مجلد 10.
من كتاب:الحيوان
المؤلف:أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ
وقال عقيل
بن العرندس : ( حبيبٌ لقرطاسٍ يؤدِّي رسالة ** فيالكِ نفساً كيف حان ذُهولها ) (
وكنت كفرخِ النسْر مُهِّد وكْرُه ** بملتفَّةِ الأفنانِ حيلٌ مقيلُها )
التمساح والسمك وأما قوله : ( وتِمْسحٌ خَلَّلَهُ طائرٌ
** وسابحٌ ليس له سَحْرُ ) فالتمساح مختلف الأسنان فينشب فيه اللحم فيغمُّه فيُنتن
عليه وقد جُعل في طبعه أن يخرُج عند ذلك إلى الشط ويشحا فاه لطائر يعرفه بعينه
يقال إنه طائرٌ صغير أرقط مليح فيجيء من بين الطير حتى يسقط بين لحييه ثم ينقرُه
بمنقاره حتّى يستخرج جميع ذلك اللحم فيكون غذاءً له ومعاشاً ويكونُ تخفيفاً عن
التِّمساح وترفيهاً فالطائر الصغير يأتي ما هنالك يلتمس وأما قوله : وسابح ليس له
سَحْر فإن السمك كلَّه لا رئة
له قالوا
: وإنما تكون الرِّئة لمن يتنفس هذا وهم يرون منخري السَّمك والخرق النَّافذ في
مكان الأنف منه ويجعلون ما يرون من نفسه إذا أخرجوه من الماء أن ذلك ليس بنفس يخرج
من المنخرين ولكنه تنفس جميع البدن .
العث والحفاث وأما قوله : ( والعُث والحُفّاث ذو نفخةٍ ** وخرنقٌ يسفِده
وَبْرُ ) فإنَّ الحُفَّاث دابّة تشبه الحيّة وليست بحيّة وله وعيدٌ شديدٌ ونفْخ
وتوثُّب ومن لم يعرفْه كان له أشدَّ هيبةً منه للأفاعي والثّعابين وهو لا يضرُّ
بقليل ولا كثير والحيّات تقتله وأنشد : ( أيفايشون وقد رأوْا حُفّاثهم ** قَدْ
عضَّه فقضى عليه الأسودُ ) والعثُّ : دويْبة تقرض كلَّ شيء وليس له خطرٌ ولا قوّة
ولا بدن .
قال الرَّاجز
:
( يحثُّني ورْدانُ أيَّ حثّ
** وما يحثُّ من كبيرٍ عَثِّ ) إهابُه مثلُ إهاب العُثّ ( وعَثٍّ قدْ وكلْتُ إليه
أهْلي ** فطاحَ الأهلُ واجتِيحَ الحريمُ ) ( وما لاهى به طرفٌ فيوحي ** ولا صَكٌّ
إذا ذكر القضِيمُ ) وأنشد آخر : ( فإن تشتمونا على لُؤْمِكُمْ ** فقد يقرض العثُّ
مُلْسَ الأديمِ )
وقالوا في الحُفَّاث هجا الكروبي أخاه فقال : ( حُبارى
في اللِّقاء إذا التقينا ** وحُفَّاثٌ إذا اجتمع الفريقُ ) وقال أعرابي : ( ولستُ
بحفَّاثٍ يُطاوِلُ شَخْصَهُ ** وينفخُ نَفْخَ الكيرِ وهو لَئيمُ ) وقع بين رجلٍ من
العرب ورجل من الموالي كلامٌ فأربى عليه المولى وكان المولى فيه مَشابهُ من العرب
والأعراب فلم يشكَّ ذلك العربيُّ
أن ذلك
المولى عربيُّ وأنَّه وسط عشيرتِه فانخزل عنه فلم يكلمْه فلما فارقه وصار إلى
منزله علم أنه مولى فبكر عليه غُدوةً فلما رأى خِذْلان جلسائه له ذلَّ واعتذر فعند
ذلك قال العربيُّ في كلمةٍ له : ( ولم أدْرِ ما الحفاثُ حتّى بلوتُه ** ولا نفض
للأشخاصِ حتّى تكشّفَا ) وقد أدركتُ هذه القضية وكانت في البحرَين عند مسحر بن
السكن عندنا بالبصرة فهو قوله : والعثّ والحفّاث ذو نفخةٍ لأن الحفاث له نفْخ
وتوثُّب وهو ضخمٌ شنيعُ المنظر فهو يهول من لا يعرفه .
وكان أبو ديجونة مولى سليمان يدَّعي غاية الإقدام
والشَّجاعة والصَّرامة فرأى حُفّاثاً وهو في طريق مكة فوجده وقد قتله أعرابيٌّ
ورآه أبو ديجونة كيف ينفخ ويتوعّد فلم يشك إلا أنه أخبتُ من الأفعى ومن الثعبان
وأنه إذا أتى به أباه وادعى أنه قتله سيقضي له بقتل الأسد والببْر والنمر في نِقاب
فحمله وجاء به إلى أبيه وهو مع أصحابه وقال : ما أنا اليوم إلا ذيخ وما ينبغي لمن
أحسَّ بنفسه مثل الذي أُحِس أن يُرمى في المهالك والمعاطب وينبغي أن يستبقيها
لجهادٍ
أو دفعٍ عن حُرْمة وحريمٍ يذبُّ عنه وذلك أني هجمْت على هذه الحيّة وقد منعت الرِّفاق من السُّلوك وهربت منها الإبل وأمعَنَ في الهرب عنه كلُّ جمّالٍ ضخم الجزارة فهزتني إليه طبيعة الأبطال فراوغتها حتى وهب اللّه الظَّفر وكان من البلاء أنها كانت بأرضٍ ملساء ما فيها حصاة وبصُرْتُ بفهر على قاب غلوة فسعيت إليه وأنا أسوارٌ كما تعلمون فو اللّه ما أخطاتُ حاقَّ لهِزْمته حتى رزق اللّه عليه الظَّفر وأبوه والقومُ ينظرون في وجْهه وهم أعلم النَّاس بضعْف الحُفّاث وأنَّه لم يؤذ أحداً قط فقال له أبوه : ارم بهذا من يدك لعنك اللّه ولعنهُ معك ولعنَ تصديقي لك ما كنْت تدَّعيه من الشَّجاعة والجراءة فكبّروا عليه وسمَّوة قاتل ومما هجوا به حين يشبِّهون الرَّجل بالعث في لؤْمه وصِغر قَدرِه قول مُخارق الطائي حيث )
( سقط : صفحة من الكتاب ) ( عن الأضياف والجيران عزب ** فأودت والفتى دنس لئيم ) ( وإني قد علمت مكان ظرف ** أغر كأنه قرس كريم ) ( له نعم يعام المحل فيها ** ويروى الضيف والزق العظيم ) الوبر والخرنق وأما قوله : وخِرنقٌ يسفدُه وبْرُ فإنَّ الأعراب يزعمون أنّ الوبْر يشتهِي سِفاد العِكرشَة وهي أنثى الأرانب ولكنّه يعجز عنها فإذا قدَر على ولدِها وثَبَ عليه والأنثى تسمى العِكرِشة والذَّكر هو الخُزَر والخِرنِق ولدهما قال الشاعر : ( قبَحَ الإلَه عِصابةً نادمتُهمْ ** في جَحْجَحان إلى أسافِلِ نقنقِ ) ( أخَذُوا العِتَاق وعرَّضُوا أحسابَهُمْ ** لمحَرَّبٍ ذَكَرِ الحديدِ مُعرِّقِ )
( ولقد قرعتُ صَفاتَكمْ
فوجدْتُكم ** مُتشبِّثين بزاحفٍ متعلِّقِ ) ( ولقد غَمَزْتُ قناتَكم فوجدتها **
خرْعاءَ مَكْسِرُها كعودٍ محرَقِ ) ( ولقد قبَضْتُ بقلبِ سَلْمةَ قبضةً ** قبْضَ
العُقابِ على فؤاد الخِرنقِ ) قالوا : إنه قالها أبو حبيب بعد أن قال جُشَمُ ما قال
وقد قدَّم إليه طعامه .
مايشبه الخزز ووصف أعرابيٌّ خلْقَ أعرابيٍّ فقال : كأن
في عََضَلته خُزَزاً وكأنّ في عضده جُرذاً .
وأنشدوا لماتحٍ ووصفَ ماتحاً ورآه يستقي على بئرهِ فقال
: ( أعدَدْت للوِرد إذ الوِردُ حَفزْ ** دَلواً جَرُوراً وجَلالاً خُزَخِزْ ) ( وماتِحاً لا
ينْثَني إذا احتجَزْ ** كأنَّ تحتَ جِلْدِه إذا احتفزْ ) في كلِّ عضوٍ جُرَذين أو
خُزَزْ وسنقول في الأرنب بما يحضرنا إن شاء اللّه تعالى .
وسنقول في
الأرانب بما يحضرنا إن شاء الله تعالى .
القول في الأرانب قال الشاعر : ( زَعَمَتْ غُدانة أن
فيها سيِّداً ** ضخماً يوازِنه جنَاحُ الجنْدبِ ) ( يُروِيه ما يُروِي الذُّبابَ
فينتَشي ** سُكراً ويُشْبِعه كراعُ الأرنب ) وإنما ذكرَ كراعَ الأرنب من بين جميع
الكراعات لأنَّ الأرنب هي الموصوفة بقصر الذِّراع وقصر اليد ولم يُرد الكُراع فقط
وإنما أراد اليدَ بأسْرها وإنما جعل ذلك لها بسببٍ نحن ذاكروه إن والفرس يُوصف
بقِصر الذِّراع فقط . 4
التوبير
والتَّوبير لكلِّ محتالٍ من صغار السِّباع إذا طَمِع في الصيد
أو خاف
أنْ يُصاد كالثّعلب وعَناقُ الأرض هي التي يقال لها التُّفَة وهي دابّة نحو الكلْب
الصَّغير تصيد صَيداً حسناً وربَّما واثبَ الإنسان فعقَرَه وهوأحسن صيداً من
الكلْب .
وفي أمثالهم : لأَنتَ أغنى من التفَةِ عن الرُّفة وهو
التِّبن الذي تأكله الدوابُّ والماشية من جميع البهائم والتُّفة سبعٌ خالصٌ لا
يأكل إلا اللحم .
والتَّوبير : أن تَضمَّ بَرَاثنِها فلا تطأ على الأرض
إلا ببطن الكفِّ حتى لا يُرَى لها أثر براثِنَ وأصابع وبعضها يطأ على زمَعاته
وبعضها لا يفعل ذلك وذلك كله في السهل فإذا أخذت في الحُزونة والصَّلابة وارتفعت
عن السَّهل حيث لا تُرَى لها آثارٌ قالوا : ظلفت الأثر تظلفه ظلْفاً وقال
النُّميري : أظلفَت الأثر إظلافاً
.
بعض ما قيل في الأرنب وعن عبد الملك بن عمير عن قَبيصة
بن جابر : ما الدُّنيا
في
الآخرةِ إلاّ كنفْجة أرنب .
وقال أبو الوَجيه العُكْلي : لو كانت واللّه الضبّة
دجَاجةً لكانت الأرنب دُرَّاجة ذهب إلى أنّ الأرانب والدُّرَّاج لا تستحيل لحومها
ولا تنقلِبُ شحوماً وإنّما سِمَنها بكثرة اللّحم وذهب إلى ما يقول المعجبون منهم
بلحْم الضّبّ فإنّهم يزعُمون أنّ الطعمين متشابهان وأنشد : ( وأنتَ لو ذُقْتَ
الكشى بالأكبادْ ** لما تَرَكْتَ الضَّبَّ يَسعَى بالوادْ ) قال : والضبّ يعرض
لبيض الظّليم ولذلك قال الحجَّاج لأهل الشّام : إنّما أنا لكم كالظّليم الرَّامح
عن فراخه ينفي عنها المَدَر ويباعدُ عنها الحجَر ويُكِنُّها من المطَر ويحميها من
الضِّباب ويحرُسُها من
الذئاب يا أهلَ الشّام أنتم الجُنّة والرِّداء وأنتم العُدّة والحذاء . 4
ما يشبه بالأرنب
ثم رجع بنا القول إلى الأرانب فممَّا في الخيل مما يُشبِه الأرنب قول الأعشى : ( أمَّا إذا استقبلتَه فكأنَّه ** جِذعٌ سَمَا فوقَ النَّخيل مشذَّبُ ) ( وإذا تصفَّحه الفَوارِسُ مُعْرِضاً ** فتقولُ سِرْحَانُ الغَضَا المتنصِّبُ ) ( أمَّا إذا استدبرته فتسوقُه ** ساقٌ يُقمِّصُها وظيف أحْدَبُ ) ( مِنْه وجاعرةٌ كأنّ حَماتَها ** كشَطتْ مَكان الجَلِّ عَنْهَا أَرْنَبُ ) ( كأنّ حَماتَيْهمَا أرْنَبا ** ن غيضتا خيفةَ الأَجْدَلِ )
4
طول عمر الأغضف والأرنب
وأنشد
الأثرم : ( بأغْضَفَ
الأُذْنِ الطَّوِيل العمر ** وأرنب الخُلّةِ تِلْوُ الدَّهرِ ) قد سمعتُ من يذكر أنّ كِبَرَ أذنِ
الإنسان دليلٌ على طُول عمره حتَّى زعُموا أنّ شيخاً من الزَّنادقة لعنهم اللّه
تعالى قدّموه لتُضرب عنقُه فعَدَا إليه غلامٌ سعديٌّ كان له فقال : أليسَ قد زعمتَ
يا مولايَ أنّ من طالت أذُنه طال عمره قال : بلى قال : فهاهم يقتلونك قال : إنما
قلت : إن تركوه .
وأنا لا أعرف ما قال الأثرم ولا سمعتُ شِعراً حديثاً ولا
قديماً يُخبرُ عن طول عُمر الأرنب قال الشّاعر : ( مِعْبلة في قِدْح نَبْعٍ حادِرْ
** تسقى دَم الجوفِ لظفرِ قاصرْ ) ( إذ لا تزال أرنبٌ أو فادِرْ ** أو كروانٌ أو
حُبارى حاسِرْ ) إلى حمار أو أتان عاقرْ
لبن الأرانب قال : ويزعمون أنه ليس شيءٌ من الوحْش في مثل جسم الأرنب أقلَّ لبناً ودُرُوراً على ولَدٍ منها ولذلك يُضرَبُ بدَرِّها المثل فممَّن قال في ذلك عَمرو بن قَميئة حيث يقول : ( ليس بالمطعم الأرانِب إذْ قلّ ** ص دَرُّ اللِّقاح في الصِّنَّبْرِ ) ( ورأيتَ الإماء كالجِعثن البا ** لي عُكوفاً على قُرارة قِدْرِ ) ( ورأيتَ الدُّخانَ كالودع الأه ** جَنِ يَنباع من وراء السِّترِ ) ( حاضرٌ شرُّكُمْ وخَيْرُكمُ دَ ** رُّ خرُيسٍ من الأرانب بِكرِ ) 4
قصر يدي الأرنب
والأرنب قصير اليدين فلذلك يخفُّ عليه الصَّعْداء والتوقُّل في الجبال وعَرف أنّ ذلك سهلٌ عليه فصرَفُ بعضَ حِيله إلى ذلك عند إرهاق الكلاب إيَّاه ولذلك يعجَبون بكلِّ كلبٍ قصير اليدين لأنه إذا كان كذلك كان أجدر أن يلحقها . 4
من أعاجيب الأرنب
وفي الأرانب من العجب أنها تحيض وأنها لا تسمن وأن قضيب الخُزَزِ ربَّما كان من عظمٍ على صورة قضيب الثّعلب .
ومن أعاجيبها أنّها تنام مفتوحةََ العَين فربَّما جاء
الأعرابيُّ حتّى يأخذها من تلقاء وجهها ثقةً منه بأنَّها لا تبصر .
وتقول العرب : هذه أرنبٌ كما يقولون : هذه عُقاب
ولايذكّرون وفيها التَّوبير الذي ليس لشيءٍ من الدوابِّ التي تحتال بذلك صائدةً
كانت أو مصيدةً وهو الوطْء على مؤخر القوائم كي لا تعرف الكلابُ آثارها وليس يعرفُ
ذلك من الكلابِ إلاّ المَاهر وإنَّما تفَعل ذلك في الأرض اللَّيِّنة وإذا فعلَتْ
ذلك لم تسرع في الهرَب وإن خافت أن تدرَك انحرفت إلى الحُزونة والصَّلابة وإنما
تستعمل التَّوبير قبل دنو الكلاب
.
وليسَ لشيء من الوَحْش ممّا يُوصَف بِقصَر اليدَينِ ما
للأرنَب من السرعة والفرس يوصف بقصر الكُراع فقط . 4
تعليق في كعب الأرنب
وكانت
العربُ في الجاهليَّة تقول : مَن عُلّق عليه كعبُ أرنب لم تصبهُ عينٌ ولا نفسٌ ولا
سِحر وكانت عليه واقيةٌ لأَنَّ الجنَّ تهرب منها وليست من مطاياها لمكان الحيض .
وقد قال في ذلك امرؤ القيس :
( مُرَسِّعَةٌ بين أرساغه ** به عَسَمٌ يبتغي أرْنبا ) ( ليجْعَل في يَدِهِ كَعْبَهَا ** حِذَار المنيَّة أنْ يَعْطَبا ) وفي الحديث : بكى حتَّى رسعت عينه مشَدَّدة وغير مشدَّدة أي قد تغيَّرت ورجلٌ مرسِّع وامرأة مرسِّعة . 4
تعشير الخائف
وكانوا إذا دخل أحدهم قريةً من جِنِّ أهلها ومن وباء الحاضرة أشدّ الخوف إلاّ أن يقِف على باب القَرية فيعشِّرَ كما يعشِّرُ الحمارُ في نهيقه ويعلِّق عليه كعبَ أرْنب ولذلك قال قائلهم : ( ينفع التَّعشيرُ في جَنْبِ جِرْمة ** ولا دَعدعٌ يغني ولا كعبُ أرْنبِ ) الجِرمة : القطعة من النّخل وقوله : دعدع كلمةٌ كانوا يقولونها عند العِثار وقد قال الحادرة : ( ومَطِيَّةٍ كلّفْتُ رَحْلَ مَطِيَّةٍ ** حَرَجٍ تُنمُّ من العِثَارِ بدَعْدَعِ )
وقالت امرأةٌ من اليهود : ( وليس لوالدةٍ نَفْثُها ** ولا قَوْلُها لابنها دَعْدَعِ ) ( تداري غراء أحواله ** وربُّك أعْلَمُ بالمصْرَعِ ) لَعمْري لئنْ عشَّرْتُ من خيفةِ نُهاقَ الحَمير إنّني لجَزوعُ 4
نفع الأرنب
وللأرنب جلدٌ وَوَبَرٌ يُنتَفع به ولحمه طيِّب ولا سيَّما إنْ جُعل مَحْشياً لأنّه يجمع حُسنَ المنظر واستفادة العلم مما يرون من تدبيرها وتدبير الكلاب والانتفاع بالجلد وبأكل اللّحم وما أقلَّ ما تجتمع هذه الأمورُ في شيءٍ من الطَّير .
وأما قوله : ( إذا ابتدَرَ النّاسُ المعالي رأيتَهم **
قياماً بأيديهم مسوكُ الأرانبِ ) فإنّه هجاهم بأنّهم لا كسب لهم إلاّ صيدُ
الأرانبِ وبيع جلودها .
الحُلكاء وأمّا قوله : ( وغائصٌ في الرمل ذو حدَّةٍ **
ليس له نابٌ ولا ظُفْرُ ) فهذا الغائص هو الحلكاء والحلكاء : دويْبّة تغوصُ في
الرمل كما يصنع الطَّائر الذي يسمّى الغَمّاس في الماء وقال ابن سُحيم في قصيدته
التي قصَد فيها للغرائب : شحمة الرمل وممَّا يغوص في الرَّمل ويسبح فيه سباحة
السَّمكة في الماء شحْمةُ الرَّمل وهي شحمة الأرض بيضاء حَسَنَةٌ يشبّه بها كفُّ
المرأة وقال ذو الرُّمَّة في تشبيه البَنان بها :
( خراعيب أمْثالٌ كأنّ
بنانَها ** بَناتُ النقا تخْفَى مراراً وتظهرُ ) وقال أبو سليمان الغَنَوي : هي
أعرض من العظاءة بيضاء حسنةٌ منقطة بحمرة وصُفرة وهي أحسنُ دوابِّ الأرض .
وتشبّه أيضاً أطرافُ البنانِ بالأساريع وبالعنم إذا كانت
مُطَرَّفة وقال مرقّش : ( النَّشْرُ مِسْكٌ والوُجوهُ دنا ** نيرُ وأطراف الأكُفِّ عَنَمْ ) وصاحب
البلاغة من العامَّة يقول : كأنّ بَنانها البَيَّاح والدُّواج ولها ذراعٌ كأنها
شَبُّوطة .
ويشبه أيضاً بالدِّمقس .
شعر فيه خرافة ومن خرافات أشعار الأعراب يقول شاعره : (
أشكو إلى اللّه العليِّ الأمجد ** عشائراً مثلَ فراخ السرهدِ )
( عشائراً قد نبَّفوا بفَدفَدِ ** قد ساقَهمْ خبث الزمان الأَنكَدِ ) ( وكلّ نفّاض القفا ملهّد ** ينصِبُ رِجْليَه حِذار المعتدي ) ( وشحْمة الأرض وفَرْخ الهُدهُد ** والفَار واليَرْبوع ما لم يسفَدِ ) ( فنارهم ثاقبةٌ لم تخْمُد ** شواء أحناشٍ ولم تفرّدِ ) ( من الحُبينِ والعظاء الأجردِ ** يبيتُ يَسْري ما دنا بفدفدِ ) ( وكلِّ مقطوعِ العرا معلكدِ ** حَتَّى ينالوه بعود أوْ يَدِ ) ( منها وأبصار سَعَالٍ جُهَّدِ ** يغدون بالجهد وبالتشرُّدِ ) زَحْفاً وحَبْواً مثل حَبْوِ المُقْعَدِ الحرباء
الحرباء وأمّا قوله : ( حِرباؤها في قيْظها شَامِسٌ ** حتَّى يوافي وَقته العَصْرُ ) ( يَميل بالشِّقِّ إليها كما ** يميل في رَوْضَتِهِ الزّهْرُ ) قال : والحِرباء دويْبَّة أعظَم من العظاءة أغبَرُ ما كان فرخاً ثم يصفرّ وإنّما حياتُه الحر فتراه أبداً إذا بدت جَونة يعني الشَّمس قد لجأ بظهْره إلى جُذيل فإن رمضت الأرضُ ارتفع ثم هو يقلّب بوجهه أبداً مع الشَّمس حيث دارت حتَّى تغرب إلا أنْ يخاف شيئاً ثم تراه شَابحاً بيدَيه كما رأيت من المصلوب وكلما حميت عليه الشَّمس رأيتَ جلدَه قد يخضرّ وقد ذكره ذو الرُّمَّة بذلك فقال : ( يظلُّ بها الحِرباءُ للشَّمس ماثلاً ** على الجِذلِ إلاّ أَنّه لا يكبِّرُ )
( إذا حَوَّل الظّلَّ العِشيِّ رأيتَه ** حَنِيفاً وفي قرْن الضُّحَى يَتَنَصَّرُ ) ( غَدَا أصفَرَ الأعْلى ورَاحَ كأنَّ ** من الضِّحِّ واستقبالهِ الشَّمْسَ أخضَرُ ) خضوع بعض الأحياء للشمس وكذا الجمل أيضاً يستقْبل بهامته الشَّمس إلاّ أنه لا يدور معَها كيف دارَت كما يفعل الحرباء وشقائقُ النُّعمان والخِيريّ يصنع ذلك ويتفتَّحُ بالنهار وينضمُّ بالليل والنِّيلُوفر الذي ينبت في الماء يغيب الليل كلّه ويظهر بالنهار والسَّمك الذي يقال له الكَوسج في جوفه شحمة طيّبة وهم يسمُّونها
الكَبِد
فإن اصطادُوا هذه السَّمكة ليلاً وجدوا هذه الشَّحمة فيها وافرةً وإن )
اصطادُوها نهاراً لم تُوجَد وقد ذكر الحطيئة دوران
النّبات مع الشمس حيث يقول : ( بمُستأسدِ القُرْيانِ حُوٍّ تِلاعُه ** فنُوَّارُه
مِيلٌ إلى الشَّمس زَاهِرُه ) وقال ذو الرُّمَّة : ( إذا جعَلَ الحِرباءُ يغبرُ
لونُه ** ويخضرُّ من لَفْحِ الهَجير غَباغِبُه ) وقال ذو الرُّمَّة أيضاً : ( وهاجرةٍ من
دُونِ مَيَّةَ لم يَقِل ** قلوصي بها والجُندبُ الجَوْنُ يَرْمحُ ) ( إذا جعَل
الحِرباءُ ممَّا أصابَه ** من الحَرِّ يلوِي رأسَه ويرنِّحُ ) وقال آخر : ( كأنّ
يدَيْ حِربائها متشَمِّساً ** يَدَا مُجرمٍ يَستغفِرُ اللّه تائب ) وقال آخر :
( لظًى يلفَحُ الحِرباءَ حتَّى كأنّه ** أخو حَرَباتٍ بُزَّ ثَوْبيه شابحُ ) وأنشدوا : ( قد لاحها يوَمٌ شموسٌ مِلهابْ ** أبْلجُ ما لشمسه منْ جلبابْ ) ( يرمي الإكام من حصاة طبطاب ** شال الحَرابيُّ له بالأذْنابْ ) وقال العباس بن مرداس : ( على قُلصٍ يعلو بها كلَّ سَبْسَبٍ ** تخالُ به الحِرباءَ أنشط جالِسا ) وقال الشّاعر : ( تجاوَزتُ والعُصفورُ في الحجرِ لاجئ ** الصَّبِّ والشِّقذانُ تسمو صُدورُها ) ( واستَكَنّ العُصفورُ كَرْهاً مع الضَّ ** بِّ وأوَفى في عُودِهِ الحرْباءُ ) والشِّقْذان : الحرابي وقوله : تسمو أي ترتفع في الشجرة
وعلى رأس
العود والواحدِ من الشِّقذَان بإسكان القاف وكسر الشِّين شَقَذ بتحريك القاف .
وأنشد : ( ففيها إذا الحِرباءُ مَدَّ بكفّه ** قام
مَثيلَ الرَّاهبِ المتعبِّدِ ) وذلك أنّ الحِرباء إذا انتصف النّهار فعلا في رأس
شجرةٍ صار كأنَّه راهبٌ في صومعتِه
.
وقال آخر : ) ( أنَّى أُتيحَ لَكُم حِرباءُ تنضبةٍ ** لا
يترُكُ السَّاق إلاّ مُمْسكاً سَاقَا ) التشبُّه بالعرب قال : وكان مولى لأبي بكر الشّيباني فادَّعى
إلى العرب مِنْ ليلته فأصبح إلى الجُلوس في الشمس قال : قال لي محمد بن منصور :
مررْتُ به
فإذا هو
في ضاحيةٍ وإذا هويحكُّ جلده بأظفاره خمْشاً وهو يقول : إنما نحن إبل .
وقد كان قيل له مرَّة : إنَّك تتشبّه بالعرب فقال : ألي
يقال هذا أنا واللّه حِرباء تنضُبة يشهدُ لي سوادُ لَوني وشَعاثَتي وغَوْر عينيّ
وحُبي للشَّمس .
قال : والحِرباء ربَّما رأى الإنسان فتوعَّدَه ونفَخ
وتطاول له حتَّى ربَّما فزِع منه مَن لم يعرفْه وليس عندَه شرٌ ولا خير .
وأمَّا الذي سمعناه من أصحابنا فإنَّ الورَل السّامد هو
الذي يفعل ذلك ولم أسمعْ بهذا في الحِرباء إلا من هذا الرجل .
قال : والحِرباء أيضاً : المسمار الذي يكون في حَلقة
الدِّرع وجمعه حرابي .
استدراك لما فات من ذكر الوبر وقد كنا غفلنا أنْ نذكر
الوَبْر في البيت الأول قال رجلٌ من بني تغلب :
( إذا رَجوْنَا ولداً من ظَهْرِ ** جاءَتْ بهِ أسْوَد مثلَ الوَبر ) من بارد الأدنَى بعيدِ القَعْر وقال مُخارقُ بنِ شهاب : ( فيا راكباً إمَّا عرَضْتَ فبلِّغن ** بني فالج حيثُ استقرَّ قرارُها ) ( هلُمُّوا إلينا لا تكونوا كأنَّكم ** بلاقعُ أرضٍ طار عنه وِبارُها ) ( وأرض التي أنتم لقيتم بجوِّها ** كثيرٌ بها أوعالُها ومدارها ) فهجا هؤلاء بكثرة الوِبار في أرضهم ومدح هؤلاء بكثرة الوعول في جَبَلهم وقال آخر : ( جُعَلٌ تمَطّى في غَيابتهِ ** زَمِرُ المروءةِ ناقص الشَّبْرِ ) ( لِزَبابةٍ سَوداءَ حَنْظلةٍ ** والعاجز التّدبيرِ كالوَبْرِ ) ويَضرب المثل بنتْن الوبْر ولذلك يقول الشاعر :
( تطلّى وهْيَ سيِّئة
المُعَرَّى ** بوضْر الوَبر تحسَِبُه مَلابَا )
ونتن الوبر هو بَول مما يتمازح به الأعراب ومما تتمازح
به الأعراب فمن ذلك قول الشاعر : ( قد هدَمَ الضِّفدعُ بيتَ الفاره ** فجاء
الرُّبْيةِ والوِبارَهْ ) وحلَمٌ يَشدُّ بالحِجاره وهذا مثلُ قولهم : ( اختلط
النَّقد على الجِعْلانْ ** وقد بقي دريهمٌ وثلْثانْ )
الظرِبان
وأمَّا قوله : ( والظَّربانُ
الوَرْدُ قد شفّه ** حُبُّ الكشي والوحَرُ الحُمْرُ ) ( وليس يُنْجيه إذا ما فسَا ** شيءٌ
ولَوْ أحرَزَهُ قَصْرُ ) قال أبو سليمان الغنويُّ : الظّربان أخبثُ دابَّةٍ في
الأرض وأهلَكه لفراخ الضَّبّة .
قال : فسألت زيدَ بن كثْوَة عن ذلك فقال : إي واللّه
وللضَّبّ الكبير .
والظَّرِبان دابّة فسّاءَه لا يقوم لشَرِّ فسْوها شيءٌ
قلت : فكيف يأخذها قال : يأتي جُحر الضَّبّ وهو ببابه يستَروِح فإذا وجد الضّبُ
ريحَ فسْوه دخل هارباً في جُحره ومَرَّ هو معه من فوق الجُحر مستمعاً حَرْشَه وقد
أصغى بإحدى أذُنيه من فوق الأرض نحوَ صوته وهو أسمع دابَّةٍ في الأرض فإذا بلغ
الضبُّ منتهاه وصار إلى أقصى جُحره
وكفَّ
حَرشَه استدَبَر جُحره ثم يَفْسُو عليه من ذلك الموضع وهو متى شمّه غُشيَ عليه
فيأخذه .
قال : والظّرِبان واحدٌ والظِّرْبان : الجميع مثل
الكَرَوان للواحد والكِرْوان للجميع وأنشد قولَ ذي الرُّمَة : ( من آلِ أبي موسى
تَرَى القَوْمَ حَوْلَهُ ** كأنَّهمُ الكِرْوان أبصَرْن بازِيا ) والعامّة لا
تشكُّ في أنَّ الكَرَوَان ابنُ الحُبارَى لقول الشاعر : ( ألم تَر أنّ الزُّبد
بالتَّمْرِ طَيِّبٌ ** وأنّ الحُبارَي خالَةُ الكَرَوَانِ ) وقال غيره : الظَّربان
يكونُ على خلقة هذا الكلب الصِّينيِّ وهو منتنٌ جدّاً يدخل في جُحر والضّباب
الدلالي أيضاً التي يدخُل عليها السَّيلُ فيخرجها وأنشد : ) ( يا ظَرباناً يتعشّى
ضَبّاً ** رَأى العُقاب فَوْقهُ فخبّا
) ( كأنَّ خُصْييَه إذا أكبّا ** فَرُّوجتان تطلبان
حَبَّا ) أوْ ثَعلبَان يَحْفِزان ضبَّا
وأنشد
الفرزدق : ( أبوك سليمٌ قَدْ عَرَفْنا مكانه ** وأنت بجيريّ قصيرٌ قوائمُهُ ) ( ومن
يجعل الظِّرْبى القصار ظُهورُها
** كمنْ رفَعَتْهُ في السماء دعائمهُ ) سلاح بعض الحيوان
قال : والظَّرِبان يعلم أنَّ سلاحه في فسائه ليس شيءٌ عندَه سواه والحبارى تعلم
أنَّ سِلاحها في سَلْحها ليس لها شيءٌ سواه قال : ولها في جوفها خِزانةٌ لها فيها أبداً
رَجْعٌ مُعدٌّ فإذا احتاجتْ إليه وأمكنَها الاستعمال استعملَتْه وهي تعلم أنَّ ذلك
وقايةٌ لها وتعرف مع ذلك شدَّة لَزَجه وخبث نَتْنِه وتعلم أنها تساور بذلك
الزُّرَّق وأنها تُثقله فلا يصيد
.
ويعلم الدِّيك أنَّ سلاحه في صيصيته ويعلم أنَّ له
سلاحاً ويعلم أنّه تلك الشوكة ويدري لأيّ مكانٍ يعتلج وأيَّ موضعٍ يطعن به .
والقنافذ تعلم أنّ فروتها جنّة وأنّ شوك جلدها وقايةٌ
فما كان منها مثل الدُّلدل ذوات المداري فإنها ترمي فلا تُخْطِئ حتى يمرَّ مُرُورَ
السهم المُسدَّد وإن كانت من صغارها قبضتْ على الأفعى وهي واثقةٌ بأنّه ليس في
طاقة الأفعى لها من المكروه شيء ومتى قبضتْ على رأس الأفعى فالخطب فيها يسير وإن
قبضتْ على الذنَبِ أدخلَتْ رأسها فقرضتها وأكلتها أكلاً وأمكنَتها من جسمها تصنع
ما شاءت ثقةً منها بأنّه لايصل إليها بوجهٍ من الوجوه .
والأجناس التي تأكل الحيَّاتِ : القنافذُ والخنازير
والعِقْبانُ والسّنانيرُ والشاهُمرْك على أن النّسور والشاهمرك لا يتعرَّضان
للكبار .
ويعلم الزُّنبور أن سلاحه في شَعْرته فقط كما تعلم
العقربُ أن سلاحها في إبرتها فقط وتعلم الذِّبان والبعوضُ والقَملة أن سلاحها في
خراطيمها وتعلم جوارحُ الطّير أن سِلاحها في مخالبها ويعلم الذِّئبُ والكلبُ أنّ
سلاحهما في أشداقهما فقط ويعلم الخنزير والأفعى أنّ سلاحهما في أنيابهما فقط .
