِ الحِجالِ الهَرَاكِلِ ) وقال : ( أَخُو قَفَرَاتٍ حالَفَ الجِنّ
وانتَفَى ** من الإنْسِ حتَّى قد تقضّت وسائله ) ( له نسَبُ الإنْسيِّ يُعْرَفُ
نجله ** وللجنِّ منهُ خَلْقُه وشمائله ) وممّا زادهم في هذا الباب وأغراهم به
ومدَّ لهم فيه أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه )
الأخبار إلا أعرابيّاً مثلهم وإلا عَامِّيّاً لم يأخُذْ
نفسه قط بتمييز ما يستوجب التّكذيب والتّصديق أو الشّكّ ولم يسلُك سبيلَ التوقف
والتثبّت في هذه الأجناس قطّ وإمَّا أن يَلقَوْا رَاوِيَة شعر
أو صاحب خبَر فالرّاوية كلّما كان الأعرابيُّ أكذبَ في شعره كان أطْرَف عِنْده وصارت روايتُه أغلبَ ومضاحيكُ حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدّعي رؤية الغُول أو قتلها أو مرافقتها أو تزويجها وآخر يزعم أنّه رافقَ في مفازةٍ نمراً فكان يطاعمه ويؤاكله فمن هؤلاء خاصّة القَتّال الكِلابي فإنّه الذي يقول : ( أيرسِلُ مَرْوانُ الأميرُ رسالة ** لآتيه إني إذاً لَمَصلَّلُ ) ( سقط : بيت الشعر ) ( وما بي عصيان ولا بعد منزل ** ولكنني من خوف مروان أوجل )
( وفي باحة العَنْقاء أو في عَمايةٍ ** أو الأُدَمِى من رَهْبةِ الموتِ مَوْئلُ ) ( ولي صاحبٌ في الغارِ هَدَّكَ صاحباً ** هو الجَون إلاّ أنه لا يعلّل ) ( إذا ما التقَينا كان جُلّ حديثنا ** صُماتٌ وطرْفٌ كالمعَابلِ أطْحَلُ ) ( تَضَمَّنَتِ الأرْوَى لنا بطعامِنا ** كِلانا له منها نَصيبُ ومأكلُ ) ( فأغلِبُه في صَنْعة الزّادِ إنّني ** أُميطُ الأذى عنه ولا يتأمَّلُ )
( وكانتْ لنا قَلتٌ بأرض مَضَلَّةٍ ** شريعتُنا لأيّنا جاءَ
أوَّلُ ) ( كلانا عدُوٌّ لو يرى في عدُوِّه ** مَحزّاً وكلٌّ في العداوة مُجْمِلُ
) وأنشد الأصمعيّ : ( ظللْنَا معاً جارَينْ نحترسُ الثَّأى ** يُسائرُني من نُطفةٍ
وأسائرُهْ ) ذكر سبعاً ورجُلاً قد ترافقا فصار كلُّ واحدٍ منهما يدَعُ فضْلاً من
سُؤره ليشرَبَ صاحبه الثَّأى : الفساد وخبّر أنّ كلّ واحد منهما يحترس من صاحبه .
وقد يستقيمُ أن يكونَ شعر النابغة في الحية وفي القتيلِ
صاحب القَبْر وفي أخيه المصالح للحيةِ أن يكون إنما جعل ذلك مثلاً وقد أثبتناهُ في
باب الحيات فلذلك كرهنا إعادَته في هذا الموضع فأما جميع ما ذكرناه عنهم فإنما
يخبرون عنه من جهة المعاينَة والتّحقيق وإنما المثل في هذا مثل
( قد كان شيطانك منْ خطّابها ** وكان شيطاني منْ طُلاَّبِها )
حيناً فلمّا اعتَركا ألْوى بها الاشتباه في الأصوات والإنسان يجوع فيسمع في أذنه
مثل الدويّ وقال الشاعر : ) ( دويُّ الفَيَافي رَابه فكأنّه ** أَميمٌ وسارِي
اللَّيلِ للضُّرِّ مُعْوِرُ ) مُعْوِر : أي مُصْحِر .
وربما قال الغلام لمولاه : أدعوتني فيقول له : لا وإنما
اعترى مسامعه ذلك لعرضٍ لا أنَّه سمعَ صوتاً .
ومن هذا الباب قول تأبَّط شراً أو قول قائل فيه في كلمة
له :
( يَظَلُّ بمَوّْماةٍ ويُمسي بقَفرَةٍ ** جَحِيشاً ويَعرَوْرِي ظهورَ المهالِكِ ) ( ويَسْبِقُ وقدَ الرِّيح من حَيث ينْتحي ** بمنخَرِقٍ من شَدِّهِ المتدارِكِ ) ( إذا خاطَ عَينَيه كَرى النَّوم لم يزَلْ ** له كالئٌ من قَلبِ شَيْحانَ فاتكِ ) ( ويجعلُ عينيه رَبيئةَ قلبهِ ** إلى سلَّةٍ من حَدِّ أخْضَر باتكِ ) ( إذا هزَّه في عَظم قِرْنٍ تهلَّلتْ ** نواجذُ أفواهِ المنايا الضّواحكِ ) نزول العرب بلاد الوحش والحشرات والسباع ويدلُّ على ما قال أبو إسحاق من نزولهم في بلاد الوحْش
وبينَ الحشَراتِ والسِّباع ما رواه لنا أبو مُسْهرٍ عن أعرابيٍّ من بني تميم نزل ناحية الشَّام فكان لا يَعْدِمُهُ في كلِّ ليلة أن يعضَّه أو يَعضَّ ولدَه أو بعضَ حاشيته سبعٌ من السباع أو دابّة من دوابّ الأرض فقال : ( تعاوَرَني دَينٌ وذُلٌّ وغُربةٌ ** ومَزّقَ جلدي نابُ سبْع ومِخْلبُ ) ( وفي الأرض أحناشٌ وسَبْع وحاربٌ ** ونحن أُسارَى وَسْطَهَا نتقلبُ ) ( رُتَيْلا وطَبُّوعٌ وشِبْثَان ظُلْمةٍ ** وأرقطُ حُرْقُوصٌ وضَمْجٌ وعَقْربُ ) ( ونمل كأشخاصِ الخنافس قُطَّبٌ ** وأرْسالُ جعلانٍ وهَزْلى تَسَرَّبُ ) ( وعُثٌّ وحُفّاثٌ وضَبٌّ وعِربِدٌ ** وذرٌ ّ ودَحّاس وفَارٌ وعقربُ ) ( وهرٌّ وظِرْبانٌ وسِمْعٌ ودَوْبَلٌ ** وثُرْمُلةٌ تجرِي وسِيدٌ وثعلبُ )
( ونمر وفَهْدٌ ثم ضبعٌ وجَيألٌ ** وليثٌ يجُوس الألف لا يتهيّبُ
) ( ولم أرَ آوى حيث أسمعُ ذِكرَه ** ولا الدُّبَّ إنّ الدُّبَّ لا يتنسَّبُ )
فأما الرُّتَيلا والطَّبُّوع والشَّبَث والحُرقوص والضّمجُ والعنكبوت والخنفُساء
والجُعَل والعُثّ والحُفَّاث والدّحّاس والظّرِبان والذِّئب والثَّعلب والنمر
والفَهْد والضّبع والأسد فسنقول في ذلك إذا صرنا إلى ذكر هذه الأبواب وقبل ذلك عند
ذِكر الحشرات فأما الضّبُّ والورَل
)
والعقرب والجُعل والخنفساء والسِّمْع فقد ذكرنا ذلك في
أوّل الكتاب وأما قوله : وهَزْلى تسرب فالهزْلى هي الحيات كما قال جَرير :
مَزَاحف
هزْلَى بينها متباعدُ وكما قال الآخر : ( كأنَّ مَزَاحِفَ الهَزْلى عليها ** خدودُ
رصائعٍ جُدِلَتْ تُؤَامَا ) وأما قوله : ولم أر آوَى حيثُ أسمع ذِكرَه فإنّ ابنَ
آوى لا ينزِلُ القفار وإنّما يكونُ حيث يكونُ الريف .
وينبغي أن يكونَ حيث قال هذا الشّعر توهَّم أنّه ببياض
نجد .
وأمَّا قوله : ولا الدبَّ إنَّ الدبَّ لا يتنسَّبُ فإنّ
الدبَّ عندهم عجميٌّ والعجميُّ لا يقيم نسبَه .
وروَوْا في المُلَح أنّ فتًى قال لجارية له أو لصديقةٍ
له : ليس في الأرض أحسنُ منِّي : ولا أملحُ منِّي فصار عندها كذلك فبينا هو عِندها
على
هذه
الصّفة إذ قرع عليها الباب إنسانٌ يريدهُ فاطَّلعت عليه من خرق الباب فرأت فتًى
أحسنَ النّاس وأملحَهم وأنَبلهم وأتمّهم فلمَّا عاد صاحبُها إلى المنزل قالت له :
أَوَ ما أخبرَتني أنَّك أملحُ الخلْقِ وأحسنُهم قال : بلى وكذلك أنا فقالت : فقد
أرادك اليومَ فلانٌ ورأَيتُه من خَرق البابِ فرأيتُه أحسنَ منك وأملَح قال :
لَعْمري إنَّه لَحَسنٌ مَليح ولكنَّ له جنِّى ّة تصرعه في كلِّ شهرٍ مرَّتين وهو
يريدُ بذلك أن يسقطه من عينها قالت : أوَ ما تصرعه في الشّهر إلاّ مرتين أمَا
واللّه لو أنِّي جنّيَّة لصرعْته في اليوم ألفين .
وهذا يدلُ على أنّ صرْع الشّيطان للإنسان ليس هو عند
العوامِّ إلاّ على جهة ما يعرفون من الجِماع .
ومن هذا الضَّرب من الحديث ما حدَّثنا به المازنيُّ قال
: ابتاع فتًى صَلِفٌ بَذَّاخ جاريةً حسناءَ بديعةً ظريفة فلمّا وقع عليها قال لها
مراراً ويلَكِ ما أوسَعَ حِرَك فلمّا أكثَرَ عليها قالت : أنت الفداءُ لمن كان
يملَؤُه .
فقد سمع هذا كما ترى من المكروه مثلَ ما سِمع الأوّل . )
وزعموا أنّ رجلاً نظر إلى امرأَةٍ حسْناء ظريفةٍ فالحّ
عليها فقالت : ما تنظر قُرَّة عينك
وزعم أبو
الحسن المدائني أن رجلاً تبع جاريةً لقوم فراوغَتْه فلم ينقطع عنها فحثّتْ في
المشي فلم ينقطع عنها فلمّا جازَتْ بمجلس قومٍ قالت : يا هؤلاء لي طريقٌ ولهذا
طريق ومولاي ينيكني فسَلوا هذا ما يريدُ مني وزَعَمَ أيضاً أن سياراً البرقيّ قال
: مرّت بنا جاريةٌ فرأينا فيها الكِبْرَ والتجبُّر فقال بعضنا : ينبغي أن يكون
مولى هذه الجارية ينيكها قالت : كما يكون .
فلم أسمع بكلمة عامّية أشَنََعَ ولا أدلّ على ما أرادت
ولا أقصَر من كلمتها هذه .
وقد قال جحشويهِ في شعر شبيهاً بهذا القول حيث يقول : (
تواعدُني لتنكِحني ثلاثاً ** ولكن يا مَشُوم بأيِّ أيْرِ ) فلو خُطِبَتْ في صفة
أيرٍ خُطبةٌ أطولُ من خطبة قيس بن خارجة بن سنان في شأن الحمالة لما بلغ مبلغَ قول
جحشويه : ولكن يا مَشُوم بأيِّ أير وقول الخادم : كما يكون .