ويعلم الثّور أنّ سلاحه قرنُه لا سلاحَ له غيره فإن لم
يجد الثّورُ
والكبشُ
والتّيس قروناً )
وكانت جُمّاً استعملتْ باضطرارٍ مواضع القُرون .
والبِرذون يستعمل فمه وحافر رجله .
ويعلم التِّمْساح أنّ أحدّ أسلحته وأعْونَها ذَنبُه
ولذلك لايعرِض إلاّ لمن وجَدَه على الشريعة فإنّه يضربه ويجمعُه إليه حتى يُلقيَه
في الماء .
وذنَب الضبّ أنفع من براثنه . لُجوء بعض الحيوان إلى
الخبث وإنما تفزع هذه الأجناس إلى الخُبث وإلى ما في طبعها من شدَّة الحُضْر إذا
عَدِمت السِّلاح فعند ذلك تستعمل الحيلَة : مثلَ القُنفذِ في إمكان عَدوِّهِ من
فرْوته ومثلَ الظّبي واستعمال الحضْر في المستوي ومثل الأرنب واستعماله الحضْر في
الصَّعْداء .
وإذا كان ممن لا يرجع إلى سلاحه ولا إلى خبثه كان إمَّا
أن يكون أشدَّ حُضْراً ساعة الهربِ من غيره وإمَّا أن يكون ممَّن لا يمكنه الحضْر
ويقطَعه الجبْن فلا يبرح حتَّى يؤخذ
.
ما يقطعه الجبن من الحيوان وإنما تتقرَّب الشّاة
بالمتابعة والانقياد للسّبع تظنُّ أن ذلك ممّا ينفعها فإن الأسد إذا أخذ الشّاة
ولم تتابعه ولم تعِنْه على نفسها
فربما
اضطُرّ الأسد إلى أن يجرَّها إلى عرينه وإذا أخذها الذئب عدَتْ معه حتّى لا يكونُ
عليه فيها مَؤُونة وهو إنما يريد أن ينحِّيَها عن الراعي والكلب وإن لم يكن في ذلك
الوقت هناك كلبٌ ولا راع فيرى أن يجري على عادته .
وكذلك الدَّجاج إذا كُنَّ وُقَّعاً على أغصان الشَّجر أو
على الرُّفوف فلو مرَّ تحتها كلُّ كلبٍ وكلُّ سنّور وكلُّ ثَعلب وكلُّ شيءٍ
يطالبها فإِذا مرَّ ابن آوى بقُربها لم يبق منها واحدةٌ إلاّ رمت بنفْسها إليه
لأنّ الذِّئب هو المقصود به إلى طباع الشاة وكذلك شأنُ ابن آوى والدَّجاج يخيَّلُ
إليها أن ذلك مما ينفع عنده وللجُبن تفعل كلّ هذا .
ولمثل هذه العلَّة نزل المنهزم عن فرسه الجوادِ ليُحْضر
ببدنه يظنُّ اجتهاده أنجى له وأنّه إذا كان على ظهر الفرَس أقلُّ كَدّاً وأنَّ ذلك
أقرب له إلى الهلاك .
ولمثل هذه العلَّة يتشبَّثُ الغريق بمن أراد إنقاذه
حتَّى يُغرِقَه نفسَه وهما قبل ذلك قد سمعا بحال الغريق والمنهزم وأنّهما إنّما
هما
في ذلك
كالرجل المعافَى الذي يتعجَّب ممن يشرب الدَّواء من يد أعلم النَّاس به فإن
أصابتْه شقيقة أو لسعة عقرب أو اشتكى خاصِرته أو أصابه حُصْر أو ) أُسْر شرب
الدَّواءَ من يد أجهل الخليقة أو جَمع بين دواءين متضادَّين .
فالأشياء التي تعلم أنَّ سِلاحها في أذنابها ومآخرها
الزُّنبور والثَّعلب والعقرب والحُبارى والظَّرِبان وسيقع هذا البابُ في موضعه إن
شاء اللّه تعالى .
وليس شيءٌ من صنف الحيوان أردأَ حيلةً عند معاينة
العدوِّ من الغنم لأنها في الأصل موصولةٌ بكفايات النَّاس فأسندت إليهم في كل
أمْرٍ يصيبها ولولا ذلك لخرَّجت لها الحاجة ضروباً من الأبواب التي تعينها فإذا لم
يكن لها سلاحٌ ولا حيلة ولم تَكن ممن يستطيع الانسياب إلى جُحرهِ أو صدع صخرة أو
في ذرْوة جبل كانت مثل الدَّجاجة فإنَّ أكثر ما عندها من الحيلة إذا كانت على
الأرض أن ترتفع إلى رَفٍّ وربّما كانت في الأرض فإذا دنا المغرب فزعت إلى ذلك .
ما له ضروب من السلاح وربّما كان عند الجنس من الآلات
ضروبٌ كنحو زبرة الأسد ولبدته فإنَّه حَمولٌ للسِّلاح إلاَّ في مراقِّ بطنه فإنّه
من هناك ضعيفٌ جدّاً وقال التغلبي : ( تَرى النَّاسُ مِنَّا جلدَ أسْودَ سالخٍ ** وزُبْرَة
ضِرْغامٍ من الأُسدِ ضَيغَمِ ) وله مع ذلك بَعدُ الوثبة واللُّزوقُ بالأرض وله
الحبس باليد وله الطَّعن بالمخلب حتى ربَّما حبَسَ العَيرَ بيمينه وطعن بِمِخْلب
يساره لبَّته وقد ألقاه على مؤخره فيتلقَّى دمَه شاحياً فاه وكأنه ينصبُّ من
فَوَّارَة حتى إذا شربه واستفرغه صار إلى شقِّ بطنه وله العضُّ بأنيابٍ صلابِ حداد
وفكُّ شديد ومنخر واسع وله مع البُرثُن والشكِّ بأظفاره دقُّ الأعناق وحطم الأصلاب
وله أنه أسرعَ حُضْراً من كلِّ شيءٍ أعمَلَ الحُضْرَ في الهرب منه وله من الصَّبر
على الجوع
ومن قلَّة الحاجة إلى الماء مع غيره وربّما سار في طلب الملح ثمانين فرسخاً في يوم
وليلة ولو لم يكن له سلاحٌ إلاَّ زئيره وتوقُّد عينيه وما في صدور النَّاس له
لَكفاه .
والإنسان يستعملُ في القتال كفّيه في ضروبٍ ومرفقيه
ورِجليه ومنكبيه وفمه ورأسَه وصدرَه كلُّ ذلك له سلاحٌ ويعلم مكانه يستوي في ذلك
العاقلُ والمجنونُ كما يستويان في الهداية في الطَّعام والشراب إلى الفم .
سلاح المرأة والمرأة إذا ضعُفت عن كلِّ شيءٍ فزعت إلى
الصُّراخِ والولولة التماساً للرَّحمة واستجلاباً للغياث من حُماتِها وكُفاتها أو
من أهل الحسبة في أمرها . )
باب أسماء أولاد الحيوان قال : ويقال لولد السَّبع
الهِجرِس والجمع هجارس ولولد الضبع
الفرعُل
والجمعُ فراعل قال ابن حبناء : ( سلاحين منها بالرّكوب وغيرها ** إذا ما رآها فُرعُلُ
الضَّبع كَفَّرا ) قال : والدَّيسم ولد الذّئب من الكلبة .
وسألت عن ذلك أبا الفتح صاحبَ قطرب فأنكر ذلك وزعم أنَّ
الدَّيسمة الذَّرة واسم أبي الفتح هذا ديْسم .
ويقال إنَّه دويْبَّة غير ما قالوا .
ويقال لولد اليربوع والفأرِ درص والجمع أَدْرَاصٌ ويقال
لولد الأرنب خِرنِق والجمع خرانق قال طرفة : ( إذا جَلسوا خيّلْتَ تحت ثيابهم **
خرانقَ تُوفي بالضَّغيبِ لها نَذْرا ) أشعارٌ فيها أخلاط من السباع والوحش
والحشرات .
قال مسعود بن كبير الجرمي من طيئ يقولها في حمارٍ اشتراه
فوجدَهُ على خلاف ما وصفهُ به النخّاس
:
( إنّ أبا الخرشن شيءٌ هِنْبُ ** معجِّبٌ ما يحتويه العُجْبُ ) ( قد قلتُ لما أنْ أجدّ الرَّكبُ ** واعتر القوم صحار رحبُ ) ( يا أجْنحُ الأُذنِ ألا تخبُّ ** أهانك اللّه فبئسَ النَّجْبُ ) ( ما كان لي إذ أشتريك قلبُ ** بَلى ولكنْ ضاع ثَمَّ اللُّبُّ ) ( إن الذي باعك خبٌّ ضبُّ ** أخبرني أنّك عَيْرٌ نَدْبُ ) ( وشرُّ ما قال الرِّجال الْكذِبُ ** صَبَّ عليه ضبُعٌ وذئبُ ) ( سرْحانَةٌ وجَيْأَلٌ قِرْشَبّ ** ذيخٌ عَدتْهُ رَمْلةٌ وهضبُ )
كأنه تحت
الظَّلام سَقْبُ يأخذ منه من رآه الرُّعْبُ ( وأنت نَفَّاقٌ هناك ضبُّ ** وصبَحَ
الراعي مُجَرّاً وغبُ ) ( ورخمات بَيْنهُنَّ كعبُ ** وأكرُعُ العَيْرِ وفرْثٌ رطْبُ )
يقول : أدنوني إلى شرائه ويقال ثرية لقيك لغة طائيَّة . )
وقال قِرْواش بن حَوْط : ( نبّئْتُ أن عقالاً بنَ خويلدٍ
** بنعافِ ذي عدَمٍ وأنَّ الأعلما
)
( ضَبُعاً مجاهَرةٍ وليثَا هُدنةٍ ** وثعَيلبَا خمرٍ إذا ماء أظلَما ) ( لا تسأماني من رَسِيسِ عَداوَةٍ ** أبداً فلستُ بسائمٍ إنْ تسأمَا ) ( غُضَّا الوعيدَ فما أكونُ لموعِدِي ** فيئاً ولا أكُلاً له متخَضَّمَا ) ( فمتى ألاقِكما البراز تُلاَقيا ** عَرِكاً يفلُّ الحدَّ شاكاً مُعْلِمَا ) الوحر قال : وقال العَدَبّس الكنانيّ : والوَحَرةَ دويْبَّة كالعظاءة حمراء إذا اجتمَعَتْ تلصق بالأرض وجمع وحَرَة وحَرٌ مفتوحة الحاء ومنه قيل وَحَرُ الصَّدر كما قيل للحقدِ ضبٌّ ذهبوا إلى لزوقه بالصّدر كالتزاق الوَحَرة بالأرض وأنشدَ :
( بئسَ عَمْرَ اللّه قومٌ
طُرِقُوا ** فَقَرَوْا أضيافُهُمْ لَحْماً وحِر ) يقال لحم وَحر : إذا دبّت عليه
الوَحرة مقرف : مُوبئ ويقال فِئر : إذا وقعتْ فيه فارةٌ وقال الحكَميّ : ( بأرضٍ باعدَ
الرَّحْمَ ** نُ عَنْهَا الطّلْحَ والعُشَرَا ) ( ولم يَجْعلْ مصايِدَها **
يَرَابيعاً ولا وَحَرا )
لهيْشَة وأمّا قوله : ( وَهيْشةٌ تأكلها سُرْفَةٌ **
وَسِمْعُ ذئْبٍ هَمُّهُ الحُضْرُ ) فالهيشة أم حبين وأنشد : ( أشكو إليك زماناً
قدْ تعرَّقن ** كما تعرَّق رأسَ الهيْشَة الذِّيبُ ) وأمُّ جُبَيْن وأمُّ
حُبَيْنَة سواءٌ وقد ذكرنا شأنها في صدر هذا الكتاب
ويقال
إنّها لا تقيم بمكانٍ تكون فيه هذه الدُّودة التي يقال لها السُّرفة وإليها ينتهي
المَثل في الصَّنْعة ويقال : أصْنَعُ من سُرفة ويقال إنّها تقوم منْ أمِّ حُبين
مَقامَ القراد من البعير إذا كانتْ أمُّ حبَيْنٍ في الأرض التي تكون فيها هذه
الدُّودة .
ذكر من يأكل أم حبين والقرنبي والجرذان قال : وقال
مَدَنيٌّ لأعرابي : أتأكلون الضَّبََّ قال : نعم قال : فاليربوع قال : نعم قال :
فالوَحرة قال : نعم حتَّى عدَّ أجناساً كثيرةً من هذه الحشرات قال أفتأكلون أمَّ
حُبيْنٍ قال : لا قال : فلْتَهنِ أمَّ حُبينٍ العافيةُ .
قال ابنُ أبي كريمة : سألَ عمرُو بنُ كريمةَ أعرابيّاً
وأنا عنده فقال : أتأكلونَ القرنْبى قال : طال واللّه ما سال ماؤُه على شدقي .
وزعم أبو زيدٍ النحويُّ سعيدُ بنُ أوْس الأنصاريُّ قال :
دخلتُ على رُؤبة وإذا قُدَّامه كانونٌ وهو يَمُلُّ على جَمْرِهِ جُرذاً من جرذان
البيت يخرج الواحدَ بعد الواحد فيأكله ويقول : هذا أطيبُ من اليربوع يأكل التّمرْ
والجُبْنُ ويحسو الزَّيْت والسَّمْن
.
وأنشد : ( تَرَى التَّيْميَّ يزحَفُ كالقَرَنْبى ** إلى
تَيْميَّة كقَفا القَدُّوم ) وقال آخر : ( يدِبُّ عَلَى أحشائها كلَّ لَيْلَةٍ **
دَبيبَ القَرْنبى باتَ يعلو نقا سهلا ) اليربوع قال : واليربوع دابَّة كالجُرذ
منْكبٌّ على صدره لقِصرِ يديه طويل الرِّجلين له ذنبٌ كذنب الجرذ يرفعه في الصعداء
إذا هَرْولَ وإذا رأيتَه كذلك رأيتَ فيه اضطراباً وعجباً والأعراب تأكله في )
الجَهْد وفي الخِصب .
أخبث الحيوان قال : وكلُّ دابّةٍ حشاها اللّه تعالى
خُبْثاً فهو قصيرُ اليدين فإذا خافت شيئاً لاذت بالصّعداء فلا يكاد يلحقُها شيء .
أكل المسيب بن شريك لليربوع قال : وأخبرني ابنُ أبي
نُجَيح وكان حجّ مع المسيّب بن شريك عامَ حجَّ المهديُّ مع سلسبيل قال : زاملْت
المسيِّب في حَجَّته تِلك فبينا نحنُ نَسير إذ نظرنا إلى يربوع يتخلل فرَاسن الإبل
فصاحَ بغلمانه : دونَكم اليَربوع فأحضرُوا في إثره فأخذُوه فلمَّا حططْنا قال :
اذَبحوه ثمَّ قال : اسلخوهُ واشوُوه وائتوني به في غَدائي قال : فأتي به في آخر
الغداء على رغيف قد رَعَّبوه فهو أشدُّ حمرة من الزَّهوة يريد البُسرة فعطف عليه
فثنى الرَّغيف ثم غمزه بين راحتيه ثم فَرَج الرغيف فإذا هو قد أخذَ من دسمه فوضعه
بين يديه ثمَّ تناول
اليربوع
فنزع فخذاً منه فتناولها ثم قال : كل يا أبا محمد فقلت : ما لي به حاجة فضحك ثم
جعلَ يأتي عليه عضواً عضواً .
قال : وأمَّا أمُّ حُبين فهي الهَيشة وهي أم الحبين وهي
دويْبَةٌ تأكلُها الأعراب مثل الحرباء إلاّ أنَّها أصغر منها وهي كدْرَاءٌ لِسوادٍ
بيضاءُ البطن وهو خلافُ قول الأعرابيِّ للمدني .
وصاة أعرابي لسهل بن هارون وقال أعرابيٌّ لسهل بن هارون
في تواري سهل من غُرمائه وطلبهم له طلباً شديداً فأوصاه الأعرابيُّ بالحزْم وتدبير
اليَربوع فقال : ( انزل أبا عمرو على حَدِّ قريةٍ ** تَزيغ إلى سَهْلٍ كثير
السَّلائقِ ) ( وخُذْ نَفَقَ اليربوع واسْلُكْ سبيلَه ** ودَعْ عنك إني ناطقٌ
وابنُ ناطق ) ( وكنْ كأبي قُطْنِ على كلِّ زائغ ** له منزلٌ في ضيق العَرْض شاهقِ )
وإنّما
قال ذلك لاحتيال اليربوع بأبوابه التي يخرج من بعضها إذا ارتاب بالبعض الآخر وكذا
كانت دار أبي قطنة الخناق بالكوفة في كندة و يزعمون أنَّه كان مولًى لهم وأنشد أبو
عُبيدة قال : أنشدني سفيان بن عيينة : ( إذ ما سَرَّكَ العَيشُ ** فلا تمرُرْ على
كِنْدَهْ )
وقد قُتل أبو قُطْنة وصُلِب .
الخناقون وممَّن كان يخنق النّاس بالمدينة عَدِيَّة
المدنيّةُ الصَّفراءُ وبالبصرة رادويْه والمرميُّون بالخنق من القبائل وأصحاب النِّحل
والتأويلات هم الذين ذكَرَهم أعشى هَمْدان في قوله : ( إذا سِرْتَ في عِجلٍ فسِرْ
في صَحابةٍ ** وكِنْدَةَ فاحذَرْهَا حِذَارك للخسْفِ ) ( وفي شيعة الأعمى خِناقٌ
وغِيلةٌ ** وقَشْبٌ وإعمال لجندلة القذفِ ) ( وكلُّهُمُ شَرٌّ على أنَّ رأسهم **
حميدة والميلاءُ حاضِنة الكِسْفِ
)
( متى كُنْتَ في حَيَّيْ
بجيلةَ فاستمعْ ** فإِنَّ لها قصفاً يدلُ على حَتْفِ ) ( إذا اعتزموا يوماً على
قَتْل زائر ** تداعَوْا عَلَيه بالنُّباح وبالعَزْفِ ) وذلك أن الخناقين لا يسيرون إلاّ معاً
ولا يقيمون في الأمصار إلاّ كذلك فإذا عزَم أهلُ دارٍ على خنْق إنسانٍ كانت
العلامةُ بينهم الضرب على دُفٍّ أوْ طبلٍ على ما يكون في دوُر الناس وعندهم كلابٌ
ُ مرتَبطة فإذا تجاوَبُوا بالعزْف ليختفي الصَّوت ضربوا تلك الكِلاب فنبحَتْ
وربّما كان منهم معلِّم يؤدّب في الدّرب فإذا سمع تلك الأصوات أمَرَ الصِّبيانَ برفع
الهجاء والقِراءة والحساب .
المغيرية والغالية والمنصورية وأما الأعمى فهو المغيرة
بن سعيدٍ صاحبُ المغيرية مولى بجيلة والخارج على خالد بن عبد اللّّه ( تقول من
النَّواكَة أطعموني ** شراباً ثمَّ بُلتَ على السّريرِ ) ( لأعلاجٍ ثمانيةٍ وشيخ ** كَليلِ
الحدّ ذي بصر ضريرِ ) وأمَّا حميدة فكانت من أصحاب لَيلى الناعظية ولها رياسة
في
الغالية والمَيْلاء حاضنة أبي منصور صاحب المنْصوريَّةَ وهو الكِسْف قالت الغالية
: إيَّاه عَنَى اللّه : وإنْ يَرَوْا كِسْفاً من السَّماء سَاقِطاً يقُولُوا
سَحابٌ مَرْكومٌ وإيَّاه عنى مَعْدان الأعمى حيثُ يقول : ( إنَّ ذا الكِسْفَ صَدَّ
آل كُميل ** وكميلٌ رَذْلٌ من الأرْذَالِ ) ( تَرَكا بالعِراق دَاءً دويّاً **
ضَلَّ فيه تلطُّف المحتالِ )
تفسير بيت وأمَّا قوله : انزل أبا عمرو على حَدِّ قريةٍ
تَزيغ إلى سهْل كثيرٍ السّلائق فأراد الهرب لأنه متى كان في ظهرٍ فظٍّ كثير
الجوَادّ والطرائق كان أمكرَ وأخفى وما أحسن ما قال النابغةُ في صفة الطّريق إذا
كان يتشعَّب حيث يقول : ( وناجيةٍ عدَّيتُ في ظهر لاحبٍ ** كَسَحْل اليماني قاصداً
للمناهلِ )
( له خلجٌ تَهْوِي فُرادى وتَرعوي ** إلى كلِّ ذي نِيرَين بادِي الشَّواكلِ ) وهذا موضع اليربوع في تدبيره ومكره . أرجوزة في اليربوع وأكل الحشرات والحيات وقال الآخر في صفة اليربوع وفي حيلته وفي خلْقه وفي أكل الحشَرات والحيات : ( يا رُبَّ يَربوع قَصيرِ الظَّهر ** وشاخصِ العَجْب ذليل الصَّدْرِ ) ( ومُحْكم البيتِ جميع الأمر ** يَرْعى أُصولَ سَلم وسِدْرِ ) ( حتّى تراهُ كمِداد العكرِ ** باكرتُه قبلَ طُلوع الفَجرِ ) ( بكلِّ فيَّاض اليدين غَمر ** وكلِّ قَنَّاصٍ قليلِ الوَفرِ ) ( مُرتفع النّجم كريم النَّجْر ** فعاد منّي ببعيد القَعْرِ ) ( مختلفِ البَطْن عجيبِ الظهر ** وتدْمُريٌّ قاصعٌ في جُحرِ )
( في العُسر إنْ كان وبعدَ
العُسْرِ ** أطيب عندي مِنْ جَنيِّ التّمرِ ) ( وشَحْمةُ الأرضِ طعامُ المُثرِي **
وكلِّ جبار بعيد الذِّكرِ ) وهيْشة أرفعها لفطري ليوم حفْل وليوم فَخْرِ ( وكلُّ
شيءٍ في الظلام يَسْري ** من عقْرَبٍ أو قُنفذ أو وَبْرِ ) ( أو حيّةٍ أَمُلَّها
في الجَمْر ** فتلك هَمِّي وإليها أجري ) ( في كلِّ حالٍ من غنًى وفَقْرِ ** وكلُّ شيءٍ
لقَضَاءٍ يجري ) ( والذّيخُ والسِّمْعُ وذئبُ القَفْرِ ** والكلبُ والتَّتْفل بعد الهِرِّ ) (
والضّبُّ والحوتُ وطيرُ البَحْر
** والأعورُ النَّاطقُ يومَ الزّجْرِ ) ( آكُلُهُ غيرَ
الحرابي الخُضْرِ ** أو جُعل صلَّى صلاة العصْرِ ) ( يشكر إن نالَ قِرًى من جَعْرِ
** يا ويلَه من شاكرٍ ذي كُفْرِ
)
أفسدَ واللّه عليّ شُكري فزعم أنَّه يستطيبُ كلَّ شيءٍ
إلاّ الحِرباء الذي قد اخضرَّ من حرِّ الشَّمس
وإلاّ
الجُعَل الذي يصلِّي العصر وزعَمَ أنّه إنما جعَل ذلك شكراً على ما أُطعِم من
العَذِرة وأنَّ ذلك الشُّكر هو اللُّؤم والكفر .
ولا أعرِفُ معنى صلاة الجعَل وقد روى ابن الأعرابي عن
زاهر قال : يا بُنَيّ لا تصلِّ فإنّما يصلِّي الجُعل ولا تَصُمْ فإنما يصوم
الحِمار وما فهمتُه بعد .
وأراه قد قدّم الهَيْشة وهي أمُّ حبين وهذا خلافُ ما
رووا عن الأعرابي والمدني .
اليرابيع وأمَّا قوله : وَتَدْمُريٌّ قاصعٌ في جحْرِ (
وإنِّي لأصطاد اليَرابيعَ كُلّها ** شُفَاريَّها والتّدمُريَّ المقَصِّعَا )
واليرابيع
ضربان : الشُّفاريُّ والتَّدمُري مثل الفَتِّي والمذكِّي .
وقال جريرٌ حينَ شبَّه أشياء من المرأة بأشياء من
الحشرات وغيرها وذكر فيها الجُعل فقال : ( ترَى التَّيميَّ يزْحفُ كالقرنبى ** إلى
تيميةٍ كعصَا المَليلِ ) ( تشينُ الزَّعفران عَروسُ تيْمٍ ** وتمْشي مِشْية
الجُعلِ الدّحُولِ ) ( يَقولُ المجتَلون عروسَ تيمٍ ** شَوى أمِّ الحُبَين ورأسُ
فيلِ ) شعر فيه ذكر اليربوع وقال عُبيد بن أيُّوب العنبري في ذكر اليربوع : ( حَمَلْتُ
عليها ما لوَ أنَّ حمامةً ** تُحَمَّلُه طارتْ به في الخفاخفِ )
( نطوعاً وأنساعاً وأشلاء مُدْنَفٍ ** بَرى جًسمَه طولُ السُّرى في المخاوفِ ) ( فرُحْنا كما راحَتْ قَطاةٌ تنوَّرَتْ ** لأزغَبَ مُلْقى بين غُبْر صَفاصفِ ) ( ترى الطّير واليربوعَ يبحثن وطأها ** وينقرنَ وطء المنسمِ المتقاذِفِ ) وقال ابنُ الأعرابيّ وهو الذي أنشدَنيه : ترى الطير واليربوع يعني أنّهما يبحثانِ في أثر خُفّها ملجأ يلجآن إليه إمَّا لشدَّة الحر وإما لغير ذلك وأنشد أصحابنا عن بعض الأعراب وشعرائهم أنَّه قال ( فما أمُّ الرُّدينِ وإن أدَلّتْ ** بعالمةٍ بأخْلاقِ الكرامِ )
( إذا الشّيطان قصَّع في قَفَاها ** تَنَفّقْنَاه بالحبْل التؤَامِ ) يقول : إذا دخل الشَّيطان في قاصعاء قفاها تنفقناه أي أخرجْناه من النافقاء بالحبل المثنّى وقد مَثَّل وقد أحسن في نعت الشِّعر وإن لم يكن أحْسَن في العُقوق وأنشد قي قوس : ( لا كَّزة السَّهم ولا قلوعُ ** يدرُج تحت عَجْسها اليربوعُ ) القَلوع من القسي : التي إذا نُزِع فيها انقلبت على كفِّ النازع وأما قوله : وأما قوله : ( تخالُ به السِّمعَ الأزلَّ كأنّه ** إذا ما عدا ) قيام الذئب بشأن جراء الضبع ويقولون : إن الضبع إذا هلكَتْ قام بشأنِ جرائها الذِّئب وقال الكُميت :
( كما خامَرَتْ في حضْنها
أمُّ عامر ** لِذي الحَبْل حتَّى عالَ أوسٌ عِيالها ) وأنشد أبو عبيدة في ذلك شعراً
فسَّر به المعنى وهو قوله : ( والذّئبُ يغذُو بناتِ الذِّيخ نافلةً ** بلْ يحسبُ
الذِّئبُ أنَّ النَّجْل للذِّيبِ ) يقول : لكثرة ما بين الذئاب والضباع من
التّسافُد يظن الذّئب أنّ أولاد الضبع أولادُه .
والأمرُ في الأعراب عجب في أكل السِّباع والحشرات فمنهم
من يظهر استطابتها ومنهم من يفخَر بأكلها كالذي يقول : ( أيا أمَّ عمرو ومَنْ
يَكُنْ عُقرُ داره ** جِوَارَ عَدِيٍّ يأكل الحَشراتِ )
ما تحبه الأفاعي وما تبغضه وأمَّا قوله : ( لا تَرِدُ
الماء أفاعي النّقا ** لكنّها يُعْجِبُها الخمْرُ )
( وفي ذَرَى الحَرْمَلِ
ظلٌّ ** إذا علا واحْتدَم الهَجْرُ ) فإن من العجبَ أنّ الأفعى لا ترِدُ الماءَ
ولا تريدُه وهي مع هذا إذا وجدت الخَمر شربَت حتّى تسكر حتّى ربَّما كان ذلك سبب
حتفها .
والأفاعي تكره ريح السَّذاب والشّيح وتستريح إلى نبات
الحَرمَل وأمَّا أنا فإنِّي ألقيْتُ على رأسها وأنفها من السّذاب ما غمرها فلم أر
على ما قالوا دليلاً .
أكل بعض الحيوان لبعض وأمّا قوله : ( وبعضها طُعْمٌ
لبعضٍ كما ** أعْطَى سِهام الميْسِرِ القَمْرُ ) فإن الجرذ يخرُج يلتمسُ الطُّعم
فهو يحتالُ لطُعمه وهو يأكل ما دونَه في القُوَّة كنحو صغارِ الدّوابِّ والطّير
وبيضِها وفراخِها ومِما لا يسكن في جُحْر أو تكون أفاحيصُه على وجْه الأرض فهو
يحتال لذلك ويحتال لمنْع نفسه من الحيّات ومن سِباع الطيَّر .
والحيّة تُريغ الجرذ لتأكله وتحتال أيضاً للامتناع من
الوَرل والقنفذ وهما عليه أقْوى منه عليهما والوَرل إنما يحتال للحية ويحتال
للثَّعلب والثعلب يحتال لما دُونه
.
قال : وتخرج البعوضة لطلب الطُّعمِ والبعوضة تعرف بطبعها
أنّ الذي
يعيشها
الدم ومتى أبصرتْ الفيلَ والجاموسَ وما دونهما علمت إنّما خلِقت جلودهما لها غذاءً
فتسقطُ عليهما وتطعُنُ بخرطومها ثقةً منها بنفوذ سلاحها وبهجومها على الدَّم .
وتخرجُ الذُّبابة ولها ضروبٌ من المطعم والبعوضُ من
أكبرها صيدها وأحبُّ غذائها إليها ولولا الذِّبان لكان ضررُ البعوض نهاراً أكثر .
وتخرج الوزَغَةُ والعنكبوت الذي يقال له الليث فيصيدان
الذُّباب بألطف حِيلة وأجود تدبير ثم تذهب تلك أيضاً كشأن غيرهما .
كأنه يقول : هذا مذهبٌ في أكل الطيِّبات بعضها لبعض وليس
لجميعها بُدٌّ من الطُّعم ولا بدّ للصائد أنْ يصطاد وكلُّ ضعيفٍ فهو يأكُلُ أضعف
منه وكلُّ قويٍّ فلا بدَّ أن يأكله من هو أقوى )
منه والنَّاسُ بعضُهم على بعض شبيه بذلك وإن قصروا عن
دَرْك المقدار فجعل اللّه عزّ وجلَّ بعضها حياةً لبعض وبعضها موتاً لبعض .
شعر للمنهال في أكل بعض الحيوان لبعض وقال المنهال : (
ووثبة من خُزَزٍ أعفرٍ ** وخِرنقٍ يلعَبُ فَوْقَ التُّرابْ )
( وَعَضرَ فُوطٍ قد تقوَّى
على ** مُحْلوْلِكِ البقة مثل الحباب ) ( وظالم يَعْدُو على ظالمٍ ** قد ضَجَّ منه
حَشراتُ الشِّعابْ ) وهذان الظَّالمان اللذان عنى : الأسودُ والأفعى فإنَّ الأسود
إذا جاع ابتلع الأفعى .
آكل الأَسود للأَفاعي وشكا إليّ حَوّاءٌ مرةً فقال :
أفقرني هذا الأَسْوَد ومنعني الكَسْبَ وذلك أنّ امرأتي جهلت فرمَتْ به في جُونةٍ
فيها أفاعي ثلاثٌ أو أربعٌ فابتلعهنَّ كلّهن وأراني حيَّةً مُنْكَرةً ولا يبعد ما
قال .
والعرب تقول للمسيء : أظْلَمُ من حيَّة وقد ذكرنا ذلك في
موضعه من هذا الكتاب .
ولا يستطيع أنْ يروم ذلك من الأفعى إلاّ بأن يغتالها
فيقبض على رأسها وقَفاها فإنّ الأفعى وصف سم الحية وإذا وصفوا سمّ الحيّة بالشدَّة
والإجهاز خبَّروا عنها أنّه لم يبقَ في بدنها دمٌ ولا بِلّة ولذلك قال الشاعر :
( لو حُزّ ما أخرجتْ منه
يَدٌ بَللاً ** ولو تَكَنّفَهُ الراقون ما سَمِعا ) وقال آخر : ( لُميمةً من حنشٍ أعْمى
أصمّ ** قد عاش حتّى هو ما يمشي بِدَمْ ) سلاح الحيوان والشأن في السِّلاح أنّه
كلما كان أقلَّ كان أبلغ وكلما كان أكثر عدَداً وأشدَّ ضرراً كان أشجع وآخذَ لكلِّ
من عَرفَ أنه دونه وأنشد أبو عبيدة : ( مشْي السَّبَنْتى إلى هَيْجاءَ مُفْظِعَةٍ
** له سلاحانِ أنيابٌ وأظفارُ ) كالأسد له فم الذِّئب وحسبك بفم الذِّئب وله فضلُ
قوة المخالب وللنَّسر منْسرٌ وقُوَّة
)
بدن يكون بهما فوقَ العقاب ولذلك قال ابن مُناذر :
( أتجعلُ ليثاً ذا عرين
تَرى له ** نُيوباً وأظْفاراً وعِرساً وأشبُلاَ ) ( كآخرَ ذا نابٍ حديدٍ ومِخْلبٍ **
ولم يتَّخذ عِرْساً ولم يَحْم مَعْقِلاَ ) وذلك أن فتيين تواجئا بالخناجر أحدهما
صُبيريّ والآخر كلْبيّ فَحُملا إلى الأمير فضرب الصُّبيريَّ مائة سوط فلم يحمدوا
صبره وشغل عن الكلبي فضربه يوم العَرْض خمسمائة سوط فصبر صبراً حمِدوهُ ففخر
الْكلبيُّ بذلك على الصُّبيري .
وابن مناذر مولى سُليمان بن عبيد بن علاّن بن شَمّاس
الصُّبيري فقال هذا الشعر ومعناه أنّ شُجاعاً لو لقي الأسد وهو مسلَّح بأرضٍ هو
بها غريبٌ وليس هو بقرب غيضتِهِ وأشباله لما كان معه مما يتخذه مثل الذي يكون معه
في الحال الأخرى يقولُ : وإنما صبرَ صاحبُكم لأنّه إنما ضُرِبَ بحضرة الأكفاء
والأصدقاء والأعداء فكان هذا مما أعانه على الصّبر وضُربَ صاحبُنا في الخلاء وقد
وُكل إلى مقدار جودة نَفْسه وقطعت المادةُ بحضور البطالة .
حمدان وغلامه وسمعتُ حمدانَ أبا العقب وهو يقولُ لِغلامٍ
له وكيف لا تستطيل عليَّ وقد ضربُوك بين النّاس خمسِين سوطاً فلم تنطِق فقلت : إذا
ضربه السَّجَّانُ مائة قناةٍ في مكانٍ ليس فيه أحدٌ فصبرَ فهو أصبرُ النّاسِ .