وزعموا أن فتًى جلس إلى أعرابيّة وعلمت أنّه إنما جلس
لينظر إلى محاسن ابنتها فضربت بيدها على جنبها ثم قالت : ( عَلَنْداة يئطُّ الأيرُ
فيها ** أطِيطَ الغَرْزِ في الرَّحْلِ الجديدِ ) ثم أقبلت على الفتى فقالت : ودخل
قاسم منزل الخُوارزمي النخَّاس فرأى عنده جارية كأنها جانّ وكأنها خُوط بانٍ
وكأنّها جَدْل عِنان وكأنه الياسمين نعْمةً وبياضاً فقال لها : أشتريك يا جارية
فقالت : افتحْ كيسَك تسرَّ نفسَك ودخلت الجارية منزل النخّاس فاشتراها وهي لا تعلم
ومضى إلى المنزل ودفعها الخوارزميُّ إلى غلامه فلم تشعر الجارية إلا وهي معه في
جَوف بيت فلما نظرتْ إليه وعرفتْ ما وقعَتْ فيه قالت له : ويلكَ إنك واللّه لن
تَصِل إليّ إلا بعد أن أموت فإن كنت تجسُرُ على نَيك من قد أدرجوه في الأكفان
فدونَك واللّهِِ إن زلتُ منذ رأيتك ودخلتُ إلى الجواري أصف لهنَّ قبحك وبليّةَ
امرأتك بك فأقبل عليها يكلِّمها بكلام المتكلمين فلم تقبل منه فقال : فلم
قلتِ لي :
افتَحْ كيسَك تسرَّ نفسك وقد فتحت كيسي فدَعيني أَسُرُّ نفْسي وهو يكلِّمها وعينُ
الجارية إلى الباب ونفْسُها في توهُّم الطّريق إلى منزل النخّاس فلم يشعر قاسمٌ
حتّى وثبَتْ وثبةً إلى الباب كأنّها غزال ولم يشعر الخوارزمي إلاّ والجارية بين
يدَيه مغشيٌّ عليها فكرَّ قاسمٌ إليه )
راجعاً وقال
: ادفعْها إليّ أشفي نفسي منها فطلبوا إليه فصفَح عنها
واشتراها في ذلك المجلس غلامٌ أملحُ منها فقامت إليه فقبَّلت فاه وقاسمٌ ينظرُ
والقومُ يتعجَبون ممّا تهيأ له وتهيَّأ لها .
وأما عيسى بن مروان كاتب أبي مروان عبد الملك بن أبي
حمزة فإنّه كان شديد التغزُّل والتّصندل حتَّى شرب لذلك النبيذَ وتَظَرَّف بتقطيع
ثيابه وتغنَّى أصواتاً وحفظ أحاديثَ من أحاديث العشّاق ومن الأحاديث التي تشتهيها
النساء وتفهمُ معانِيها وكان أقبحَ خلْق اللّه تعالى أنفاً حتَّى كان أقبحَ من
الأخنَس ومن الأفطس والأَجدع فإمّا أن يكون صادقَ ظريفةً وإما أنْ يكونَ تزوَّجها
فلما خَلاَ معها
في بيتٍ
وأرادها على ما يريد الرَّجلُ من المرأة امتنعت فوهب لها ومنَّاها وأظهر تعشقها
وأرَاغَها بكلِّ حيلة فلما لم تُجِب قال لها : خبِّريني ما الذي يمنعُك قالت : قبح
أنفِك وهو يَستقِبلُ عيني وقتَ الحاجة فلو كان أنفُك في قفَاك لكان أهونَ عليَّ
قال لها : جعِلْت فِداك الذي بأنفي ليسَ هو خِلقةً وإنّما هو ضربةٌ ضُرِبتُها في
سبيل اللّه تعالى فقالت واستغربَتْ ضحِكاً : أنا ما أبالي في سبيل اللّه كانَتْ أو
في سبيل الشَّيطان إنَّما بيَ قبحُه فخذْ ثوابَك على هذه الضَّربة من اللّه أمَّا
أنَا فلا . ( باب الجِدِّ من أمْر الجِنّ
) ليس هذا حفظك اللّه تعالى من الباب الذي كُنَّا فيه
ولكنّه كان مُستراحاً وجماماً وسنقول في باب من ذكر الجنّ لتنتفع في دِينك أشد
الانتفاع وهو جِدٌّ كلُّه .
والكلام الأوّل وما يتلوه من ذكر الحشرات ليس فيه جِدٌّ
إلاّ وفيه خَلْطٌ من هزْل وليس فيه كلامٌ صحيح إلا وإلى جنبه خرافة لأن هذا الباب
هكذا يقع .
وقد طعن قومٌ في استراق الشَّياطينِ السمعَ بوجوهٍ من
الطَّعن فإذْ
قد جرى
لها من الذّكر في باب الهزْل ما قد جرى فالواجبُ علينا أن نقول في باب الجدِّ
وفيما يرد على أهل الدِّين بجملة وإن كان هذا الكتابُ لم يُقصد به إلى هذا الباب
حيثُ ابتدئ وإن نحنُ استقصيناه كنَّا قد خرجْنا من حدِّ القول في الحيوان ولكنا
نقول بجملةٍ كافية واللّه تعالى المعين على ذلك .
رد على المحتجّين لإنكار استراق السمع بالقرآن قال قوم :
قد علمنا أن الشياطينَ ألطف لطافةً وأقلُّ آفَةً وأحدُّ أذهاناً وأقلُّ فضُولاً
وأخفُّ أبداناً وأكثرُ معرفةً وأدقُّ فِطنةً منّا والدّليلُ على ذلك إجماعهم على
أنّه ليس في الأرض بدعةٌ بديعةٌ دقيقةٌ ولا جليلة ولا في الأرض مَعصِيةٌ من طريق
الهوى والشّهوة خفيّةً كانت أو ظاهرة إلاّ والشَّيطانُ هو الدَّاعي لها والمزيِّنُ
لها والذي يفتحُ بابَ كلِّ بلاء ويَنصِب كلَّ حبالةٍ وخدعة ولم تَكن لتَعرِف أصناف
جميع الشرور والمعاصي حتى تَعرف جميعَ أصناف الخير والطّاعات .
ونحن قد نجدُ الرّجلَ إذا كان معه عقْل ثمّ عِلم أنّه
إذا نقب حائطاً قُطِعت يدهُ أو أسمع إنساناً كلاماً قطع لسانه أويكونُ متى رام
ذلك حِيلَ
دونَه ودونَ ما رام منْهُ أنّه لايتكلّف ذلك ولا يرُومه ولا يحاولُ أمراً قد
أيقَنَ أنّه لا يبلغهُ .
وأنتم تزعمون أنّ الشّياطين الذين هم على هذه الصِّفة
كلّما صعِد منهم شيطانٌ ليسترقَ السّمعَ قُذِف بشهاب نار وليس له خواطئ فإمَّا أن
يكون يصيبه وإمَّا أنْ يكون نذيراً صادقاً أو وعيداً إنْ يقدمْ عليه رمى به وهذه
الرُّجوم لا تكون إلا لهذه الأمور ومتى كانت فقد ظهر للشَّيطان إحراق المستمع
والمسترِق والموانع دون الوصول ثمَّ لا نرى الأوَّلَ ينهي الثّاني ولا الثّاني ينهي
الثّالث ولا الثّالث ينهي الرّابع عَجَب وإن كان الذي يعود غيرَه فكيف خفي عليه
شأنهم وهو ظاهر مكشوف .
وعلى أنّهم لم يكونوا أعلَمَ منّا حتّى ميّزوا جميع
المعاصي من جميع الطاعات ولولا ذلك لدعوا إلى الطّاعة بحساب المعصية وزينّوا لها
الصَّلاح وهم يريدون الفساد فإذا كانوا ليسوا كذلك فأدنى حالاتهم أن يكونوا قد
عرفوا أخبار القرآن وصدقوها وأنّ اللّه تعالى محقّق ما أوعَدَ
كما
يُنجِز ما وعد وقد قال اللّه عزّ وجل : وَلقَدْ زَيَّنّا السَّماء الدُّنيا
بِمَصابيح وجَعَلْنَاها رُجُوماً للشَّياطينِ وقال تعالى : وَلَقَدْ جَعَلْنَا في
السَّماءٍ بُرُوجاً وَزَيَّنّاها للنَّاظِرينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كلِّ شَيْطان
رَجيمٍ وقال تعالى : إنّا زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينةٍ الْكَوَاكِبِ
وحفْظاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ وقال تعالى : هَلْ أُنَبِّئكمْ عَلَى مَنْ
تَنَزّلُ الشّياطينُ تنَزَّلُ على كلِّ أفّاكٍ أثيمٍ يُلْقون السَّمعَ وأكثَرُهم
كاذِبُون مع قولِ الجنّ : أنَّا لا نَدْري أشَرٌّ أُرِيدَ بمَنْ في الأرْضِ أمْ
أرَاد بهمْ رَبُّهم رَشَداً وقولهم : أَنَّا لَمسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا
مُلئَتْ حَرساً شديداً وَشُهُباً وأنّا كنَّا نقعُدُ منْهَا مقَاعِد )
للسَّمع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآن يَجدْ لَهُ شِهَاباً
رصَداً .
فكيف يسترق السَّمع الذين شاهدوا الحالَتين جميعاً
وأظهروا اليقين بصحَّة الخير بأنَّ للمستمع بعد ذلك القذْفَ بالشُّهب والإحراقَ
بالنار وقوله تعالى : إنَّهُمْ عَنِ السَّمعِ لَمعْزولُونَ وقوله تعالى : وَحفْظاً
مِنْ كلِّ شيْطاَنٍ مَاردٍ لا يَسَّمَّعُون إلى الْملإ الأعْلى وَيُقْذَفُون مِن
كُلِّ جانبٍ
دُحوراً وَلَهُمْ عذَابٌ وَاصِبُ في آيٍ غيرِ هذا كثير فكيف يعُودُون إلى استراق السَّمع مع تيقنهم بأنَّه قد حُصِّن بالشهب ولو لم يكونوا مُوقِنين من جهة حقائق الكِتاب ولا من جهة أنّهم بَعْدَ قعودِهم مقاعدَ السَّمْع لمَسُوا السَّماء فوَجَدوا الأمرَ قد تغيَّر لكانَ في طول التَّجْربة والعِيان الظّاهِر وفي إخبار بعضِهم لبعض ما يكونُ حائلاً دُونَ الطّمع وقاطعاً دون التماس الصُّعود وبعد فأيُّ عاقل يُسرُّ بأنْ يسمع خبراً وتُقطعَ يدهُ فضْلاً عن أن تحرقه النَّار وبعد فأيُّ خبر في ذلك اليوم وهل يصِلون إلى النَّاس حتَّى يجعلوا ذلك الخبَر سبباً إلى صرْف الدّعوَى قيل لهم : فإنّا نقول بالصّرْفة في عامَّة هذه الأصول وفي هذه الأبواب كنحو ما أُلقي على قلوب بني إسرائيل وهم يجُولون في التِّيهِ وهم في العدد وفي كثرة الأدِلاَّء والتجّار وأصحاب الأسفار والحمّارين والمُكارينَ من الكثْرَة على ما قد سمعتم به وعرَفْتموه وهم مع هذا يمشُون حتّى يُصبِحوا مع شدّة الاجتهاد في الدَّهر الطويل ومع قُرْب ما بينَ طرفي التِّيه وقد كان طريقاً مسلوكاً وإنّما سمَّوه التّيه حين تاهوا فيه لأنَّ اللّه تعالى حين أرادَ أن يمتحِنَهم ويبتلِيهم صرَف أوهامَهم .
ومثل ذلك صنيعُه في أوهام الأُمة التي كان سُليمان
مَلِكَها ونبيّها مع تسخير الريح والأعاجيبِ التي أُعطِيَها وليس بينهم وبين ملِكهم
ومملكتهم وبين مُلك سَبأ ومملكةِ بِلقيس ملِكتهم بحارٌ لا تُركب وجبالٌ لا تُرام
ولم يتسامَعْ أهل المملكتين ولا كان في ذكرهم مكانُ هذه الملِكة .
وقد قلنا في باب القول في الهُدهُد ما قلنا حين ذكرنا
الصَّرفة وذكرنا حالَ يعقوب ويوسف وحالَ سليمان وهو معتمدٌ على عصاه وهو مَيِّتٌ
والجنُّ مُطيفة به وهم لا يشعُرون بموته وذكرنا من صَرْف أوهام العرَب عن محُاولة
معارضة القرآن ولم يأتوا به مضطرِباً ولا مُلَفَّقاً ولا مُستكرَهاً إذا كان في
ذلك لأهل الشَّغبِ متعلّق مع غير ذلك ممّا يُخالَف فيه طريقُ الدُّهريّة لأنّ الدّهريّ
لا يُقر إلاّ بالمحسوسات والعادات على خلاف هذا المذهب .
ولعمري ما يستطيعُ الدّهريّ أن يقولَ بهذا القول ويحتجَّ
بهذه الحجّة ما دام لا يقول بالتّوحيد
)
وما دام لا يعرف إلا الفَلك وعمَلَه ومادام يرى أن إرسال
الرسُل يستحيل وأن الأمر والنَّهي والثوابَ
والعقاب
على غير ما نقول وأنّ اللّه تعالى لا يجوز أن يأمر من جهة الاختبار إلا من جهة
وكذلك نقول ونزعم أن أوهَام هذه العفاريت تُصرف عن الذكر لتقع المحنة وكذلك نقول
في النبي صلى اللّه عليه وسلم أنْ لو كانَ في جميع تلك الهزاهز مَنْ يذكر قوله
تعالى : واللّه يَعصِمُك من النّاسِ لسَقَطَ عنه من المحنة أغلظها وإذا سقطَت
المحنة لم تكن الطاعة والمعصية وكذلك عظيم الطاعة مقرونٌ بعظيم الثّواب .
وما يصنع الدهري وغير الدّهري بهذه المسألة وبهذا
التسطير ونحن نقول : لو كان إبليس يذكر في كلِّ حال قوله تعالى : وَإنَّ عَليْكَ
اللّعْنَةَ إلى يَوْمِ الدِّينِ وعلم في كلِّ حالٍ أنّه لا يُسْلِمُ لوَجَبَ أن
المحنة كانت تسقط عنه لأن من علِم يقيناً أنّه لا يمضي غداً إلى السوق ولايقبض
دراهمَه من فلان لم يطمع فيه ومن لم يطَمعْ في الشيء انقطعت عنه أسباب الدواعي
إليه ومن كان كذلك فمُحالٌ أن يأتيَ السّوق .
فنقول في إبليس : إنه يَنْسى ليكون مُختَبراً ممتَحناً
فليعلموا أن قولنا في مسترقي السمع كقولنا في إبليس وفي جميع هذه الأمور التي
أوْجَبَ علينا الدِّين أن نقولَ فيها بهذا القول . وليس له أن يدفَع هذا القولَ على أصل
ديننا فإن أحبَّ أن يسأل عن الدين الذي أوجب هذا القول علينا فيلفعَلْ واللّه
تعالى المعين والموفِّق .
وأما قولهم : منْ يُخاطر بذَهابِ نفْسِه لخبرٍ يستفيده
فقد علِمْنا أن أصحاب الرِّياساتِ وإن كان ولعلّ بعض الشّياطين أن يكون معه من
النّفْخ وحب الرِّياسة ما يهوِّن عليه أن يبلغ دُوَين المواضع التي إن دنا منها
أصابه الرَّجْم والرَّجمُ إنما ضمن أنه مانع من الوصول ويعلم أنه إذا كان شهاباً
أنه يُحرقه ولم يضمن أنه يتلف عنه فما أكثر من تخترقه الرِّماح في الحرب ثم يعاودُ
ذلك المكان ورزقُه ثمانون دِيناراً ولا يأخذ إلا نصفه ولا يأخذه إلا قمحاً فلولا
أن مع قَدَم هذا الجنديِّ ضروباً مما يهزُّه وينجِّده ويدعو إليه ويُغْريه ما كان
يعود إلى موضعٍ قد قطعت فيه إحدى يديه أو فقئت إحدى عينَيه .
ولِمَ وقع عليه إذاً اسمُ شيطان وماردٍ وعفريتٍ وأشباه
ذلك ولِمَ صار الإنسانُ يُسمَّى بهذه الأسماء ويوصَف بهذه الصفات إذا كان فيه
الجزء الواحد من كلِّ ما همْ عليه
.
وقالوا في باب آخر من الطّعن غير هذا قالوا في قوله
تعالى : وَأنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقَاعِدَ للِسّمْعِ ) فَمَنْ يسْتَمعِ
الآن يَجدْ لَهُ شِهاباً رصداً فقالوا : قد دلَّ هذا الكلام على أن الأخبار هناك كانت
مُضَيَّعةً حتّى حُصِّنت بعد فقد وصفْتُم اللّه تعالى بالتَّضييع والاستِدْراك .
قلنا
: ليس في هذا الكلام دليلٌ على أنهم سمعوا سِرّاً قط أوْ
هجموا على خبر إن أشاعوه فسد به شيءٌ من الدين وللملائكةِ في السَّماء تسبيحٌ
وتهليلٌ وتكبيرٌ وتلاوة فكان لا يبلغُ الموضعَ الذي يُسمَعُ ذلك منه إلا عفاريتُهم .
وقد يستقيم أن يكون العفريتُ يكذب ويقولُ : سمعت ما لم
يَسْمع ومتى لم يكن على قوله برهانٌ يدلُّ على صدقه فإنما هو في كذبه من جنس كلِّ
متنبئٍ وكاهن فإن صدقه مصدقٌ بلا حُجَّة فليس ذلك بحجّةٍ على اللّه وعلى رسوله صلى
اللّه عليه وسلم .
المحتجون بالشعر لرجم الشياطين قبل الإسلام وذهب بعضهم
في الطّعن إلي غير هذه الحُجّة قالوا : زعمتم أن
اللّه تعالى جعل هذه الرَّجومَ للخوافي حُجّة للنبي صلى اللّه عليه وسلم فكيف يكون ذلك رَجْماً وقد كان قبل الإسلام ظاهراً مرْئيّاً وذلك موجودٌ في الأشعار وقد قال بشر بن أبي خازم في ذلك : ( فجأجأها من أول الرِّيِّ غُدوة ** وَلَمَّا يسَكّنْهُ من الأرْضِ مَرْتعُ ) ( بأكْلبةٍ زُرْقٍ ضوارٍ كأنّها ** خطاطيفُ من طول الطريدة تلمعُ ) ( فجال على نَفْر تعرُّضَ كوكبٍ ** وقد حالَ دُون النّقْعِ والنّقْعُ يسْطَعُ ) فوصف شَوْط الثّور هارباً من الكلابِ بانقضاض الكَوكب في سُرعته وحُسْنه وبريق جلده ولذلك قال الطّرِمّاح : ( يَبْدُو وتُضْمِرُه البلاد كأنّهُ ** سيفٌ علَى شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ ) وأنشد أيضاً قولَ بِشْر بن أبي خازم : ( والعير يُرْهِقُها الخبَار وجَحشُها ** ينقضُّ خلْفهُما انْقِضاض الكوكبِ )
قالوا : وقال الضّبّي : ( يَنَالها مهتك أشْجارها ** بذي غُروب فيه تحريبُ ) ( كأنّه حيِنَ نَحَا كوكبٌ ** أو قبَسٌ بالكفِّ مشبوبُ ) وقال أوس بن حَجَر : ( فانقضَّ كالدّريءِ يَتْبَعُهُ ** نَقْع يثُورُ تخالُه طُنُبَا ) ( يَخفى وأحياناً يلوح كما ** رفع المشيرُ بكفِّهِ لهبَا ) ورووا قوله : ( فانقضَّ كالدّرّي من مُتَحدِّر ** لَمْعَ العقيقةِ جُنْحَ لَيل مُظْلِمِ ) وقال عَوْف بن الخرِع :
( يردُّ علينا العَيْرَ من دون أَنْفه ** أو الثَّوْر كالدُّرّي يتْبَعُهُ الدَّمُ ) وقال الأفوه الأودي : ( كشِهاب القَذفِ يَرمِيكُمْ به ** فارسٌ في كفِّه للحَرْبِ نارُ ) وقال أُميَّةُ بن أبي الصّلْت : ( يُلْقى عليها في السَّماء مذلَّة ** وكواكبٌ تُرمى بها فتعرِّدُ ) قلنا لهؤلاء القوم : إن قَدَرتم على شعرٍ جاهليٍّ لم يُدرِكْ مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا مَولِده فهو بعضُ ما يتعلَّق به مثلُكم وإن كان الجوابُ في ذلك سيأتيكم إن شاء اللّه تعالى فأما أشعار المخضْرمين والإسلاميّين فليس لكم في ذلك حُجَّة والجاهليُّ ما لم يكن أدرك المولد فإنَّ ذلك ممَّا ليس ينبغي لكم أن تتعلَّقوا به وبِشرُ بنُ أبي خازم فقد أدرك الفِجار
والنبي
صلى الله عليه وسلم شهِد الفِجار وقال : شهدتُ الفجار فكنْتُ أنبل على عمومتي وأنا
غلام .
والأعلام ضروب فمنها ما يكون كالبشارات في الكتب لكون
الصِّفة إذا واقفت الصِّفة التي لا يقع مثلها اتفاقاً وعرضاً لزمتْ فيه الحجة
وضروبٌ أُخَرُ كالإرهاص للأمر والتأسيس له وكالتعبيد والترشيح فإنَّه قلَّ نبيٌّ
إلاّ وقد حدثت عند مولده أو قُبيلَ مولِده أو بعد مولده أشياءُ لم يكنْ يحدُث
مثلُها وعند ذلك يقول الناس : إنّ هذا لأَمرٍ وإنّ هذا ليراد به أمرٌ وقع أو سيكون
لهذا نبأ كما تراهم يقولون عند الذوائب التي تحدث لبعض الكواكب في بعض الزمان فمن
التّرشيح والتَّأسيس والتَّفخيم شأنُ عبد المطلب عند القُرعة وحين خروج
الماء من
تحت رُكْبة جملة وما كان من شأن الفيل والطيرِ الأبابيل وغير ذلك مما إذا تقدم
للرّجل زاد في نُبله وفي فَخامة أمره والمتوقَّع أبداً معظّم .
فإن كانت هذه الشهب في هذه الأيام أبداً مرئيّة فإنما
كانت من التأسيس والإرهاص إلا أن يُنْشِدونا مثل شعر الشعراء الذين لم يدركوا
المولد ولا بعد ذلك فإنّ عددهم كثير وشعرهم معروف . )
وقد قيل الشِّعر قبل الإسلام في مقدار من االدهر أطولَ
ممّا بيننا اليوم وبين أوّل الإسلام وأولئكم عندكم أشعرُ ممن كان بعدهم .
وكان أحدهم لا يدع عظماً منبوذاً بالياً ولا حجراً
مطروحاً ولا خنفساء ولا جُعلاً ولا دودة ولا حيةً إلا قال فيها فكيف لم يتهيأ من
واحدٍ منهم أن يذكر الكواكب المنقضّة مع حُسْنها وسُرعتها والأعجوبة فيها وكيف
أمسكُوا بأجمعهم عن ذكرها إلى الزَّمان الذي يحْتَجُّ فيه خصومُكم .
وقد علمْنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذُكر له يوم
ذي قار قال : هذا أوَّلُ يومٍ انتصفَتْ فيه العربُ من العجم وبي نُصروا .
ولم يكن قال لهم قبْل ذلك إنّ وقْعةً ستكون من صِفَتها
كذا ومن شأنها كذا وتُنصرون على العجَم وبي تنصرون .
فإن كان بشرُ بن أبي خازمٍ وهؤلاء الذين ذكرتُم قد
عايَنُوا انقضاض الكواكب فليس بمستنكرٍ أنْ تكون كانت إرهاصاً لمن لم يُخبر عنها
ويحتجُّ بها لنفسه فكيف وبشر بن أبي خازم حيّ في أيّام الفِجار التي شهدها النبيُّ
صلى الله عليه وسلم بنفسه وأنّ كنانة وقُريشاً به نُصروا .
وسنقول في هذه الأشعار التي أنشدتموها ونُخبِر عن
مقاديرها وطبقاتها فأما قوله :
( فانقضَّ كالدُّرِّي من متحدِّرٍ ** لمْعَ العقيقةِ
جُنْحَ ليل مُظلمِ ) فخبّرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبياتٍ أخر كان أسامة صاحب
رَوْح بن أبي هَمَّام هو الذي كان ولَّدها فإن اتَّهمت خبر أبي إسحاق فسمِّ
الشّاعرَ وهات القصيدة فإنَّه لا يُقبل في مثل هذا إلاّ بيتٌ صحيح صحيح الجوهَرِ
من قصيدةٍ صحيحة لشاعر معروف وإلاّ فإن كلَّ من يقول الشِّعر يستطيعُ أن يقول
خمسين بيتاً كل بيتٍ منها أجودُ من هذا البيت .
وأسامة هذا هو الذي قال له رَوْحٌ : ( اسقِني يا
أُسامَهْ ** مِنْ رحيق مُدامَهْ
) ( اسْقنيها فإنِّي ** كافرٌ بالقيامَهْ ) وهذا الشعر
هو الذي قتله وأمَّا ما أنشدتم من قول أوس بن حجر : ( فانقضَّ كالدريء يتبعه **
نَقْعٌ يثُور تخالُه طُنبا ) وهذا الشّعر ليس يرويه لأوسٍ إلاّ من لا يفصِل بين
شعر أوس بن حجر وشُريح ابن أوس وقد ) ( والعير يرهقها الخبارُ وجَحْشها ** ينقضُّ
خلفهما انقضاض الكوكبِ ) فزعموا أنه ليس من عادتهم أن يصِفوا عََدْو الحمار
بانقضاض الكوكب ولا بَدَن الحمار ببدن الكوكب وقالوا : في شعر بشر مصنوعٌ كثير مما
قد احتملتْه كثيرٌ من الرُّواة على أنَّه من صحيح شعره فمن ذلك قصيدته التي يقول
فيها :
( فرجِّي الخيرَ وانتظِري إيابي ** إذا ما القارِظُ العَنَزِيُّ
آبا ) وأما ما ذكرتم من شعر هذا الضَّبِّي فإنَّ الضّبيَّ مخضرم .