تفسير بيت الخنساء وأمّا قوله : مشْي السّبَنْتَى فإن
السبَّنتى هو النمر ثمَّ صار اسماً لكلِّ سبع جريء ثم صاروا مَشْي السَّبتى وجد
السَّبَنْتى
رؤساء الحيوان وأمّا قولُهُ : وَتمْسح النِّيلِ عُقاب الهوا والليثُ
رأسٌ وله الأسْرُ ( ثلاثةٌ ليْسَ لَهُمْ غالبٌ ** إلاَّ بما يَنْتَقِضُ الدَّهْرُ )
فإنّهم
يزعمون أنَّ الهواء للعقُاب والأرض للأسد والماء للتِّمساحِ وليس للنّارِ حظٌّ في
شيءٍ من أجناس الحيوان : فكأنّه سلّم الرياسةَ على جميع الدُّنيا للعُقاب والأسد
والتمساح ولم يَمُد الهواءَ وقصْرُ الممدود أحْسَنُ من مدِّ المقصورِ .
رواية المعتزلة للشعر وروت المعتزلةُ المذكورون كلُّهمْ
رواية عامَّةِ الأشعارِ وكان بِشرٌ أرواهم للشِّعر خاصَّةً .
الهوائي والمائي والأرضي من الحيوان وقولهم : الطائر
هوائيٌّ والسمك مائيٌّ مجازُ كلام وكلُّ حيوان في الأرض فهو أرضيٌّ قبل أن يكون
مائيّاً أو هوائياً لأنَّ الطَّائر وإنْ طار في الهواء فإنّ طيرانَهُ فيه كسباحةِ
الإنسان في الماء وإنّما ذلك على التكلفِ والحيلة ومتى صار في الأرض ودلّى نفسه لم
يجدْ بُدّاً من الأرض .
وأمّا بَقِيَّةُ القصيدةِ التي فيها ذكر الرَّافضة
والإباضيَّةِ والنَّابتة فليس هذا موضع تفسيره .
وسنقولُ في قصيدته الأخرى بما أمكننا من القول إن شاء
اللّه تعالى .
انقضت قصيدةُ بشر بن المعتمر الأولى .
تفسير القصيدة الثانية
وأما قوله
: أوابد الوحش وأحناشها فإن الأوابد المقيمة والأحناشُ الحيّات ثم صار بعدُ الضبُّ
والوَرَلُ والحِرباء والوحَرة وأشباه ذلك من الأحناش .
وأما قوله : ( وكلُّها شرٌّ وفي شَرِّها ** خيرٌ كثيرٌ
عند مَنْ يدري ) يقولُ : هي وإن كانَتْ مؤذيَةً وفيها قواتل فإن فيها دواءً
وفيها عبرةً لمن فكّر وأذاها محنة واختبارٌ فبالاختبار يطيع النّاسُ وبالطاعة
يدخلون الجنّة . وَسئلَ علي بن أبي طالب كرم اللّه وجههُ غير مرَّةٍ في عِللٍ
نالته فقيل لهُ : كيف أصبحت فقال : بشرٍّ ذَهبَ إلى قوله عزّ وجلّ : قُلْ أعوذُ
بِربِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خلَقَ
.
وأمّا قوله : ( فَشَرُّهُمْ أكثرُهُمْ حِيلةً **
كالذِّئْبِ والثّعْلَبِ والذَّرِّ
)
فقد فسره
لك في قوله : ( والليث قد بلّده عِلْمُهُ ** بما حوى من شدّةِ الأسْرِ ) وهكذا
كلُّ من وثِقَ بنفسه وقلَّت حاجته .
ويزعم أصحابُ القنصِ أنّ العُقاب لا تكادُ تراوغ الصَّيد
ولا تعاني ذلك وأنَّها لا تزال تكونُ على المرقَبِ العالي فإذا اصطاد بعضُ سباع
الطير شيئاً انقَضّتْ عليه فإذا أبصرها ذلك الطائرُ لم يكن همه إلا الهرب وترْك
صيدِه في يدها ولكنها إذا جاعت فلم تجدْ كافياً لم يمتنعْ عليها الذّئْبُ فما
دونَه وقد قال الشّاعرُ : ( مُهَبّلٌ ذئبها يوماً إذا قَلَبَتْ ** إليه من
مُسْتَكَفِّ الجوِّ حملاقا ) وقال آخر : ( كأنّها حين فاض الماءُ واحتمِلَتْ **
صَقْعاءُ لاحَ لها بالقَفرَةِ الذِّيبُ ) ( صُبَّتْ عليه ولم تنصبَّ من أمم **
إنَّ الشَّقاء على الأشقيْنَ مصبوبُ ) وأمَّا قوله : ( تَعْرِفُ بالإحساسِ أقدارها ** في
الأسرِ والإلحاح والصَّبرِ )
يقول : لا يخفى على كلِّ سبع ضعفُه وتجلدُه وقوته وكذلك
البهيمةُ الوحشيَّةُ لا يخفى عليها مقدارُ قوةِ بدنِها وسلاحها ولا مقدارُ
عَدْوِها في الكرِّ والفر وعلى أقدار هذه الطّبقات تظهر وأمّا قوله : ( والضَّبُع
الغَثراء مع ذيخها ** شرٌّ من اللّبْوَة والنَّمرِ ) ( كما تَرى الذِّئب إذا لم
يُطِق ** صاح فجَاءَت رَسلاً تجرِي ) ( وكُلُّ شيءٍ فعلى قَدْرِهِ ** يُحْجِمُ أو
يُقْدِمُ أو يَجْري ) فإنَّ هذه السِّباع القَويَّة الشَّريفَةَ ذواتِ الرِّياسةِ
: الأُسْد والنُّمور والبُبُورَ لا تعرِض للنَّاس إلاّ بعد أن تهرم فتعجِزَ عن صيد
الوَحش وإن لم يكنْ بها جوعٌ شديدٌ فمرَّ بها إنسانٌ لم تعْرِضْ له وليس الذِّئبُ
كذلك لأن الذِّئْبَ أشدُّ مطالبةً فإن خاف العجز عوى عُواء استغاثة فتسامعت
الذِّئاب وأقبلتْ فليس دون أكل ذلك الإنسانِ شيءٌ .
وقسّم الأشياء فقال : إنّما هو نكوصٌ وتأخُّر وفِرارٌ
وإحجام وليس بفرار ولا إقدام وكذلك هو
المنديل
والنسر وأمَّا قوله : ( والكَيْسُ في المكسبِ شَمْلُ لهم ** والعندليل الفرخ كالنَّسْرِ )
فالعندليل طائرٌ أصغر من ابن تمرة وابنُ تمرة هو الذي يُضرب به المثلُ في صغر
الجسم والنَّسر أعظمُ سباع الطَّير وأقواها بدناً .
وقال يونسُ النحويُّ وذكر خلفاً الأحمر فقال : يضربُ ما
بين العندليل إلى الكُركيّ وقد قال فيه الشّاعر : ( ويضربُ الكركي إلى القُنبرِ **
لا عانساً يبقى ولا مُحْتلِمْ ) وقال : ( وبما أقولُ لصاحبي خلفٍ ** إيهاً إليك
تَحَذّرَنْ خَلَفُ ) ( فلو أنّ بيتك في ذُرى عَلمٍ ** من دُونِ قُلَّةِ رأسِهِ شَعَفُ ) (
لخشيتُ قدرك أن يبيتها ** إن لم يكن لي عنه مُنصرفُ ) وفي المثل : كلُّ طائرٍ
يصيدُ على قَدْرِه .
كسب الذئب وخبثه وأمَّا قوله : ( والخُلد كالذِّئب على
كَسْبِهِ ** والفيلُ والأعلمُ كالوَبْرِ ) فإنّه يقالُ : أغدرُ من ذئب وأخبث من
ذئب وأكسبُ من ذئب على قول الآخر : أكسبُ لِلْخَيْرِ من الذِّئْبِ الأزَلّ والخير
عنده في هذا الموضع ما يُعيش ويقُوت والخير في مكانٍ آخر : المالُ بِعينه على قوله
عزّ وجلّ : إنْ ترَكَ خيْراً الْوصِيَّةُ وعلى قوله : وإنَّهُ لِحُبِّ الخيْرِ
لَشَديدُ أي إنّه من أجل حبِّ المال لبخيلٌ عليه ضنين به متشدِّد فيه .
والخير في موضعٍ آخر : الخصب وكثرة المأكول والمشروب
تقول : ما أكثر خير بيتِ فلان والخير المحض : الطّاعة وسلامة الصدر .
وأمَّا قولهم : أخْبث من ذِئْبِ خَمَر فعلى قول الرَّاجز
: ( أما أتاك عَنِّي الحديثُ ** إذْ أنا بالغائط أستغيثُ ) ( والذِّئْبُ وسط
أعنُزي يَعِيثُ ** وصحتُ بالغائط يا خبيث ) وقالوا في المثل : مُستودع الذئب أظلم .
الخلد والخُلد دويبةٌ عمياءُ صماءُ لا تعرف ما يدنُو
منها إلا بالشّمِّ تخرُج من جُحرها وهي تعلم أن لا سمع ولا بصَر لها وإنما تَشْحا
فاها وتقفُ على باب جُحرها فيجيء الذُّباب فيسقط على شِدقها ويمرُّ بين لَحييها
فتسُّد فمها عليها وتستدخلها بجذْبة النّفس وتعلمُ أن ذلك هو رِزقها وقسمها فهي
تعرِض لها نهاراً دون اللّيل وفي السّاعات من النهار التي يكون فيها الذباب أكثر
لا تفرِّط في الطَّلب ولا تقصِّر في الطّلب ولا تخطئ الوقْت ولا تغلط في المقدارِ .
وللخلد أيضاً ترابٌ حواليْ جُحره هو الذي أخرجه من الجحر
يزعمون أنّه يصلُحُ لصاحب النِّقرس إذا بُلّ بالماء وطُلي به ذلك المكان .
الأعلم وأمّا قوله : والفيل والأعلم كالوبْرِ فالفيل
معروف والأعلم : البعير وبذلك يسمّى لأنّه أبداً مشقوقُ الشَّفةِ
العليا
ويسمّى الإنسان إذا كان كذلك به .
ويدلُّ على أن الأعلم والبعير سواء قولُ الراجز : ( إني
لمن أنكر أو توسَّما ** أخو خناثيرَ أقود الأعلما ) وقال عنترة : ( وحليل غانيةٍ
تركتُ مجدَّلاً ** تمْكُو فريصتُه كشِدْق الأعْلمِ ) يريد شِدْق البعير في السعة
وقال الآخر : ( كم ضربةٍ لك تحْكي فاقراسِيَةٍ ** من المصاعِب في أشداقِهِ عَلَمُ
) بعض ما قيل من الشعر في صفة الضرب والطعن مَشافِرَ قَرْحى أكلْن البَريرا وقال
آخر : ( بضربٍ يُلقِحُ الضِّبْعانُ مِنْهُ ** طرُوقَته ويأتنِفُ السِّفادا ) وقال
الشاعر الباهليّ : ( بضَرْبٍ كآذان الفِراء فُضولُه ** وطعَنٍ كإيزاغِ المخاضِ
تَبُورُها )
كأنّه ضربَه بالسَّيف فعلِق عليه من اللحم كأمثال آذان
الحمير .
وقال بعضُ المحدثين وهو ذو اليمينين : ( ومقْعصٍ تشْخَبُ
أوداجُه ** قد بانَ عن مَنْكِبه الكاهلُ ) ( فصارَ ما بينهما هُوَّةً ** يمشي بها
الرَّامحُ والنّابِلُ ) وفي صفات الطَّعنة والضَّربة أنشدني ابنُ الأعرابيّ : ( تمنَّى أبو
اليقظانِ عندي هَجْمَةً ** فسهَّل مأوى ليلها بالكلاكِلِ ) ( ولا عَقْلَ عندي غيرُ طعنِ نوافذٍ
** وضربٍ كأشداق الفِصال الهوازلِ
) ( وسَبٍّ يود المرءُ لو ماتَ دُونه ** كوقْعِ الهضابِ
صُدِّعَتْ بالمعاوِلِ ) وقل الآخر : وقال البعيث : ( أئن أمرعَت مِعْزى عطِيَّة
وارتعتْ ** تِلاعاً من المرُّوت أحْوى جميمها )
( تعرَّضْت لي حتّى ضربتُك ضربةً ** على الرّأس يكبو لليدينِ أميمها ) إذا قاسها الآسِي النِّطاسيُّ أُرعِشَتْ أناملُ آسيها وجاشَتْ هُزُومها وقال الآخر : ( ونائحة رافعٍ صوْتُها ** تَنُوحُ وقد وقعَ المِهْذَمُ ) ( تَنُوحُ وتُسْبَرُ قَلاّسَةً ** وقد غابت الكفُّ والمعْصَمُ ) وقال آخر : ( ومُستَنَّةٍ كاستنانِ الخرُو ** فِ قدْ قطعَ الحبلَ بالمِرْودِ ) ( دفوعِ الأصابع ضَرْحَ الشَّمُو ** سِ نجلاءَ مُؤْيسةِ العُوَّدِ ) وقال محمد بن يسير :
( وطعن خليسٍ كفرْغ النّضيح ** أُْفْرِغَ منْ ثَعبِ الحاجِرِ ) ( تُهالُ العوائدُ من فَتْقِها ** تردُّ السِّبارَ على السّابرِ ) وأنشدوا لرجلٍ من أزْد شنوءة : ( إذا باشرُوها بالسِّبار تقطّعتْ ** تقطع أم السكر شيب عقوقُها ) وروي للفِندْ الزِّمَّاني ولا أظنُّه له : ) ( كففنا عن بنى هندٍ ** وقلنا القومُ إخوانُ )
( عسى الأيامُ ترجعهم ** جميعاً كالذي كانوا ) ( فلمَّا صرحَ الشرُّ ** وأضحى وهو عريانُ ) ( شددنا شدةَ الليثِ ** عدا والليثُ غضبانُ ) ( بضربٍ فيه تفجيعٌ ** وتوهينٌ وإرنانُ ) ( وطعن كفم الزقِّ ** وهي والزقُّ ملآنُ ) وأنشد السُّدّيّ لرجل من بلحارث : ( أتيت المحرم في رحله ** فشمرَ رحلى ِ بعنسٍ خبوبْ )
( تذكر منِّى خطوباً مضت ** ويومَ الأباء ويومَ الكثيب ) ( ويومَ خزازَ وقدْ ألجموا ** وأشرطت نفسى بأن لا أثوب ) ( ففرجتُ عنهم بنفاحةٍ ** لها عائدٌ مثلُ ماء الشعيب ) ( إذا سبروها عوى كلبها ** وجاشتْ إليهم بآنٍ صبيبْ ) ( طعنةً ما طعنتُ في جمحِ الذَّ ** مَّ هلالٍ وأين منِّى هلالُ ) ( طعنة الثائر المصمم حتى ** نجم الرمحُ خلفه كالخلال ) وقال الحارث بن حِلِّزَة : ( لا يقيم العزيز بالبلدِ السه ** ل ولا ينفعُ الذليلَ النجاءُ ) ( حولَ قيسٍ مستلئمين بكبشٍ ** قرظىً كأنهُ عبلاءُ )
( فرددناهم بضربٍ كما يخ **
رجُ من خربة المزادِ الماءُ ) ( وفعلنا بهمْ كما علم الله ** وما إنْ للحائنين
دماءُ ) وقال ابن هَرْمة : ( بالمشرفيّة والمظاهر نَسْجُها ** يَوْمَ اللَّقاء
وكلِّ وَرْدٍ صاهِل ) ( وبكلِّ أرْوَعَ كالحريق مُطاعنٍ ** فمسايفٍ فمعانقٍ
فمُنازِل ) ويروى : فمعاذل .
الإفراط في صفة الضرب والطعن وإذْ قد ذكرنا شيئاً من
الشِّعر في صفة الضرب والطعن فقد ينبغي أن نذكر بعض ما يشاكلُ )
هذا الباب من إسرافِ من أسْرَفَ واقتصادِ من اقتصد فأما
من أفْرط فقول مُهلهل :
وقال الهذلي : ( والطعن شَغْشَغَةٌ والضّرْبُ هَيْقَعة ** ضَرْبَ المعوِّل تحتَ الدِّيمة العضدا ) ( وللقسيِّ أزاميلٌ وغَمْغَمَةٌ ** حِسَّ الجنوبِ سوق الماء والقردا ) ومن ذلك قول عنترة : ( بِرَحيبة الفَرْغين يهدي جرْسُها ** باللّيْل مُعْتسَّ السِّباع الضُّرَّمِ ) وقال أبو قيس بن الأسلت : ( قد حصَّت البيضةُ رأسي فما ** أطْعَمُ نوماً غيرَ تَهجاعِ ) وقال دُريد بن الصِّمَّة : ( أعاذِلُ إنَّما أفْنى شبابي ** رُكوبي في الصَّريخ إلى المنادي )
( مع الفتيان حتّى خلّ جِسْمي ** وأقْرَحَ عاتِقي حَمْل النِّجادِ ) ومّما يدخُل في هذا الباب قولُ عنترة : ( رُعْناهم والخيلُ تَرْدي بالقنا ** وبكُلِّ أبْيضَ صارمٍ قَصَّالِ ) ( وأنا المنيّة في المواطِنِ كلِّها ** والطَّعْنُ مِنِّي سابِقُ الآجالِ ) وأمَّا قوله : وقال نهشل بن حَرِّيّ : ( وما زال رُكْني يرتقي من ورائه ** وفارسُ هيجا ينفض الصدر واقفُ ) فوصف نفسه بأنّه مجتمع القلب مرير لا يبرح .
وقد كان حميد بن عبد الحميد يوصف بذلك لأنّه كان لا يرمي
بسَهْم ولا يطعنُ برُمحٍ ولا يضربُ بسيفٍ ولكن التصبير والتَّحريض والثّبات إذا
انهزمَ كلُّ شُجاع منْ نذر في حميّة المقتول نذْرا فبلغ في طلب ثأره الشفاء . قال
العبسيّ : ( دَعَوْتُ اللّه إذْ قدْنا إليهمْ ** لَنَلْقى مِنْقراً أو عَبْدَ
عَمْرِو ) ( وكانَتْ حَلْفَةً حُلِفَتْ لِوِتْرٍ ** وشاء اللّهُ أنْ أدْرَكْتُ
وتِري ) ( وإنّي قد سَقِمْتُ فكان بُرئي ** بقِرْواش بن حارثة بن صَخْرِ )
والأعرابُ تعدُّ القَتْلَ سُقماً وداءً لا يبرئه أخذ
ثأره دون أخٍ أو ابن عمٍّ فذلك الثّأرُ المنيم .
وممَّن قال في ذلك صَبار بن التوءم اليشكري في طلب
الطّائلة وأنّ ذلك داءٌ ليس له بُرء وكانوا قتلوا أخاه إساف بن عباد فلما أدرك
ثأره قال :
( ألمْ يأتِها أنِّي صَحَوْتُ وأنَّني ** شفاني من الدَّاء المُخامِرِ شافِ ) ( وكنتُ مغطّى في قناعِي حِقْبةً ** كَشَفْتُ قناعي واعتطَفْتُ عطافي ) وفي شبيه بهذا المذهب منْ ذكر الدّاء والبُرء قال الآخر : ( قالتْ عهدِتك مجنوناً فقلتُ لها ** إن الشّبابَ جُنونٌ بُرؤهُ الكبرُ ) وفي شبيهٍ بالأوّل قول الشّيخ الباهليِّ حين خرج إلى المبارزَةِ على فرسٍ أعجف فقالوا : بالٍ على بالٍ فقال الشّيخ : ( رآني الأشْعَرِيُّ فقالَ بالٍ ** على بالٍ ولم يعرِفْ بلائي ) ( ومثلُك قد كَسَرْتُ الرُّمْحَ فيه ** فآبَ بدائه وشفَيْتُ دائي ) وقالت بنتُ المنذر بن ماء السَّماءِ : ( بعين أُباغ قاسَمْنا المنايا ** فكان قَسِيمُها خيْرَ القَسيمِ ) وقالوا فارس الهيْجاء قلنا كذاك الرُّمح يَكْلَفُ بالكريمِ
وقال الأسدي : ( رفعْنا طريفاً بأرْماحنا ** وبالرَّاح مِنَّا فلم يدفعونا ) ( فطاح الوَشيظُ ومالَ الجْمُوحُ ** ولا تأكلُ الحَرْبُ إلا السَّمينا ) وقال الخريمي : وقال السموءلُ بنُ عاديا : ( يقرِّبُ حُبُّ الموتِ آجالنا لنا ** وتَكْرَهُه آجالهمْ فتطولُ ) ( لأنّا أُناسٌ لا نرى القَتْلَ سُبّةً ** إذا ما رأتْه ُعامرٌ وسلولُ ) وقال أبو العيزار :
( يَدْنُو وتَرْفَعُهُ
الرِّماحُ كأنّهُ ** شِلْوٌ تَنَشَّبَ في مخالِبِ ضارِي ) ( فتوى صرِيعاً
والرِّماحُ تَنُوشُه ** إنّ الشُّراة قصيرةُ الأعمارِ ) وقال آخر وهو يُوصي بلُبْس
السِّلاح : ) ( فإذا أتَتْكُمْ هذه فتلبَّسُوا ** إنَّ الرِّماحَ بصيرةٌ بالحاسرِ
) وقال الآخر : ( يا فارسَ الناس في الهيجا إذا شُغلتْ ** كِلتا اليدينِ كرُوراً غَيْرَ وقّافِ
) قوله شُعِلَتْ يريد بالسّيف والتُّرس وأنشد أبو اليقظان : وكان ضروباً باليدينِ
وباليَدِ أمَّا قوله : ضروباً باليدين فإنّه يريد القِداح وأمّا قوله : باليد فإنّه
يريد السَّيف .
وأمّا قول حسّان لقائده حين قرَّبوا الطّعام لبعض الملوك
: أطعام يدين أم يد فإنه قال هذا وإن كان الطعام حَيْساً أو ثريداً أو حريرة فهو
طعام يدٍ وإن كان شواءً فهو طعام يدَين
.
من أشعار المقتصدين في الشعر ومن أشعار المقتصدين في
الشِّعر أنشدني قطرب : ( تركْت الرِّكابَ لأربابها فأجْهَ ** دْتُ نفسي على ابن
الصَّعِقْ ) ( جَعَلْتُ يديَّ وِشاحاً له ** وبعضُ الفوارِس لا يعتنق ) وممن صدق
على نفسه عمرو بن الإطنابة حيثُ يقول : ( وإقْدامي على المكْروهِ نَفْسي ** وضرْبي
هامَة البطلِ المشِيحِ ) ( وقولي كُلَّما جَشأتْ وجَاشَتْ ** مَكانَكِ تُجْمَدي
أوْ تَسْتريحي ) وقل آخر : ( وقلتُ لِنفسي إنّما هو عامرٌ ** فَلا ترهَبيه وانظُري
كيف يركبُ ) وقال عَمرو بن مَعْدِ يكرب : ( ولّما رأيتُ الخيلَ زُوراً كأنَّها **
جَدَاوِلُ زَرْعٍ أُرْسِلَتْ فاسْبَطَرَّتِ ) ( فجاشَتْ إليّ النَّفْسُ أوَّل
مَرَّةٍ ** فَرُدَّتْ على مَكْرُوهِها فاسْتقَرَّتِ )
وقال الطّائيُّ : ( ركضتْ فِينا وفِيهمْ ساعةً ** لَهذْميَّاتٌ وبيضٌ كالشُّهُبْ ) ( تروا القاعَ لنا إذْ كَرِهُوا ** غمراتِ الموتِ واختارُوا الهَربْ ) وقال النّمر بنُ تولب : ( سَمَوْنا ليشْكُر يَوْمَ النِّهابِ ** نهزُّ قناً سَمْهريّاً طِوالاَ ) ( فلمّا التقينا وكان الْجلادُ ** أحَبّوا الحياة فولَّوْا شِلالا ) وكما قال الآخر : ( هُم المقْدِمُون الْخيلَ تَدْمى نُحورُها ** إذا ابيضَّ من هَوْل الطِّعان المسالحُ ) وقال عنترة : ( إذْ يتَّقون بي الأسنِّةَ لم أخِمْ ** عنْها ولكني تضايقَ مُقْدمي ) وقال قَطريُّ بن الفُجاءة : ( وقولي كلّما جشأتْ لنفسي ** من الأبطالِ ويْحكِ لا تُراعي )
( فإنّكِ لوْ سألتِ حياةَ يومٍ ** سوى الأجلِ الذي لكِ لم تُطاعي ) وقالت الخنْساء : ( يُهِينُ النُّفوس وهَوْن النفوس ** غداة الكريهةِ أبقى لها ) ( أقولُ لنفسٍ لا يجادُ بمثلها ** أقِلِّي المراح إنَّني غيرُ مُقْصِر ) وقال جرير : إن طارَدُوا الخيل لم يُشْوُوا فوارِسها أو نازلوا عانَقُوا الأبطال فاهتصروا وقال ابن مقروم الضّبيّ : ( وإذا تُعلَّل بالسِّياطِ جيادُها ** أعطاك ثائبةً ولم يَتَعَلَّل ) ( فدعوا نَزالِ فكنتُ أوّل نازلٍ ** وعلامَ أرْكبهُ إذا لم أنزلِ )
وقال كعب الأشقري : ( إليهم وفيه منتهى الحزم والندى ** وللكربِ فيهم والخصاصةِ فاسحُ ) ( ترى علقاً تغشى النقوش رشاشه ** إذا انفرجت من بعدهنّ الجوانح ) ( كأن القنا الخطى َّ فينا وفيهم ** أشاطينُ بئرٍ هيجتها المواتحُ ) ( هناك قذفنا بالرماح فمائلٌ ** هنالك في جمع الفريقين رانحُ ) ( ودرنا كما دارتْ على قطبها الرحى ** ودارت على هامِ الرجال الصفائح )
وقال مهلهل : ( ودلَفْنا بجمعنا لبني شَيْ ** بان إن الخليل يبغي الخليلاَ ) وقال عبدة وهو رجلٌ من عبد شمس : ) ( ولما زجرْنا الخيلَ خاضْتْ بنا القنا ** كما خاضت البُزْلُ النِّهاءَ الطَّواميا ) ( رمَوْنا برشْقٍ ثمَّ إنَّ سيوفنا ** ورَدْن فأنكرْن القبيل المراميا ) ( ولم يكُ يثْني النَّبل وقعُ سُيوفنا ** إذا ما عقدنا للجلادِ النّواصيا ) في ذكر الجبن ووهل الجبان قال اللّه عزَّ وجلّ : يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحةٍ عَلَيْهمْ هُمُ الْعَدُوُّ فاحْذَرْهُمْ قاتلَهُمُ اللّه أنّى يُؤْفكُون ويقال إن جريراً من هذا أخذ قوله : ( ما زلتَ تحسِبُ كُلَّ شيءٍ بعدَهُمْ ** خيلاً تكرُّ عليكم ورِجالا )
وإلى هذا ذهب الأوَّل : ( ولو أنّها عصفورةٌ لحسبتها ** مُسَوَّمةً تدعُو عُبيداً وأزْنما ) وقال جران العود : ( يومَ ارْتحلت برَحْلي قَبْل برذعتي ** والقَلْبُ مُسْتَوْهِلٌ للبَيْنِ مشغولُ ) ( ثمَّ اغترزتُ على نِضْوى ليحملني ** إثر الحُمول الغوادي وهو معقولُ ) وهذا صفة وهل الجبان وليس هذا من قوله : وقال الذَّكواني أو زمرة الأهوازيُّ ففسر ذلك حيث يقول : ( يجعلُ الخيل كالسّفينِ ويَرْقى ** عادياً فوق طِرْفِهِ المَشْكولِ ) لأنهم ربّما تنادوا في العَسكر : قد جاؤوا ولا بأس فيُسرج الفارس
فرسه وهو
مشكولٌ ثم يركبه ويحثُّه بالسَّوط ويضربُه بالرِّجل فإذا رآه لا يُعطيه ما يريدُ
نزل فأحْضر على رجليه ومنْ وهل الجبان أن يُذْهل عن موضع الشِّكال في قوائم فرسه
وربما مضى باللِّجام إلى عَجْب ذنبه وهو قوله : يجعل الخيْل كالسّفين لأنّ لجام
السفينة الذي يغمزها به والشِّكال هو في الذَّنب .
وقال سهل بن هارون الكاتب في المنهزِمة من أصحاب ابن
نهيك بالنَّهروان من خيل هَرْثمة بن أعْين : ( يُخيِّلُ للمهزومِ إفراطُ رَوْعِه
** بأنّ ظهورَ الخيل أدنى من العَطبْ ) لأنّ الجُبْنَ يُريه أنّ عَدْوَه على رجليه
أنجى له كأنّه يرى أنّ النَّجاة إنّما تكونُ على قدر الحمل للبدن .
وقال آخر حينَ اعْتلَّ عليه قومُه في القتال بالورع : )
( كأنّ ربَّك لم يَخْلقْ لِخَشيته ** سِواهُمُ مِنْ جميعِ النّاس إنسانَا ) وقال
آخر : وقال الشّاعر : يروِّعه السِّرارُ بكُلِّ أرضٍ مخافة أن يكون به السِّرارُ
وأنشدني ابن رُحيم القراطيسي الشاعر ورمى شاطراً بالجبن فقال : ( رأى في النَّوم
إنساناً ** فوارَى نفْسَهُ أشهرْ ) ويقولون في صفة الحديد إذا أرادوا أنّه خالص
فمن ذلك قول هِميان : يمشون في ماء الحديدِ تنكُّبا
وقال ابنُ لجأ : أخضر من ماءِ الحديدِ جِمْجِم وقال الأعشى في غير هذا : ( وإذا ما الأكسُّ شبه بالأرْ ** وَق عند الهيجا وقَلَّ البُصاقُ ) وقال الأعشى : ( إذ لا نقاتل بالعِصيِّ ** ولا نُرامي بالحجارَه ) وقال الأخطل : ( وما تركتْ أسيافُنا حينَ جُرِّدَتْ ** لأعدائنا قيس بن عيلان من عُذر ) ( وبنو فزارة إنّها ** لا تُلْبث الحلبَ الحلائبْ ) يقول : لا تُلْبِثُ الحلائِبَ حَلَباً حتى تَهْزِمَهُم .
يقول : لا
تلبث الحلائب حلبا حتى تهزمهم .
السّندل وأمَّا قوله : ( وطائر يسبح في جاحمٍ ** كماهِرٍ
يسبحُ في غَمرِ ) فهذا طائرٌ يسمَّى سَنْدل وهو هِنْديّ يدخل في أتون النّار
ويخرج ولا يحترق له ريشة .
ذكر ما لا يحترق وزعم ثُمامة أن المأمون قال : لو أخذ
إنسانٌ هذا الطُّحلب الذي يكون على وجّه الماء في مناقع المياه فجفَّفه في الظلّ
وألقاه في النّار لما كان يحترق
.
وزعموا أنّ الفلفل لا يضرُّه الحرق ولا الغرق والطَّلق
لا يصير جمراً أبداً قال : وكذلك المَغْرة .
فكأنّ هذا الطَّائرَ في طباعه وفي طباع ريشه مزاجٌ من
طلاء النّفاطين وأظنُّ هذا من طلق وخَطْمِيٍّ ومَغْرة .
وقد رأيْت عُوداً يُؤْتى به من ناحية كِرْمان لا يحترق
وكان عندنا نصرانيٌّ في عنقه صليبٌ منه وكان يقول لضعفاء الناس : هذا العود من
الخشبة التي صُلب عليها المسيح والنّار لا تعمل فيها الماهر وأمّا قوله : كماهِرٍ
يسبحُ في غَمْرِ
فالماهر
هو السَّابح الماهر وقال الأعشى : ( مِثلَ الفراتيّ إذا ما طما ** يقذِفُ
بالبُوصيِّ والماهرِ ) وقال الربيع بن قَعْنب : ( وترى الماهِرَ في غَمْرتِه **
ثْل كَلْبِ الماء في يومٍ مَطِرْ )
لطعة الذئب صونعة السرفة والدبر وأمَّا قوله : ( ولطعة
الذِّئب على حَسْوِهِ ** وصَنْعَة السّرْفَة والدَّبرِ ) قال : فإنّ الذِّئب يأتي
الجمل الميِّت فيفضي بغمغمته فيعتمدُ على حجاج عينه فيلْحسُ عينه بلسانه حسْياً
فكأنّما قُوِّرت عينُه تقويراً لِما أعُطيَ من قوَّة الرَّدَّة وردُّه لسانه أشدُّ
مرّاً
في
اللَّحم والعصب من لسان البقر في الخلى .
فأمّا عضّتُه ومصّتُه فليس يقعُ على شيء عظماً كان أو
غيره إلاّ كان له بالغاً بلا معاناةٍ من ويقال : إنّه ليس في الأرض سبعٌ يعضُّ على
عظمٍ إلاّ ولَِكَسرْته صَوتٌ بين لحييه إلاّ الذئب فإنّ أسنانه توصف بأنّها تبري
العظم برْي السَّيف المنعوت بأنّ ضربته من شدّة مُرورها في العظم ومن قلّة ثبات
العظْم له لا يكون له صوت قال الزُّبير بن عبد المطّلب : ( ويُنْبِي نخوَةَ
المحتال عَنّي ** غموضُ الصوت ضَرْبته صَمُوتُ ) ولذلك قالوا في المثل : ضربه
ضربةً فكأنما أخطأه لسرعة المرِّ لأنّه لم يكن له صوت .
وقال الرَّاجز في صفة الذِّئب :
( أطلس يخفي شخصه غُبارُه
** في شدْقِه شَفْرته ونارُهُ ) وسنأتي على صفة الذئب في غير هذا البابِ من أمره
في موضعه إن شاء اللّه تعالى .
وأمَّا ذِكر صَنْعة السُّرْفة والدَّبْر فإنّه يعني
حكمتها في صنعة بيوتها فإنّ فيها صنْعَةً عجيبةً .
سمع القُراد والحِجر وأمّا قوله : ( ومَسْمع القِرْدان
في مَنْهَلٍ ** أعجبُ ممّا قيل في الحِجْرِ ) فإنهم يقولون : أسمعُ مِنْ
فَرَسٍ ويجعلون الحجْر فرساً بلا هاء وإنَّما يعنون بذلك الحِجْر لأنها أسمع .
قال : والحِجْر وإن ضُرِبَ بها المثل فالقُرادُ أعْجب
منها
لأنها
تكون في المنهل فتموج ليلة الوِرْد في وقت يكون بينها وبين الإبل التي تريد الورود
أميالٌ فتزعمُ الأعراب أنها تسمعُ رغاءها وأصوات أخفافها قبل أنْ يسمعها شيء .
والعرب تقول : أسمعُ منْ قُراد وقال الرَّاجز : أسمعُ منْ
فَرْخِ العُقابِ الأسحمِ ما في الجمل من الأعاجيب وأمَّا قوله : ( والمقْرم
المعْلم ما إن له ** مَرارة تُسْمَعُ في الذِّكرِ ) ( وحصيةٌ تنصُلُ من جَوفِه **
عِنْدَ حُدوث الموتِ والنَّحْرِ ) ( ولا يرى بعدهما جازرٌ ** شقشقةً مائلة الهدْرِ
) فهذا بابٌ قد غلط فيه من هو أعْنى بتعرُّف أعاجيب ما في العالم من بِشْر .