وزعمتم أنَّكم وجدتُم ذِكْر الشُّهب في كتب القُدماء من
الفلاسفة وأنّه في الآثار العُلْوية لأرسطاطاليس حين ذكر القول في الشُّهب مع
القول في الكواكب ذوات الذوائب ومع القول في القَوس والطَّوق الذي يكون حول
القَمَر بالليل فإن كنتم بمثل هذا تَستعِينونَ وإليه تفزعون فإنّا نوجدكم من كذب
التَّراجمة وزيادتهم ومن فساد الكِتاب من جهة تأويل الكلام ومن جهة جهْل المترجِمِ
بنقل لغةٍ إلى لغة ومن جهة فَسادِ النَّسخ ومن أنه قد تقادمَ فاعترضَتْ دونه
الدُّهورُ والأحقاب فصار لا يؤمن عليه ضروبُ التّبديل والفساد وهذا الكلام معروفٌ
صحيح .
وأما ما رويتم من شعر الأفوه الأوديّ فلعمري إنّه
لجاهليّ وما وجدْنا أحداً من الرُّواة يشكُّ في أن القصيدة مصنوعةٌ وبعد فمِنْ أين
علم الأفْوهُ أنّ الشهب التي يراها إنما هي قذْفٌ ورجْم وهو جاهليٌّ
ولم
يدَّعِ هذا أحدٌ قطُّ إلا المسلمون فهذا دليلٌ آخر على أن القصيدة مصنوعة رجع إلى
تفسير قصيدة البهراني ثم رجع بنا القولُ إلى تفسير قصيدة البهرانيّ : وأما قوله :
( جائباً للبحار أُهدي لِعِرْسي ** فُلفلاً مجتنًى وهَضْمة عِطْر ) ( وأحلّي
هُرَيْرَ مِنْ صدف البَحْ ** ر وأسْقي العِيال من نيل مِصرِ ) فإن الناس يقولون :
إن السَّاحر لا يكون ماهراً حتَّى يأتى بالفلْفُل الرّطب من سرنديب وهُريرة : اسم امرأته الجنِّيّة .
وذكر الظِّبي الذي جعله مَرْكبه إلى بلاد الهند فقال : (
وأجوبُ البلاد تحتيَ ظبيٌ ** ضاحكٌ سِنُّه كثيرُ التَّمرِّي ) ( مُولج دَبْرَهُ خَوَايَة مَكْوٍ **
وهو باللَّيل في العفاريت يَسْري
) يقول : هذا الظَّبي الذي من جُبْنِهِ وحذره من بين
جميع الوَحْش لا يدخل حَراه إلا مستدبِراً لتكون عيناه تلقاء ما يخاف أن يغشاه
هو الذي يسري مع العفاريت باللَّيل ضاحِكاً بي هازئاً وأما قوله : ( يحسَبُ النَّاظِرُون أني ابنُ ماءٍ ** ذاكرٌ عُشَّهُ بضَفّةِ نَهْرِ ) فإن الجنّيَّ إذا طار به في جوِّ السماء ظنَّ كلُّ من رآه أنّه طائر ماء . ( قولهم : أروى من ضبّ ) وأما قولهم في المثل : أروى من ضبّ فإني لا أعرفه لأنَّ كلَّ شيء بالدوّ والدَّهْناء والصَّمَّان وأوساط هذه المهامه والصحاصح فإن جميع ما يسكنُها من الحشرات والسِّباع لا يرِدُ الماء ولا يريدُه لأنه ليس في أوساط هذه الفيافي في الصَّيف كله وفي القَيظ جميعاً مَنْقَع ماء ولا غدير ولا شريعة ولا وَشَلَ فإذا استقام أن يمرّ بظبائها وأرانبها وثعالبها وغير ذلك منها الصَّيفة كلَّها والقيظ كله ولم تذق فيها قطرة
ماء فهي
له في الشتاء أتْرك لأنَّ من اقتاتَ اليبَس إذا لم يشرب الماء فهو إذا اقتات
الرَّطب أترك .
وليس العجب في هذا ولكنّ العجب في إبلٍ لا ترِد الماء .
وزعم الأصمعيُّ أنَّ لبني عقيل ماعِزاً لم يرد الماءَ
قطّ فينبغي على ذاكَ أنْ يكون واديهم لا يزالُ يكونُ فيه من البقْل والورق ما
يُعيشُها بتلك الرُّطوبة التي فيها
.
ولو كانت ثعالبُ الدّهْناء وظباؤُها وأرانبُها ووحْشُها
تحتاج إلى الماء لطَلبتْه أشدّ الطلب فإن الحيوان كلَّه يهتدي إلى ما يُعيشه وذلك
في طبْعه وإنما سُلِب هذه المعارفَ الذين أُعطوا العقل والاستطاعة فوكِلوا إليهما .
فأمّا من سُلِبَ الآلة التي بها تكون الرَّويّة والأداة
التي يكون بها التصرُّف وتخرج أفعاله من حد الإيجاب إلى حد الإمكان وعُوِّض
التمكينَ فإن سبيله غيرُ سبيل من مُنِح ذلك فقسم اللّه تعالى لتلك الكفاية وقسم
لهؤلاء الابتلاء والاختيار .
قصيدتا بشر بن المعتمر
أوّل ما نبدأ قبل ذكر الحشرات وأصناف الحيوان والوحش
بشِعْرَي
بشرِ بن المعتمر فإن له في هذا الباب قصيدتين قد جمع فيهما كثيراً من هذه الغرائب
والفرائد ونبَّه بهذا على وجوهٍ كثيرةٍ من الحكمة العجيبة والموعظةِ البليغة وقد
كان يمكننا أن نذكر من شأن هذه السِّباع والحشرات بقَدْر ما تتسع له الرواية من
غير أن نكتبهما في هذا الكتاب ولكنهما يجمعان أموراً كثيرة .
أمّا أوّل ذلك فإنَّ حفظَ الشّعر أهونُ على النَّفس وإذا
حُفظ كان أعلَقَ وأثبت وكان شاهداً وإن احتيج إلى ضرْب المثل كان مثلاً .
وإذا قسمنا ما عندنا في هذه الأصناف على بيوت هذين
الشِّعرين وقع ذكرهما مصنّفاً فيصير حينئذٍ آنقَ في الأسماع وأشدَّ في الحفْظ .
القصيدة الأولى
قال بشرُ بن المعتمر : ( الناس دأباً في طلاب الغنى ** وكلهم من شأنهِ الخترُ ) ( كأذؤبٍ تنهشها أذؤبٌ ** لها عواءٌ ولها زفرُ ) ( تبارك الله وسبحانَه ** بينَ يديهِ النفعُ والضرُّ )
( منْ خلقه في روقه كلهمْ ** الذيخُ والثيتلُ والغفرُ ) ( وساكنُ الجوِّ إذا ما علا ** فيه ومنْ مسكنهُ القفر ) ( والصدع الأعصمُ في شاهقٍ ** وجأبةٌ مسكنها الوعرُ ) ( والحيةُ الصماءُ في جحرها ** والتتفلُ الرائغُ والذرُّ ) ( وإلقةٌ ترغث رباحها ** والسهلُ والنوفلُ والنضرُ ) ( وهقلةٌ ترتاعُ من ظلها ** لها عرارٌ ولها زمرُ ) ( تلتهم المروَ على شهوةٍ ** أحبُّ شيءٍ عندها الجمر ) ( وضبة تأكلُ أولادها ** وعترفانٌ بطنهُ صفر ) ( يؤثر بالطعم وتأذينهُ ** منجمُ ليس له فكرُ )
( وكيف لا أعجبُ من عالمٍ ** حشوتهُ التأبيس والدغر ) ( وحكمةٌ يبصرها عاقلٌ ** ليس لها من دونها سترُ ) ( جرادةٌ تخرقُ متنَ الصفا ** وأبغثٌ يصطادهُ صقر ) ( سلاحه رمحٌ فما عذره ** وقد عراه دونه الذعر ) ( يحجم عن فرطِ أعاجيبها ** وعنْ مدى غاياتها السحر ) ( وظيبة تخضمُ في حنظلٍ ** وعقربٌ يعجبها التمرُ ) ( وخنفسُ يسعى بجعلانهِ ** يقوتها الأرواثُ والبعرُ ) ( يقتلها الورد وتحيا إذا ** ضمَّ إليها الروث والجعرُ ) ( وفارة البيشِ إمامٌ لها ** والخلد فيه عجبٌ هترُ )
( وقتفذٌ يسرى إلى حيةٍ ** وحيةٌ يخلى لهُ الجحرُ ) ( وعضر فوطُ ماله قبلةٌ ** وهدهدٌ يكفره بكرُ ) ( وفرةُ العقرب من لسعها ** تخبرُ أن ليسَ لها عذرُ ) ( والببر فيه عجبٌ عاجبٌ ** إذا تلاقى الليث والببرُ ) ( وطائرُ أشرفُ ذو جردة ** وطائرٌ ليسَ لها وكرُ ) ( وثرملٌ تأوى إلى دوبل ** وعسكرٌ يتبعه النسر ) ( يسالمُ الضبعَ بذى مرة ** أبرمها في الرحم العمرُ ) ( وتمسحٌ خللهُ طائرٌ ** وسابحٌ ليسَ لها سحرُ )
( والعثُّ والحفاثُ ذو فحفحٍ ** وخرنقٌ يسفدهُ وبر ) ( حرباؤها في قيظها شامسٌ ** حتى يوافى وقتهُ العصر ) ( يميل بالشقِّ إليها كما ** يميلُ في روضتهِ الزهر ) ( والظربانُ الوردُ قد شفه ** حبُّ الكشى والوحر الحمر ) ( يلوذُ منه الضبُّ مذلولياً ** ولو نجا أهلكهُ الذعرُ ) ( وليس ينجيه إذا ما فسا ** شيءٌ ولو أحرزه قصرُ )
( وهيشنة تأكلها سرفةٌ ** وسمعُ ذئبٍ همهُ الحضرُ ) ( لا تردُ الماءَ أفاعي النقا ** لكنما يعجبها الخمرُ ) ( وفي ذرى الحرملِ ظلُّ لها ** إذا غلا واحتدم الهجرُ ) ( فبعضها طعمُ لبعض كما ** أعطى سهامَ الميسرِ القمرُ ) ( وتمسحُ النيل عقابُ الهوا ** والليثُ رأسٌ وله الأسرُ ) ( ثلاثةٌ ليس لها غالبٌ ** إلاّ بما ينتقضُ الدهرُ ) ( إنِّى وإنْ كنتُ ضعيفَ القوى ** فالله يقضى ولهُ الأمرُ ) ( لست إباضيَّا عبيَّا ولا ** كرافضى ٍ غرهُ الجفرُ )
( كما يغرُّ الآل في سبسبٍ ** سفراً فأودَى عنده السفرُ ) ( لسنا من الحشو الجفاةِ الأولى ** عابوا الذي عابوا ولم يدروا ) ( أن غبتَ لم يسلمكَ من تهمة ** وإنْ رنَا فلحظهُ شزرُ ) ( يعرضُ إن سالمته مدبراً ** كأنما يلسبه الدبرُ ) ( أبلهُ خبٌّ ضغنٌ قلبه ** له احتيالٌ وله مكرُ ) ( وانتحلوا جماعةً باسمها ** وفارقوها فهمُ اليعر ) ( وأهوجُ أعوجُ ذو لوثةٍ ** ليس له رأى ٌ ولا قدر ) ( قد غره في نفسه مثله ** وغرهم أيضاً كما غروا ) ( لا تنجع الحكمةُ فيهم كما ** ينبو عن الجرولة القطرُ ) ( قلوبهم شتًى فما منهم ** ثلاثةٌ يجمعهم أمرُ )
( إلا الأذى أو بهتَ أهلِ التقى ** وأنهم أعينهمْ خزرُ ) ( أولئك الداءُ العضالُ الذي ** أعيا لديه الصابُ والمقر ) ( حيلة من ليست له حيلةٌ ** حسنُ عزاء النفسِ والصبر )
القصيدة الثانية