ولقد تنازع بالبصرة ناسٌ وفيهم رجلٌ ليس عندنا بالبصرة
أطيبُ منه فأطبقوا جميعاً على أنَّ الجمل إذا نُحِر ومات فالتُمست خُصْيته
وشقشقتُه أنهما لا توجدان فقال ذلك الطيِّب : فلعلَّ مرارة الجمل أيضاً
كذلك
ولعلّه أن تكون له مرارةٌ ما دام حيّاً ثمَّ تبطل عند الموت والنَّحر وإنّما صرنا
نقول : لا مرارَة له لأنّا لا نصلُ إلى رؤية المرارة إلاّ بعد أن تفارقه الحياة
فلم أجد ذلك عمل في قلبي مع إجماعهم على ذلك فبعثت إلى شيخٍ من جزَّاري باب
المغيرة فسألته عن ذلك فقال : بلى لعمري إنهما لتوجدان إن أرادهما
مريد وإنّما سمعت العامّة كلمةً وربّما مزَحْنا بها فيقول أحدنا : خُصية الجمل لا
توجد عند مَنْحره أجلْ واللّه ما توجدُ عند منحره وإنما توجد في موضعها وربّما كان
الجمل خياراً جيّداً فتلحق خصيتاه بكليتيه فلا توجدان لهذه العلّة فبعثت إليه
رسولاً : إنّه ليس يشفيني إلاّ المعاينة فبعث إليَّ بعد ذلك بيومٍ أو يومين مع )
خادمي نَفيس بشقشقةٍ وخُصية .
ومثل هذا كثيرٌ قد يغلط فيه من يشتدُّ حرصُه على حكاية
الغرائب .
ما في الفرس والثور من الأعاجيب وأمّا قوله : ( وليس
للطّرْفِ طِحالٌ وقد ** أشاعَهُ العالمُ بالأمرِ ) ( وفي فُؤاد الثّورِ عَظْمٌ وقدْ **
يعرِفُه الجازِرُ ذُو الخبرِ )
وليس عندي
في الفرَس أنّه لا طحال له إلاّ ما أرى في كتاب الخيل لأبي عبيدة والنّوادر لأبي
الحسن وفي الشِّعر لبشْر فإن كان جوف الفرس كَجوف البرذون فأهلُ خراسان من أهل هذا
وأمّا العظم الذي يوجد في قلب الثّور فقد سمعنا بعضهم يقول ذلك ورأيتهُ في كتاب
الحيوان لصاحب المنطق .
أعجوبة السمك وأمّا قوله : ( وأكثرُ الحيتان أعجوبةً ** ما كان منها
عاشَ في البَحْرِ ) ( إذ لا لسانٌ سُقي ملحه ** ولا دماغ السمك النهري ) فهو كما
قال : لأنَّ سمك البحر كلّه ليس له لسانٌ ولا دِماغ . 4
القواطع في السمك
وأصنافٌ من حِيتان البحْر تجيء في كلِّ عام في أوقاتٍ معلومةٍ حتّى تدخل دجلة ثم تجوز إلى البطاح فمنها الأسبور ومنها البرسْتوك
ووقته
ومنها الجُواف ووقته وإنما عرِفَتْ هذه الأصناف بأعيانها وأزمانها لأنها أطيبُ ذلك
السَّمك وما أشكّ أنّ معها أصنافاً أُخر يعلم منها أهلُ الأبلّة مثل الذي أعلم أنا
من هذه الأصناف الثّلاثة .
كبد الكوسج
( وأكبدٌ تَظْهر في ليلِها ** ثمَّ توارى آخرَ الدَّهرِ
) ( ولا يُسيغ الطُّعمَ ما لم يكنْ ** مِزاجُه ماءً على قدْرِ ) ( ليس له شيءٌ
لإزلاقه ** سوى جِرابٍ واسعِ الشَّجْرِ ) فإنّ سمكاً يقال له الكوسج غليظ الجلد أجرد
يشبه الجِرّيَّ وليس بالجِرِّي في جوفها شحمةٌ طيِّبة فإن اصطادُوها ليلاً وجدوها
وإن اصطادوها نهاراً لم يجدوها
.
وهذا الخبر شائعُ في الأبُلة وعند جميع البحريِّين وهم
يسمُّون تلك الشَّّحمة الكبد .
وأما قولهم : السَّمكة لا تسيغ طعمها إلاّ مع الماء فما
عند بِشْرٍ ولا عندي إلاّ ما ذكر صاحبُ المنطق وقد عجِب بشرٌ من امتناعها من بلْع
الطّعم وهي مستنقعة في الماء مع سعة جِرابِ فيها .
والعرب تسمِّي جوف البئر من أعلاه إلى قعرِه جراب البئر .
وأمّا ما سوى هذه القصيدة فليس فيها إلاّ ما يعرف وقد
ذكرناه في موضعٍ غير هذا من هذا الجزء خاصَّة .
الضبع
وسنقول في
باب الضّبع والقنفذ والحرقوص والورل وأشباه ذلك ما أمكن إن شاء اللّه تعالى .
قال أبو زياد الكلابيّ : أكلت الضّبع شاة رجلٍ من
الأعراب فجعل يخاطبُها ويقول : ( ما أنا يا جعارِ من خُطّابِكْ ** عليَّ دَقُّ
العُصْلِ من أنيابكْ ) على حذا جُحْرِك لا أهابُكْ جَعَارِ : اسمُ الضبع ولذلك قال
الراجز : ( يا أيُّها الجفْر السَّمين وقَومُه ** هزْلى تجرُّهُمُ ضِباعُ جَعارِ )
ثم قال الأعرابيّ : ( ما صَنَعتْ شاتي التي أكلْتْ ** ملأْت مِنْها البَطْنَ ثُمَّ
جُلْتْ ) وخُنْتَني وبئْسَ ما فَعلْتْ
( قالت له : لا زلتَ تلقى الهمّا ** وأرسل اللّه عليكَ الحمّى ) لقد رأيْت رجلاً معتمّا ( قال لها : كذبتِ يا خباثِ ** قد طال ما أمسيتُ في اكتراثِ ) ( قالت له والقولُ ذو شُجونِ : ** أَسهبْتَ في قولك كالمجنوِن ) ( أما وربِّ المْرسَلِ الأمين ** لأفْجَعَنْ بِعيركَ السَّمينِ ) ( وأمِّه وجَحشِه القرين ** حتَّى تكونَ عُقْلةَ العُيُونِ ) ( قال لها وْيحَكِ حذِّريني ** واجتهدي الجهد وواعديني ) ( وبالأمانيِّ فعلِّليني ** لأقطعَنَّ مُلتقى الوتينِ ) ( مِنْكِ وأشفى الهمَّ مِنْ دَفيني ** فصدِّقيني أو فكذِّبيني ) ( أو اتركي حَقِّي وما يليني ** إذاً فشلّتْ عندها يميني ) تعرّفي ذلك باليقينِ قالت : أبالقتلِ لنا تهدِّد وأنت شيخٌ مُهْترٌ مفَنّدُ
( سقط : بيت الشعر ) ( قالت : أبا القتل لنا تهدد ** وأنت شيخ مهتر مفند ) ( قولُكَ بالجُبْنِ عليك يشهدُ ** منك وأنت كالذي قد أعهدُ ) ( قال لها : فأبشِري وأبشري ** إذا تجردتُ لشأني فاصبري ) ( أنتِ زعمتِ قد أمنتِ منكري ** أحلفُ باللّه العليِّ الأكبر ) ( يمين ذي ثرية لم يكفرِ ** لأخْضِبنَّ منك جَنْبَ المنحَر ) ( برمْيةٍ من نازع مذَكّرٍ ** أو تتركين أحْمري وبَقَرِي ) ( مكبوبةً لوَجْهِها والمنخر ** والشَّيخُ قد مالَ بغربِ مجزرِ ) ( ثمّ اشتوى من أحمرٍ وأصفر ** منها ومقدورٍ وما لم يُقْدر )
جلد الضبع
وقال
الآخر : ( يا ليت لي نَعلينُ من جلد الضّبُعْ ** وشَرَكاً من استها لا يَنْقطِعْ )
كُلَّ الحذاء يحتذي الحافي الوَقعْ وهذا يدلُّ على أنّ جلدها جلدُ سوء .
وإذا كانت السَّنةُ جدبةً تأكلُ المال سمّتُها العربُ
الضّبع قال الشّاعر : ( أبا خُراشة أمّا كُنْتَ ذا نفرٍ ** فإنّ قَوْمي لم تأكلُهم
الضّبعُ )
تسمية السنة الجدبة بالضبع
وقال عُمير بن الحباب :
( فبشِّري القيْنَ بطَعْنِ شَرْجِ ** يشبعُ أولادَ الضباعِ العُرْجِ ) ( ما زال إسدائي لهمْ ونَسْجي ** حتّى اتّقَوني بظهُورٍ ثُبْجِ )
مما قيل من الشعر في الضباع
وقال رجلٌ من بني ضبَّة : ( يا ضبعاً أكلت آيارَ أحمرةٍ ** ففي البطون وقد راحتْ قراقير ) ( ما منكم غير جعلانٍ ممددة ** دسمُ المرافق أنذالٌ عواويرُ ) ( وغيرُ همزٍ ولمز للصديق ولا ** تنكى عدوكم منكم أظافير ) ( وإتكم ما بطنتم لم يزلْ أبداً ** منكك على الأقربِ الأدنى زنابير )
وأنشد : ( القوْم أمثال السِّباع فانشَمِر ** فمنهُم الذِّئب ومنهم النَّمِرْ ) والضّبْع العَرجاءُ واللّيثُ الهصِرْ وقال العلاجم : ( معاورِ حلباته الشخص أعم ** كالدِّيخ أفنى سِنّه طول الهرم ) وأنشد : ( فجاوز الحرض ولا تشمِّمه ** لسابغ المِشفر رحبٍ بلعمه )
يقول : وبَرُ لحييها كثيرٌ كأنّه شعر ذيخ قد بلّه المطر وأنشد : ( لما رأين ماتِحاً بالغَرْبِ ** تخلَّجَتْ أشداقُها للشُّربِ ) تخْليجِ أشداقِ الضَّباع الغُلْبِ يعني من الحرص والشّرهِ وتمثّل ابنُ الزُّبير : ( خُذيني فَجُرِّيني جَعارِ وأبشري ** بلحْمِ امرئٍ لم يَشْهدِ اليومَ ناصرهُ )
وإنّما خصَّ الضّباع لأنّها تنبش القبور وذلك من فرط طلبها للحوم النّاس إذا لم تجدْها ظاهرة وقال تأبّط شرّاً : ( فلا تَقْبُرُوني إنَّ قَبْري مُحَرَّمٌ ** عليكمْ ولكن خامري أمَّ عامر ) ( إذا ضربوا رأسي وفي الرّأس أكثري ** غُودر عِند الملتقى ثمَّ سائري ) ( هنالك لا أبْغي حياةً تسرُّني ** سميرَ الليالي مُبْسلاً بالجرائر ) ( إعجابُ الضِّباع بالقتلى ) قال اليقطري : وإذا بقي القتيلُ بالعراء انتفخ أيره لأنّه إذا ضربت عنقه يكون منبطحاً على وجهه فإذا انتفخ انقلب فعند ذلك تجيء الضّبع فتركبُه فتقضي حاجتها ثمَّ تأكله .
وكانت مع عبد الملك جاريةٌ شهِدت معه حربَ مُصعَب فنظرت
إلى مصعبٍ وقد انقلبَ وانتفخ أيره وورم وغلظ فقالت : يا أمير المؤمنين ما أغلظ
أُيور المنافقين . فلطمها عبد الملك 4
حديث امرأة وزوجها
ابنُ الأعرابي : قالت امرأةٌ لزوجها وكانت صغيرة الرّكب وكان زوجُها صغير الأير : ما للرّجل في عِظَم الرّكَب منفعة وإنّما الشّأن في ضِيق المدخل وفي المصِّ والحرارة ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما ليس من هذا في شيء وكذلك الأير إنّما ينبغي أن تنظر المرأة إلى حَرِّ جلدته وطيب عُسيلته ولا تلتفت إلى كِبَره وصِغره وأنعظ الرجل على حديثها إنعاظاً شديداً فطمع أن ترى أيره في تلك الحال عظيماً فأراها إيّاه وفي البيت سِراجٌ فجعل الرَّجلُ يشير إلى أيره وعينُها طامحةٌ إلى ظلِّ أيره في أصْل الحائط فقال : يا كذابة لشدّة شهوتك في عظم ظلِّ الأير لم تفهمي عنِّي شيئاً قالت : أما إنَّك لو كنت جاهلاً كان أنعم لبالك يا مائق لو كان منفعةُ عِظم الأير كمنفعة عِظم الرَّكب لما طمَحَتْ عيني إليه قال الرجل : فإنَّ للرَّكب العظيم حَظّاً في العين وعلى ذلك تتحرّك له الشَّهوة قالت : وما تصنع بالحركة وشكٍّ يؤدِّي
إلى شكّ الأير إنْ عَظم فقد ناك جميع الحِر ودخل في تلك الزَّوايا التي لم تزل تنتظمُ من بعيد وغيرها المنتظم دونَها وإذا صغُر قال اليقطري : أمكنها واللّه من القول ما لم يمكنه . 4
حديث معاوية وجاريته الخراسانية
وقال : وخلا معاوية بجاريةٍ له خراسانيّة فما همَّ بها نظر إلى وصيفةٍ في الدّار فترك الخراسانيّة وخلا بالوصيفة ثمَّ خرج فقال للخراسانيّة : ما اسم الأسد بالفارسيّة قال : كَفْتار فخرج وهو يقول : ما الكفتار فقيل له : الكفتار الضّبع فقال : ما لها قاتلها اللّه أدركتْ بثأرها والفُرْسُ إذا استقبحت وجه الإنسان قالت : رُوي كَفْتار أي وجه الضبع . 4
كتاب عمر بن يزيد إلى قتيبة بن مسلم
قال : وكتب عمر بن يزيد بن عمير الأسدي إلى قتيبة بن مسلم حين عزل وكيع بن سُودٍ عن رياسة بني تميم وولاَّها ضِرار بن حسين الضّبي : عزلْت السِّباعَ وولَّيت الضِّباع . )
4
شعر فيه ذكر الضبع
وأنشد لعبّاس بن مِرداسٍ السُّلميِّ : ( فلو مات مِنهمْ مَنْ جَرَحْنا لأصْبحتْ ** ضباعٌ بأكناف الأراك عرائسا ) وقال جريبة بن أشْيم : ( فلا تدفننَّى في ضراً وادفنّننى ِ ** بديمومةٍ تنزو على َّ الجنادبُ ) ( وإنْ أنتَ لم تعقرْ على ّ مطيتى ِ ** فلا قام في مالٍ لكَ الدهرَ حالبُ ) ( فلا يأكلني الذئبُ فيما دفنتني ** ولا فرعلٌ مثل الصريمة حاربُ )
( أزلُّ هليبٌ لا يزال مآبطا ** إذا ذربت أنيابه والمخالب ) وأنشد : ( تركوا جارهم تأكله ** ضبعُ الوادي وترميه الشجر ) يقول : خذلوه حتّى أكله ألأم السِّباع وأضعفها وقوله : وترميه الشَّجر يقول : حتّى صار يرميه من لا يرمي أحداً .
بقية الكلام في الضبع
وقد بقي من القول في الضّبُع ما سنكتبه في باب القول في الذئب .
الحرقوص
وأمَّا
الحرقوص فزعموا أنّه دويْبَّة أكبر من البُرغوث وأكثرُ ما ينبت له جناحان بعد حينٍ
وذلك له خير .
وهذا المعنى يعتري النّمل وعند ذلك يكون هلاكه ويعتري
الدَّعاميص إذا صارت فَراشاً ويعتري الجِعلان .
والحرقوص دويْبَّة عضُّها أشدُّ من عضِّ البراغيث وما
أكثر
ما يَعضُّ أحراحَ النساء والخُصى وقد سميِّ بحرقوص من مازِنٍ أبو كابية بن حُرقوص قال الشّاعر : ( أنتم بني كابية بن حُرقُوصْ ** كلّهُمُ هامته كالأفْحُوصْ ) وقال بشرُ بن المعتمر في شعره المزاوج حين ذكر فضل عليٍّ على الخوارج وهو قوله : نق صفحة من الكتاب قال : والحرقوص يسمى بالنُّهيك وعضَّ النُّهيك ذلك الموضع من امرأة أعرابيّ فقال :
( وما أنا للحرقوص إنْ عضَّ عَضةً ** لها بَيْنَ رجليها بِجِدِّ عَقُورِ ) ( تطيب بنفْسي بعد ما تستفزُّني ** مقالتُها إنَّ النُّهيك صغيرُ ) ( ولو أنّ حُرقوصاً على ظَهْرِ قَمْلة ** يَكرُّ على صَفَّيْ تميمٍ لوَلّتِ ) قالوا : ولو كان له جناحانِ لما أركبه ظَهْر القملة وليس في قول الطِّرمَّاح دليلٌ على ما قال وقال بعضُ الأعراب وعض الحرقوص خُصيتَه : ( لقدْ مَنَعَ الحراقيصُ القَرَارَا ** فلا ليلاً نَقَرُّ ولا نَهارَا ) ( يُغالِبْنَ الرِّجالَ على خُصاهم ** وفي الأحراحِ دَسّاً وانجِحارا ) وقالت امرأةٌ تَعْني زوجَها : ( يغارُ من الحرقوصِ أنْ عَضَّ عَضةً ** بفخذِيَ منها ما يَجُذُّ غيورُ )
( لقد وقَعَ الحُرقوصُ مِنِّي موقِعاً ** أرى لَذّةَ الدُّنيا إليه تصيرُ ) وأنشدوا لآخر : ( بَرَّحَ بي ذُو النُّقطتين الأملسُ ** يَقْرُضُ أحياناً وحيناً ينهَسُ ) فقد وصفَه هذا كما ترى وهذا يصدِّق قول الآخر ويردُّ على من جعل الحراقيص من البراغيث قال الآخر : ) ( يَبيت باللّيل جوّاباً على دَمِثٍ ** ماذا هُنالك من عَضِّ الحراقيصِ )
الورل
وسنقول في
الورَل بما أمكنَ من القول إن شاء اللّه تعالى وعلى أنَّا قد فرَّقنا القولَ فيه
على أبواب قد كتبناها قبل هذا .
قالوا : الورَل يقتل الضَّبَّ وهو أشدُّ منه وأجودُ
سلاحاً وألطفُ بدناً قالوا : والسَّافِد منها يكون مهزولاً وهو الذي يَزيِف إلى
الإنسان وينفخ ويتوعَّد .
قال : واصطدت منها واحداً فكسرت حجراً وأخذتُ مَرْوةً
فذبحته
بها حتَّى قلت قد نخعته فاسبطَرَّ لحِينِه فأردت أن أصغي إليه وأشرْتُ بإبهامي في
فيه فعضَّ عليها عضةً اختلعَت أنيابَه فلم يخلِّها حتى عضضْت على رأسِه .
قال : فأتيتُ أهلي فشققْتُ بطنَه فإذا فيها حيّتان
عظيمتان إلاَّ الرَّأس .
قال : وهو يشدخ رأسَ الحيَّة ثمّ يبتلعُها فلا يضرُّه
سمُّها وهذا عنده أعجب ما فيه فكيف لو رأى الحوَّائين عندنا وأحدُهم يُعطَى الشيءَ
اليسير فإن شاء أكل الأفْعى نِيّاً وإن شاء شِواءً وإن شاء قَديداً فلا يضرُّه ذلك
بقليلٍ ولا كثير .
وفي الوَرل أنه ليس شيءٌ من الحيوان أقوَى على أكل
الحَيَّات وقتلها منه ولا أكثر سفاداً حتى لقد طمّ في ذلك على التَّيس وعلى الجمل
وعلى العُصفور وعلى الخِنزير وعلى الذِّبَّانِ في العدد وفي طُول المكث
وفيه
أنَّه لا يحتفر لنفسه بيتاً ويغتصب كلَّ شيء بيتَه لأنها أيَّ جُحر دخَلتْه هربَ
منه صاحبُه فالورَل يغتصب الحيَّة بيتَها كما تغتصب الحيَّةُ بيوت سائر الأحناش
والطّير والضَّب .
وهو أيضاً من المراكِب وهو أيضاً مما يُستطاب وله شَحمة
وَيَستطيبون لحمَ ذنبه والورل دابَّة خفيفُ الحَركة ذاهباً وجائياً ويميناً
وشمالاً وليس شيء بعد العَظَاءة أكثر تلفُّتاً منه وتوقفاً .
زعم المجوس في العظاءة
وتزعم المجوس أنّ أَهْرِمَن وهو إبليس لمَّا جلس في مجلسه في أوَّل الدهر ليقسِّم الشَّرَّ والسُّموم فيكون ذلك عدّةً على مناهضة صاحب الخير إذا انقضى الأَجل بينهما ولأنَّ من طباعه أيضاً فعلَ الشر على كلِّ حال كانت العظاءَة آخِرَ من حَضَر فحضَرَتْ وقد قسم السمَّ كلَّه فتداخلها الحسرةُ والأَسف فتراها إذا اشتدّت وقفَتْ وِقْفةَ
تذكُّرٍ
لما فاتَها من نصيبها من السُّم )
ولتفريطها في الإبطاء حتى صارتْ لا تسكن إلاَّ في
الخرابات والحُشُوش لأنها حين لم يكن فيها من السمّ شيءٌ لم تطلبْ مواضعَ الناس
كالوزَغِة التي تسكنُ معهم البيوت وتكرَع في آنيتهم الماءَ وتمجُّه وتُزاقُّ
الحيَّات وتهيِّجها عليهم ولذلك نفرت طباعُ النَّاس من الوزَغة فقتلوها تحت كلِّ
حجر وسلمت منهم العظاءَة تسليماً منهم
.
ولم أر قولاً أشدَّ تناقضاً ولا أمْوق من قولهم هذا لأنّ
العظاءَة لم يكن ليعتريَها من الأسف على فوت السمّ على ما ذكروا أوَّلاً إلاَّ وفي
طبعها من الشّرَارة الغريزيَّة أكثرُ ممَّا في طبع الأفعى .
شعر فيه ذكر للورل
قال
الرَّاجز في معنى الأوَّل : ( يا وَرَلاً رقرق في سَرَابِ ** أكانَ هذا أول
الثّوَاب ) قال
: ورقرقتُه : سُرعتُه ذاهباً وجائياً ويميناً وشمالاً .
قال أبو دُؤاد الإيادي في صفة لسان فرسه : ( عَنْ لسان
كَجُثَّة الورَل الأحْ ** مَر مَجَّ الثَّرَى عليه العَرارُ ) وقال خالد بن عُجْرة :
( كأنّ لسانه ورلٌ عليه ** بِدارِ مَضِنّةٍ مَجُّ العرارِ ) ووصف الأصمعيُّ حمرته في بعض أراجيزه فقال :
فروة القنفذ
قد قلنا
في القُنفذ وصنيِعه في الحيَّات وفي الأفاعي خاصَّة وفي أنه من المراكب وفي غير
ذلك من أمره فيما تقدم هذا المكانَ من هذا الكتاب .
ويقول من نزَع فروته بأنها مملوءة شحيمة والأعراب
تستطيبُ أكله وهو طيِّب للأرواح
.
شعر فيه ذكر للقنفذ والقنفذ لا يظهر إلا بالليل
كالمستخفي فلذلك شبه به قال أيمن بن خُريم : ( كقنفذ الرَّمل لا تخفى مدارِجُه **
خِبٌّ إذا نام عنْهُ النّاسُ لم يَنَم ) وقال عَبْدَة بن الطبيب : ( قومٌ إذا
دَمَسَ الظّلامُ عليهمُ ** حَدَجوا قَنافِذَ بالنّمِيمةِ تمْزَعُ ) وقال : ) ( شَرَيْتُ
الأُمور وغالَيْتُها ** فأوْلَى لَكُمْ يابَني الأعرجِ ) ( تدبُّون حول رَكِيَّاتكُمْ **
دَبِيبَ القنافِذِ في العَرْفَجِ ) وقال الآخر في غير هذا الباب :
وقال عبَّاس بن مِرداس السُّلَمِيُّ يَضرب المَثَلَ به وبأذنيه في القلّة والصَّغَر : ( فإنَّك لم تك كابن الشَّرِيد ** ولكنْ أبوك أبو سَالِم ) ( حَمَلْتَ المئين وأثقالها ** على أذنَي قنفُذٍ رازم ) ( وأشبْهتَ جَدَّكَ شرّ الجدودِ ** وَالعِرْقُ يَسْرِي إلى النّائمِ ) وأنشدنيِ الدَّلهمُ بن شهاب أحد بني عوف بن كنانة من عُكل قال : أنشدنيه نفيع بن طارق في تشبيه رَكَب المرأة إذا جَمَّمَ بجلد القنفذ : ( علقَ من عنائه وشقوته ** وقد رأيتَ هدجاً في مشيته ) ( وقد جلاَ الشيبُ عذارَ لحيته ** بنتَ ثماني عشرةٍ من حجته ) ( يظنها ظنًّا بغير رؤيته ** تمشى بجهمٍ ضيقهُ من همته )
( لم يخزه الله برحب سعته ** جممَ بعدَ حلقهِ ونورته ) ( كقنفذ القفِّ اختفى في فروته ** لا يبلغ الأيرُ بنزعِ رهوته ) ( ولا يكرُّ راجعاً بكرته ** كأنَّ فيه وهجاً من ملته ) من تسمى بقنفذ ويتسمَّون بالقَنافذ وذو البرة الذي ذكره عَمرو بن كلثوم هو الذي يقال له : بُرة القُنفذ وهو كعب ( وذو البُرة الذي حُدِّثتَ عَنه ** بهِ نَحْمَى وَنَشْفِيس المُلْجَئِينَا ) كبار القنافذ ومن القنافذ جنس وهو أعظم من هذه القنافذ وذلك أنّ لها شوكاً كصَياصي الحاكة وإنَّما هي مدارَى قد سُخِّرَتْ لها وذلِّلت
تلك
المغارز والمنابت ويكون متى شاء أن ينصل منها رمى به الشخصَ الذي يخافُه
فَعلاَحتّى كَأنّه السهم الذي يخرجه الوتر .
ولم أر أشبه به في الحذف من شَجر الخِرْوع فإنَّ الحبَّ
إذا جفَّ في أكمامه وتصدَّع عنه بعضَ الصَّدع حذف به بعضُ الغصون فربَّما وقَع على
قاب الرّمح الطويل وأكثر من ذلك
تحريك بعض أعضاء الحيوان دون بعض
)
والبرذون يسقُط على جلدِهِ ذبابةٌ فيحرِّك ذلك الموضعَ
فهذا عامٌّ في الخيل فأمَّا النَّاس فإن المخنَّث ربما حرَّك شيئاً من جسدَه وأيَّ
موضعٍ شاء من بدنه .
والكاعاني وهو اسم الذي يتجنّن أو يتفالج فالج الرِّعدة
والارتعاش فإنّه يحكي من صَرْع الشَّيطان ومن الإزباد ومن النَّفضة ما ليس يصدرُ
عنهما وربّما جمعهما في نِقابٍ واحد فأراك اللّه تعالى منه مجنوناً مفلوجاً يجمع
الحركتين جميعاً بما لا يجيء من طباع المجنون .
والإنسان العاقلُ وإن كان لا يحسُن يبني كهيئة وَكْر
الزُّنبور ونسج العنكبوت فإنه إذا صار إلى حكاية أصوات البهائم وجميع الدوابّ
وحكاية
العُمْيان والعُرْجان والفأفأء وإلى أنْ يصوِّر أصنافَ الحيوان بيده بَلَغ من
حكايته الصُّورةَ والصوت والحركة ما لا يبلغه المحكيّ .
الحركات العجيبة وفي النَّاس من يحرِّك أذنَيه من بين
سائر جسده وربَّما حرَّك إحداهما قبل الأخرى ومنهم من يحرِّك شعر رأسه كما أنَّ
منهم من يبكي إذا شاء ويضحَك إذا شاء
.
وخبَّرني بعضهم أنّه رأى من يبكي بإحدى عينيه وبالتي
يقترحُها عليه الغير .
وحكى المكّي عن جَوارٍ باليمن لهنّ قرونٌ مضفورةٌ من شعر
رؤوسهن وأنَّ إحداهنَّ تلعب وترقُص على إيقاعٍ موزون ثمَّ تُشخِص قرناً من تلك
القرون ثمَّ تلعب وترقص ثمَّ تُشِخص من تلك الضَّفائر المرصَّعة واحدةً بعد أخرى
حتَّى تنتصب كأنها قرونٌ أوَابدُ في رأسها فقلت له : فلعلَّ التَّضفير والترصيع أن
يكون شديد الفتْل ببعض
الغِسْل
والتّلبيد فإذا أخرجَتْه بالحركة التي تُثْبِتُها في أصل تلك الضفيرة شخَصت فلم
أره ذهبَ إلى ذلك ورأيته يحقّقه ويستشهد بأخيه .
نوم الذئب وتزعمُ الأعراب أنّ الذّئب ينامُ بإحدى عينيه
ويزعمون أنّ ذلك من حاقِّ الحذر وينشد شعر ( يَنامُ بِإحدى مُقْلَتَيْهِ
وَيَتَّقِي ال ** مَنَايا بأُخْرَى فهو يَقظانُ هاجعُ ) وأنا أظنُّ هذا الحديث في معنَى ما
مُدح به تأبَّط شرّاً : ( إذا خاط عينيه كرَى النّوم لم يَزلْ ** له كالئٌ من قلب
شَيْحَانَ فاتكِ ) ( ويجعَلُ عيَنَيه رَبِيئَة قلْبهِ ** إلى سَلّةٍ منْ حَدّ
أخْضَرَ باتكِ )
قولهم :
أسمع من قنفذ ومن دلدل ويقال : أسمَعُ من قُنْفُذ وقد ينبغي أن يكون قولهم : أسمعُ
من الدُّلدُل من الأمثال المولّدة . )
المتقاربات من الحيوان وفرق ما بين القنفذِ والدُّلدُل
كفرق ما بين الفَأْر والجُرْذان والبقر والجواميس والبَخَاتيِّ والعِراب والضّأن
والمعز والذّر والنّمل والجوَاف والأسبور وأجناس من الحيّات وغير ذلك فإنّ هذه
الأجناس منها ما يتسافد ويتلاقح ومنها ما لا يكون ذلك فيها .
قولهم
: افحش من فاسية ويقال : إنّه لأفْحشُ من فاسية وهي
الخنفساء لأنّها تفسو في يد من مَسَّها وقال بعضهم : إنّه عنى الظَّربان لأنّ
الظّربان يفْسُو في وسط الهجْمة فتتفرَّق الإبل فلا تجتمع إلا بالجهد الشّديد
قولهم : ألج من الخنفساء ويقال : ألجُّ من الخنفساء وقال خلفٌ الأحمرُ وهو يهجو رجلاً : رجز في الضبع وأنشد أبو الرُّديني عن عبد اللّه بن كُراع أخي سُويد بن كُراع في الضّبع : ( مَنْ يجن أولاد طريفٍ رَهْطا ** مُرْداً أوله شُمطا ) ( رَأى عَضاريط طِوالاً ثُطَّا ** كأضْبعٍ مُرْطٍ هَبطْنَ هَبْطَا ) ( ثم يفسِّينَ هَزِيلاً مَرْطَا ** إنَّ لكم عندي هناءً لَعْطَا ) خطماً على آنِفُكُمْ وعلطا
قصة أبي مجيب وحكى أبو مجيب ما أصابه من أهله ثمَّ قال : وقد رأيت رؤيا عبَّرتها : رأيتُ كأني طردت أرنباً فانَجحرتْ فحفرتُ عنها حتَّى استخرجتها فرجوت أن يكون ذلك ولداً أُرزقه وإنه كانت لي ابنة عمٍّ هاهنا فأردتُ أن أتزوَّجها فما ترى قلت : تزوَّجْها على بركة اللّه تعالى ففَعل ثمَّ استأذنني أنْ يقيم عندنا أيَّاماً فأقام ثم أتاني فقلتُ : لاتخبرْني بشيءٍ حتى أنشدَك ثمَّ أنشدْتُه هذه الأبيات : ( يا لَيت شِعْرِي عَن أبي مجيبِ ** إذْ باتَ في مَجَاسِدٍ وطيبِ )
( مُعانقاً للرَّشأ الرَّبيبِ ** أأقْحَمَ الحِفارَ في القَليبِ ) قال : بلى كان واللّه رخْواً يابسَ القضيب واللّه لكأنّكَ كنتَ معنا ومُشاهِدَنا .
خصال الفهد
فأمَّا
الفهد فالذي يحضُرنا من خصاله أنّّه يقال إن عظام السِّباع تشتهي ريَحه وتستدلُّ
برائحته على مكانهِ وتُعجَب بلحمه أشدّ العجب .
وقد يصادُ بضروبٍ منها الصَّوت الحسَن فإنّه يُصغِي إليه
إصغاءً حسناً وإذا اصطادوا المسنَّ كان أنفعَ لأهله في الصَّيد من الجرو الذي
يربُّونه لأنَّ الجرو يخرج خَبّاً ويخرج المسنُّ عَلَى التأديب صَيُوداً غيرَ
خِبٍّ ولا مُوَاكِلٍ في صيده وهو أنفع من صيد كلِّ صائد وأحسن في العين وله فيه
تدبيرٌ عجيب .
وليس شيءٌ في مثل جِسْم الفَهد إلاّ والفَهد أثقلُ منه
وأحطمُ لظهر الدابَّة التي يَرقَى على مؤخَّرها .