( ما ترى العالم ذا حشوةٍ ** يقصر عنها عدد القطر ) ( أوابد الوحشِ وأحناشها ** وكلُّ سبع وافر الظفرِ ) ( وبعضه ذو همجٍ هامجٍ ** فيه اعتبارٌ لذوي الفكر ) ( والوزغُ الرقط على ذلهَّا ** تطاعمُ الحياتِ في الجحر ) ( والخنفسُ الأسودُ في طبعه ** مودة العقرب في السر ) ( والحشراتُ الغبرُ منبثةٌ ** بين الورى والبلدِ القفرِ ) ( وكلها شرٌّ وفي شرها ** خيرٌ كثيرٌ عند من يدرى ) ( لو فكرَ العاقلُ في نفسه ** مدةَ هذا الخلقِ في العمر ) ( لم ير إلا عجباً شاملا ** أو حجةً تنقشُ في الصخرِ ) ( فكم ترى في الخلق من آيةٍ ** خفيةِ الجسمان في قعرِ )
( أبرزها الفكر على فكرةٍ ** يحارُ فيها وضحُ الفجرِ ) ( لله درُّ العقلِ من رائدٍ ** وصاحبِ في العسرِ واليسرِ ) ( وحاكمٍ يقضى على غائبٍ ** قضيةَ الشاهدِ للأمرِ ) ( وإن شيئاً بعضُ أفعاله ** أن يفصلَ الخيرَ من الشرِّ ) ( بل أنت كالعين وإنسانها ** ومخرج الخيشوم والنحرِ ) ( فشرهم أكثرهم حيلةً ** كالذئب والثعلب والذر ) ( والليث قد جلده علمه ** بما حوى من شدة الأسر ) ( فتارة يحطمهُ خابطاً ** وتارة يثنيه بالهصر ) ( والضعفُ قد عرف أربابه ** مواضعَ الفرِّ من الكر ) ( تعرف بالإحساس أقدارها ** في الأسر والإلحاح والصبر ) ( والبختُ مقرونٌ فلأتجهلن ** بصاحبِ الحاجة والفقرِ ) ( وذو الكفايات إلى سكرةٍ ** أهونُ منها سكرةُ الخمر ) ( والضبعُ الغثراء مع ذيخها ** شرٌّ من اللبوة والنمر )
( لو خلى الليثُ ببطن الورى ** والنمرُ أو قد جىء بالببر ) ( كان لها أرجى ولو قضقضت ** ما بين قرنيه إلى الصدر ) ( والذئب إن أفلت من شره ** فبعد أن أبلغ في العذر ) ( وكلُّ جنس فله قالبٌ ** وعنصرٌ أعراقه تسرى ) ( وتصنع السرفة فيهم على ** مثلٍ صنيع الأرض والبذر ) ( متى يرى عدوه قاهراً ** أحوجهُ ذاك إلى المكرِ ) ( كما ترى الذئب إذا لم يطقْ ** صاحً فجاءت رسلاً تجرى ) ( وكلُّ شيءٍ فعلى قدره ** يحجم أو يقدم أو يجرى ) ( والكيس في المكسب شملٌ لهمْ ** والعندليب الفرخُ كالنسرِ )
( والخلدْ كالذئب على خبثه ** والفيلُ والأعلم كالوبر ) ( والعبدُ كالحرِّ وإن ساءه ** والأبغثُ الأغثر كالصقر ) ( لكنهم في الدين أيدى سبا ** تفاوتوا في الرأي والقدر ) ( قد غمر التقليدُ أحلامهم ** فناصبوا القياسَ ذا السبر ) ( فاقهم كلامى واصطبر ساعةً ** فإنما النجح مع الصبر ) ( وانظر إلى الدنيا بعين امرىء ** يكره أن يجري ولا يدري ) ( أما ترى الهقلَ وأمعاءه ** يجمعُ بين الصخرِ والجمرِ ) ( وفارةُ البيش على بيشها ** طيبةٌ فائقة العطر ) ( وطائر يسبح في جاحمٍ ** كماهرٍ يسبح في غمرِ ) ( ولطعة الذئب على حسوهِ ** وصنعة السرفة والدبر )
( وظبية تدخلُ في تولجٍ ** مؤخرها من شدة الذعر ) ( تأخذ بالحزم على قانصٍ ** يريغها من قبلِ الدبر ) ( والمقرمُ المعلم ما إنْ له ** مرارةٌ تسمعُ في الذكر ) ( وخصيةٌ تنصلُ من جوفه ** عندَ حدوثِ الموتِ والنحر ) ( ولا يرى من بعدها جازرٌ ** شقشقةً مائلة الهدر ) ( وليس للطرفِ طحالٌ وقد ** أشاعه العالمُ بالأمر ) ( وفي فؤاد الثور عظمٌ وقد ** يعرفه الجازر ذو الخبرِ ) ( وأكثرُ الحيتان أعجوبةً ** ما كان منها عاشَ في البحر ) ( إذْ لا لسانٌ سقى ملحه ** ولا دماغُ السمك النهرى ) ( يدخل في العذب إلى جمه ** كفعل ذى النقلةِ إلى البرِّ )
( تدير أوقاتاً بأعيانها ** على مثالِ الفلك المجرى ) ( وكلُّ جنسٍ فلهُ مدةٌ ** تعاقبَ الأنواء في الشهر ) ( وأكبدٌ تظهرُ في ليلها ** ثمَّ توارى آخرَ الدهر ) ( ولا يسبغ الطعم ما لم يكن ** مزاجه ماءً على قدر ) ( والتتفل الرائغ إما نضا ** فشطر أنبوب على شطر ) ( متى رأى الليث أخا حافر ** تجده ذا فشٍ وذا جزر ) ( وإن رأى النمر طعاماً له ** أطعمه ذلك في النمر )
( وإن رأى مخلبه وافياً ** ونابه يجرح في الصخر ) ( منهرتَ الشدقِ إلى غلصمٍ ** فالنمر مأكولٌ إلى الحشر ) ( وما يعادي النمرُ في ضيغمٍ ** زئيره أصبر من نمر ) ( لولا الذي في أصلِ تركيبه ** من شدةِ الأضلاع والظهر ) ( يبلغ بالجسر على طبعه ** ما يسحر المختالَ ذا الكبر ) ( سبحانَ ربِّ الخلقِ والأمر ** ومنشر الميتِ من القبر ) ( فاصبرْ على التفكير فيما ترى ** ما أقربَ الأجرَ من الوزرِ )
تفسير القصيدة الأولى
نقول بعون اللّه تعالى وقُوته في تفسير قصيدة أبي سهل بشر بن المعتمر ونبدأ بالأولى المرفوعة التي ذكر في آخرها الإباضية والرافضة والنابتة فإذا قلنا في ذلك بما حضرَنا قلنا في قصيدته ما قيل في الذئب أمَّا قوله : كأذْؤُبٍ تنهشُها أذْؤبٌ لها عُواءٌ ولها زَفرُ
فإنَّها قد تتهارشُ على الفريسة ولا تبلغ القتْل فإذا أدْمى بعضها بعضاً وثَبتْ عليه فمزّقته وأكلته وقال الرّاجز : ( فلا تكوني يا ابْنَة الأشَمِّ ** ورقاء دَمّى ذئبها المدمِّي ) وقال الفرزدق : ( وكنْتَ كذئبِ السَّوْء لمّا رأى دماً ** بصاحبه يوماً أحالَ على الدَّمِ ) نعم حتّى رُبما أقبلا على الإنسان إقبالاً واحداً وهما سواءٌ على عداوته والجزْم على أكله فإذا أُدْمي أحدُهما وثب على صاحبه المدْمى فمزّقه وأكله وترك الإنسان وإن كان أحدهما قد أدماه .
ولا أعلمُ في الأرض خلقاً ألأمَ من هذا الخلق ولا شرّاً
منه ويحدث عند رؤيته الدَّم له في صاحبه الطمع ويحدث له في ذلك الطمع فضلُ قوة
ويحدث للمدمَّى جبنٌ وخوف ويحدث عنهما ضعف واستخذاء فإذا تهيأ ذلك منهما لم يكن
دونَ أكله شيء واللّه أعلم حيثُ لم يُعط الذئب قُوة الأسد ولم يعط الأسد جُبن
الذئب الهارب بما يرى في أثر الدم من الضعف مثل ما يعتري الهر والهرة بعد الفراغ
من السِّفاد فإن الهر قبل أن يفرُغ من سفاد الهرة أقوى منها كثيراً فإذا سَفِدها
ولّى عنها هارباً واتبعته طالبةً له فإنها في تلك الحال إن لحقَتْه كانت أقوى منه
كثيراً فلذلك يقطع الأرض في الهرب وربَّما رمى بنفسه من حالق وهذا شيءٌ لا
يعدمانِه في تلك الحال .
ولم أرهم يقِفون على حدِّ العلة في ذلك وهذا بابٌ سيقعُ
في موضعه من القول في الذئب تامّاً بما فيه من الرِّواية وغير ذلك .
الذيخ والثيتل والغفر وأمَّا قوله : منْ خلقه في رزقِه
كلَّهُمْ الذِّيخُ والثّيْتلُ والغُفرُ الذِّيخ : ذكر الضّبع والثّيتل شبيهٌ
بالوعل وهو ممَّا يسكن في رؤوس الجبال ولا يكون في القُرى وكذلك الأوعال وليس لها
حُضرٌ ولا عملٌ محمود على البسيط وكذلك ليس للظباء حُضْر ولا عملٌ محمود في رؤوس
الجبال .
وقال الشاعر : وقال أيضاً : ( والظّبيُ في رأس اليفَاع
تخالُه ** عِنْد الهضاب مُقيَّداً مشْكولا ) والغُفْر : ولد الأُروية : واحد الأرْوى
والأرْوى : جماعةٌ من إناث الأوعال
.
الصَّدع والجأب وأما قوله : ( والصَّدَعُ الأعصمُ في
شاهق ** وجأبةٌ مسكنُها الوعْرُ ) فالصّدع : الشّاب من الأوعال والأعصم : الذي في
عصمته بياضٌ وفي المِعْصم منه سوادٌ ولونٌ يخالفُ لونَ جسده والأُنثى عصماء والجأب
: الحمار الغليظ الشَّديد والجأبة : الأتان الغليظة والجأب أيضاً مهموز : المَغرة
وقال عنترة : ( فنجا أمامَ رِماحِهنَّ كأنَّهُ ** فوْتَ الأسِنة حافر الجأبِ )
شبَّهه بما عليه من لُطوخ الدِّماء برجُل يحفر في معدن المغْرة والمغرة أيضاً
المكْر ولذلك قال أبو زُبيد في صفة الأسد المخمر بالدماء : ( يعاجيهم للشّرِّ ثانِيَ عِطْفِهِ **
عنايته كأنّما باتَ يُمْكُر )
الحية والثعلب والذر وأما قوله : ( والحية الصماء في
جُحرها ** والتَّتفل الرائغ والذّرُّ ) فالتتفل هو الثّعلب وهو موصوفٌ بالرَّوغان
والخبث ويضرب به المثل في النَّذالة والدناءة كما يضرب به المثلُ في الخبْث
والرَّوغان .
وقال طرفة : ( وصاحبٍ قد كنتُ صاحبْتُه ** لا ترك اللهُ
لهُ واضحَه ) ( كلهمُ أرْوغُ من ثعلبٍ ** ما أشبهَ اللّيلة بالبارحَهْ ) وقال
دُريد بن الصمَّة :
( ومُرّة قد أدركتُهم فتركتُهمْ ** يروغُون بالغَرّاءَ روْغ
الثَّعالبِ ) وقال أيضاً : ( ولستُ بثعلبٍ إن كان كونٌ ** يدُسُّ برأسهِ في كُلِّ
جُحْر ) ولمَّا قال أبو محجنٍ الثَّقفي لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من حائط
الطائف ما قال : قال له عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه : إنما أنت ثعلبٌ في جُحْر
فابرزْ من الحصْن إن كنت رجلاً
.
ومما قيل في ذلة الثعلب قال بعض السّلف حين وجد
الثُّعلبان بال على رأس صنمه :
( إله يبول الثُّعلّبانُ برأسِه ** لقد ذَلّ منْ بالتْ عليه الثّعالبُ ) ( تمنَّيْتني قيْسَ بن سعدٍ سفاهةً ** وأنت امرؤٌ لا تحتويك المقانبُ ) ( وأنت امرؤٌ جَعْدُ القفا مُتَعَكِّسٌ ** من الأقِطِ الحوليِّ شبعان كانِبُ ) إذا انتسبوا لم يعرِفوا غير ثعْلبٍ إليهم ومن شرِّ السِّباع الثعالبُ وأنشدوا في مثل ذلك : ( ما أعجبَ الدَّهْرَ في تصرُّفِهِ ** والدَّهْرُ لا تنقضي عجائبُهُ ) ( يبسطُ آمالنا فنبسطها ودون ** آمالِنا نوائبُهُ ) ( وكم رأينا في الدَّهر من أسدٍ ** بالتْ على رأسهِ ثعالبهُ )
ففي
الثَّعلب جلدهُ وهو كريم الوبر وليس في الوَبر أغلى من الثعلب الأسود وهو ضروبٌ
ومنه الأبيضُ الذي لا يُفْصل بينه وبين الفَنَك ومنه الخلنْجيّ وهو الأعمّ .
ومن أعاجيبه أن نَضِيَّهُ وهو قضيبه في خلقة الأنبوبة
أحد شِطْريه عظْمٌ في صورة المثقب
)
والآخر عصبٌ ولحم ولذلك قال بشرُ بنُ المعتمر : (
والتّتفل الرائغُ إمّا نضا ** فشطْرُ أُنبوبٍ على شطْرِ ) وهو سَبُعٌ جبانٌ جدّاً
ولكنَّه لفرط الخبث والحيلة يجرِي مع كبار السّباع .
وزعم أعرابيٌّ ممن يُسمعُ منه أنّه طاردهُ مرّة بكلابٍ
له فراوغه حتّى صار في خَمر ومرّ بمكانه فرأى ثعلباً ميّتاً وإذا هو قد زَكر بطنه
ونفخه فوهّمه أنّه قد مات من يوم أو يومين قال : فتعدّيته
وشمَّ
رائحة الكلاب فوثب وثْبةً فصار في صحراء .
وفي حديث العامَّة أنَّه لما كثُرت البراغيثُ في فرْوته
تناول بفيه إمَّا صُوفةً وإمَّا ليقة ثم أدخل رجليه في الماء فترفّعتْ عن ذلك
الموضع فما زال يغمسُ بدنه أوّلاً فأوّلاً حتَّى اجتمعن في خَطْمه فلمّا غمس خطمه
أوّلاً فأوّلاً اجتمعنَ في الصُّوفة فإذا علم أنّ الصُّوفة قد اشتملت عليهنَّ
تركها في الماء ووثَبَ فإذا هو خارجٌ عن جميعها .
فإن كان هذا الحديثُ حَقّاً فما أعجبه وإن كان باطلاً
فإنّهم لم يجعلوه له إلاّ للفضيلة التي فيه من الخبْثِ والكَيْس .
وإذا مشى الفرسُ مشْياً شبيهاً بمشْي الثعلب قالوا : مشى
الثّعلبيّة قال الراعي : ( وغَمْلى نَصِيٍّ بالمِتانِ كأنّها ** ثعالبُ مَوْتى
جلدها قد تسَلَّعا )
وقال
الأصمعيُّ : سرق هذا المعنى من طفيلٍ الغنويّ ولم يُجِد السَّرق .
وفي تشبيه بعض مشيته قال المرَّار بن مُنقذ : ( صِفَةُ
الثَّعلبِ أدنى جَرْيِهِ ** وإذا يُرْكضُ يَعْفُورٌ أشِرْ ) وقال امرؤ القيس :
والبيت الذي ذكره الأصمعيُّ لطفيل الغنوي أنّ الرَّاعي سرق معناه هو قوله : (
وغمْلى نصيٍّ بالمتان كأنّها ** ثعالبُ موتى جِلْدُها لم ينزعِ ) وأنشدوا في
جُبْنِه قولَ زُهير بن أبي سُلمى
:
( وبَلدةٍ لا تُرام خائفةٍ ** زَوْراءَ مُغْبَرَّةٍ جوانبُها ) (
تسمَعُ للجِنِّ عازِفينَ بها ** تصِيحُ مِنْ رَهْبَةٍ ثعالبُها ) ( كلّفْتُها
عِرْمِساً عُذافِرَةً ** ذاتَ هِبابٍ فُعماً مناكبُها ) ( تُراقبُ المُحْصَدَ
الممَرَّ إذا ** هاجرةٌ لم تَقِلْ جَنادبُها )
والذي عندي أنَّ زُهيراً قد وصف الثّعلب بشدَّة القلْب
لأنهم إذا هَوَّلُوا بذكر الظُّلْمة الوحشيَّة والغيلان لم يذكروا إلاَّ فزع من لا
يكاد يفزع لأنَّ الشاعر قد وصف نفسه بالجراءة على قطع هذه الأرض في هذه الحال .
وفي استنذاله وجبنه قالت أمُّ سالم لابنها مَعْمر : (
أرى مَعْمراً لا زيّنَ اللّهُ مَعْمراً ** ولا زانَهُ منْ زائر يتقرّبُ )
( أعاديْتَنا عاداك عزٌّ وذلَّةٌ ** كأنك في السِّربالِ إذْ جئت ثعلبُ ) ( فلم تَرَ عيني زائراً مثل مَعْمر ** أحقَّ بأن يُجنى عليه ويُضْرَبُ ) ( تأمَّل لما قد نال أمَّك هِجْرِسٌ ** فإنَّك عَبْدٌ يا زُمَيل ذَليلُ ) ( وإني متى أضْرِبْك بالسَّيفِ ضَرْبة ** أُصبِّحْ بني عَمْرٍ و وأنتَ قتيلُ ) الهِجْرس : ولد الثَّعلب قال : وكيف يصْطادُ وهو على هذه الصِّفة فأنشد شعر ابن ميّادة : ( ألم تَرَ أنَّ الوَحْشَ يَخْدَعُ مَرَّةً ** ويُخْدَعُ أحياناً فيُصطاد نُورها ) ( بلى وضَوارِي الصَّيدِ تُخْفِقُ مَرَّة ** وإنْ فُرهتْ عقبانُها ونُسورها ) قال : وسألت عنه بعض الفقهاء فقال : قيل لابن عبّاس : كيف تزعمون أنّ سليمان بن داود عليهما السلام كان إذا صار في البراري حيث
لا ماء
ولا شجر فاحتاج إلى الماء دلّه على مكانه الهدهُد ونحن نغطّي له الفخَّ بالتراب
الرَّقيق ونُبرز له الطُّعم فيقع فيه جَهْلاً بما تحت ذلك التراب وهو يدلُّ على
الماء في قعر الأرض الذي لا يوصل إليه إلاّ بأن يحفر عليه القيِّم الكيِّس .
قال : فقال ابنُ عبّاس رضي اللّه عنهما : إذا جاء
القدَرُ لم ينفع الحذر .
وأنشدوا : ( خير الصديق هو الصَّدوق مقالةً ** وكذاك
شَرُّهم الميُون الأكذبُ ) وقال حسّان بن ثابت رضي اللّه عنه : ( بني عابدٍ شاهَتْ
وجُوهُ الأعابِد ** بِطاءٌ عن المعروف يوم التّزايُدِ )
( فما كان صَيفيٌّ يفي بأمانة ** قَفا ثعلب أعْيا ببعض المراصِدِ ) وأنشد : ) ( ويشْرَبُه مَذْقاً ويسقِي عِياله ** سَجاجاً كأقرابِ الثَّعالبِ أوْرقا ) وقال مالك بن مِرْداس : ( يا أيُّها ذا الموعِدِي بالضرِّ ** لا تلعبنَّ لِعبةَ المغترِّ ) ( أخافُ أنْ تكونَ مثل هرِّ ** أو ثَعْلبٍ أُضيعَ بعد حُرِّ )
( هاجَتْ به مخيلة الأظفر ** عسراء في يوم شمال قَرِّ ) ( يجول
منها لثق الذعر ** بصردٍ ليس بذي محجر ) ( تنفض أعلى فرْوِهِ المغبرِّ ** تنفضُّ
منها نابها بشزر ) نفضاً كلون الشره المخمر المخيلة : العقاب الذّكر الأشبث صرد :
مكان مطمئن .
وقال اليقطري : كان اسمُ أبي الضّريس ديناراً فقال له
مولاه : يا دنينير فقال : أتصغِّرني وأنت من سلاح الثعلب ومن أشدِّ سِلاح الثَّعلب
عندكم الرَّوغان والتّماوُت وسلاحه أنتنُ وألزجُ وأكثرُ من سُلاح الحبارى .
وقالت العرب : أدهى من ثعلب وأنتن من سُلاح الثَّعلب .
وله عجيبةٌ في طلب مقتل القنقذ وذلك إذا لقيه فأمكنهُ من
ظهرهِ بالَ عليه فإذا فعل ذلك به ينبسط فعند ذلك يقبض على مَراقِّ بطْنه .
أرزاق الحيوان ومن العجب في قسمة الأرزاق أنّ الذّئب
يصيد الثّعلب فيأكله ويصيد الثّعلب القنقذَ فيأكله ويُريغ القنفذ الأفعى فيأكلها
وكذلك صنيعُه في الحيَّات ما لم تعظُم الحيَّة والحيَّة تصيدُ العصفور فتأكلهُ
والعصفور يصيد الجراد فيأكله والجراد يلتمس فِراخَ الزّنابير وكلّ شيء يكون
أفحوصُهُ على المستوي والزُّنبور يصيد النّحلة فيأكلها والنَّحلة تصيد الذبابة
فتأكلها والذبابة تصيدُ البعوضة فتأكلها .
الإلقة والسهل والنوفل والنضر وأمَّا قوله : فالإلقة
هاهنا القردة تُرْغِث : ترضع والرُّبَّاح : ولد القِردة
والسَّهْل : الغراب والنَّوفل : البحر والنَّضْر : الذهب وكلُّ جَرِيَّةٍ من النِّساء وغيرِ ذلك فهي إلْقةٌ وأنشدني بشرُ بن المعتمر لرؤبة : جَدّ وجدّت إلقةٌ من الإلقْ وقد ذكرنا الهِقْلَ وشأنه في الجمر والصّخْر وأكلَ الضّبِّ أولاده في موضعه من هذا الكتاب وكذلك قوله في العُتْرُفان وهو الديك الذي يؤثر الدَّجاج بالحبّ وكأنّه منجِّم أو صاحبِ أسْطُرلاب وذكرنا أيضاً ما في الجراد في موضعه ولسنا نُعيدُ ذكر ذلك وإن كان مذكوراً في شعر بشر .
الأبغث وأمّا قوله : وأبغث يصطاده صقر ثم قال : ( سلاحُه
رُمْحٌ فما عُذْرُه ** وقد عَراه دُونه الذعرُ ) يقول : بدنُ الأبغث أعظمُ من بدن
الصقر وهو أشدُّ منه شِدَّة ومنقارُه كسنان الرُّمْح في الطول والذّرب وربَّما
تجلّى له الصَّقرُ والشّاهينُ فَعَلقَ الشّجر والعَرار وهتك كلَّ شيء يقول : فقد
اجتمعت فيه خصالٌ في الظّاهر معينةٌ له عليه ولولا أنّه على حال يعلم أنَّ الصَّقر
إنما يأتيه قبُلاً ودبُراً واعتراضاً ومن عَلُ وأنه قد أعطى في سلاحه وكفِّه فضل
قوَّة لما استخذى له ولما أطمعه بهرَبِه حتّى صارت جُرأته عليه بأضعاف ما كانت .
قال بعضُ بني مروان في قتل عبد الملك عَمْرو بن سعيد : (
كأنَّ بني مَرْوان إذ يقتلونه **
بغاثٌ من الطّيرِ اجتمعن على صقْر ) ما يقبل التعليم من
الحيوان وأمَّا قوله :
( والدُّبُّ والقِرد إذا عُلِّما ** والفيل والكَلْبة واليَعْرُ
) فإن الحيوان الذي يَلْقَن ويَحْكِي ويَكيِسُ ويُعلَّم فيزداد بالتّعليم في هذه
التي ذكرنا وهي الدّبّ والقِرد والفيل والكلب .
وقوله : اليعر يعني صغار الغنم ولعمري أنَّ في المكّيّة
والحبشيَّة لعباً .
حب الظبي للحنظل والعقرب للتمر وأمَّا قوله : ( وظبيةٌ
تخضِمُ في حَنْظل ** وعَقْرَبٌ يُعْجِبها التَّمرُ ) ففي الظَّبي أعاجيبُ من هذا
الضرب وذلك أنّه ربّما رَعى الحنظل فتراه يقبِضُ ويعضُّ على نِصف حنظلةٍ فيقدّها
قد الخسْفة فيمضغُ ذلك النصفَ وماؤُه يسيلُ من شدقيه وأنت ترى فيه الاستلذاذ له
والاستحلاء لطعمه .