والفهد أنْوَم الخلق وليس نومه كنوم الكلب لأن الكلب
نومه نعاس واختلاس والفهد نومه مُصْمَت : قال أبو حيَّة النّميري : ( بعذاريها
أناساً نام حلمهمُ ** عَنّا وعنك وعنها نومةَ الفَهَدِ ) وقال حُميد بن ثَورٍ
الهِلاليّ :
أرجوزة في صفة الفهد
وقال الرقاشيُّ في صفة الفهد : ( قد أغتدى والليلُ أحوى السدِّ ** والصبحُ في الظلماء ذو تهدى ) ( مثل اهتزازِ العضب ذى الفرندِ ** بأهرتِ الشدقين ملتئد ) ( أربدَ مضبورِ القرا علكدِ ** طاوى الحشا في طى ِّ جشمٍ معدِ )
( كزَّ البراجيمِ هصور الجدِّ ** برامز ذى نكتٍ مسودِّ ) ( وسحر اللجين سحر وردِ ** شرنبثٍ أغلبَ مصعدِّ ) ( كالليث إلاَّ عاين بعدَ الجهدِ ** على قطاة الردف ردف العبد ) ( سر سرعتنا بحس صلد ** وانقضَّ يأدو غيرَ مجرهدَّ ) ( في ملهبٍ مه وختلٍ إدِّ ** مثل انسياب الحية العربد ) وقوله : مثل انسياب الحيَّة العربدِّ هذه الحيَّة عين الدابّة التي
يقال لها العربِد وقد ذكرها مالك بن حريم في قوله لعمْرو بن معد يكرب : ( يا عمرو لو أبصرتني ** لرفوتنى ف يالخيل رفوا ) ( فلقيت مني عربداً ** يقطو أمامَ الخيلِ قطوا ) ( لما رأيتُ نساءهم ** يدخلنَ تحت البيت حبوا ) ( وسمعتُ زجرَ الخيل في ** جوفِ الظلام هبى وهبوا ) ( في فيلقٍ ملمومةٍ ** تسطو على الخبراتِ سطوا )
وقال الرَّقاشي أيضاً في الفهد : ( لما غدا للصَّيدِ آلُ جَعْفَرِ ** رَهْطُ رسولِ اللّه أهلُ المفْخَر ) ( بفَهْدَةٍ ذات قَراً مُضَبَّر ** وكاهلٍ بادٍ وعنْق أزْهر ) ( ومُقْلةٍ سال سَوادُ المحجرِ ** منها إلى شِدقٍ رُحابِ المفْغَر ) ( وذنبٍ طالَ وجلْدٍ أنْمَر ** وأيْطلٍ مستأسدٍ غضنفر ) ( وأذنٍ مكسورةٍ لم تجْبرِ ** فَطْساءَ فيها رَحَبٌ في المنخر ) ( مثل وجار التتفل المقوَّر ** أرثها إسحاق في التعذر ) منها على الخدَّين والمُعذّر )
نعت ابن أبي كريمة للفهد
( كأنَّ بناتِ القَفْر حين تشعّبَتْ ** غدوت عليها بالمنايَا الشواعبِ )
( بذلك نبَغي الصيد طوراً وتارةً ** بمُخْطفة الأحشاء رحْبِ التّرائبِ ) ( مُوَقَّفة الأذناب نُمرٍ ظهورها ** مخطّطة الآماق غلبِ الغَوَارب ) ( مُوَلَّعةٍ فُطْح الجِبَاهِ عوابسٍ ** تخالُ على أشْداقها خطّ كاتبِ ) ( فوارسُ ما لم تلقَ حرْباً ورجلةٌ ** إذا آنَسَتْ بالبيد شُهبَ الكتائبِ ) ( تضَاءَلُ حَتَّى ما تكاد تُبينُها ** عيونٌ لدى الصّرّاتِ غير كواذب ) ( توسّد أجيَادَ الفرائس أذرُعاً ** مُرَمَّلة تحْكي عِناقَ الحَبائب )
ما يضاف إلى اليهود من الحيوان
قال : والصبيان يصيحون بالفهد إذا رأوه : يا يهوديّ وقد عرفنا مَقالهم في الجِرِّيّ .
والعامَّة تزعم أن الفأرة كانت يهوديَّةَ سحّارة والأرضة
يهودية أيضاً عندهم ولذلك يلطِّخون الأجذاع بشحم الجزُور .
والضبّ يهوديّ ولذلك قال بعضُ القصَّاص لرجل أكل ضبّاً :
اعلمْ أنّك أكلت شيخاً من بني ولا أراهم يضيفون إلى النّصرانية شيئاً من السِّباع
والحشرات .
ولذلك قال أبو علقمة : كان اسم الذئب الذي أكل يوسف
رجحون فقيل له : فإنّ يوسف لم يأكُلْه الذّئب وإنما كذبوا على الذِّئب ولذلك
قال اللّه عزَّ وجلّ : وَجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كذبٍ قال : فهذا اسمٌ للذئب
الذي لم يأكلْ يوسف .
فينبغي أن يكونَ ذلك الاسمُ لجميع الذِّئاب لأنَّ
الذئابَ كلها لم تأكله .
زعم المجوس في لبس أعوان سومين
وتزعمُ المجوس أنّ بَشُوتَن الذي ينتظرون خروجه ويزعُمون أنّ الملك يصيرُ إليه يخرج على بقرةٍ ذاتِ قرون ومعه سبعون رجلاً عليهم جلود الفهود لا يعرفُ هرّا ولا بِرّاً حتى يأخذ جميع الدنيا .
الهرّ والبرّ وكذلك إلغازهم في الهرّ والبرّ وابن الكلبي
يزعم عن الشّرقي بن القطاميّ أن الهرّ السنّور والبرّ الفارة .
جوارح الملوك
وليس ترى
شريفاً يستحسِنُ حملَ البازي لأنّ ذلك من عمل البازيار ويستهجن حمل الصُّقور
والشواهين وغيرها من الجوارح وما أدري علّة ذلك إلا أنّ البازَ عندهم أعجميّ
والصَّقر عربيّ .
ومن الحيوان الذي يدرّب فيستجيب ويَكيس وينصَح
العَقْعَقُ فإنّه يستجيبُ من حيثُ تستجيبُ الصُّقور ويُزْجِر فيعرف ما يُرَاد منه
ويخبأ الحَلي فيُسأل عنه ويُصاح به فيمضي حتى يقفَ بصاحبه على المكان الذي خبَّأه
فيه ولكن لا يلزم البحث عنه .
وهو مع ذلك كثيراً ما يُضيع بيضه وفِراخه .
مخبئات الدراهم والحلى وثلاثة أشياءَ تُخبِّي الدَّراهم
والحليَ وتَفْرَحُ بذلك من غير انتفاع به منها : العَقعقُ ومنها ابن مِقْرض :
دويْبّةٌ آلَقُ من ابن عِرْس وهو صعبٌ وحْشيٌّ يحبُّ الدَّراهم ويفْرَحُ بأخذها
ويخبيها وهو مع ذلك يصيد العصافير صيداً كثيراً وذلك أنّهُ يُؤْخَذ فيُربَطُ بخيطٍ
شديد الفتْل ويُقابلُ به بيت الْعُصفور فيدخُلُ عليه فيأخذه وفراخَه ولايقتلها حتى
يقتلها الرّجل فلا يزال كذلك ولو طاف به على ألف جُحْر فإذا حلّ خيطه ذهَبَ ولم
يقُم .
وضرب من الفار يسرق الدَّراهِمَ والدنانير والحَلْي
ويفرح به ويُظْهِرهُ ويغيِّبه في الجُحر وينظُر إليه ذَنَبُ الوزغة قال : وخطب
الأشعث فقال : أيُّها الناسُ إنه مابقي من عدوِّكم إلا كما بقي من ذَنَب الوزَغة
تضرِب به يميناً وشمالاً ثم لاتلبث أن تموت
فمر به
رجلٌ من قشير فسمع كلامه فقال : قَبَّح اللّه )
تعالى هذا ورأيَه يأمر أصحابَه بقلَّة الاحتراس وتركِ
الاستعداد .
وقد يُقطَع ذنبُ الوزَغةِ من ثلثها الأسفل فتعيش إن
أفلتَتْ من الذَّرِّ .
أشد الحيوان احتمالاً للطعن والبتر وقد تحتمل الخنافسُ
والكلابُ من الطَّعْن الجائف والسّهم النَّافذ ما لا يحتملُ مثلَه شيء
والخُنفَسَاءُ أعْجبُ من ذلك وكفاك بالضّبِّ .
والجمل يكون سَنامُه كالهدف فيُكشَف عنه جلدُه في
المجهدَة ثمَّ يُجتث من أصله بالشِّفار ثمَّ تعاد عليه الجلدةُ ويُدَاوَى فيبرأ
ويحتمل ذلك وهو أعْجَب في ذلك من الكبش في قطع أليته من أصل عَجْب ذنَبه وهي
كالتُّرس وربما فعل ذلك به وهو لا يستطيع أن يقُلَّ أليته إلاّ بأداةٍ تتَّخذ
ولكنَّ الألية على كلِّ حال طرفٌ زائد والسَّنام قد طبَّقَ على جميع ما في الجوف .
ذكاء إياس ونظر إياسُ بن معاوية في الرَّحْبة بواسط إلى
آجُرَّة فقال : تحت هذه الآجُرَّة دابّة : فنزعوا الآجُرَّة فإذا تحتها حيَّة
متطوِّقة فسُئِل عن ذلك فقال لأنِّي رأيتُ ما بينَ الآجُرَّتين نَدِيّاً من جميع
تلك الرَّحَبة فعلمتُ أن تحتها شيئاً يتنفّس .
هداية الكلاب في الثلوج وإذا سقط الثّلج في الصحارى صار
كلَّه طبقاً واحداً إلاّ ما كان مقابلاً لأفواه جِحَرة الوحْش والحشرات فإنّ
الثّلج في ذلك المكان يَنْحسر ويرقّ لأنفاسها من أفواهها ومنَاخِرها ووهَج أبدانها
فالكلابُ في تلك الحال يعتادها الاسترواح حتى تقفَ بالكلاّبين على رؤوس المواضع
التي تنبت الإجْرِدّ والقَصيص وهي التربة التي تُنبتُ الكَمْأة وتربِّيها .
تعرّف مواضع الكمأة وربما كانت الواحدةُ كالرُّمانة
الفخْمة ثم تتخلَّق من غير بزر وليس لها عرقٌ تمصُّ به من قُوى تلك الأرض ولكنها
قوى اجتمعَت
من طريق
الاستحالات كما يَنطبخُ في أعماق الأرض من جميع الجواهر وليس لها بدّ من تربةِ ذلك
من جوهرها ولا بدَّ لها من وسْميّ فإذا صار جانِيها إلى تلك المواضع ولا سيما إن
كان اليومُ يوماً لِشمسهِ وَقْعٌ فإنه إذا أبصر الإجرِدَّ والقَصِيص استدلَّ على
مواضعها بانتفاخ الأرض وانصداعها .
وإذا نظر الأعرابيّ إلى موضع الانتفاخ يتصدّعُ في مكانه
فكان تفتُّحه في الحالات مستوياً علم أنَّه ) ( نوادرَ وأشعار وأحاديث ) قال الشّاعر : (
وعصَيتِ أمْرَ ذوي النُّهى ** وأطعْتِ رأيَ ذَوي الْجَهالَهْ ) ( فاحتلتُ حِينَ
صَرَمْتِنِي ** والمرءُ يَعْجَزُ لا المَحَاله ) ( والعبدُ يقرعُ بالعصا **
والحرُّ تكفيه المقالهْ )
وقال بشّار : ( وصاحبٍ كالدُّمّل المُمِدِّ ** حَمَلْتُه في رُقْعَةٍ من جِلِدي ) ( الحُرُّ يُلْحَى والعصا للعَبْدِ ** وليس للملحِفِ مثلُ الرَّدِّ ) وقال خليفة الأقطع : ( العبد يُقْرَعُ بالعصا ** والحُرُّ تكفيه المَلامَهْ ) ( القول في العُرْجان ) قال رجلٌ من بني عِجْل : ( وشَى بيَ واشٍ عندَ لَيْلَى سَفاهةً ** فقالت له ليلَى مقالةَ ذي عقْلِ ) ( وخبَّرَها أنِّي عَرِجْتَ فم تكُنْ ** كَوَرْهَاءَ تجترّ الملامة للبَعلِ ) ( وما بيَ مِنْ عَيبِ الفتى غَيْرَ أنّني ** جَعَلْتُ العَصَا رِجلاً أقيمُ بها رِجلي ) وقال أبو حَيَّة في مثل ذلك : ( وقد جَعَلْتُ إذ ما قُمتُ يُوجِعُني ** ظهْري فَقُمت قِيَامَ الشّاربِ السَّكرِ )
( وكنتُ أمشي على رِجلْينِ مُعْتَدِلاً ** فصرتُ أمشي على أخرى من الشجر ) وقال أعرابيٌّ من بني تميم : ( وما بيَ منْ عيب الفتى غَيْرَ أنّني ** ألِفْتُ قناتي حِينَ أوجَعني ظَهْري ) وكان بنو الحَدَّاءِ عُرْجاناً كلّهم فهجاهُم بعض الشُّعراء فقال : ( للّه درُّ بَني الحَدّاءِ منْ نَفَرٍ ** وكلُّ جارٍ على جيِرانِهِ كَلِبُ ) ( إذا غَدَوْا وعصيُّ الطّلْح أرجُلُهُم ** كما تُنَصَّبُ وَسْطَ البيعَةِ الصُّلُبُ ) والذي طفَّفَ الجدار من الذُّع ر وقد بات قاسِمَ الأنفالِ
فغدا
خامعاً بأيدِي هَشِيمٍ وبسَاقٍ كعُودِ طَلحٍ بالِ )
وله حديثٌ
.
عصا الحكم بن عبدل
وكان الحكمُ بن عبدل أعرجَ وكان بعد هجائه لمحمد بن حسَّان بنِ سعد لا يبعث إلى أحدٍ بعصاه التي يتوكأ عليها وكتبَ عليها حاجَته إلاّ قضاها كيفَ كانت فدخل على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو أميرُ الكوفة وكان أعرجَ وكان صاحبُ شُرطته أعرَج فقال ابن عَبْدَل : ( ألقِ العَصَا ودَعِ التَّعَارجَ والتمِسْ ** عملاً فهذي دَولَةُ العُرجانِ )
( فأميرنُا وأميرُ شُرطِتنَا مَعاً ** يا قومنا لكليهما رِجلان ) ( فإذا يكونُ أميرنُا ووزيرُه ** وأنا فإنّ الرَّابعَ الشيطانُ ) وقال آخر ووصف ضَعفه وكِبَر سنِّه : ( آتِي النديَّ فلا يُقرَّب مجلسي ** وأقودُ للشرَف الرفيع حمارِيا ) وكان من العُرجان والشعراء أبو ثعلب وهو كليب بن أبي الغول ومنهم أبو مالك الأعرج وفي أحدهما يقول اليزيدي : ( أبو ثعلبٍ للناطفيِّ مؤازِرٌ ** على خبثه والناطفيُّ غيورُ ) ( وبالبغلة الشهباء رِقَّةُ حافرٍ ** وصاحبُنا ماضي الجَنان جَسورُ ) ( ولا غَرْوَ أنْ كان الأعيرجُ آرَهَا ** وما الناسُ إلآ آيِرٌ ُ ومَئيرُ )
( البدء والثُّنيان ) وقال الشاعر : ( تَلَقى ثِنَانا إذا ما جاءٍ بَدَأَهم ** وبَدْؤُهم إنْ أتانا كان ثُنْيانَا ) فالبدء أضخم السَّادات يقال ثِنًى وثنيان وهو اسم واحد وهو تأويلُ قولِ الشَّاعرِ : ( يَصُدُّ الشَّاعر الثُّنْيَانُ عَنِّي ** صُدُودَ الْبَكْرِ عن قَرْمٍ هِجَانِ ) لم يمدح نفسه بأن لا يغلب الفحل وإنَّما يغلب الثّنيانَ وإنما
أراد أنْ يصغِّر بالذي هَجَاه بأنه ثنيان وإن كان عندَ نفسِه فحلاً وأمَّا قول الشَّاعر : وَمَنْ يَفْخَرْ بمثل أبي وجَدّي يجئْ قبل السّوابقِ وهو ثانِ
أحاديث من أعاجيب المماليك
أتيتُ باب
السَّعدانيَ فإذا غلامٌ له مليحٌ بالباب كان يتْبع دابَّته فقلت له : قلْ لمولاك
إن شئتَ بكَرتَ إليَّ وإن شئت بكَرتُ إليك قال : أنا ليس أكلّم مولاي ومعي أبو
القنافذ فقال أبو القنافذ : ما نحتاج مع هذا الْخُبْرِ إلى معايَنَة .
وقال أبو البصير المنجِّم وهو عند قثم بن جعفر لغلام له
مليحٍ صَغيرِ السّنّ : ما حَبَسك يا حلَقيّ والحلقيُّ : المخنث ثمّ قال : أمَا واللّه
لئن قمتُ
إليك يا حلَقيُّ لَتَعلمنَّفلمَّا أكثر عليه من هذا الكلام بكى و قال : أدعو اللّه
على مَنْ جعلَني حَلَقياً .
حدَّثني الحسن بنُ المرْزبانِ قال : كنتُ مع أصحابٍ لنا
إذ أُتينا بغلامٍ سنديٍّ يُباع فقلتُ له : أشتريك يا غلام فقال : حتَّى أسألَ عنك
قال المكِّي : وأُتِيَ المثنّى بن بِشرٍ بِسِنْديٍّ ليشتريه على أنّه طبّاخ فقال
له المثنى : كَمْ تحسنُ يا غلامُ من لونٍ فلم يُجبْه فأعاد عليه وقال : يا غلامُ كَمْ
تحسنُ من لون فكلّم غيرَه وتركه فقال المثنّى في الثالثة : ما له لايتكلم يا غلام كم تحسنُ من
لون فقال السندي : كم تحسن من لون كم تحسن من لون وأنت لا تحسن ما يكفيك أنت قال :
حسبُك الآن : ثم قال المثنّى للدَّلاّل : وحدَّثني ثمامة قال : جاءنا رجلٌ بغلامٍ
سِنديّ يزعمُ أنّه طباخٌ حاذق فاشتريتُه منه فلمَّا أمرتُ له بالمال قال الرَّجل :
إنه قد غاب عنا غيبةً فإن اشتريتَه عَلى هذا الشّرط وإلاّ فاتركْهُ فقلتُ للسندي : أكنتَ أبقْتَ
قطّ قال : واللّه ما أبقْتُ قطّ فقلت : أنت الآن قد جمعتَ مع الإباق الكذب قال :
كيف ذلك قلتُ : لأنّ هذا الموضعَ لا يجوز أنْ يكذِب فيه البائع قال : جعلني اللّه )
تعالى فِدَاءَك أنا واللّه أخبرك عن قصّتي : كنت أذنَبتُ
ذنْباً كما يُذْنِبُ هذا وهذا جميعُ غلمان النّاس
فحلف بكلّ
يمين لَيضربنِّي أربَعمائة سوط فكنتَ ترى لي أن أقيم قلت : لا واللّه قال : فهذا
الآن إباق قلتُ لا قال : فاشتريته فإذا هو أحسنُ النّاس خَبْزاً وأطيبُهم طبخاً .
وخبَّرني رجلٌ قال : قال رجلٌ لغلام له ذاتَ يوم : يا
فاجر قال : جعلني اللّه فِداك مَولى القوم منهم .
وزعم روح بن الطائفية وكان روْحٌ عَبداً لأخْت أنَس بن
أبي شيخ وكانت قد فوَّضت إليه كلَّ شيءٍ من أمْرها قال : دخلت السُّوق أريدُ شراءَ
غلامٍ طبَّاخ فبينا أنا واقفٌ إذ جيءَ بغلامٍ يُعرَض بعشرة دنانير ويساوي على
حُسْن وجهه وجودة قدِّه وحداثة سنِّه دونَ صناعته مائَة دينار فلمَّا رأيته لم
أتمالك أنْ دنوتُ منه فقلت : ويحك أقلُّ ثمنِك على وجْهِك مائةُ دينار واللّه ما
يبيعُك مولاك بعشْرَة دنانيرَ إلاّ وأنت شرُّ الناس فقال : أمَّا لهم فأنا شرُّ
الناس وأمَّا لغيرهم فأنا أساوي مائةً ومائةً قال : فقلت : التزيُّن بجمالِ هذا وطيبِ طبْخِه يوماً
واحداً عند أصحابي خيرٌ من عشرة دنانير فابتَعته ومضيتُ به إلى المنزل فرأيت من
حِذقه وخِدمته وَقلَّة تزيُّده ما إنْ بعثْتُه إلى الصيّرفي لِيأتيني من قِبَله
بعشرين ديناراً فأخذَها ومضى على وجْهه
فو اللّه ما شعَرت إلاّ والنَّاشد قد جاءني وهو يطلب جُعْله فقلت : لهذا وشبْهه باعك القَومُ بعشرة دنانير قال : لولا أنِّي أعلم أنَّك لا تصدِّق يميني و كيف طرَّت الدّنانير من ثَوبي ولكنِّي أقولُ لك واحدة : احتبسني واحترسْ مِنِّي واستمتعْ بخدمتي واحتسِبْ أنَّك كنت اشتريتني بثلاثين ديناراً قال : فاحتبسته لهوايَ فيه وقلت لعلَّه أنْ يكونَ صادقاً ثمَّ رأيتُ واللّه من صلاحه وإنابته وحُسْن خدمته ما دعاني إلى نسيان جميع قصَّته حتى دفعتُ إليه يَوماً ثلاثين ديناراً ليوصلها إلى أهلي فلمَّا صارت إلى يده ذهبَ على وجهه فلم ألبثْ إلاّ أيّاماً حتى ردّه النّاشد فقلت له : زَعمتَ أنّ الدَّنانير الأولى طُرَّتْ منك فما قولك في هذه الثانية قال : أنا واللّهِ أعلم أنَّك لا تقبل لي عُذْراً فدَعْني خارجَ الدار ولا تجاوِزْ بي خدمةَ المطبخ ولو كان الضَّرْبُ يردُّ عليك شيئاً من مالِك لأشرتُ عليك به ولكنْ قد ذهبَ مالُك والضَّرب ينقُص من أجْرك ولعلِّي أيضاً أموتُ تحتَ الضّرب فتندمَ وتأثمَ وتفتضحَ
ويطلبَك
السلطان ولكنْ اقتصِرْ بي على المطْبخ فإنِّي سأسُرُّك فيه وأوفره عليك وأستجيد ما
أشتريه وأستصلحه لك وعدَّ أنْك اشتريتني بستّين ديناراً فقلت له : أنت لا تفلح بعد
هذا اذهبْ فأنتَ حرٌّ لوجه اللّه تعالى فقال لي : أنت )
عبدٌ فكيف يجوز عتقُك قلت فأبيعُك بما عَزَّ أوْ هانََ
فقال : لا تَبعْني حَتَّى تُعِدَّ طبَّاخاً فإنّك إن بعتني لم تتغذّ غِذاءً إلاّ
بخبزٍ وباقِلاء قال : فتركته ومَرَّتْ بعد ذلك أيامٌ فبينا أنا جالسٌ يوماً إذْ
مرَّت عليّ شاةٌ لبونٌ كريمة غزيرة الدّرّ كنا فرَّقنا بينها وبين عَناقها فأكثرتْ
في الثُّغاء فقلت كما يقول النّاس وكما يقول الضّجر : اللهمَّ العنْ هذه الشاة ليت أنَّ
اللّه بعثَ إنساناً ذبحها أو سرَقها حتى نستريحَ من صياحها قال : فلم ألبَثْ إلاّ
بقدْر ما غاب عن عيني ثمَّ عاد فإذا في يده سِكِّين وسَاطور وعليه قَميصُ العَمَل
ثمّ أقبل عليّ فقال : هذا اللّحم ما نصنع به وأيُّ شيءٍ تأمرني به فقلت : وأيُّ لحم
قال : لحم هذه الشاة قلت :
وأيُّما شاةٍ قال : التي أمرتَ بذبحها قلت : وأي شاةٍ أمرْت بذَبحها قال : سبحان اللّه أليس قد قلت السّاعة : ليت أن اللّه تعالى قد بعث إليها من يذبحها أو يسرقها فلما أعطاك اللّه تعالى سؤلك صرتَ تتجاهل قال روح : فبقِيت واللّه لا أقدرُ على حبَسه ولا على بيعه ولا على عِتقه . ( أشعارٌ حِسَان ) وقال مسكينٌ الدّارميّ : ( كأنّ على خُرطومه متهافِتاً ** من القُطن هاجته الأكفُّ النوادفُ ) ( وللَصَّدَأ المُسْوَدُّ أطيبُ عندَنا ** من المِسك دافته الأكْفُّ الدوائفُ )
( ويصبْح عِرفان الدُّرُوعِ جلودَنا ** إذا جاءَ يومٌ مُظلمُ اللّونِ كاسفُ ) ( تعلق في مثل السّواري سُيوفنا ** وما بينها والكعب مِنَّا تنائفُ ) ( وكلُّ رُدَيْنيٍّ كأنَّ كُعوبَه ** قطاً سابقٌ مستوردُ الماء صائفُ ) ( كأنّ هِلالاً لاحَ فوقَ قَنَاتِهِ ** جلا الغَيْمَ عنه والقتامَ الحَراجِفُ ) ( له مثلُ حُلقومِ النَّعامة حلة ** ومثل القدامى ساقها متناصفُ ) وقال أيضاً مِسكينٌ الدَّارِميّ : ( وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ** فهناكُمْ وافَقَ الشَّنُّ الطبَقْ ) ( إنَّما الفُحشُ ومنْ يعتادُه ** كغُرابِ البَيْن ما شَاءَ نعَقْ ) ( أو حمارِ السَّوءِ إنْ أشبعْتَهُ ** رَمَحَ النَّاسَ وإنْ جَاعَ نَهَقْ )
( أو غُلامِ السَّوءِ إنْ جوَّعته ** سَرَق الجارَ وإن يشْبَع فسَق ) وقال ابن قيس الرقيات : ) مَعقل القوم من قُريشٍ إذا ما فازَ بالجهلِ مَعْشَرٌ آخرُونا وقال ابن قيس أيضاً واسُمه عبد اللّه : ( لو كانَ حَولي بنو أمَيّة لم ** ينطِق رجالٌ إذا همُ نَطقُوا ) ( إنْ جَلسُوا لم تَضقْ مجالسهُم ** أو ركِبوا ضاق عنهمُ الأُفقُ ) ( كَمْ فيهم من فَتًى أخي ثقَةٍ ** عن مَنْكِبَيه القميصُ منخرقُ ) ( تحبُّهم عُوَّذ النِّساء إذا ** ما احمَرَّ تحت القوانِسِ الْحَدَقُ ) ( وأنكَرَ الكَلْبُ أهلَه ورأى الشَّرَّ ** وطاحَ المروَّع الفَرِقُ ) وقال النابغة : ( سَهكينَ مِنْ صَدإ الحديدِ كأنَّهمْ ** تحتَ السَّنَوَّرِ جنّةُ البقَّارِ )
وقال بشار بن برد : ( يطيَّبُ ريحُ الخيزُرَانَةِ بينَهمْ ** على أنّها ريحُ الدِّماء تضُوع ) سنقول في الشهب وفي استراق السمع وإنّما تركْنا جمعَه في مكان واحد لأنّ ذلك كان يطولُ على القارئ ولو قد قرأ فضْل الإنسان على الجانّ والحجَّة على مَن أنكرَ الجانّ لم يستثقِلْه لأنّه حينئذٍ يقصد إليه على أنّه مقصورٌ على هذا الباب فإذا أدخلناه في باب القول في صغار الوحش والسِّباع والهَمج والحشراتِ قالوا : زعمتم أنَّ اللّه تعالى قال : وَلَقد زَيَّنا السَّمَاءَ الدُّنْيا بمصَابيحَ وَجَعَلْناهَا رُجُوماً للشّياطين وقال تعالى : وَحَفِظْنَاهَا منْ كُلِّ شيْطان رَجيم وقال تعالى : وجَعَلْناهَا رُجُوماً للِشَّياطين ونحنُ لم نجدْ قطُّ كوكباً خلا مكانهُ فما ينبغي أنْ يكون واحدٌ من جميع
هذا الخلق
من سكّان الصحارى والبحار ومن يَراعِي النُّجوم للاهتداء أو يفَكِّر في خلق
السموات أن يكون يرى كوكباً واحداً زائلاً مع قوله : وَجَعَلْناهَا رُجُوماً
للشَّياطينِ .
قيل لهم : قد يحرِّك الإنسانُ يدَه أو حاجبَه أو إصبَعه
فتضاف تلك الحركةُ إلى كلِّه فلا يشكُّون أنّ الكلَّ هو العاملُ لتلك الحركة ومتى
فصَل شهابٌ من كوكب فأحرق وأضاء في جميع البلاد فقد حكَم كلُّ إنسانٍ بإضافة ذلك
الإحراق إلى الكوكب وهذا جواب قريبٌ سهل والحمد للّه .
ولم يقلْ أحد
: إنّه يجبُ في قوله : وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً
للِشَّياطينِ أنّه يَعْني الجميع فإذا كان قد صحّ أنّه إنَّما عَنى البعض فقد عَنى
نُجُوم المجرّة والنجومَ التي تظهر في ليالي الحنادس لأنّه محال )
أن تقعَ عينٌ على ذلك الكوكبِ بعينه في وقت زوَاله حتّى
يكون اللّه عزّ وجلَّ لو أفنى ذلك الكوكَب من بين جميع الكواكب الملتفَّة لعرف هذا
المتأمِّلُ
مكانه
ولوَجَدَ مَسَّ فقدِه ومن ظَنَّ بجهله أنَّه يستطيع الإحاطة بعدد النُّجوم فإنه
متى تأَمَّلها في الحَنادس وتأمَّل المجرَّة وما حولها لم يضرِب المثل في كثرة
العدد إلاّ بها دونَ الرّمل والتّراب وقطْر السَّحاب .
وقال بعضُهم : يدنو الشِّهاب قريباً ونراه يجيء عَرْضاً
لا مُنْقضاً ولو كان الكوكب هو الذي ينقضُّ لم يُر كالخيط الدّقيق ولأضاء جميع
الدُّنيا ولأحرق كلَّ شيء مما على وجْه الأرض قيل له : قد تكون الكواكب أفقيّة ولا
تكونْ علوية فإذا كانت كذلك فصَل الشِّهابُ منها عَرْضَاً وكذلك قال اللّه تعالى : إلاّ مَنْ
خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ وقال اللّه عزَّ وجلّ : أوْ آتيكُمْ
بشِهابٍ قبس فليس لكم أن تقضوا بأنّ المباشر لبدَن الشيطان هو الكوْكب حتى لا يكون
غير ذلك وأنتم تسمعونَ اللّه تعالى يقول :
فأتبعَهُ
شِهَابٌ ثَاقبٌ والشِّهاب معروفٌ في اللغة وإذا لم يُوجِبْ عليها ظاهرَ لفظ
القُرآن لم ينكر أنْ يكون الشِّهَابُ كالخطّ أو كالسهم لا يضيءُ إلاّ بمقدار ولا
يقوى على إحراق هذا العالم وهذا قريبٌ والحمد لله .
وطعن بعضهم من جهة أخرى فقال : زعمتم أنّ اللّه تبارك
وتعالى قال : وَحفظًاً منْ كلِّ شَيْطانٍ ماردٍ لا يَسَّمعُون إلى الملإ الأعْلى
وَيُقْذَفُونَ من كلِّ جانبٍ دُحوراً ولَهُمْ عَذابٌ واصبٌ وقال على سَنَنِ الكلام
: إلاّ مَنْ خَطفَ الخْطفَةَ فأتْبَعَهُ شهَابٌ ثاقبٌ قال : فكيف تكون الخطفة من
المكان الممنوع قيل له : ليس بممنوعٍ من الخطفة إذ كان لا محالة مرمِيّاً
بالشِّهاب ومقْتُولاً على أنّه لو كان سلِمَ بالخطْفة لما كان استفاد شيئاً
للتكاذيب والرِّياسة وليس كلُّ من كذب على اللّه وادَّعى النبوَّة كان على اللّه
تعالى أنْ يُظهر تكذيبه بِأن يخسِفَ به الأرْض أو ينطِقَ بتكذيبه في تلك السَّاعة
وإذا وجبت في العُقول السّليمة ألاّ يصدق في الأخبار لم يكن معه بُرهان فكفى بذلك .
ولو كان ذلك لكانَ جائزاً ولكنَّه ليس بالواجب وعلى أنَّ
ناساً من النحويِّين لم يُدخلوا قوله تعالى : إلاّ منْ خطِف الخْطفَةَ في الاستثناء وقال : إنّما هو كقوله : ( إلاّ كخارجة المكلّفِ نفسَه ** وابنَي قبيصة أن أغيبَ ويشْهدَا ) وقوله أيضاً : ( إلا كناشرة الذي كَلّفتمُ ** كالغُصْنِ في غلوائه المتَنبّتِ )
وقال الشاعر في باب آخر ممّا يكونُ موعظةً له من الفكر
والاعتبار فمن ذلك قوله : ( مهما يَكن ريبُ المنُون فإنني ** أرى قمَر اللّيلِ
المعَذّر كالفَتى ) ( يَكُونُ صغيراً ثمَّ يعظُم دائباً ** ويرجعُ حتّى قيلَ قد
مات وانقضى ) ( كذلك زَيدُ المرءِ ثمَّ انتقاصُه ** وتكراره في إثره بعد ما مضَى )
وقال آخر : ومستنْبَتٍ لا باللّيالي نَباتُه وما إن تلاقي ما به الشّفَتانِ
( وآخر في خمسٍ وتسعٍ تمامُه ** ويُجْهد في سَبْعٍ معاً وثمانِ )
ما قيل من الشعر في إنقاص الصحة والحيا
وقال أبو العتاهية : أسرَعَ في نقْضِ امرئٍ تمامه وقال عبدُ هند : ( فإنّ السِّنان يركبُ المرءُ حَدّه ** من العارِ أو يعدُو على الأسد الوَرْدِ ) ( وإنّ الذي ينهاكُمُ عن طِلابِها ** يُناغي نساءَ الحيِّ في طرّة البُرْد ) ( يُعلّلُ والأيّامُ تنقص عمرَهُ ** كما تنقُصُ النِّيرانُ من طَرَف الزَّندِ ) وفي أمثال العرب : كلُّ ما أقامَ شَخَص وكلُّ ما ازداد نقص ولو كان يُميتُ النّاس الدَّاءَ لأعاشهم الدّواء .
وقال حميد بن ثور : ( أرى بَصَري قد رَابَني بعْدَ صحّةٍ
** وحَسْبُكَ داءً أن تصحَّ وتسلما
) وقال النَّمر بنُ تَولب : ( يُحبُّ الفَتى طُولَ
السَّلامةِ والبقا ** فكَيفَ تَرَى طُول السَّلامةِ يفعَلُ ) وقيل للمُوبَذ : متى
أبنك يعني أبنك قال : يوم ولِد
.
وقال الشّاعر : ( تصرّفتُ أطواراً أرى كُلَّ عِبْرَةٍ **
وكان الصَّبَا منِّي جديداً فأخلقا ) ( وما زادَ شيءٌ قطُّ إلا لنقصهِ ** وما
اجتمع الإلفان إلاّ تفرَّقا ) وقيل لأعرابي في مرضه الذي مات فيه : أيَّ شيءٍ
تشتكي قال : تمام العِدّة وانقضاء المدّة . )
وقيل لأعرابي في شَكَاته التي ماتَ فيها : كيف تجِدُك
قال : أجدُني أجدُ ما لا أشتهي وأشتهي ما لا أجِد .
وقيلَ لَعمرو بن العاص في مَرْضَته التي ماتَ فيها : كيف
تجدك قال : أجِدُني أذوب ولا أثُوب وقال مَعْمَرٌ : قلتُ لرجلٍ كان معي في الحبْس
وكان مات بالبطْن : كيفَ تجدُك قال : أجدُ روحي قد خرَجَتْ من نصفي الأسفل وأجد
السَّماءَ مُطْبقةً عليَّ ولو شئتْ أنْ ألمسَها بيدي لفعلت ومهما شككتُ فيه فلا
أشكُّ أنّ الموت بَرد ويُبس وأنّ الحياةَ حرارة ورطوبة .