وخبرني أبو محجن العنزيّ خالُ أبي العميثل الرّاجز قال :
كنت
أرى
بأنطاكية الظّبي يُرِدُ البحر و يشربُ المالحَ الأجاج .
والعقْرب ترمي بنفسها في التَّمر وإنّما تطلب النَّوى
المُنْقع في قعر الإناء .
فأيُّ شيء أعجبُ من حيوانٍ يستعذب مُلوحة البحر ويستحلي
مرارة الحنظل .
وسنذكر خصال الظّبي في الباب الذي يقع فيه ذكره إن شاء
الله تعالى ولسنا نذكر شأن الضبِّ والنَّمل والجعل والرَّوث والورد لأنّا قد
ذكرناه مرّة .
فأرة البيش وأمّا قوله : ( وفأرة البِيش إمامٌ لها **
والخلْدُ فيه عجبٌ هترُ ) فإن فأرة البيش دُويْبة تشبة الفأرة وليست بفأرة ولكن
هكذا تسمّى وهي تكون في العياض والرِّياض ومنابت الأهضام وفيها سمومٌ كثيرة كقرون
السُّنْبل وما في القُسْط فهي تتخلَّل تلك
وقد ذكرنا
شأن القنقذ والحيَّة في باب القول في الحيّات .
العضرفوط والهدهد وأمَّا قوله : وعضرفوطٌ ما له قِبْلة
فهو أيضاً عندهم من مطايا الجنّ وقد ذكره أيمنُ بن خُريم فقال : ( وخيلُ غزالة
تَنْتابُهُمْ ** تجوب العِراقَ وتَجْبي النَّبِيطا ) ( تَكُرُّ وتُجْحِر
فُرسانَهُمْ ** كما أجْحَرَ الحيَّةُ العَضْرفوطا )
لأن
العضرفوط دويْبّة صفيرةٌ ضعيفة والحيّات تأكلها وتغصِبها أنفسها .
وأنشدوا على ألسنة الجنّ : ( ومن عَضْرَفوطٍ حَطَّ بي فأقمته
** يبادِرُ وِرْداً مِنْ عظاءٍ قوارِبِ ) وأمّا قولُه : وهدهدٌ يُكْفِرُهُ بكرُ
فإنَّما ذلك لأنَّه كان حاجَّ بكر ابن أختِ عبد الواحد صاحب البكريَّةِ فقال له :
أتخبرُ عن حال الهدهُدِ بخبر إنه كان يعرفُ طاعة اللّه عزَّ وجل من معصيته وقد ترك
موضِعَه وسار إلى بلاد سبأ وهو وإن أطرف سليمان بذلك الخبر وقبِله منه فإنَّ
ذَنْبَه في ترْك موضعه الذي وُكِّل به وجولانِه في البُلدان على حاله ولا يكون ذلك
مما يجعل ذنبه السابق إحساناً والمعصيةُ لا تنقلبُ
طاعة فلم
لا تشهد عليه بالنِّفاق قال : فإني أفعل قال : فحكى ذلك عنه فقال : أمّا هو فقد كان
سلم على سُليمان وقد كان قال : لأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شديداً أوْ لأذْبحنّهُ أوْ
ليَأْتينِّي بِسُلْطانٍ مُبينٍ فلمَّا أتاه بذلك الخبر رأى أنّه قد أدلى بحجّة
فلمْ يعذِّبْه ولم يذبَحْه فإن كان ذنبُه على حاله فكيف يكون ما هجم عليه ممَّا لم
يُرسل فيه ولم يقْصِد له حُجَّة وكيف يُبْقي هذا عليه .
وبكر يزعم أن الأطفال والبهائم لا تأثم ولا يجوز أن
يُؤْثم الله تعالى إلاّ المسيئين فقال بشرٌ لبَكْر : بأيِّ شيءٍ تستدلُّ على أنّ
المسيء يعلمُ أنه مسيء قال : بخجله واعتذاره بتوبته قال : فإنّ العقرب متى لسعت
فرّتْ من خوف القتْل وهذا يدلُّ على أنَّها جانية وأنت تزعمُ أنّ كلَّ شيءٍ عاصٍ
كافرٌ فينبغي للعقرب أن تكون كافرة إذا لم يكن لها عذرٌ في الإساءة .
الببر والنمر وأمّا قوله : ( والبَبْرُ فيه عجبٌ عاجبٌ
** إذا تلاقى الليث والنَّمْرُ ) لأنّ الببر مسالِمٌْ للأسد والنَّمر يطالبه فإذا
التقيا أعان الببر الأسد .
الخفاتش
والطائر الذي له وكر
وأمّا قوله : ( وطائِرٌ أشْرَفُ ذو جُرْدة ** وطائِرٌ
ليس له وكرُ ) فإنّ الأشرفَ من الطَّير الخُفّاش لأنَّ لآذانها حجماً ظاهراً وهو
متجرِّدٌ من الزَّغب والرِّيش وهو يلد
.
والطّائِر الذي ليس له وكرٌ هو طائرٌ يخبر عنه
البحريُّون أنّه لا يسقُط إلاّ ريثما يجعلُ لبيضه أُدحيّاً من تراب ويغطّي عليه
ويطير في الهواء أبداً حتّى يموت وإن لقى ذكرٌ أنثى تسافدا في الهواء وبيضه يتفقص
من نفسه عند انتهاء مُدَّته فإذا أطاق فرخُه الطّيران كان كأبويه في عاداتهما .
الثعالب والنسور والضباع وأمّا قوله : ( وثُرْمُلٌ
تأوي إلى دَوْبَلٍ ** وعسْكرٌ يتبعه النسرُ ) ( يُسالم الضّبْعَ بذي مرةٍ **
أبرمها في الرحم العُمْرُ )
فالثرْملة : أنثى الثّعالب وهي مسالمِة للدَّوبل وأمَّا قوله : وعسكر يتبعه النّسر فإن النسور تتبع العساكر وتتبع الرِّفاق ذواتِ الإبل وقد تفعل ذلك العِقبان وتفعله الرَّخم وقد قال النَّابغة : ( وثقتً بالنصرِ إذ قيل لهً قد غدتْ ** كتائبُ من غسانَ غيرُ أشائب ) ( بنو عمِّه دنيا وعمرو بن عامر ** أولئك قومٌ بأسهمْ غيرُ كاذب ) ( إذا ما غزوا بالجيشِ حلقَ فوقهمْ ** عصائبُ طيرٍ تهتدى بعصائب ) ( جوانحُ قد أيقنَّ أن قبيله ** إذا ما التقى الجمعانِ أوّل غالبِ ) ( تراهنَّ خلفَ القومِ خزراً عيونها ** جلوسَ الشيوخِ في مسوك الأرانب )
والأصمعي يروي : جلوسَ الشيوخ في ثياب المرانِب .
وسباع الطير كذلك في اتباع العساكر وأنا أرى ذلك من
الطمع في القتلى وفي الرَّذايا والحسْرَى أو في الجهيض وما يُجْرح .
وقد قال النّابغة : ( سَمَاماً تُباري الرِّيحَ خُصوماً
عُيونُها ** لَهُنَّ رذَايا بالطَّريقِ وَدائِعُ ) وقال الشاعر : ( يشُقّ سماحِيقَ
السّلا عن جَنينِها ** أخو قَفْرَةٍ بادِي السَّغابَةِ أطْحَلُ )
وقال حميد
بن ثور في صفة ذئب : ( إذا ما بدا يوماً رأيتَ غيايةً ** من الطير ينظرْن الذي هو
صانعُ ) لأنّه لا محالة حين يسعى وهو جائع سوف يقع على سبع أضعف منه أو على بهيمةٍ
ليس دونها مانع .
وقد أكثر الشُّعراءُ في هذا الباب حتّى أطنب بعضُ
المحدثين وهو مسلم بن الوليد بن يزيد فقال : ( يكسو السيوف نفوس الناكثين به **
وَيجعلُ الهامَ تِيجان القنا الذُّبُلِ
)
( قد عَوَّدَ الطَّيرَ عاداتٍ وثِقْنَ بها ** فهُنَّ يتْبعْنَه
في كلِّ مُرْتَحلِ ) ولا نعلم أحداً منهم أسرَفَ في هذا القول وقال قولاً يُرغبُ
عنه إلا النابغة فإنَّه قال : ( جوانحُ قد أيقنَّ أنّ قبيلهُ ** إذا ما التقى
الجمعانِ أوّلُ غالبِ ) وهذا لا نُثْبته . وليس عند الطَّير والسِّباع في اتّباع
الجموع إلاَّ ما يسقط من ركابهم ودوابِّهم وتوقّع القتل إذْ كانوا قد رأوا من تلك
الجُموع مرَّةً أو مراراً فأمّا أن تقصد بالأمل واليقين إلى أحد الجمعين فهذا ما
لم يقلْه أحدٌ .
نسر لقمان وقد أكثر الشُّعراءُ في ذكر النسور وأكثر ذلك
قالوا في لُبَد .
قال النَّابغة :
فضربه مثلاً في طُول السَّلامة وقال لبيد : ( لما رأى صبحٌ سوادَ خليله ** من بين قائمِ سيفهِ والمحمل ) ( صبحنَ صبحاً يوم حقَّ حذاره ** فأصاب صبحاً قائماً لم يعقل ) ( فالتفَّ منقصفاً وأضحي نجمهٌ ** بين التراب وبين حنو الكلكل ) ( ولقد جرى لبدٌ فأدركَ جريه ** ريبُ الزمانِ وكان غير مثقلِ ) ( لما رأى لبد النسور تطايرتْ ** رفعَ القوادمَ كالفقير الأعزل )
( من تحته لقمانُ يرجو نفعه ** ولقد رأى لقمانُ أن لم يأتل ) وإن أحسنت الأوائل في ذلك فقد أحسن بعض المحْدَثين وهو الخزرجي في ذكر النَّسر وضرب المثل به وبلبد وصِحَّة بدنِ الغراب حيث ذكرَ طولَ عمر مُعاذِ بن مُسلم بن رجاء مولى القعقاع بن شَور وكان من المعَمرين طعن في السن مائَةً وعشرينَ سنةً وهو قوله : ( إن معاذَ بنَ مسلمٍ رجلٌ ** قد ضجَّ من طولِ عمره الأبدُ ) ( قد شابَ رأسُ الزمانِ واختضب ال ** دهرً وأثوابُ عمرِ جدد ) ( يا نسرَ لقمانَ كمْ تعيشُ وكمْ ** تلبسُ ثوبَ الحياةِ يا لبد )
( قد أصبحتْ دارُ آدمٍ خربتْ ** وأنتَ فيه كأنك الوند ) 4
شعر وخبر فيما يشبه بالنسور
وما تعلق بالسَّحاب من الغيم يشبَّه بالنَّعام وما تراكبَ عليه يُشبَّه بالنسور قال الشاعر : ( خليلى َّ لا تستسلما وادعوا الذي ** له كلُّ أمر أنْ يصوبَ ربيعُ ) ( حياً لبلادٍ أنفذ المحلُ عودها ** وجبرٌ لعظمٍ في شظاه صدوعُ ) ( بمنتصر غرِّ النشاصِ كأنها ** جبالٌ عليهنّ النسورُ وقوعُ ) ( عسى أن يحلّ جزعاً وإنها ** وعلَّ النوى بالظاعنينَ تريعُ )
وشبّه العُجير السّلوليّ شُيوخاً على باب بعضِ الملوك بالنسور فقال : ( فمنهن إسآدي على ضوء كوكبٍ ** له من عمانيّ النُّجوم نظيرُ ) ( ومنهن قرْعي كلَّ بابٍ كأنّما ** به القومُ يرْجونَ الأذين نُسورُ ) ( إلى فَطِنٍ يستخرج القلبَ طرْفُه ** له فوق أعواد السَّريرِ زئيرُ ) وذكرت امرأةٌ من هُذيلٍ قتيلاً فقالت : ( تمشى النسورُ إليه وهي لاهِيَةٌ ** مشيَ العذارى عَلَيهِنَّ الجلابيبُ ) تقول : هي آمنةٌ أنْ تُذعر . ( وعند الكلابيِّ الذي حلَّ بيْتُه ** بجوٍّ شِخَابٌ ماضرٌ وصَبُوحُ )
( ومكسورةٌ حمْرٌ كأنَّ مُتونها ** نُسورٌ إلى جَنْبِ الخوان
جُنوحُ ) مكسورة : يعني وسائد مثنيَّة وقال ابن ميّادة : ( ورَجَعْتُ مِنْ بَعْدِ
الشَّبابِ وعصرِه ** شيخاً أزبَّ كأنَّه نَسْرُ ) وقال طرفة : ( فلأ منعنَّ
مَنَابتَ الضّ ** مران إذ منع النسور ) وفي كتاب كليلة ودمنة : وكُنْ كالنَّسْرِ
حَوْلَهُ الجيفُ ولا تكنْ كالجِيفِ حولها النسور فاعترض على ترجمة ابن المقفَّع
بعضُ المتكلِّفين من فتيان الكتّاب فقال : إنما كان ينبغي أن يقول : كُنْ كالضِّرس
حُفَّ بالتُّحَف ولا تكنْ كالهبْرة تطيف بها الأَكَلة أطنّه أراد الضُّروس فقال
الضّرس وهذا من الاعتراض عجبٌ .
ويوصف النسر بشدّة الارتفاع حتّى ألحقوه بالأنوق وهي
الرَّخمة .
وقال عديُّ بن زيد :
( فوق عَلْياءَ لا يُنال ذُراها ** يَلْغَبُ النّسرُ دُونها والأَنوقُ ) وأنشدوا في ذلك : ( يَدْنون ما سألوا وإن سُئلوا ** فهُمُ معَ العَيُّوق والنَّسْرِ ) وقال زيد بن بِشْر التّغلبي في قتل عمير بن الحباب : ( لا يجُوزنَّ أرْضنا مُضَرِيُّ ** بخفير ولا بغيرِ خَفيرِ ) ( طحنَتْ تغلبٌ هوازِنَ طحْناً ** وألحَّت على بني مَنْصورِ ) ( يومَ تَرْدي الكماةُ حول عمير ** حَجَلانَ النسور حَوْلَ جَزُورِ ) وقال جميل : ) ( وما صائبٌ من نابلٍ قذفتْ به ** يدٌ وممرُّ العقدتينِ وثيقُ )
( له من خوافى النسرِ حمٌّ نظائرٌ ** ونصلٌ كنصل الزاعبى ِّ رقيقُ ) ( على نبعةٍ زوراءً أما خطامها ** فمتنٌ وأما عودها فعتيق ) ( بأوشكَ قتلاً منكِ يومَ رميتنى ** نوافذَ لم تظهرْ لهن خروق ) ( فلمْ أرَ حرباً يا بثينَ كحربنا ** تكشفُ غماها وأنتِ صديقُ ) مسالمة النسر للضبع وأما قوله : ( يُسالم الضّبْع بذي مِرّةٍ ** رَمها في الرَّحِمِ العُمْرُ )
لأنَّ
النَّسر طيرٌ ثقيلٌ عظيمٌ شرِهٌ رغيبٌ نهم فإذا سقط على الجيفة وتملأ لم يستطعِ
الطّيران حتى يثب وثباتٍ ثمّ يدور حولَ مسقطهِ مِراراً ويسقُط في ذلك فلا يزالُ
يرفع نفسه طبقةً طبقةً في الهواء حتى يُدخِلَ تحته الرِّيح فكلُّ من صادفه وقد بَطِن
وتملأ ضربه إن شاء بعصاً وإن شاء بحجر حتّى ربما اصطاده الضَّعيف من الناس .
وهو مع ذلك يشارك الضَّبع في فريسة الضبع ولا يثبُ عليه
مع معرفته بعجْزِه عن الطّيران وزعَمَ أنّ ثقته بطول العمر هو الذي جرَّأه على ذلك . 4
ستطراد لغوي
ويقال :
هوت العُقاب تهوي هُوِيّاً : إذا انقضّت على صيدٍ أو غيره ما لم
ترِغه فإذا أراغتْه قيل أهوت له إهواءً والإهواء أيضاً التَّناول باليد والإراغة
أن يذهب بالصيد هكذا وهكذا .
ويقال دوَّم الطائر في جوّ السّماء وهو يدوِّم تدويماً :
إذا دار في السماء ولا يحرك جناحيه
.
ويقال نسره بالمِنْسَر وقال العجَّاج : ( شاكي الكلاليب
إذا أهْوى ظَفَرْ ** كعَابِرَ الرؤوس منها أو نسَرْ ) والنسر ذو منسر وليس بذي مخلب
وإنما له أظفارٌ كأظفار الدّجاج
.
وليس له سلاحٌ إنّما يقوى بقوّة بدنه وعِظمه وهو سبعٌ
لئيمٌ عديم السِّلاح وليس من أحرار ولوع عتاق الطير بالحمرة ويقال إنّ عتاق الطير
تنقضُّ على عُمود الرّحل وعلى الطِّنفسة والنمرق فتحسبه لحمرته لحماً وهم مع ذلك
يصفونها بحدَّة البصر ولا أدري كيف ذلك
. )
وقال غيلان بن سلمة : ( في الآل يخفِضُها ويرفَعُها **
رَيعٌ كأنّ مَتونَه السَّحلُ ) ( عَقْلاً ورَقْماً ثمَّ أردفه ** كِللٌ على
ألوانها الخَمْلُ ) ( كدم الرُّعافِ على مآزرها ** وكأنَّهنَّ ضوامراً إجلُ ) وهذا
الشِّعر عندنا للمسيَّب بن عَلس وقال علْقمة بن عَبدة : ( ردّ الإماءُ جمالَ
الحيِّ فاحتملوا ** وكلّهَا بالتَّزيدِياتِ مَعْكُومُ )
( عَقْلاً ورَقْماً يظلُّ الطّيرُ يتبعُه ** كأنّه من دَمِ
الأجوافِ مَدْمُومُ ) شعر في العقاب وقال الهذليّ : ( ولقد غَدَوْتُ وصاحبي
وحشيَّةٌ ** تحتَ الرِّداء بصيرةٌ بالمشرفِ ) يعني عقاباً وقوله : بصيرة بالمشرف
يريد الرّيح من أشرفَ لها أصابتْه
.
وقال الآخرُ في شبيهٍ بهذا : ( فإذا أتتْكُمْ هذه
فتلبّسُوا ** إنّ الرِّماح بصيرةٌ بالحاسِرِ ) وقال آخر :
( كأنِّي إذْ عَدَوْا ضَمَّنْتُ بزِّي ** مِن العِقْبانِ خائِتَةً طَلُوبا ) ( جريمةَ ناهضٍ في رأس نيقٍ ** تَرى لعِظامِ ما جَمعَتْ صليبا ) وقال طُفيل الغنويّ : ( تبيتُ كعِقْبان الشُّرَيف رجاله ** إذا ما نَوَوْا إحداثَ أمْرٍ مُعَطّبِ ) أي أمهلوا وقال دُريد : ( تعللتُ بالشطاء إذْ بانَ صاحبى ** وكلُّ امرىءٍ قد بانَ إذْ بان صاحبه ) ( كأنى وبزى فوقَ فتخاءَ لقوةٍ ** لها ناهضٌ في وكرها لا تجانبه )
( فباتتْ عليه ينفضُ الطلًّ ريشها ** تراقبُ ليلاً ما تغورُ
كواكبه ) ( فلما تجلى الليلُ عنها وأسفرت ** تنفض حسرى عن أحصٍ مناكبه ) ( رأت
ثعلباً من حرةٍ فهوتْ لهُ ** إلى حرةٍ والموتُ عجلانُ كاربه )
جفاء العقاب زعم صاحبُ المنطق أنّه ليس شيءٌ في الطّير
أجفى لفِراخه من العُقاب وأنّه لا بدّ من أن يُخْرجَ واحداً وربما طردَهُنَّ
جميعاً حتّى يجيء طائرٌ يسمّى كاسر العظام فيتكفّل به .
ودريدُ بن الصِّمَّة يقول : ( كأني وبزِّي فوق فتخاءَ
لقْوةٍ ** لها ناهضٌ في وكْرها لا تجانِبُه ) ما يعتري العقاب عند الشبع وقد يعتري
العُقاب عند شِبعها من لحم الصّيد شبيهٌ بالذي ذكرنا في النسر وأنشد أبو صالحٍ
مسعود بن قنْد لبعض القيسيِّين
:
( قرى الطّير بعد اليأس زيدٌ فأصبحتْ ** بوحْفاء قَفْرٍ ما
يدِبُّ عُقابُها ) ( وما يتخطّى الفحلَ زيدٌ بسيفهِ ** ولا العِرْمسَ الوَجناء قد
شقَّ نابُها ) ( وإن قيل مَهْلاً إنّه شدنِيّةٌ ** يقطِّع أقران الجِبالِ جذابُها
) خبّر أنّه يعتري العُقاب من الثِّقل عند الطيران من البِطْنة ما يعتري النسر .
شعر في العقاب وقال امرؤُ القيس إن كان قاله
: فأبصرت شخصهُ من فوقِ مرقبةٍ ودونَ موقعها منهُ شناخيب ( فأقبلتْ نحوه في الجوِّ كاسرةً ** يحثُّها من هوى ِّ اللوح تصويب ) ( صبتْ عليه ولم تنصبّ من أممٍ ** إنَّ الشقاء على الأشقين مصبوبُ ) ( كالدلو بتتُ عراها وهي مثقلةٌ ** إذْ خانها وذمٌ منها وتكريب ) ( لا كالتي في هواء الجوِّ طالبةً ** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب ) ( كالبرق والريح مرآتاهما عجبٌ ** ما في اجتهادٍ على الإصرار تغبيب ) ( فأدركته فنالته مخالبها ** فانسل من تحتها والدفُّ مثقوب ) ( يلوذُ بالصخر منها بعدَ ما فترت ** منها ومنه على الصخر الشآبيب )
( سقط : بيت الشعر ) ( يلوذالصخر منها بعد ما فترت ** منها ومنه
على الصخر الشآبيب ) ( ثم استغاثت بمتنِ الأرض تعفرهُ ** وباللسان وبالشدقين تتريب ) ( ما
أخطأته المنايا قيسَ أنملةِ ** ولا تحرزَ إلاّ وهو مكتوب ) ( يظلُّ منجحراً منها
يراقبها ** ويرقب الليلَ إنَّ الليلَ محبوب )
وقال زهير : ( تنبذُ أفلاذهَا في كلِّ منْزلةٍ ** تَنتِخُ
أعيُنَها العِقبانُ والرَّخَمُ ) تنتِخ : أي تنزع وتستخرج والعرب تسمِّي المنقاش
المِنتاخ . ( حديثاً من سماعِ الدَّلِّ وعر ** كأنَّ نَقيقَهُنَّ نقيِقُ رُخمِ )
والنقيق مشترك يقال : نقّ الضفدع ينقُّ نقيقاً .
ويقال : أعزُّ من الأبْلق العَقُوق و : أبعدُ من بيض
الأنوق .
فأمَّا بيض الأنوق فربما رئي وذلك أنَّ الرَّخم تختارُ
أعاليَ الجبال وصدُوعَ الصَّخر والمواضِعَ الوحشيّة وأمّا الأبلق فلا يكون عقوقاً
وأما العقوق البلْقاء فهو مَثلٌ وقال : ( ذكرناكِ أن مَرَّتْ أمامَ ركابنا ** من
الأُدْمِ مخماص العشيِّ سلوبُ ) ( تدلّتْ عليها تَنفُضُ الرّيش تحتها ** براثِنُها وراحُهنَّ
خَضيبُ ) ( خداريَّة صقْعاء دُون فراخِها ** من الطَّودِ فأْوٌ بينها ولهوبُ ) (
إذا القانِص المحروم آبَ ولم يُصِبْ
** فمطعَمُهُ جُنْحَ الظّلامِ نَصيبُ ) ( فأصبحت بعد
الطير ما دون فارة ** كما قام فوق المنْصِتِين خطيبُ ) وقال بشرُ بن أبي خازم :
( فما صَدْعٌ بِخيَّة أو بَشَرْقٍ ** على زَلق زُمَالقَ ذي كهافِ ) ( تَزلُّ اللِّقْوة الشَّغْواء عنها ** مخالبُها كأطْرافِ الأشافي ) وقال بشر أيضاً : فإن تجعلِ النَّعماء منك تمامَةًونُعماك نعمى لا تزال تفيضُ ( تكنْ لك في قومي يدٌ يشكرونها ** وأيدي النّدى في الصالحين قروض ) وعلى شبيهٍ بهذا البيت الآخر قال الحطيئة : ( مَنْ يفعل الخيرَ لا يَعدَمْ جوازيَهُ ** لا يذْهبُ العُرْفُ بين اللّهِ والنَّاسِ )