شعر في الرثاء
وقال يعقوبُ بن الرَّبيع في مرثية جاريةٍ كانتْ له : ( رَجَعَ اليقين مطامعي يأساً كما ** رَجَعَ اليقينُ مطامِعَ المتلمِّسِ )
وقال
يعقوبُ بن الربيعُ : ( لئن كان قُرْبكِ لي نافعاً ** لَبُعدُك قد كان لي أنفعا ) (
لأني أمنْتُ رَزَايا الدُّهور ** وإنْ جلَّ خطبٌ فلن أجْزعَا ) وقال أبو العتاهية : (
وكانتْ في حياتِك لي عِظَاتٌ ** فأنتَ اليوم أوْعظُ منك حيّا ) وقال التيميُّ : (
لقد عزَّى رَبيعَة أنَّ يوماً
** عليها مِثل يومكَ لا يعودُ ) ( ومن عَجبٍ قصَدنَ له
المنايا ** على عَمْدٍ وهُنَّ له جُنُودُ ) وقال صالحُ بنُ عبد القدُّوس : ( إن
يكنْ ما أصِبت فيه جليلاً ** فذهاب العزاء فيه أجَلُّ ) ونظر بعض الحكماء إلى
جنازة الإسكندر فقال : إنّ الإسكندرَ كان أمسِ أنطقَ منه اليوم وهو اليومَ أوعْظُ
منه أمس .
وقال غسان : ( واستُنفِد القَرْن الذي أنا مِنْهُمُ **
وكفى بذلك علامةً لحصادي ) وقال أعرابي
:
( إذا الرِّجالُ ولدَتْ
أولادُها ** واضطربتْ من كِبَر أعضادُها ) ( وَجعلتْ أسقامُها تعتادُها ** فهي
زُروعٌ قد دَنا حصادُها ) وقال ضِرارُ بنُ عمرو : منْ سرَّه بَنُوهُ ساءتْه نفسُه .
وقال عبدُ الرحمن بن أبي بكرة مَنْ أحَبَّ طُولَ العُمُر
فليُوطِّن نفسَه على المصائب .
وقال أخو ذي الرُّمَّة : ( ولم يُنسني أوْفى
المُلِمَّاتُ بعدَه ** ولكنَّ نَكْءَ القَرْح بالقَرْح أوْجَعُ )
بعض المجون
وقال بعض المُجّان : ( نُرقِّع دُنْيانا بتمزيقِ ديننا ** فلا دِينُنا يَبْقَى ولا ما نرقِّعُ ) وسُئل بعضُ المُجَّان : كيف أنتَ في دينك قال : أخرِّقه بالمعاصي وأرقّعه بالاستغفار .
شعر في معنى الموت ( نُراع إذا الجنائزُ قابلتْنَا **
ويحزُننا بُكاءُ الباكياتِ ) ( كَرَوْعةِ ثَلَّةٍ لمغازِ سَبْعٍ ** فلما غابَ
عادَتْ راتِعَاتِ ) وقال أبو العتاهية
: ( إذا ما رأيتم مَيِّتينَ جزعتمُ ** وإن لم تَرَوا
ملتم إلى صَبواتِها ) وقالت الخنساء : ( تَرتَعُ ما غَفَلتْ حتَّى إذا ادَّكرت **
فإنَّما هي إقبالٌ وإدبارُ ) وكان الحسن لا يتمثَّل إلا بهذين البيتين وهما : (
يسرُّ الفتى ما كان قدَّمَ من تُقًى ** إذا عَرَفَ الدَّاءَ الذي هو قاتلُه ) والبيتُ الآخر :
( ليس مَنْ ماتَ فاستراح بَميْتٍ ** إنّما الميْتُ ميّتُ الأحياءِ )
وكان
صالحٌ المُرّيّ يتمثَّل في قصصه بقوله : ( فباتَ يُروِّي أُصولَ الفسيلِ ** فَعاشَ
الفَسيلُ ومات الرجلْ ) وكان أبو عبد الحميد المكفوف يتمثَّل في قصصه بقوله : ( يا
راقدَ اللّيل مسروراً بأوَّله ** إنّ الحوادث قد يطْرُقن أسحاراً ) (
عندَ الصّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى ** وتنجلي عنهمْ غيابات الكَرَى )
وقال أبو النجم :
( كلنا يأمُل مدّاً في الأجلْ ** والمنايا هي آفاتُ الأملْ ) فأمَّا أبو النجم فإنَّه ذَهب في الموت مذهبَ زهيرحيث يقول : ( إنَّ الفتى يُصْبِحُ للأسقام ** كالغَرَضِ المنْصُوبِ للسِّهام ) أخطاهُ رامٍ وأصاب رامِ وقال زهير : ( رأيتُ المنايا خَبْطَ عَشْوَاءَ منْ تُصبْ ** تُمتْهُومَنْ تخطئ يُعَمّرْ فَيَهْرَمِ ) مقطعات شتى وقال الآخر : ( وإذا صنَعْتَ صنيعةً أتممتها ** بيدَين ليس نَداهُما بمكدّرِ ) ( وإذا تباعُ كريمةٌ أو تُشْتَرى ** فسواك بائعُها وأنت المُشْتري )
وقال الشاعر : ( قصيرُ يدِ السِّربال يَمْشي معرِّداً ** وشرُّ قريشٍ في قريشٍ مُرَكَّبا ) ( بعثتَ إلى العراقِ ورافِدَيه ** فزَاريّاً أحَذَّ يدِ القَميصِ ) ( تفيهق بالعراق أبو المثنَّى ** وعلّمَ قومه أكلَ الخبيصِ ) وقال الآخر : ( حَبَّذا رَجْعُها إليَّ يَدَيها ** بيدَيْ دِرعِها تحلُّ الإزَارا ) وأنشد : ( طَوَتْهُ المنايا وهو عنهنَّ غافلٌ ** بمنخَرِق السِّربال عارِي المناكبِ ) ( جريءٍ على الأهوال يَعْدِل دَرْءَهَا ** بأبيضَ سَقَّاطٍ وراءَ الضَّرائب )
وقال جرير : ( تركتُ لكم بالشّام حَبْلَ جماعةٍ ** مَتينَ القُوى مُسْتَحْصدِ الْفَتْل باقيَا ) ( وجدْت رُقى الشَّيطان لا تستفزُّه ** وقد كان شَيطاني من الجِنِّ راقيا ) وقال الأسديّ : ( كثير المناقب ِوالمكرمات ** يجود مجداً وأصلاً أثيلا ) ( ترى بيديه وَراء الكميّ ** تباله بعد نصال نصولا )
( تمنى السفاه ورأى الخنا ** وضَلَّ وقد كان قِدْماً ضَلولا ) ( سقط : بيت الشعر ) ( فإن أنت تنزع من ودنا ** فما أن وجدت لقلبي محيلا )
الجزء السابع
( بِسمِ اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ )
في إحساس أجناس الحيوان
اللهم إنَّا نَعوذ بك من الشَّيطان الرجيم ونسألك الهداية إلى صراطك المستقيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامَّة ونعوذ باللّه أن تدعوَنا المحبَّةُ لإتمام هذا الكتاب إلى أنْ نَصِل الصِّدْقَ بالكذب ونُدْخِل الباطلَ في تضاعيف الحقِ وأن نتكثَّر بقول الزور ونلتمس تقوية ضعفِهِ باللفظ الحسن وستر قبحه بالتأليف المونِق أو نستعينَ على إيضاح الحقِّ إلا بالحق وعلى الإفصاح بالحجَّة إلاّ بالحجة ونستميلَ إلى دراسته واجتبائه ونستدعي إلى تفضيله والإشادة بذكره بالأشعار المولّدة والأحاديث المصنوعة والأسانيد المدخولة بما لا شاهد عليه إلاّ دعوى قائله ولا مصدِّق له إلاّ مَن لا يُوثَق بمعرفته ونعوذُ باللّه من فِتنة القول وخَطَله ومن الإسهاب وتقحُّم أهله والاعتمادُ فيما بيننا
وبين كثيرٍ من أهل هذا الزمان على حسن الظنّ والاتّكالُ فيهم على العُذر فإنّ كثيراً ممّن يتكلّف قراءة الكُتب ومدارسةَ العلم يقِفون من جميع الكتب على الكلمة الضعيفة واللَّفظة السَّخيفة وعلى موضع من التأليف قد عرض له شيءٌ من استكراهٍ أو ناله بعضُ اضطراب أو كما يعرض في الكتب من سَقَطات الوهْم وفَلَتات الضَّجَر ومن خَطأ النّاسخ وسوء تحفُّظ المعارِض على معنًى لعله لو تدبَّره بعقلٍ غير مفْسَدٍ ونظرٍ غير مدخول وتصفّحَه وهو محترِسٌ من عوارض الحسد ومن عادة التسرُّع ومن أخلاقِ مَن عسى أن يتَّسِع في القول بمقدار ضِيق صَدره ويُرسل لسانَه إرسالَ الجاهل بِكُنْه ما يكون منه ولو جعلَ بدلَ شُغله بقليلِ ما يرى من المذموم شُغْلََهُ بكثيرِ ما يرى من المحمود كانَ ذلك أشبهَ بالأدبِ المرضيِّ والخِيم الصَّالح وأشدّ مشاكلَةً للحكمة وأبعدَ من سلطان الطَّيش وأقربَ إلى عادة السَّلف وسيرة الأوَّلين وأجدَرَ أن يَهَبَ اللّه له السَّلامة في كتبه والدِّفاعَ عن حُجَّته يومَ مناضلةِ خصومه ومقارعةِ أعدائه .
وليس هذا الكتابُ يرحمك اللّه في إيجاب الوَعد والوعيد
فيعترض عليه المرجئ ولا في تفضيل عليٍّ فَينصِب له العثمانيّ ولا هو في تصويب
الحكمَين فيتسخّطَه الخارجيّ ولا هو في
)
تقديم الاستطاعة فيعارضَه من يُخالف التقديم ولا هو في
تثبيت الأعراض فيخالفَه صاحبُ الأجسام ولا هو في تفضيل البَصرة على الكوفة ومكة
على المدينة والشَّام على الجزيرة ولا في تفضيل العجَم على العرب وعدنانَ على
قَحْطان وعمرٍ و على واصل فيردّ بذلك الهذيلي عَلَى النّظّامي ولا هو في تفضيل
مالكٍ على أبي حنيفة ولا هو في تفضيل امرئ القيس على النّابغة وعامر ابن الطفيل
على عمرو بن معد يكرب وعباد بن الحصين على عبيد اللّه بن الحُرّ ولا في تفضيل ابن
سُريج على الغَريض ولا في تفضيل سيبويهِ على الكسائيّ ولا في تفضيل الجعفريِّ على
العقيليّ ولا في تفضيل حلم الأحنف على حِلم معاوية وتفضيل قَتادة على الزّهري
فإنَّ لكلِّ
صِنفٍ من
هذه الأصناف شيعةً ولكلِّ رجل من هؤلاء الرجال جُند وعدداً يخاصمون عنهم وسفهاؤهم
المتسرعون منهم كثير وعلماؤهم قليل وأنصاف علمائهم أقلَّ .
ولا تنكر هذا حفظكَ اللَّه أنا رأيت رجُلين بالبصرة على
باب مُويس بن عِمران تنازعا في العنب النَّيروزيِّ والرازقيِّ فجرى بينهما اللعين
حتى تواثبا فقطع الكوفيُّ إصبع البصريِّ وفقأ البصريُّ عينَ الكوفيّ ثم لم ألبَث
إلاّ يسيراً حتى رأيتهما متصافيَين متنادمين لم يقعا قطّ على مقدار ما يُغضب مِن
مقدار ما يُرضي فكيف يقَعَانِ على مقادير طبقات الغضب والرضا واللّه المستعان .
وقد ترك هذا الجمهورُ الأكبر والسَّوَادُ الأعظمُ
التوقفَ عندَ الشبهة والتثبُّتَ عند الحكومة جانباً وأضربوا عنه صَفْحاً فليس إلاّ
لا أو نعم إلاَّ أَنَّ قولهم لاَ موصول منهم بالغضب وقولهم نعم موصولٌ منهم
بالرِّضا وقد عُزلت الحرِّيَّة جانباً ومات ذِكرُ الحلال والحرام ورُفض ذكر
القَبيحِ والحسن .
قد كتبْنا من كتاب الحيوان ستّة أجزاء وهذا الكتابُ
السابع هو الذي ذكرنا فيه الفِيل بما حضَرنا من جُمْلة القولِ في شأنه وفي جملة
أسبابه واللّه الموفق .
وإنما اعتمدنا في هذه الكتب على الإخبار عمّا في أجناس
الحيوان من الحجج المتظاهِرة وعلى الأدلة المترادفة وعلى التنبيه على ما جلَّلها
اللّه تعالى من البرهانات التي لا تعرف حقائقُها إلا بالفكرة وغشَّاها من العلامات
التي لا تنال منافعها إلا بالعبرة وكيف فرَّق فيها من الحكم العجيبة والأحاسيس
الدقيقة والصنعة اللطيفة وما ألهمها من المعرفة وحشاها من الجُبن والجرأة وبصَّرها
بما يُقيتُها ويُعيشها وأشعرها من الفِطنة لما يحاول منها عدوُّها ليكونَ ذلك )
سبباً للحذر ويكون حذرُها سبباً للحِراسة وحراستُها
سبباً للسلامة حتى تجاوزت في ذلك مقدارَ حراسة المجرِّب من الناس والخائفِ المطلوب
من أهل الاستطاعة والروِيَّة كالذي يروى من تحارُس الغرانيق والكراكي وأشكالٍ من
ذلك كثيرة حتى صار الناسُ لا يضرِبون المثلَ إلا بها ولا يذمُّون
ولا
يمدحون إلا بما يجدون في أصناف الوَحْش من الطَّير وغير ذلك فقالوا : أحذر من عقْعَق وأحذَر
من غراب وأحذَر من عصفور وأسمع من فَرْخ العُقاب وأسمع من قُراد وأسمعُ من فَرَس
وأجْبَنُ من صِفْرِد وأسخَى من لافِظَة وأصنع من تُنَوِّطٍ وأصْنَع من سُرْفة
وأصنع من دَبْر وأهدى من قَطاة وأهدى من حمامٍ وأَهدَى من جمل وأزهى من غراب
وأَزْهى من ذباب وأجرأ من اللَّيث وأَكسب من الذِّئب وأَخدع من ضَبّ وأَرْوَغ من
ثعلب وأَعقّ من ضَبّ وأَبرّ من هِرَّة وأَسْرع من سِمْع وأَظلم من حيَّة وأَظلم من
وَرَلٍ وأكذبُ من فاخِتة وأصدق من قطاة وأمْوَق من رَخمة وأحزَم من فَرْخ العُقاب .
ونبَّهنَا تعالى وعزّ على هذه المناسبة وعلى هذه
المشاركة وامتَحَن ما عندنا بتقديمها علينا في بعض الأمور وتقديمنا عليها في أكثر
الأمور وأراد بذلك ألاّ يُخْلِينَا من حُجة ومن النَّظر إلى عبرةٍ وإلى ما يعود
عند الفكرة موعظة وكما كره لنا من السهو والإغفال ومن
البطالة
والإهمال في كلِّ أحوالنا لا تُفْتَح أبصارُنا إلا وهي واقعةٌ على ضربٍ من الدلالة
وعلى شكل من أشكال البرهانات وجعل ظاهرَ ما فيها من الآيات داعياً إلى التفكير
فيها وجعل ما استخزنها من أصناف الأعاجيب يُعرف بالتكشِيف عنها فمنها ظاهرٌ يدعوك
إلى نفسه ويشير إلى ما فيه ومنها باطنٌْ يَزيدك بالأمور ثقةً إذا أفضيتَ إلى
حقيقته لتعلم أَنَّك مع فضيلة عقلِك وتصرُّف استطاعتِك إذا ظهر عجزُك عن عمل ما هو
أعجز منك أنّ الذي فضَّلك عليه بالاستطاعة والمنطق هو الذي فضَّله عليك بضروبٍ
أُخَر وأنكما ميسَّران لما خُلقتُما له ومُصَرَّفان لما سُخِّرتما له وأن الذي
يعجِز عن صَنعة السُّرْفة وعن تدبير العنكبوت في قلتهما ومَهانتهما وضُعفهما
وصِغَر جرمهما لا ينبغي أن يتكبّر في الأرض ولا يمشِيَ الخُيَلاء ولا يتهكَّمَ في
القول ولا يتألَّى ولا يستأمر وليعلم أنَّ عقله منيحة من ربه وأن استطاعتَه
عاريَّةٌ عنده وأنه إنما يستبقي النِّعمة بإدامة الشُّكْر والتعرُّض لسلبها بإضاعة
الشكر .
ثم حبَّب إليها طلب الذَّرء والسِّفاد الذي يكون
مَجْلَبَةً للذرء وحبَّب إليها أولادَها ونجلَها وذَرءها ونسلها حتى قالوا : أكرم
الإبل أَشدُّها حنيناً وأكرم الصَّفايا أشدُّها حبّاً لأولادها )
وزَاوَجَ بين أكثرها
وجعل تألّفَها معَ بعضها من الطَّروقة إذا لم يكن الزِّواج لها خُلقاً وجعل إلف العِرْس لها عادة وقوَّاها على المسافَدة لتتمَّ النعمة وتعظم المنة وألهمها المبالغةَ في التربية وحُسْنَ التعبُّد وشدَّة التفقُّد وسوَّى في ذلك بين الجِنس الذي يُلَقِّم أولاده تلقيماً وبين الذي يُرْضِعُها إرضاعاً وبين الذي يزقُّها زَقّاً وبين ما يحضن وما لا يحضن ومنها ما أخرجها من أرحام البَيض وأرحام البطون كاسيةً ومها ما أخرجها كاسيةً كاسِبة وأمتَعَها وألذَّها وجعلها نِعمةً على عباده وامتحاناً لشكرهم وزيادةً في معرفتهم وجِلاءً لما يتراكم من الجهل على قلوبهم فليس لهذا الكتاب ضدٌّ من جميع مَن يشهد الشهادة ويصلِّي إلى القبلة ويأكل الذَّبيحة ولا ضدٌّ من جميع الملحدين ممَّن لا يقرُّ بالبعث وينتحل الشرائع وإن ألْحَدَ في ذلك وزاد ونقص إلا الدَّهريَّ فإن الذي ينفي الربوبيَّة ويُحيل الأمرَ والنَّهيَ ويُنكر جواز الرِّسالة ويجعل الطِّينة قديمة ويَجحد الثوابَ والعِقاب ولا يعرف الحلالَ والحرام ولا يقرُّ بأن في جميع العالَم برهاناً يدلّ عَلى صانعٍ ومصنوع وخالق ومخلوق ويجعلُ الفلك الذي لا يعرف نفسه من غيره ولا يفصل بين الحديث والقديم وبين المحسن والمسيء ولا يستطيع الزيادةَ في حركته ولا النُّقصانَ مِن دورانه
ولا
مُعاقبةً للسُّكون بالحرَكة ولا الوقوفَ طرْفَةَ عين ولا الانحرافَ عن الجهة هو
الذي يكون به جميع الإبرام والنَّقض ودقيقُ الأمور وجليلها وهذه الحِكم العجيبة
والتدابير المتْقنة والتأليف البديع والتَّركيب الحكيم على حسابٍ معلوم ونسَق
معروف على غايةٍ من دقائق الحكمة وإحكام الصَّنعة .
ولا ينبغي لهذا الدهريِّ أيضاً أن يعرِض لكتابنا هذا وإن
دلَّ على خلافِ مذهبه ودعا إلى خِلافِ اعتقاده لأن الدَّهريّ ليس يرى أنَّ في
الأرض ديناً أو نِحلةً أو شريعة أو مِلة ولا يرى للحلال حُرْمَةً ولا يعرفه ولا
للحرام نهايةً ولا يعرفه ولا يتوقَّع العقابَ على الإساءة ولا يترجّى الثواب على
الإحسان وإنما الصواب عنده والحقُّ في حُكْمه أنه والبهيمةَ سِيّانِ وأنه
والسَّبُعَ سِيّان ليس القبيحُ عنده إلاّ ما خالف هواه وليس الحسَن عنده إلاّ ما
وافق هواه وأن مدار الأمر على الإخفاق والدّرَك وعلى اللذّة والألم وإنما الصواب
فيما نال من المنفعة وإن قتلَ ألفَ إنسانٍ صالحٍ لِمَنالةِ درهم رديء فهذا الدهريّ
لا يخاف إن ترك
الطّعْن
على جميع الكتب عقاباً ولا لائِمة ولا عذاباً دائِماً ولا منقطعاً ولا يرجو إنْ
ذمّها ونَصَب لها ثواباً في عاجل ولا آجل .
فالواجبُ أن يسلم هذا الكتابُ على جميع البريَّة إذا كان
موضِعُه على هذه الصِّفة ومُجراه إلى
)
هذه الغاية واللّه تعالى الكافي الموفِّق بلطفه وتأييده
إنه سميع قريب فعال لما يريد .
ثم رجع بنا القولُ إلى الإخبار عن الحيوان بأيِّ شيء
تفاضلتْ وبأيِّ شيء خُصَّت وبماذا أبينتْ وقد عَرَفنا ما أُعطيت في الشَّمِّ
والاستِرْواح قال الرَّاجز وذكر الذئب : ( يستخبِرُ الرِّيحَ إذا لم يسمَع **
بمِثل مِقْرَاعِ الصَّفا الموقَّعِ ) وقد عرفنا كيف شمُّ السّنانيرِ والسِّباع
والذئاب وأعجبُ من ذلك وِجدانُ الذَّرّة لرائِحة شيءٍ لو وضعْتَه على أنفك لَمَا
وجدْتَ له رائِحةً كرجل جرادةٍ يابسة منبوذةٍ كيف تجدُ رائحتها من جوف جُحرها حتى
تخرج إليها فإذا تكلّفَتْ حملَها فأعجَزْتَها كيف تستدعي إليها سائر الذَّرّ
وتستعينُ بكلِّ ما كان منها في الجُحر
.
ونحوِ شمِّ الفَرَس رائحةَ الحِجْر
من مَسيرة
ميل والفرس يسير قُدُماً والحِجر خلفه بذلك المقدار من غير تلفُّتٍ ولا معايَنةٍ
من جهة من الجهات وهذا كثيرٌ وقد ذكرناه في غير هذا الموضع فأمّا السَّمع فدعنا من
قوْلهم : أسمعُ من فَرس : أسمع من فرْخ العقاب وأسمع من كذا وأسمع من كذا ولكنّا
نقصد إلى الصّغير الحقير في اسمه وخطَره والقليلِ في جسمه وفي قَدْره .
وتقول العرب : أسمع من قُراد ويستدلون بالقِردان التي
تكون حَوْل الماء والبئر فإذا كان ليلة ورود القَرَب وقد بعث القومُ من يصلح
لإبلهم الأرشِيةَ وأداةَ السقي وباتت الرجال عند الماء تنتظر مجيء الإبل فإنها
تعرف قربَها منهم في جوف الليل بانتفاش القِرْدان وسرعة حركتها وخشخشتها ومرورها
نحو الرعاء وزجر الرعاء ووقْع الأخفاف على الأرض من غير أن يُحسّ أولئك الرجالُ
حسّاً أو يشعروا بشيء من أمرها فإذا استدلوا بذلك من القردان نهضوا فتلبَّبوا
واتزرُوا وتهيؤوا للعمل .
فأمّا إدراك البصر فقد قالوا : أبصر من غراب وأبصر من
فرس وأبصر من هدهد وأبصر من عقاب
.
والسَّنانير والفأرُ والجِرذان والسِّباع تُبصر بالليل
كما تبصر بالنهار فأمّا الطُّعم فيظنّ أنها بفرط الشَّرَه والشّهوة وبفرط
الاستمراء وبفرط الحِرص والنَّهم أن لذتها تكون عَلى قَدْر شَرهها وشهوتها تكون
على قدر ما ترَى من حركتها وظاهر حرصها . ونحن قد نرى الحمار إذا عاين الأتان
والفرس إذا عاينَ الحِجْر والرمكة والبغلَ والبغلةَ والتيسَ والعنز فنظن أن اللذة
على قدر الشهوة والشهوة على قدر الحركة وأن الصِّياحَ على قدر غلبة الإرادة . ونجد الرجال إذا )
اعتراهم ذلك لا يكونون كذلك إلاّ في الوقت الذي هم فيه
أشدَّ غُلْمة وأفْرَط شهوة .
فإن قال قائل : إن الإنسان يغشى النِّساء في كلِّ حالٍ
من الفصلين والصَّميمين وإنما هَيْجُ السِّباع
( سقط : بيت الشعر ) ( ثم
يسكن هيج التيس والجمل ** فالإنسان المدلوم أحسن مالا ) قلنا : إنّا لم نَكن في
ذكر المخايَرة بين نصيب الإنسان في ذلك مجموعاً ومفرَّقاً وبين نصيب كلِّ جنسٍ من
هذه الأجناس مجموعاً ومفرَّقاً وإنما ذكرنا نفس المخالطة فقط وما يدريكم أيضاً
لعلها أَنْ تَسْتَوْفيَ في هذه الأيَّام اليسيرة أضعافَ ما يأتِي الإنسان في تلك
الأيَّام الكثيرة .
وعلى أنَّا قد نرى ممّا يعتري الحمارَ والفرسَ والبغلَ
وضروباً كثيرة إذا عاينوا الإناث في غير أيام الهيج وهاهنا أصنافٌ تُديم ذلك كما
يُدِيمه الإنسان مثل الحمام والدِّيَكَةِ وغير ذلك .
وقد علمنا أنّ السَّنانيرَ وأشباهَ السنانير لها وقتُ
هيجٍ ولكنَّ ذلك يكون مراراً في السّنة على أشدَّ مِن هَيج الإنسان فليس الأمر على
ما يظنّون .
فإن كان الإنسانُ موضعُ ذهنهِ من قلبه أو دماغه يكونُ
أدقّ وأرقَّ وأنفَذَ وأبصر فإنّ حواسَّ هذه الأشكال أدقّ وأرقّ وأبْصر وأنفذ وإن
كان الإنسانُ يبلغُ بالروِيّة والتصفُّح والتحصيل والتمثيل ما لا يبلغه شيءٌ من
السِّباع والبهائم فإنّ لها أموراً تدركها وصنعةً تحذِقها تبلغُ منها بالطبائع
سهواً وهويّاً ما لا يبلغ الإنسان في ما هو بسبيله إلا أن يُكرِه نفسَه على
التفكير وعلى إدامة التنقير والتكشيف والمقاييس فهو يستثقله .
ولكلِّ شيءٍ ضربٌ من الفضيلة وشكلٌ من الأمور المحمودة
لينفيَ تعالى وعز عن الإنسانِ العُجْب ويقبِّح عنده البَطر ويعرِّفه أقدار القَسْم .
وسنذكر من فطن البهائم وأحساس الوَحْش وضروب الطير
أموراً تعرفون بها كثْرَةَ ما أودعها اللّه تعالى من المعارف وسخَّر لها من الصنعة
ثم لا نذكر من ذلك في هذا الموضع إلاّ كلَّ طائر منسوبٍ إلى الموق وإلاّ كلَّ
بهيمةٍ معروفةٍ بالغثاثة بعِدّةِ ما فيه أشْكالُها من المعرفة والفطنة ولو أردنا
الأجناسَ المعروفةَ بالمعارف الكثيرةِ والأحساسِ اللَّطيفة لذكرنا الفيلَ والبعير
والذَّرة والنملة والذئب والثعلب والغرنوق والنحلة والعنكبوت والحمامَ والكلب
وسنذكر عَلى اسم اللّه تعالى بعضَ ما في البهائم والسِّباع والطير من المعرفة ثم
نخصُّ في هذا الكتابِ المنسوباتِ إلى المُوق والمعروفاتِ بالغباوةِ وقِلة المعرفة
كالرَّخمة والزنبور والرُّبَعِ من أولاد الإبل والنَّسر من عظام الطير .
وقال المفضَّل الضبيّ : قلت لمحمد بن سهل راوية الكميت :
ما معنى قول الكميت في الرَّخمة : ) ( وذاتِ اسْمَيْنِ والألوانُ شَتَّى **
تُحَمَّقُ وهْيَ كيِّسة الحَويل ) ( لها خِبٌّ تلوذُ به وليست ** بضائعة الجَنين
ولا مَذُولِ )
قال :
كأَنّ معناه عندي حفظُ فراخها أو موضع بيضها وطلب طعمها واختيارها من المساكن ما
لا يَطُوره سبع طائر ولا ذو أربع قال : فقلتُ : فأيُّ كيس عند الرّخمة إلاّ ما
ذكرت ونحن لا نعرف طائراً ألأم لؤماً ولا أقذَر طُعْمةً وَلا أظهر مُوقاً منها حتى
صارت في ذلك مثلاً فقال محمد بن سهل : وما حمقُها وهي تحضن بيضها وتحمي فِراخها
وتحبُّ ولدها ولا تمكِّنُ إلاَّ زوجها وتقطع في أوَّل القواطع وترجِع في أوَّل
الرواجع ولا تَطير في التحسير ولا تغترُّ بالشكير ولا تُرِبُّ بالوكور ولا تسقط
على الجَفير .
أمّا قوله : تقطع في أول القواطعِ وترجع في أوّل الرواجع
فإنَّ الرُّماة وأصحابَ الحبائلِ والقُنَّاصَ إنما يطلبون الطير بعد أن يعلموا
أنَّ القواطع قد قَطَعَتْ فبِقطع الرّخمة يستدلُّون فلا بدَّ للرَّخَمَةِ مِنْ أن
تنجوَ سالمةً إذا كانت أوَّلَ طالعٍ عليهم .
وأمَّا قوله : ولا تُرِبُّ بالوُكور فإنّه يقول : الوكر
لا يكون إلا في عُرْض الجبل وهي لا تَرضى إلا بأعالي الهضاب ثم مواضعِ الصّدوع
وخِلالِ الصخور وحيث يمتنعُ على جميع الخلقِ المصيرُ إلى فراخها ولذلك قال الكميت :
( ولا تجعلوني في رَجائيَ وُدَّكم ** كراجٍ على بيضِ الأنوق احتبالَها ) والأنوقُ هي الرّخمة وقال ابن نوفل : ( وأنتَ كساقطٍ بينَ الحشايا ** يَصِيرُ إلى الخبيثِ مِن المَصِيرِ ) ( ومثلُ نَعامةٍ تُدْعَى بعيراً ** تعاظُمِها إذا ما قيل طِيرِي ) ( وإن قيل احملي قالت فإنِّي ** من الطّير المُرِبَّة في الوكورِ ) وأما قوله : ولا تطير في التَّحسير ولا تغترُّ بالشّكير فإنها تدعُ الطيرانَ أيام التحسير فإذا نبت الشّكير وهو أول ما ينبت من الريش فإنها لا تَنهض حتى يصير الشكير قَصَباً وأمَّا قوله : ولا تسقط عَلَى الجَفِير فإنما يعني جعبة السِّهام يقول : إذا رأته علمت أنّ هناك سهماً فهي لا تسقط في موضع تخاف فيه وقع السِّهام .
اتباع الرخم والنسور والعقبان للجيوش
والرَّخم والنّسور والعِقبان تتبع الجيوشَ لتوقع القتال وما يكون لها من الجيف وتتبع أيضا الجيوشَ والحُجَّاج لما يسقط من كَسير الدَّواب وتتبعها أيضاً في الأزمنة التي تكون فيها الأنعام والحُجور حواملَ لِمَا تؤمِّل من الإجهاض والإخداج قال النابغة : ( وَثِقْتٌ له بالنَّصْرِ إذْ قِيلَ قد غَدَتْ ** كتائبُ من غَسّان غير أَشائِبِ ) ( بنو عمِّه دُنْيا وعمرُو بن عامر ** أولئك قومٌ بأسهُم غير كاذبِ ) ( إذا ما غَزَوْا بالجيش حَلَّقَ فوقهمْ ** عصائب طيرٍ تَهتدي بعصائب ) ( جوانح قد أيقنَّ أنّ قبيله ** إذا ما التقى الجمعان أوّلُ غالبِ ) ( تراهُنّ خَلْفَ القَوْمِ خُزْراً عيونُها ** جُلوس شيوخٍ في مُسوك الأرانبِ ) ( إذا ما غزا يوماً رأيتَ عِصابةً ** من الطّير ينظُرْنَ الذي هو صانِعُ )
وقال آخر
: ( يكسُو السيوفَ نفوس النَّاكثين به ** ويجعل الرُّوسَ تِيجَانَ القَنا الذبُلِ
) ( قد عَوَّدَ الطَّيْرَ عاداتٍ وَثِقن بها ** فهُنَّ يَتْبَعْنَهُ في كلِّ
مُرْتَحَل ) فقال
الكميت كما ترى : تحمّق وهي كيِّسةُ الحَوِيلِ فزعم أن النَّاس يحمقونها وهي
كيِّسة .
قول بعض الأعراب وقال بعضُ أصحابنا : قيل لأعرابيٍّ :
أتحسن أنْ تأكلُ الرَّأْسَ قال : نعم قيل : وكيف تصنع به قال : أبخصُ عينيه وأَسْحَى خدَّيه وأعفص
أذنيه وأَفكُّ لَحيَيْه وأرْمي بالمخِّ إلى مَنْ هُو أحوجُ منِّي إليه قيل له :
إنك لأحمق من رُبَع قال : وما حمق الرُّبَع واللّه إنه لَيَجْتَنبُ العُدَاوَء
ويتبع أمّه في المرعى ويُرَاوِحُ بين الأطْباء ويعلم أن حَنينها رُغاء فأين حمقُهُ .
قتل المكاء للثعبان
وحدث ابنُ
الأعرابيِّ عن هشام بن سالم وكان هشام من رهْط ذي الرُّمّة قال : أكلتْ حَيّة بيضَ مُكَّاء
فجعل المُكَّاءُ يشرشِر على رأسها ويدنُو منها حتى إذا فتحت فاها تريده وهمَّتْ به
ألقى فيه حَسَكة فلم يزل يُلقي فيه حسكةً بعد حسكة فأخذَتْ بحلقها حتى ماتت .
وأنشد ابن الأعرابيِّ عند هذا الحديث قولَ الشاعر : (
كأنَّ لكلّ عند كُلّ سخيمةً ** يُرِيد بتخْرِيق الأدِيم استلالَهَا ) وأنشد أبو
عمرو الشيباني بيت شعر وهو هذا المعنى بعينه وهو قول الأسدِيِّ الدُّبيريّ : ( إنْ
كنتَ أبصَرْتني فذّاً ومُصْطَلَماً ** فرُبَّما قَتَلَ المُكَّاءُ ثُعبانا ) يقول
: قد يظفر القليل بالكثير والقليلُ الأعوانِ بالكثير الأعوان والمُكَّاء من أصغر
الطير وأضعَفِه وقد احتال للثُّعبان حتّى قتله .
قول جالينوس في معرفة أنثى الطير
وقال جالينوس في الإخبار عن معارف البهائم والطير وفي التعجُّب من ذلك وتعجب الناس منه : قولوا لي : مَن عَلَّمَ النسرَ الأنثى إذَا خافت على بيضها وفراخها الخفافيش أن تفرِش ذلك الوَكْر بورق الدُّلْب حَتى لا تقربه الخفافيش وهذا أعجب والأطباء والعلماء لا يتدافعونه
حزم فرخ العقاب
وقال ابن الأعرابيّ وأبو الحسن المدائني : قال رجلٌ من الأعراب : كان سنان بن أبي حارثة أحزَم من فرخ العقاب وذلك أنَّ جوارح الطير تتخذ أوكارها في عُرْض الجبال فربّما كان الجبلُ عموداً فلو تحرَّك الفرخ إذا طلب الطعم وقد أقبل إليه أبواه أو أحدهما وزادَ في حركته شيئاً من موضع مَجثِمه لَهوَى من رأس الجبل إلى الحضيض وهو يعرف مع صِغره وضُعفه وقلّة تجربته أنّ الصواب في ترك الحركة .
اختلاف عادات صغار الحيوان
ولو وُضِع
في أوكار الوحشيَّاتِ فرخٌ من فراخ الأهليَّات لتهافتن تهافُتاً كفراخ القطا
والحجَل والقَبج والدُّرَّاج والدَّجاج لأنَّ هذه تَدْرُجُ على البَسيط وذلك لها
عادة وفراخ الوحشيّة لا تجاوز الأوكار لأنها تعرِف وتعلم أنّ الهلكةَ في المجاوزة
وأولادُ الملاّحين الذين وُلدوا في السفن الكبار والمنشآت العظام لا يخاف الآباءُ
والأمَّهات عليهم إذا درجوا ومَشوا أنْ يقعوا في الماء ولو أن أولاد سُكان القصور
والدّور صاروا مكان أولادِ أرباب السفن لتَهافتوا ولكلِّ شيء قَدْر وله موضعٌ
وزمانٌ وجهةٌ وعادةٌ .
وأبَوَا فَرخ الخطّاف يعلِّمانه الطيران تعليماً .
الختان عند اليهود والمسلمين والنصارى
وزعم ناسٌ من أطبَّاء النصارى وهم أعداءُ اليهود أن اليهود يختِنون أولادَهم في اليوم الثّامن وأن ذلك يَقَع ويوافِق أَنْ يكون
في الصَّميمين كما يوافق الفصلين وأنّهم لم يرَوْا قَطّ يهوديّاً أصابه مكروه من قِبَل الخِتان وأنهم قد رأَوْا من أولاد المسلمين والنصارى ما لا يُحصى مِمَّنْ لقي المكروهَ في ختانه إذا كان ذلك في الصَّميمين من ريح الحمرة ومن قطع طَرَف الكمرة ومن أن تكون المُوسَى حديثةَ العَهْد بالإحداد وسَقْي الماء فتشيط عند ذلك الكَمرة ويعتريها بَرَص والصبيّ ابن ثمانية أيام أعسرُ ختاناً من الغُلام الذي قد شَبَّ وشدن وقَويَ إلاّ أَنَّ ذلك البرصَ لا يتَفشى ولا يعدو مكانَه وهو في ذلك كنحو البرص الذي يكون من الكيِّ وإحراق النار فإنهما يفحشان ولا يتسعان .
ختان أولاد السفلة وأولاد الملوك وأشباههم
ويختن من
أولاد السِّفْلة والفقراء الجماعة الكثيرة فيؤمَن عليهم خطأُ الخاتن وذلك غير
مأمونٍ )
على أولاد الملوك وأشباهِ الملوك لفِرط الاجتهاد وشدّة
الاحتياط ومع ذلك يَزْمَعُ ومع الزَّمَع
والرعدة يقع الخطأ ، وعلى قدر رعدة اليد ينال القلب من الاضطراب على حسب ذلك . حسن التدبير في الختان وليس من التدبير أن يحضُر الصبيّ والخاتنَ إلاّ سفلة الخدم ولا يحضره من يهاب .
قدم ختان العرب
وهذا الختان في العرب في النِّساء والرجال من لدُنْ إبراهيم وهاجر إلى يومنا هذا ثم لم يُولَد صبيٌّ مختونٌ قط أو في صورةِ مختون .
ختان الأنبياء
وناسٌ يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم وُلِدَا مختونين والسَّبيلُ في مثل هذا الرُّجوعُ إلى الرواية الصحيحة والأثر القائم .
أثر الختان في اللذة
قال :
والبظراء تجد من اللذة ما لا تجدُه المختونة فإنْ كانت مُستأصَلةً مستوعَبةً كان
على قدر ذلك وأصل ختان النساء لم يُحاوَلْ به الحسنُ دونَ التماس نُقصان الشهوة
فيكون العفاف عليهنَّ مقصوراً .
قال :
ولذلك قال
النبي صلى الله عليه وسلم للخاتنة : يا أم عطيَّة أشمِّيه ولا تَنْهَكِيه فإنه
أسْرَى للوَجْه وأحظَى عند البعل كأنه أراد صلى الله عليه وسلم أن ينقُص من شهوتها
بقدر ما يردّها إلى الاعتدال فإِن شهوتها إذا قلَّتْ ذهبَ التمتُّع ونقَصَ حُبُّ
الأزواج وحبُّ الزَّوج قَيْدٌ دون الفجور والمرأة لا تكونُ في حالٍ من حالات
الجماع أشدَّ شهوةً منها للكَوْم الذي لقحت منه .
وقد كان رجلٌ من كبار الأشراف عندنا يقول للخاتنة : لا
تقرضي إلاّ ما يظهر فقط .
أثر الختان في العفاف والفجور
وزعم
جَناب بن الخَشخاش القاضي أنه أحصى في قرية واحدة النساءَ المختونات والمُعْبرَات
فوجد أكثر العفائفِ مستوعَبات وأكثر الفواجر مُعْبَرَات .
وأن نساء الهند والروم وفارس إنما صار الزنا وطلب
الرِّجال
فيهنَّ أعم لأنَّ شهوتهنَّ للرجال أكثر ولذلك اتخذ الهند دوراً للزَّواني قالوا :
وليس لذلك علّة إلاّ وفارةَ البظْر والقُلْفة .
والهند توافِق العربَ في كلِّ شيء إلاّ في ختانِ
النِّساء والرجال ودعاهم إلى ذلك تعمُّقهم في توفير حظ الباه قالوا : ولذلك اتخذوا
الأدوية وكتبوا في صناعة الباه كتباً ودَرَسُوها الأولاد )
السحق قالوا : ومن أكبر ما يدعو النساء إلى السحق أنهنَّ
إذا ألصقن موضع مَحَزِّ الخِتان وجَدْنَ هناك لذَّةً عجيبة وكلما كان ذلك منها
أوفَرَ كان السَّحقُ ألذّ قال :
ولذلك صار حُذّاق الرِّجالِ يضعون أطراف الكمر ويعتمدون
بها على محزِّ الختان لأنَّ هناك مجتمع الشهوة . ( ظمأ الأيِّل إذا أكل الحيات ) ومن هذا الباب
الذي ذكرنا فيه صِدقَ إحساس الحيوان ثم اللاتي يضاف منها إلى المُوق وينسب إلى
الغثارة قال داود النبي عليه السلام في الزبور : شوقي إلى المسيح مثل الأيِّل إذا
أكل الحيَّات
والأيِّل
إذا أكل الحيَّات فاعتراه العطش الشديد تراه كيف يدور حَول الماء ويحجزه من الشرب
منه علمُه بأنَّ ذلك عطبُه لأن السموم حينئذٍ تجري مع هذا الماء وتدخل مداخل لم
يكن ليبلغها الطَّعامُ بِنفسه وليس علم الأيِّل بهذا كان عن تجربةٍ متقدمة بل هذا
يوجد في أوّل ما يأكل الحيّاتِ وفي آخِره .
تعلُّق رؤوس الحيات في بدن الأيِّل وربما اصطيد الأيِّل
فيجد القُنَّاصُ رؤوس الأفاعي وسائرِ الحياتِ ناشبةَ الأسنان في عنقه وجلد وجهه
لأنه يريدُ أكلها فرّبما بدرته الأفعى والأسود وغيرهما من الحيات فتعضُّه وهو
يأكلها ويأكل ما ينال منها ويفوته ما تعلق به منها بالعضِّ فتبقى الرُّؤوس مع
الأعناق معلَّقةً عليه إلى أن
نصول قرن الوعل
قالوا : وليس شيءٌ من ذوات القرون ينصل قرنه في كلِّ عام إلا الوعل فإذا علم أنَّه غير ذي قرن وأنه عديم السلاح لم يظهر من مخافة السباع فإذا طال مُكثُه في موضعه سمن فإذا سمن علم أن حركته تفقد
وتبطئ فزاد ذلك في استخفائه وقلَّة تعرُّضه واحتالَ بألاَّ يكون أبداً على علاوة الريح فإذا نجم قرنه لم يجد بُدّاً من أن يمظِّعه ويعرِّضه للشمس والريح حتى إذا أيقن أنه قد اشتد أكثر المجيء والذهاب التماساً أن يذهب شحمه ويشتد لحمه وعند ذلك يحتال في البعد من السِّباع حتى إذا أمكنه استعمال قرنيه في النزال والاعتماد عليهما والوثوب من جهتهما رجَع إلى حاله من مراعيه وعاداته ولذلك قال عصام بن زفر : ( تَرجو الثَّوَاب من صبيح يا حَمَلْ ** قد مصَّه الدهر فما فيه بَلَلْ ) ( إن صبيحاً ظاعِنٌ فمحتَمِلْ ** فلائذٌ منك بشِعبٍ من جَبَلْ ) كما يلوذ من أعاديه الوَعِلْ فضرب به المثل كما ترى في الاحتيال والهربِ من أعدائه : وقال الراجز : ( لما رأيتُ البرقَ قد تبسَّما ** وأخرج القَطْرُ القَرُوعَ الأعصَما )
بيوت الزنابير
وقال ابن الكلبي : قال الشرقي بن القطامي ذات يوم : أرأيتم لو فكَّر رجل منكم عُمرَه الأطولَ في أن يتعرَّف الشيء الذي تتَّخذ الزنابيرَ بيوتها المخرَّقة بمثل المجاوب المستوية في الأقدار المتحاجزة بالحيطان السخيفة
في المنظر
الخفيفة في المحمل المستديرة المضمر بعضها ببعض المتقاربة الأجزاء وهي البيوت التي
تعلم أنها بُنيت من جوهرٍ واحد وكأنها من ورق أطباق صِغار الكاغد المزرّرة قولوا
لي : كيف
جمعتْه ومن أي شيءٍ أخذته وهو لا يشبه البناء ولا النَّسجَ ولا الخياطة .
ولم يفسر ابن الكلبيّ والشرقيُّ في ذلك شيئاً فلم يصِرْ
في أيدينا منهما إلا التعجُّب والتعجيب فسألت بعد ذلك مشايخ الأكرَة فزعموا أنها
تلتقطه من زَبَد المُدود فلا يدرى أمِن نَفْس الزَّبَدِ تأخذ أم مِن شيءٍ يكون في
الزَّبَد .
والذي عرَّف الزنابير مواضع تلك الأجزاء ودلها على ذلك
الجوهر هو الذي علَّم العنكبوتَ ذلك النسج وقد قال الشاعر : ( كأنَّ قفا هارون إذ يَعْتَلونَهُ **
قفا عَنْكبُوتٍ سُلَّ من دُبْرِها غَزْلُ ) وأما دودة القزّ فلا نشك أنها تخرجه من
جوفها .
معرفة الحقنة من الطير
وتزعم الأطباء أنهم استفادوا معرفة الحُقنة من قِبل الطائر الذي إذا أصابه الحُصْر أتى البحرَ فأَخَذَ بمنقاره من الماء المالح ثم استدخَلَه فمجَّه في جوفه وأمكنَه ذلك بطول العنق والمِنقار فإذا فعل ذلك ذَرَق فاستراحَ .
ما يتعالج به الحيوان
والقنفذ
وابن عِرسٍ إذا ناهشا الأفاعيَ والحيَّاتِ الكبارَ تعالَجَا بأكل الصَّعتر البرّيّ .
والعقاب إذا اشتكت كبدَها مِن رَفْعها الأرنَبَ والثعلبَ
في الهواء وحَطِّها لهما مِرَاراً فإنها لا تأكل إلاّ من الأكباد حتى تبرأَ من
وجَع كبدها .
رغبة الثعلب في القنفذ
قال : وسألتُ القُنّاصَ : ما رغبة الثعلب في أكل القنفذ وإن كان حشو إهابه شحماً سميناً وفي ظاهر جلده شوك صلابٌ حدادٌ متقاربٌ كتقارُب الشعر في الجسد فزعموا أنَّ الثعلبَ إذا أصابه قلبَه لظهره ثم بال على بطْنه فيما بين مغرِز عَجْبه إلى فكَّيه فإذا أصابه ذلك البولُ اعتراه الأسَنُ فأسبَطَ وتمدَّد فينقر عن بطنه فمن تلك الجهة يأكل جميعَ بدنه ومسلوخِه الذي يشتمل عليه جلدهُ .
صيد الظربان للضب
وقالوا : وبشبيهٍ بهذه العلّة يصيد الظّرِبانُ الضبّ في جوف جُحْره حتى يغتصبه نفسَه وذلك أنّه يعلم أنّه أنتن خلق اللّه قَسوة فإذا دخل
عليه
جُحره سَدَّ خَصاصَه وفروجَه ببدنه وهو في ذلك مستدبِرٌ له فلا يفسو عليه ثلاثَ
فَسَوَاتِ حتى يُعْطِيَ بيده فيأكله كيفَ شاءَ .
قالوا : وربّما فسا وهو بقرْب الهَجْمة وهي باركةٌ فتتفرَّق
في الصحراء فلا يجمعُها راعِيها إلاّ بجهد شديد ولذلك قال الشاعر : ( لا تمنحوا
صقراً فما لمنيحةٍ ** أتت آلَ صقرٍ من ثوابٍ ولا شُكْرِ ) ( فما ظَرِبانٌ يُؤْبِسُ
الضبَّ فَسْوُهُ ** بِألأَمَ لؤماً قد علمناه مِن صقْرِ ) ولذلك قال الراجز وهو
يذكر تكسُّب الظربان بفسوه لِطُعْمِهِ وقوته كما يتكسَّب الناس بالصِّناعات
والتِّجارات فقال : ( باتا يُحكَّان عراصِيفَ القَتَبْ ** مستمسِكَيْنِ بالبِطانِ
وَالحقَب ) ( لا ينفع الصاحبَ إلاّ أن يَسُبّ ** كالظَّرِبان بالفُسَاءِ يكتسِبْ )
ما قيل في بلاهة الحمام
قال ابن
الأعرابيّ : قلت لشيخ من قريش : مَن علّمك هذا وإنما يُحسِن من هذا أصحابُ
التجارات والتكسُّب وأنتَ رجلٌ مكفيٌّ مودّع قال : علّمني الذي علم الحمامةَ على
بَلَهها تقليبَ بيضها كي تعطي الوجهين جميعاً نصيبَهما من الحَضْن ولخوف طباع
الأرض إذا دام على الشِّقِّ الواحد .
والحمام أبله ولذلك كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم يقولون : كونوا بُلْهاً كالحمام ألا ترى أنّ الحمام في الوجه الذي ألهمه
اللّه مصالح ما يُعيشه ويُصْلِح به شأنَ ذَرْئه ونسله ليس بدونِ الإنسان في ذرئه
ونسله مع ما خُوِّل من المنطق وأُلهم من العقل وأُعطي من التّصريف في الوجوه
حيلة الفأرة للعقرب
وإذا جَمَعَ بعضُ أهل العَبث وبعضُ أهل التَّجرِبة بين العقرب وبين الفأرة في إناءِ زجاج فليس عندَ الفأرة حيلةٌ أبلغُ من قرض إبرة العقرب فإمّا أنْ تموتَ من ساعتها وإمَّا أنْ تتعجل السَّلامةَ
علم الذرة
قال : ومَن علَّم الذّرَّة أن تفلق الحبَّةَ فتأكل موضع القِطمير لئلاّ
تنبتَ
فتفسُد فإذا كانت الحبَّة من حبّ الكزْبُرة ففلقتها أنصافاً لم ترض حتى تفلِقها
أرباعاً لأن الكُزبُرة من بين جَميع الحبّ تنبُت وإنْ كانت أنصافاً وهذا عِلْمٌ
غامضٌ .
إذَا عرَفه الشّيخُ الفلاّح المجرِّب والفاشكار الرئيس
والأكَّار الحاذِق فقد بلغوا النهاية في الرِّياسة .
معرفة الدب
ّ ) وقال جالينوس : ومن علّم
الدبّ الأنثى إذا وضعت ولدَها أنْ ترفعَه في الهواء أياماً تهرُب به من الذَّرِّ
والنمل لأنها تضعه كفِدْرة من لحمٍ غيرَ متميِّز الجوارح فهي تخاف عليه الذَّرَّ
وذلك له حتفٌ فلا تزالُ رافعةً له وراصدة ومُتفَقِّدَةً وَمُحَوِّلةً له من موضع
إلى موضع حتى يشتد وتنْفرج أعضاؤُه
.
شعر لبشار وقال بشَّار الأعمى : ( وكلُّ قسمٍ فللعقبان
أكثَرُهُ ** والحظُّ شيءٌ عليه الدهر مقصورُ )
أمنِيَّة
بشر أخي بشار وقال بشر أخو بشّار وكانوا ثلاثةً واحد حنفيّ وواحد سدوسيّ وبشَّار
عُقيليّ وإنما نزل في بني سدوس لسبب أخيه وقد كان قيل لأخيه : لو خيَّرك اللّه أنْ
تكون شيئاً من الحيوان أيَّ شيءٍ كنتَ تتمنى أن تكون قال : عُقاب قيل : ولِمَ
تمنّيت ذلك قال : لأنَّها تَبيتُ حيثُ لا ينالها سَبُعٌ ذو أربعِ وتَحِيدُ عنها
سباعُ الطَّير .
وهي لا تعاني الصَّيد إلاّ في الفَرْط ولكنّها تسلُب كلّ
صَيُودٍ صَيْدَه وإذا جامع صاحبُ الصقر وصاحبُ الشّاهين وصاحبُ البازي صاحبَ
العقاب لم يرسلوا أطيارهم خوفاً من العُقاب وهي طويلة العمر عاقَّة بولدها وهي لا
تحمِل على نفسها في الكَسْبِ وهي إنْ
)
شاءتْ كانت فوقَ كلِّ شيءٍ وإن شاءتْ كانت بقُرْبِ كلِّ
شيء وتتغدّى بالعِراق وتتعشَّى باليمن وريشُها الذي عليها هو فَروُها في الشتاء
وخَيْشُها في الصَّيف وهي أبصرُ خلق اللّه .
هذا قولُ صاحب المنطق في عُقوق العقاب وجفائها بأولادها
فأمَّا أشعار العرب فهي تدلُّ على خلاف ذلك قال دريد بن الصِّمَّة :
( وكلُّ لَجُوجٍ في العِنانِ كأَنَّها ** إذا اغتمست في الماءِ فَتْخَاءُ كاسِرُ )
المحمق من الحيوان
والحيوان
المحمّق الرّخَمة والحُبارَى قال عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه : كلُّ شيءٍ يحبُّ
ولدَه حتّى الحبارى .
وأنثى الذئاب وهي التي تسمَّى جَهِيزة والضبع والنَّعجة
والعنز هذه من الموصوفات بالمُوق جدّاً
.
قال : ومن الحيوان ما ليس عنده إلا الجمالُ والحسن
كالطاوس وهو من الطير المحمَّق وكذلك التُّدْرُجُ مع جماله وحُسنه وعجيب وَشْيه
والزرافةُ وهي أيضاً موصوفة بالمُوق وليس عندها إلا طَرَافة الصُّورة
وغرابة
النِّتاج وهي من الخَلْق العجيب مَواضِعِ الأعضاء ويتنازعها أشباهٌ كثيرة .
والفيل عجيب ظريف ولكنه قَبيحٌ مَسيخ وهو في ذلك بهيٌّ
نبيلٌ والعين لا تكرهه والخنزير قبيح مَسيخ والعين تكرهه والقرد قَبيحٌ مليح .
وعند البَبْغاء والمُكَّاء والعندليب وابن تَمْرة مع صغر
أجْرامها ولَطافة شُخوصها وضَعْف أسْرِها من المعرفة والكَيس والفِطنة والخُبث ما
ليسَ عند الزَّرافة والطاووس والببغاء عجيب
ما قيل في حمق الأجناس المائية وفطنتها
فأما الأجناس المائية من أصناف السَّمك والأجناس التي تُعايش السَّمك فإنَّ جماعتَها موصوفَةٌ بالجَهل والمُوق وقِلَّة المعرفة وليس فيها خُلُقٌ مذكور ولا خَصْلة من خِصال الفِطَن إلا كنحو ما يروى من صَيد الجرِّيِّ
للجِرْذَان
وحَمْل تلك الدابة للغَرْقى حتى تؤدِّيَهم إلى الساحل .
شدة بدن السمكة والحية والسمكة شديدة البدن وكذلك الحيّة
وكلُّ شيء لا يستعينُ بيدٍ ولا رجلٍ ولا جَناحٍ وإنما يستعمل أجزاءَ بدنه معاً
فإنه يكونُ شديد البدن .
حيلة الشبوط في التخلص من الشبكة
وخبَّرني بعضُ الصيّادين أنَّ الشبوطة تنتهي في النهر إلى الشَّبكة فلا تستطيع النفوذ منها فتعلم أنها لا يُنجيها إلا الوثوب فتتأخّر قدرَ قابِ رُمح ثم تتأخَّر جامعةً لجراميزها حتَّى تثِب فربّما كان ارتفاعُ وثْبتِها في الهواء أكثرَ من عَشْرِ أذرُع وإنما اعتمدَتْ على ما وصفنا وهذا العملُ أكثرُ ما روَوْه من معرفتها وليس لها في المعرفة نصيبٌ مذكور .
ما يغوص من السمك في الطين
وأنواعٌ
من السمك يغوص في الطِّين وذلك أنها تَنْخَر وتتنفَّس في جوفه وتلزم أصول النبات
إذا لم يرتفع وتلتمس الطُّعم والسِّفاد .
ونحن لم نر قَطُّ في بطن دِجلةَ والفراتِ وجميع الأودية
والأنهار عند نضوب الماء وانكشاف الأرض وظهور وجه الطين وعند الجزْر والنُّقصان في
الماء في مَوَاخِر الصَّيْف وأيَّامِ مجاورة الأهلّة والأنْصاف جُحْراً قَطُّ
فضلاً على ما يقولُون أنّ لها في بُطونِ الأنهار بيوتاً . ( جِحَرة الوحش ) ورأيْتُ عجَباً آخرَ وهو أنّي في طولِ
ما دخلت البَراريَّ ودخلت البُلدان في صحارى جزيرة العرب والرُّوم والشّام
والجزيرة وغير ذلك ما أعلمُ أني رأيتُ على لَقَمِ طريقٍ أو جادةٍ أو شَرَكٍ
مُصَاقِبٍ ذلك
أو إذا
جانبتُ الطُّرُق وأمعنْتُ في البَراري وضربت إلى الموْضِع الوحشي جُحراً واحداً
يجوز أن يدخله ضبع أو تيس ظباء أو بعض هذه الأجناس الوحشيّة وما أكثر ما أرَى
الجِحَرةَ ولكني لم أرَ شَى ئاً يتسعُ للثّعلب وابنِ آوى فضلاً على هذه الوحوش
الكِبار مما هو مذكور بالتَّوْلَج والوِجار وبالكِناس والعَرين .
وجُحْر الضبّ يسمَّى عريناً وهو غير العَرين الذي يضاف
إلى الشَّجَر .
وأمَّا حفظ الحياةِ والبصَر بالكَسْبِ والاحتراسُ مِن
العدوّ والاستعداء بالِحِيَل فكما أعَدَّ الضبُّ واليَربوع .
أوقات اختفاء الفهد والأيل
والفهد إذا سِمنَ عَرَف أنه مطلوب وأنّ حركته قد ثقلت فهو يُخفي نفسَه بجهده حتى ينقضِيَ ذلك الزمان الذي تسمن فيه الفهود ويعلم أنّ رائحة بدنه شهيَّةٌ إلى الأسد والنَّمِر وهو ألطفُ شمّاً لأراييح السباع
القويَّة
من شمّ السباع للرائحة الشهيّة فهي لا تكاد تكون إلاّ على عُلاوةِ الريح .
والأيِّلُ ينصُل قَرْنَه في كلّ عام فيصير كالأَجمِّ
فإذا كان ذلك الزمانُ استخفَى وهربَ وَكَمن فإذا نبت قرنُه عرَّضَهُ للرِّيح
والشَّمْسِ في الموضع الممتنعِ ولا يظهرُ حتى يَصْلُب قرنه ويَصيرَ سلاحاً يمتنع
به وقرنُه مُصمَتٌ وليس في جوفه تجويفٌ ولا هو مصمتُ الأعْلَى أجوف الأسفل .
معرفة الإبل بما يضرها وما ينفعها
والبعير يدخل الرَّوضة و الغيَضة وفي النبات ما هو غذاءٌ ومنه ما هو سمٌّ عليه خاصة ومنه ما يخرج من الحاليْن جميعاً ومن الغِذاء ما يريده في حالٍ ولا يريده في حالٍ أخرى كالحَمْضِ وَ الخَلَّة ومنه ما يغتذيه غيرُ جِنسِه فهو لا يقرَبُه وإن كان ليس بقاتل ولا مُعْطِب فمن تلك الأجناس ما يَعرفه برؤية العين دون الشمّ ومنها ما لا يَعرفه حتّى يَشمَّه وقد تغلِطُ في البِيش فتأكلُه كصُنْع الحافرِ في الدِّفْلَى .
معرفة الإبل بالزجر والناقة تعرفُ قولَهم : حَل والجمل
يعرف قولهم : جاه قال الراجز وهو يحمِّق رجلاً هَجاه : ( يقولُ للناقة قَوْلاً
للجمَلْ ** يقُولُ جَاهِ يَثْنِيهِ بِحَلْ )
قدرة الحيوان على رفع اللبن وإرساله
وممَّا
فضلت به السِّباعُ على بني آدمَ أنّ اللّه جعَلَ في طِباع إناث السباع والبهائم من
الوحشيّة والأهلية رَفْعَ اللَّبن وإرسالَه عند حضور الولد والمرأة لا تقدر أن
تدرّ على ولدها وترفَعَ لبنها في صدرها إذا كان ذلك المُقَرَّبُ منها غيرُ ولدِها .
والذي أعطى اللّه البهائم من ذلك مثل ما تعرف به المعنى
وتتوهَّمه .
اعلم أَنّ اللّه تعالى قد أقدر الإنسانَ على أن يحبس
بولَه وغائطه إلى مقدارٍ وأن يخرجهما ما لم تكن هناك عِلَّةٌ من حُصْرٍ وأُسْر
وإنما يخرج منه بولُه ورَجِيعه بالإرادة والتوجيه والتهيؤ لذلك وقد جعل اللّه
حبْسَه
وإخراجَه
وتأخيرَه وتقديمَه على ما فسَّرْنا فعلى هذا الطريق طوْقُ إناثِ السِّباع والبهائم
في رفْع اللّبَن .
حشر الحيوان في اليوم الآخر وقد قال اللّه جل ثناؤه :
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ
أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ ثُمَّ إلَى
رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فالكلمة في الحشر مطلقة عامّة ومرسلةٌ غيرُ مستثنًى منها
فأوجب في عموم الخبَرِ على الطَّير الحَشْرَ والطير أكثر الخلق والحديث : إنَّ
أكثرَ الخلْقِ الجراد .
ما يطرأ عليه الطيران
ومن
العقارب طيَّارة قاتلة وزعم صاحب المنطق أنَّ بالحبشَة حياتٍ لها أجنحةٌ .
وأشياءُ كثيرةٌ تطيرُ بعد أن لم تكن طيَّارة مثل
الدعاميص والنَّمْلِ والأرَضةِ والجعلانِ .
والجرادُ تنتقل في حالاتٍ قبلَ نبات الأجنحة .
جعفر الطيار قالوا : وحين عظَّم اللّه شأن جعفر بن أبي
طالب خلق له جناحين
يطير بهما
في الجنّة كأنه تعالى ألحَقَه بشبه الملائكة في بعض الوُجوه .
ما يطير ولا يسمى طيراً وذكر اللّه الملائكةَ فقال :
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ . ولا يقال للملائكة طير ولا يقال
إنها من الطّير رفعاً لأقدارها
.
ولا يقال للنمل والدعاميص والجِعلان والأرَضةِ إذا طارت
: من الطَّير كذلك لا يقال للجِرجِس والبَعُوضِ وأجناس الهمَج إنها من الطير وضعاً
لأقدارها عن أقدار ما يسمَّى طَيْراً فالملائكةُ تطير ولا يسمُّونها طيْراً لرفْع
أقدارِها عن الطير والهمج يطير ولا يسمّى طيْراً لوضع أقدارها عن الطَّير .
ملائكة العرش وفي الرواية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم
أُنْشِدَ قولَ أميّةَ بن أبي الصَّلْت : ( رَجُلٌ وثورٌ تَحتَ رِجْلِ يَمينِه **
والنَّسرُ للأُخرَى وليثٌ مُرْصِدُ ) فقال : صدَق وقوله نسر يعني في صورة نسر
لأنَّ الملَك لا يقال له نَسْرٌ ولا صقْرٌ ولا عُقابٌ ولا بازٍ .
ما جاء
فيه الأثر من الطير
وذكروا غرابَ نوح وحمامة نوح وهدهد سليمان والنحل
والدرّاج وما جاء من الأثر في ذلك الديكِ الذي يكون في السماء .
وقال الناس : غراب نوح وهدهد سليمان وحمامة نوح ورووا في
الخطاف والصُّرَد .
أشرف الخيل والطير ولا نعرف شيئاً من الحيوان أشْرَفَ
اسماً من الخَيل والطَّير لأنّهم يقولون : فرس جواد وفرس كريم وفرسٌ وسيم وفرس
عَتيق وفرس رائع .
وقالوا في الطير لذوات المخالب المعقَّفة والمناسر
المحدَّبة : أحرار ومَضْرحِيَّات وعِتاق وكواسب وجوارح وقال لبيدُ بنُ ربيعة : ( فانتضَلْنَا
وابنُ سَلْمَى قاعدٌ ** كَعتيقِ الطَّير يُغْضِي ويُجَلّ )
وقال
الشّاعر : ( حُرٌّ صَنَعْنَاهُ لتُحْسِنَ كفُّهُ ** عَمَلَ الرفِيقة واستلابَ
الأخْرقِ ) ولولا أنا قد ذكرنا شأن الهدهُد والغراب والنمل وما ذكرها به القرآن
والخصالَ التي فيها من المعارف ومِنَ القَوْلِ والعمَل لذكرناه في هذا الموضع .
ما جاء في ذكر الطير قال اللّه جلّ ثناؤه : وَرَسُولاً إلَى
بَنِي إسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً
بِإذْنِ اللّهِ وقال اللّه : وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ
بِإذْنِي فَتَنْفخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَائراً بِإذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ
والأَبْرَصَ بِإذْنِي وَإذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإذْنِي وقال : وَإنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلاَ إنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ
اللّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُم لا يَعْلَمُونَ وقال اللّه : أَمَّا أَحَدُكُمَا
فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ
رَأْسِهِ وقال : أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصَْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ
يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تَضْلِيلٍ
وَأَرْسَلَ
عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارةٍ مِن سِجِّيل وقال اللّه :
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داوُد وَقَالَ يَا أَيُّها النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ .
ولم يذكر منطق البهائم والسباع والهمج والحشرات .
وقال اللّه : فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانوا يَنْطِقُونَ
لأنك حيثما تجد المنطقَ تجد الرُّوح والعَقل والاستطاعة .
وقالوا : الإنسان هو الحيُّ الناطقُ وقال اللّه :
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقَالُوا هذا إلهُكمْ وَإله مُوسى
وقال : أفَلاَ يَرَوْنَ أَنْ لاَ يَرْجِعُ إلَيْهمْ قَوْلاً ثم قال : وَحُشِرَ
لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَ الإنْسِ وَالطَّيْرِ ولم يذكر شيئاً من
جميع الخلق وقد كان اللّه سخّر له جميعَ ذلك ثم ولم يتفقد شيئاً ممَّا سخّر له ولا
دلَّ سليمانَ على مَلِكة سبأ إلاّ طائِرٌ .
وقال اللّه : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّمَا
خَرَّ مِن السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ وقال اللّه : وَإنْ منْ شَيْءٍ إلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَ تَفْقهُون تَسْبِيحَهُمْ فلما ذكر داود قال : وَسَخَّرْنَا
مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وقال اللّه : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهم
أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال : وَقَالُوا
لِجُلودِهِمْ لِمَ شَهِدْتمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي
أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ .
وقالوا : مَنطِق الطير على التشبيه بمنطق الناس ثم قالوا
بعدُ : الصَّامت والناطق ثم قالوا بعد للدار : تنطق .
وقال اللّه : يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ
بِالسَّيِّئةٍ قَبْلَ الحسَنَةِ لَوْلاَ
تَسْتَغْفِرُونَ
اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ
طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ .
وقال اللّهُ : وَإذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهمْ
أَخْرَجْنَا لَهُمْ دابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا
بِآيَاتِنَا لاَ ) يُوقِنُونَ .
وكان عبدُ اللّه بن عبّاسٍ يقول : ليس يعني بقوله :
تُكلِّمُهُمْ من الكلام وإنما هو من الكَلْم والجِراح وجمع الكَلْم كُلوم ولم يكن
يجعلُه من المنطق بل يجعله من الخُطوط والوسم كالكتاب والعلامة اللذين يقومان مقام
الكلام والمنطق .
وقال الآخرون : لا نَدعُ ظاهرَ اللفظ والعادةَ الدالّة
في ظاهر الكلام إلى المجازات قالوا : فقد ذكر اللّه الدابّة بالمنطق كما ذكروا في
الحديث كلام الذئب لأهبان بن أوس وقولُ الهدهد مسطورٌ في الكتاب بأطول الأقاصيص
وكذلك شأن الغراب .
وقال اللّه : وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ
عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وجعل اللّه
مقالة النملة قرآناً وقال : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طائِرٍ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ
مِنْ شَيْءٍ وقال في مكان آخر : وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وقال :
وَالطَّيْرَ مَحْشورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وذكر الملائكة فقال : أُولِي
أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ .
وأنشدوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قول أميّة بن أبي
الصَّلت : ( رَجُلٌ وَثَوْرٌ تحتَ رِجْلِ يَمِينِهِ ** والنَّسْرُ لِلأُخْرَى
وَلَيْثٌ مَرْصَدُ ) فقال : صدق
.
وخلق اللّه لجعفرٍ جناحَين في الجنّة عوضاً من يديه
المقطوعتين في سبيل اللّه قالوا : ولو كانت في الأرض يدٌ تفضل الجناحَ لجعلها
اللّه بدل الجناح وسمّاه المسلمون الطيّار .
ويقال
: ما هو إلا طائر إذا أرادوا مديح الإنسان في السُّرعة
وقال الفرزدق : ( جاؤوا مع الرِّيح أو طارُوا بأجنحةٍ ** وخَلَّفوا في جُؤاثَا
سيِّدَيْ مُضَرَا ) والأمم كلُّها تضرب المثلَ بعَنقاءِ مُغْرِبٍ وقد جاء في نسر
لقمان ما قد جاءَ من الآثار والأخبار وقال الخزرجي : ( إنّ مُعاذ بنَ مُسلمٍ
رَجُلٌ ** قد ضجَّ مِن طُول عُمره الأبَدُ ) ( قد شابَ رأسُ الزَّمانِ وَاخْتَضَبْ
ال ** دَّهْرُ وأثوابُ عمْرِه جُدُدُ ) ( يا نَسْرَ لقمانَ كمْ تَعيشُ وكم **
تسحَبُ ذَيلَ الحياةِ يا لُبَدُ ) ( قد أصبحتْ دارٌ آدمٍ خَرِبَتْ ** وأنتَ فيها
كأنّكَ الوتِدُ ) ( تسألُ غِرْبانَها إذا حجَلَتْ ** كيفَ يكونُ الصُّدَاعُ و
الرّمدُ )
وقال النابغة : ( أضَحَتْ خَلاءً وأضْحَى أهلُها
احْتَمَلوا ** أخنَى عليها الذي أخنى علَى لُبَدِ )
وقال
اللّه : وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً لأن ذلك الصنم كان عَلَى صورة النَّسر .
وقالوا : أحرار فارسَ وأحرار الرَّياحين وأحرار البقول
وأحرار الطير وهي الأحرار والعتاق والكواسبُ والجوارح والمضرحِيّات .
وقال اللّه : وَإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلكِنْ
لِيَطْمَئنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْر فَصُرْهُنَّ إلَيْكَ
ثمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثمَّ ادْعُهُنَّ أسماء ما في
النجوم والبروج والفَرَسِ والنّاس وغير ذلك من أسماء الطير مما يُعدّ في الفَرَسِ
من أسماء الطير : الفَرَاش : وهو المنخر والذُّباب : وهو ذُباب العَين والصُّلْصُل
: وهو الدائرة في الجبهة والعصفور : وهو الجلدة تحت الناصية والحِدَأة : وهو أصل
الأذن والهامة : وهو الجلدة التي فيها الدماغ والفرْخ : موضع الفَهقَة
والنَّاهضَان : في المنكبين والصُّرَد : عرق تحت اللسان والسَّمامة : الدائرة في
عرض العنق والقَطاة : موضع الرِّدف والغرابان :
العظمان
الناتئان بين الوركين ويقال الغُراب طرف الوَرِك والساق : ساق الفرس وهو ذكر
الحمام والخُطَّاف : موضع الرِّكاب من جنبه والرَّخَمة : البَْضعة الناتئة في ظهر
الفخذ والأصقع : الأبيض الناصية .
وقال اللّه : وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فََضْلاً
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ .
وفي السماء النَّسر الطائر والنّسر الواقع .
وفي الأوثان القديمة وَثنٌ كان يسمَّى نَسرا ويزعمون أنه
كان على صورة نسر وقال اللّه : وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلاَ يغُوثَ
وَيَعُوق وَنَسْراً وَقدْ أَضَلُّوا كِثيراً وقال : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ
ذَا الأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ إنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
بِالْعَشِيِّ وَالإشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لهُ أَوَّابٌ .
وفي أسماء الناس : غُراب وصُرَد وفي أسماء النساء :
فاختة وحمامة وفي أسماء الناس : يَمام ويمامة وسَمَامة وشاهين وفي أسماء النِّساء : عقاب وقطاة وقُطَيَّة
ودَجَاجة يكون للرِّجال والنساء ويسمُّون بعصفور ونقّاز وحَجَل ويسمُّون الرجال
بِقُطَامِيّ مثل أبي الشرقِيّ بن القُطامي الشاعر وإذا كانت امرأةً قالوا قَطامِ
مثل حَذَام وقال امرؤ القيس بن حجر
: )
( وأنا الذي عرَفَتْ مَعدٌّ فضْلُه ** ونشدت حُجراً ابنَ أُمِّ قَطَامِ ) ويسمون بمضرحِيٍّ وكبار الطير هي المضرحِيّة وأكثر ما يستعمل ذلك في عِتاق الطير وأحرارها ويسمون بحُرّ وليس الحر من الطير إلاّ العقيق وقال الشاعر : ( حرّ صَنعناه لتُحْسِنَ كَفُّهُ ** عَمَلَ الرَّفِيقَةِ وَاسْتِلاَبَ الأخْرَقِ ) ويسمُّون صَعْوة وسُمَانَى وسَمامَة ويسمُّون بجَناح ويلقّبون بمنقار ويسمون بفرخ وفُرَيخ وصقر وصُقير وأبي الصَّقر وطاوُس وطويس وفي الألقاب يُؤْيُؤ وَزُرَّق وفي الأسماء حَيْقُطان وهو الدُّرَّاج الذَّكر ويسمُّون بِحَذَف وَحُذَيفة وأبي حذيفة وفي الألقاب أبو الكراكيّ وفي الصفات الغرانيق والغُرنوق .
نطق الطير وقال أميَّة أبي الصَّلْت : ( والوحشُ
والأنعامُ كيفَ لُغاتُها ** والعلمُ يُقْسَمُ بينهمْ ويُبَدّدُ ) وقال اللّه عزّ
وجلّ مخبراً عن سليمان أنّه قال : يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ وقال الشاعر : ( يا لَيلةً لي بُحوَّارِينَ ساهرَةً ** حتَّى تَكَلَّمَ في
الصُّبح العَصَافيرُ ) وقال الشاعر : ( وَغَنَّتِ الطَّيرُ بعدَ عُجْمَتها ** واستوفَت
الخمرُ حَوْلَها كَمَلاَ ) وقال الكميت : ( كالناطقات الصادقا ** ت الواسِقاتِ من
الذَّخائِر ) تدبير الحيوان قال : ولكلِّ جنسٍ من أجناس الحيوان احترافٌ وتكسُّب
وَرَوَغانٌ من الباغي عليه واحتيالٌ لما أراد صيده فهو يحتالُ لما هو
دونه ويحتال في الامتناع مما فوقه ويختار الأماكنَ الحصينةَ ما احتملته والاستبدالَ بها إذا أنكَرَها .
( سقط : بيت الشعر ) ( بنى
بيته منها على رأس كدبة ** وكل امرىء في حرفة العيش ذو عقل )
منطق الطير ولها منطقٌ تتفاهم بها حاجاتِ بعضها إلى بعض
ولا حاجة بها إلى أن يكونَ لها في منطقها فضْلٌ لا تحتاج إلى استعماله وكذلك
معانيها في مقادير حاجاتها .
وقيل لرجل من الحكماء : متَى عقَلتَ قال : ساعَةَ
وُلِدْتُ فلما رأَى إنكارَهم لكلامه قال : أمّا أنا فقد بكيت حِينَ خِفْت وطلبت
الأكل حين جُعْتُ وطلبت الثَّدَى حين احتَجْت وسكتُّ حين أُعطيت يقول هذه مقاديرُ
حاجاتي ومن عَرَف مقادير حاجاته إذا مُنِعَها وإذا أُعْطِيَها فلا حاجة به في ذلك
الوقت إلى أكثرَ من ذلك العقل ولذلك قال الأعرابيّ : ( سَقَى اللّهُ أرضاً يعلم الضّبُّ
أنّها ** بَعِيدٌ من الآفات طيبةُ البَقْلِ ) ( بني بيتَه منها عَلَى رأس كُدْيةٍ
** وكلُّ امرئٍ في حِرْفة العَيش ذُو عَقْلِ ) منطق الطير وعقله فإن قال قائل :
ليس هذا بمنطق قيل له : أما القرآن فقد نطَق بأنّه منطِقٌ والأشعارُ قد جعلته مَنطِقاً
وكذلك كلامُ العرب فإن كنتَ إنما أخرجتَه من حدِّ البيان وزعمت أنّه ليس بمنطقٍ
لأنك لم تَفهم عنه فأنتَ أيضاً لا تفهم كلامَ عامَّةِ الأمم وأنتَ إن سمَّيْتَ
كلامَهم رَطانةً وطَمْطمةً فإنّك لا تمتَنِعُ من أن تزعم أنّ ذلك كلامُهم ومنطقُهم
وعامّة الأمم أيضاً لا يفهمون كلامَك ومنطِقَك فجائزٌ لهم أن يُخْرِجوا كلامَك من
البيان والمنطِق وهل صار ذلك الكلامُ منهم بياناً ومنطقاً إلاّ لتفاهمهم حاجةَ
بعضهم إلى بعض ولأنّ ذلك كان صوتاً مؤلّفاً خرج من لسانٍ وفمٍ فهلاَّ كانت أصواتُ
أجناس الطير والوحش والبهائم بياناً ومنطقاً إذْ قد علمتَ أنّها مقطعة مصوّرة
ومؤلّفة منظمة وبها تفاهموا الحاجات وخرجت من فمٍ ولسان فإن كنتَ لا تفهم من ذلك
إلاّ البعض فكذلك تلك الأجناس لا تفهَمُ من كلامك إلاّ البعض .
وتلك الأقدارُ من الأصوات المؤلّفة هي نهايةُ حاجاتِها
والبيان عنها وكذلك أصواتك المؤلَّفةُ هي نهايةُ حاجاتك وبيانِك عنها وعلى أنّك قد
تعلِّم الطَّيرَ
الأصوات
فتتعلّم وكذلك يُعلَّم الإنسانُ الكلامَ فيتكلَّم كتعليم الصبيِّ والأعجميّ
والفرقُ بين الإنسان والطير أنّ ذلك المعنى معنًى يسمَّى منطقاً وكلاماً على
التشبيه بالنَّاس وعلى السبب الذي يجري والنَّاسُ ذلك لهمْ على كلّ حال .
وكذلك قال الشاعر الذي وصفَها بالعقل وإنما قال ذلك على
التَّشْبيه فليس للشاعر إطلاق )
هذا الكلام لها وليس لك أن تمنعها ذلك من كلِّ جهةٍ وفي
كلّ حال فافهم فهَّمك اللّه فإنَّ اللّه قد أمرك بالتفكّر والاعتبار وبالتعرُّف
والاتِّعاظ .
وقد قال اللّه عزَّ وجلَّ مخبِراً عن سليمان : يَا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فجعل ذلك منطقاً وخصَّ اللّه
سليمانَ بأنْ فَهَّمه معانيَ ذلك المنطق وأقامه فيه مقامَ الطّير وكذلك لو قال
عُلِّمنا منطقَ البهائم والسِّباع لكان ذلك آيةً وعلامة .
وقد علّم اللّهُ إسماعيلَ منطِق العرَب بعد أن كان ابنَ
أربعَ عشرة سنة فلما كان ذلك على غير وقال ابنُ عبّاس وذكر عمرَ بن الخطاب فقال :
كان كالطائر الحذِر فشبّه عزْمَ عمرَ وتخوّفَه من الخطأ وحذَره من الخُدع بالطائر .
ما قيل في تجاوب الأصداء والديكة وقال ابن مقبل : ( فلا أقومُ
عَلَى المَوْلَى فأشتُمه ** ولا يخرّقه نابي ولا ظفُرِي ) ( ولا تَهيَّبُني
المَوْماةُ أركبُها ** إذا تجاوبت الأصداءُ بالسَّحَرِ ) فجعلها تتجاوب وقال
الطرِمّاح بنُ حكيم وذكر تجاوب الدِّيَكة كما ذكر ابنُ مقبلٍ تجاوبَ الأصْدَاء
فقال : ( فيا صُبْحُ كَمِّشْ غُبَّرَ اللّيْلِ مُصْعِداً ** بِبَمٍّ ونبِّهْ ذا العِفاء الموشَّحِ
) ( إذا صاح لم يُخْذَلْ وجاوَبَ صوتَهُ ** حِماشُ الشَّوَى يصدَحْنَ مِنْ كلِّ
مَصْدَحِ ) ما قيل في ضبحة الثعلب وقبعة القنفذ والقرنبى وحدَّثَ أبو عبيدةَ عن
أبي عمرو بن العلاء قال : خطب ابن الزبير خطبة فاعترض له رجلٌ فآذاه بكلمة ثم طأطأ
الرَّجلُ رأسَه فقال ابنُ الزُّبير : أين المتكلم فلم يجبْه فقال : قاتله اللّه
ضبح ضَبْحَةَ الثَّعلب وقبَعَ قِبْعةَ القُنفذ وقال ابن مقبل :
( ما جاء في الشعر من إحساس الطّير . . )
وغير ذلك من الحيوان
قال أبو
عبيدة : تسلَح الحُبارَى على الصّقر وذلك من أحدِّ سِلاحها وهي تعلم أنّها تدبّق
جناحَيه وتكتِفُه حتى تجتمع عليه الحُبارَيات فينتفن ريشه طاقةً طاقة فيموت
الصَّقْر .
والحُبَارَى إذا تحسَّرت فأبطأ نبْت ريشِها وهي لا تنْهض
بالشَّكير فربَّما طار صُويحباتها إذا
)
تقدَّمَ نبْتُ ريشها قيل نبْت ريش تلك الحُبارى فعند ذلك
تكْمَد حزناً حتى تموت كمداً ولذلك قال أبو الأسود الدّؤليّ : ( وزيدٌ ميّت كَمَدَ
الحُبَارى ** إذا ظعنَتْ مَليحة أو تُلِمُّ ) وليس في الطَّيْر أسرعُ طيراناً منها
لأنها تَصَادُ عِندنا بظهر البصرة فيوجَد في حواصلها حبَّة الخضراء غضّةً طريَّة
وبينها وبين مواضع ذلك الحبِّ بلادٌ وبلاد ولذلك قال بشر بن مروان في قتل عبد
الملك عَمرو بنَ سعيدٍ : ( كأنّ بني مروانَ إذ يقتلونه ** بُغاثٌ من الطَّيْرِ
اجتمَعْنَ عَلى صَقْر ) وبُغَاث الطّيْر ضعاف الطير وسَفِلَتها من العِظام الأبدان
والخشاش مثلُ
ذلك إلا أنها من صغار ( سألتُ النّاسَ عن أنسٍ فقالو ** بأندَلُسٍ وأندَلسٌ بعيدُ ) ( كأنّي بعد سكن مَضرِحيٌّ ** أصابَ جَناحَه عنَتٌ شديدُ ) ( فقد طمِعت عِتاقُ الطّيرِ فيه ** وكانت عن عَقِيرَتِه تحيدُ ) وقال الذَّكوانيّ : ( بِفَاثُ الطّير تعرِف قانِصِيهَا ** وكلَّ مكبَّدٍ منها لَهِيدِ ) يقول : لكلِّ جنس من الجوارح ضربٌ من الصيد وضربٌ من الطلب فالمصِيد منها يعرف ذكر فيجعل المهرب من الآخر ثم ذلك أنها تعرف الصائد المعتلّ من الصحيح وهو معنى الخرَيمي حيث يقول : ( ويعلم ما يأتي وإنْ كان طائراً ** ويعلم أقدارَ الجوارحِ والبُغْثِ ) وقوله البُغْث يريد به جمع أبغث وقال الأوَّل : ( بُغاث الطَّيْرِ أكثرها فروخاً ** وأمُّ البازِ مِقْلاتٌ نَزُورُ ) وأنشدني ابن يسير :
( بالجَدّ طوراً ثم بالجِدّ
تارةٌ ** كذاك جميعُ الناس في الجَدِّ والطَّلَبْ ) والجَدُّ مفتوح الجيم يقول :
الطير كالناس فمرَّة تصيد بالحظّ وبما يتفق لها ومرَّةً بالحيلة والطَّلب
وبجَدِّهِ يتقلّبُ العصفور قال : وقال زاهر لصبيانه : يرزقكم الذي يرزُق عصافير
الدوّ وقال صالح المُرّيّ : تغدو الطّيرُ خِماصاً وتَرُُوحُ شِباعاً واثقة بأنّ
لها في كلِّ غدْوةِ رزقاً لا يفوتُها والذي نَفْسي بيده أنْ لو )
غدوتُم على أسواقكم على مثل إخلاصها لرُحْتم وبطونُكم
أبطنُ من بطون الحوامل .
وقال أعشى هَمْدان : ( قالت تعاتبني عِرْسي وتسألُني **
أين الدَّراهم عَنّا والدَّنانيرُ ) ( فقلتُ أنفقْتُها واللّهُ يُخْلِفُهَا **
والدَّهر ذو مرَّةٍ عسرٌ وميسورُ ) ( إنْ يرزقِ اللّهُ أعدائي فقد رُزِقَتْ ** من
قبلهم في مَراعيها الخنازيرُ ) ( قالت : فرزقُك رزقٌ غيرُ متَّسعٍ ** وما لَدَيْكَ
من الخبرات قِطميرُ ) ( وقد رضيتَ بأن تحيا على رَمَقٍ ** يوماً فيوماً كما تحيا
العصافير )
وإنما
خصَّ العصافير بقلَّة الرِّزق لأنها لا تتباعد في طلب الطعم وإلا فإنّ السِّباعَ
ووحشَ الطَّير كلّها تغدو خِماصاً وتروح بطاناً .
وقال لبيد : ( فإنْ تسألينا فيم نحنُ فإنّنا ** عصافيرُ
من هذا الأنامِ المُسحَّرِ ) ( عصافيرٌ وذِبَّانٌ ودودٌ ** وأجرأُ من مجلِّحة الذئابِ ) ولولا
أنّ تفسير هذا قد مرَّ في باب القول في العصافير في كتاب الحيوان لقلنا في ذلك .
اختلاف طبائع الحيوان وما يعتريها من الأخلاق
الذئب لا يطمع فيه صاحبُه فإذا دَمِيَ وثب عليه صاحبُه فأكلَه وإذا عضَّ الذِّئْبُ شاةً فأفلتتْ منه بضربٍ من الضروب فإنَّ عادة الغنم إذا وجدَتْ ريحَ الدَّمِ أن تشمَّ موضع أنياب الذئب وليس عندها عند ذلك إلاّ أن ينضمَّ بعضها إلى بعض ولذلك قال جريرٌ لعُمر بن لجأ التَّيميّ : ( فلا يضغمَنَّ اللَّيْثُ تَيماً بِغِرَّةٍ ** وتَيمٌ يَشمُّونَ الفَرِيسَ المَنَيَّبَا )
فذكر
أنّهم كالغنم في العجز والجُبن وإذا دَمِيَ الحمارُ ألقى نفسَه إلى الأرض وامتنع
ممن يريده بالعضّ وبكلِّ ما قدر عليه غير أنه لا ينهض ولا يبرحُ مكانَه وإذا أصاب
الأسدَ خَدْش أو شَحْطَة بعد أن يَدْمَى مكانَه فإنَّ ذبَّان الأسد تلحُّ عليه ولا
تُقْلع عنه أبداً حتى تقتله .
وللأُسود ذِبَّانٌ على حدة وكذلك الكلاب وكذلك الحمير
وكذلك الإبل وكذلك الناس .
وإذا دَمِيَ الإنسانُ وشمَّ الذئبُ منه ريحَ الدَّم فما
أَقَلَّ من يَنْجُو منه وإن كان أشدّ الناس بدَناً وإذا دَمِيَ الببرُ استكلب
فخافه كلُّ شيء كان يسالمهُ مِن كبار السِّباع كالأسود والنُّمور والببر على خلاف
جميع ما حكينا .
وإذا أصاب الحية خدْشٌ فإِنَّ الذرَّ يطالبه أشدَّ الطلب
فلا يكاد ينجو ولا يعرف ذلك إلا في الفَرْط .
وإذا عضَّ الإنسانَ الكلبُ الكلِبُ فإنَّ الفأر يطالبه
ليبولَ عليه وفيه هَلَكَتُهُ فهو يحتال له بكلِّ حيلة .
وربما أغَدَّ البعير فلا يعرف ذلك الجمَّالُ حتى يرى
الذّبّانَ يطالبه .
وإذا وضعت الذِّئبةُ جَرْوَها فإنه يكون حينئذ ملتزقَ
الأعضاء أمْعَطَ كأَنه قطعة لحم وتعلم الذِّئبة أنّ الذرَّ يطالبه فلا تزال رافعة
له بيديها ومحوِّلةً له من مكانٍ إلى مكان حتى تفرج الأعضاء ويشتدّ اللحم .
وإذا وضعت الهرَّة جروَها فإنْ طرَحُوا لها لحماً من
ساعتها أو رُوبة
أو بعض ما
يشبه ذلك فأكلته لم تكد تأكل أجراءها لأنّ الهرة يعتريها عند ذلك جُوعٌ وجُنون
وخفَّة .
والأجناس التي تحدث لها قوَّةٌ على غير سبب يعرف في
تقدير الرأي منها الذِّئبُ الضعيف الواثبُ على الذِّئب القويّ إذا رأى عليه دماً
والهِرَّةُ إذا سفِدها الهرُّ فإنها عند ذلك تشدُّ عليه )
وهي واثقةٌ باستخذائه لها وفضْل قوَّتها عليه والجُرذ
إذا خصِي فإنّه يأكل الجرذان أكلاً ذريعاً ولا يقوم له شيءٌ منها .
فأمَّا الفيل والكركدَّنَ والجمل عند الاغتلام وطلَب
الضِّراب فإنها وإن تركت الشُّرْبَ والأكلَ الأيّامَ الكثيرة فإنّه لا يقوم لشيءٍ
منها شيء من ذلك الجنس وإن كان قويّاً شاباً آكلاً شارباً .
وأمَّا الغيرانُ والغَضبان والسَّكران والمُعاين للحرب
فهم يختلفون في ذلك على عللٍ قد ذكَرْناها في القول في فضيلة المَلَك على الإنسان
والإنسان على الجانّ فإنْ أردتَه فالتمسْهُ هناك فإنَّ إعادة الأحاديث الطوال
والكلامَ الكثيرَ مما يُهجر في السَّماع ويهجِّن الكتب . ( ما يستدل به في شأن الحيوان على حسن
صنع اللّه ) وإحكام تدبيره وأن الأمور موزونة مقدرة قالوا : الأشياء البيَّاضة طائر
ومشترك وذو أربع ومُنْساح فمنها ما يبيض في صُدوع الصَّخر وأعالي الهِضاب ومنها ما
يعيش في الجِحَرة كسائر الحيات
.
وأما الدَّسَّاس منها فإنَّها تلد ولا تبيض وهي لا
تُرضِع ولا تُلقِم والخفَّاش تَلد ولا تبيض وترضع وهذا مختلف .
والدَّجاج والحجَل والقَطا وأشباه ذلك من الدّرَاريج
وغيرِها أفاحيصُها في الأرض .
والحمام منها طُورانّي جبَلِيّ ومنها أَلوفٌ أهليّ
فالجبليُّ تبيض في أوكارٍ لها في عُرْض مقاطع الجبال والأهليُّ منها يبيض في
البيوت والعصافير بيوتُها في أصول أجذاع السُّقُف والخطاطيف تتّخذ بيوتَها في باطن
السقف في أوثق ذلك وأمْنَعِه والرّخَم لا ترضَى من الجِبال إلا بالوحشيّ منها ومن
البعيد في أسحَقِها وأبعدها عن مواضع أعدائها ثم من الجبال إلاّ في رؤوس هضابها ثم
من الهضاب إلا في صدوع صخورها ولذلك يُضرب بامتناع بيِضها المثل .
وأما الرِّقّ والضِّفدِع والسُّلَحفاة والتمساح وهذه
الدوابّ المائية فإنها تبيض في الأرض وتحضن
ومن الحيوان ما لا يجثم كالضبَّة فإنها لا تجثِمُ على بيضها ولكن تغطّيها بالتراب وتنتظر أيّام انصداعها .
مواضع الفراخ والبيض
فإذا كان
مواضع الفِراخ والبيض من القطا وأشباه القطا فهو أفحوصة وإذا كان من الطير الذي
يهيئ ذلك المجثَِمَ من العِيدان والرِّيش والحشيش فهو عُشّ وإذا كان من الظّليم
فهو أُدْحِيّ ذكر ذلك أبو عبيدة والأصمعي وكلُّها وُكور ووكون ووُكنات ووَكَرات . ( أكثر الحيوان بيضاً
وأقله ) فالذي يبيض الكثيرَ من البيض الذي لا يجوزه شيءٌ في الكثرة السَّمَك ثم
الجراد ثم العقارب ثم الضَّبة لأن السَّمَكَ لا تزقُّ ولا تلقِم ولا تُلحِم ولا
تحضُن ولا تُرضع فحين كانت كذلك كثَّر اللّه تعالى ذَرْءَها وعددَ نسلِها فكان ذلك
على خلاف شأن الحمام الذي يُزاوِج أصنافَ الحمام ومثل العصافير والنَّعام فإنها لا
تزاوج .
فأما الحمام فلما جعله اللّه يزق ويحضن ويحتاج إلى ما
يغتذيه و يغذو به ولده ويحتاج إلى الزَّق وهو ضربٌ من القيء وفيه عليها وهْنٌ
وشدَّة
ولذلك لا يُزْجَل إذا كان زاقًّا فلما أن ولما كانت الدَّجاجة تحضن ولا تزُقّ وهي
تأكل الحبَّ وكلَّ ما دبّ ودَرَجَ زاد اللّه في بيضها وعدد فراريجها ولم يجعل ذلك
في عدد أولاد السَّمك والعقارب والضِّباب التي لا تحضُن البتةَ ولا تزُقّ ولا
تُلقِم .
ولما جعَلَ اللّه أولادَ الضبّ لها معاشاً زاد في عدد
بيضها وفراخها وصار ما يسلمُ كثيراً غير متجاوزٍ للقدر .
وكذلك الظَّليم لما كان لا يزق ولا يحضن اتسَع عليه
مطلبُ الرِّزق من الحبوب وأصول الشَّجر
.
وجعلها تبيض ثلاثينَ بيضةً وأكثر وقال ذو الرمة : ( أذاك
أم خاضبٌ بالسِّيِّ مَرْتَعُه ** أبو ثلاثين أمسى فهو منقلبُ ) وبيضها كبارٌ وليس
في طاقتها أن تَشتمل وتجثم إلاّ على القليل منها وكذلك الحيَّة تضع ثلاثين بيضةً
ولها ثلاثون ضِلعاً وبيضها وأضلاعها عدد أيام الشَّهر ولذلك قويَت أصلابها لكثرة
عدد الأضلاع وحمل عليها في الحضن بعض الحمل إذْ كانت لا ترضع .
أثر الإلقام والزق في الحيوان
والطائر الذي يُلقِم فرخه يكون أقوى من الطائر الزاقّ وكذلك من البهائم المرضِعة .
ولما كانت العصافير تصيد الجراد والنمل والأرَضَة إذا
طارت وتأكل الحبَّ واللَّحم وكانت مع هذا تُلقم لم تكثِّر من البيض كتكثير الدجاج
ولم تقلِّل كتقليل الحمام .
ما يزاوج من الحيوان
وللعصافير
فيها زِوَاجٌ وكذلك النّعام وليس في شيء من ذوات الأربع زِواج وإنما الزِّواج في
اللاتي تمِشي على رِجْلين كالإنسان والطَّير والنَّعام وليس هو في الطير بالعامّ
وهو في الحمام وأصناف الحمام من هذه المغنيات والنوائح عامٌّ وسبيل الحجل والقَبَج
سبيلُ الدِّيكة والدَّجاج .
والدَّجاجة تمكن كلَّ ديكِ والدِّيك يِثبُ على كلِّ
دجاجة وربمَّا غبر الحمام الذَّكَر حياتَه كلَّها لا يقمط غير أنثاه وكذلك الأنثى
لا تدعو إلا زوجها وربَّما أمكنت غيره وفي الحمام في هذا الباب من الاختلاف ما في
النساء والرجال .
فأما الشِّفْنين فإنّه لا يقمُط غيرَ أنثاه وإن هلكت
الأُنثى لم يزاوِجْ أبداً وكذلك الأنثى للذكر .
عجائب البيض
فأمَّا العلة في وضع القطا بيضَها أَفراداً وخروجِ البضة من جهة أوسع الرَّأسين واستدارِة بيض الرّقّ واستطالة بيض الحيات وما يكون
منها
أرقَطَ وأخضَر وأصفر وأبيض وأكدر وأسود
معارف في البيض قالوا : وإنما يعظُم البيض على قدر
جُثَّة البيَّاضة وبيضُ الأبكار أصغر فأمَّا كثرة العدد فقالوا إنه كلما كان أكثَر
سِفاداً كانَ أكثَرَ عدداً وليس الأمرُ كذلك لأنَّ العصفور أكثَرُ سِفاداً من
أجناسٍ كثيرةٍ هي أقلُّ بيضاً منه
.
والجرادُ والسَّمَك لا حضنَ ولا زَقَّ ولا رَضاعَ ولا
تَلقيم عليهن فحين جَعَل الفراخَ كثيرةَ العدد وكانت الأمَّهات والآباءُ عاجزة
عنها لم يَجْعلْها محتاجةً إلى الأمَّهاتِ والآباء .
فتفهَّمْ هذا التدبيرَ اللطيفَ والحكمةَ البالغة .
أقل الحيوان نسلاً وأكثره قالوا : والأقلّ في ذلك البازي
والأكثر في ذلك الذَّرّ والسَّمك
.
قال الشاعر : ( بغاثُ الطَّيْرِ أكثرها فُروخاً ** وأمُّ
البازِ مِقْلاَتٌ نَزُورُ )
وقال صاحب
المنطق : نسل الأُسد أقلُّ لأنه يَجْرح الرحم فيُعْقَم .
قالوا : والفِيَلة تضعُ في سبع سنين وأقلُّ الخْلق عدداً
وذَرْءًا الكركَدَّن لأنّ الأنثى تكون نَزُوراً وأيامُ حملها كثيرة جِدًّا وهي من
الحيوان الذي لا يلد إلاّ واحداً وكذلك عِظامُ الحيوان وهي مع ذلك تأكل أولادَها
ولا يكاد يسلم منها إلاَّ القليل لأنّ الولد يخرجُ سوِيًّا نابتَ الأسنانِ والقرنِ
شديد الحافر .
ما جاء في الفيلة
من عجيب
التركيب وغريب التأليف والمعارف الصحيحة والأحاسيس اللطيفة وفي قبولها التثقيف
والتأديب وسرعتها إلى التلقين والتقويم وما في أبدانها من أعضاء الكريمة والأجزاء
الشريفة . ( بسم
اللّه الرحمن الرحيم ) والحمد للّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه وصلى اللّه على سيدنا
محمد خاصَّة وعلى أنبيائه عامّة ونسأله التأييدَ والعصمة ونعوذ به من كلِّ سبب
جانَبَ الطَّاعة ودعا إلى المعصية إنه قريبٌ مجيب فعَّالٌ لما يريد .
قد قلنا في أول هذا الجزء وهو الجزء السابع من القول في
الحيوان في إحساس أجناسها المجعولة فيها وفي معارفها المطبوعة عليها وفي أعاجيب ما
رُكِّبَتْ عليه من الدَّفع عن أنفُسها والتقدُّم فيما يُحيِيها
وفي
تحسُّسها عواقبَ أمورها وكلِّ ما خوِّفت من حوادث المكروه عليها بقدر ما ينوبُها
من الآفات ويعتريها من الحادِثات وأنّها تدْرِك ذلك بالطَّبع من غير رَويّة
وبحِسِّ النَّفس من غير فِكرة ليعتبرَ مُعْتَبِرٌ ويفكرُ مفكِّر ولينفي عن نفسه
العُجب ويعرفَ مقدارَه من العجز ونهاية قوَّته ومبلغَ نفاذِ بصرِهِ وأنه مخلوق
مدبَّر ومصرّف وميسَّر وأنَّ الأعجمَ من أجناس الحيوان والأخرسَ من تلك الأشكال
يبلغ في تدبير معيشته ومصلحةِ شأنهِ وفي كلِّ ما هو بسبيله ما لا يبلغه ذو
الرَّويَّة التامّة والمنطقِ البليغِ وأنَّ منها ما يكون ألْطفَ مَدخلاً وأدقَّ
مسلكاً وأصنَعَ كَفّاً وأجودَ حنجرة وأطبَعَ على الأصوات الموزونة وأقْوَم في حفظ
ما يُعيشُه طريقةً إلاَّ أنّ ذلك منها مفرَّق غيرُ مجموع ومنقطعٌ غير منظوم .
والإنسان ذو العقل والاستطاعة والتصرُّف والرويّة إذا
علم علماً غامضاً وأدركَ معنًى خفياً لم يكَدْ يمتنع عليه ما دونه إذا قاس بعض
أَمْرِهِ على بعض .
وأجناس الحيوانِ قد يعلَّم بعضُها علماً ويصنع بكفِّه
صنعةً يفوقُ بها الناس ولا يهتدي إلى ما هو دون ذلك بطبعٍ ولا رويّة وعلى أنّ الذي
عجز عنه في تقدير العقول دون الذي قَدَرَ عليه .
وأنا ذاكرٌ إن شاء اللّه ما جاء في الفيلة من عجيب
التركيب وغريب التأليف والمعارف الصَّحيحة والأحاسيس اللطيفة وفي قَبولها
التّثقيفَ والتّأديب وسرعتها إلى التلقين والتّقويم وما في أبدانها من الأعضاء
الكريمة والأجزاء الشريفة وكم مقدارُ منافِعها ومبلغُ مضارِّها )
وبكم فَضَلَتْ أجناسَ الحيوان وفاقَتْ تلكَ الأجناسَ .
وما جعل اللّه تعالي فيها من الآيات والبرهانات
والعلامات النيِّرات التي جَلاها لعُيون خلْقه وعرَّف بينها وبين عُقول عباده
وقيَّدَها عليهم وحفِظَها لهم ليكثِّر لهم من الأدلة ويزيدَهم في وضوح الحُجَّة
ويسخِّرَهم لتمام النِّعمة والذي ذكرها اللّه به في الكتاب الناطق والخبر الصادق
وما في الآثار المعروفة والأمثال المضروبة والتجارب الصحيحة .
وما قالت فيها الشعراء ونطقَتْ به الخطباء وميَّزتْه
العلماء وعجّبت منه الحكماء وحالهِا عند الملوك وموضع نفعِها في الحروب ومهابتها
في العيون وجَلالتها في الصُّدور وفي طُول أعمارها وقوّة أبداِنها وفي اعتزامها
وتصميمها وأحْقادها وشدَّة اكتراثها وطلبها بطوائلها وارتفاعها عن مِلْك السُّقّاط
والحشْوة وعن اقتناءِ الأنذال والسِّفِلة وعن ارتخاصها في الثمن وارتباطها على
الخَسْف وابتذالها وإذالتها وعن امتناع طبائعها وتمنُّع غرائزها أن تَصْلُحَ
أبدانُها وتَنْبُتَ أنيابُها وتعظُمَ جوارحُها وتتسافدَ
وتتلاقَحَ
إلاّ في معادنها وبلادها وفي منابتها ومَغارس أعراقها مع التماس الملوك ذلك منها
حتى أعجَزت الحِيل وخرجَتْ مِنْ حدِّ الطَّمَع وعن الإخبار عن حملها ووضعِها
ومواضع أعضائها والذي خالَفتْ فيه الأشكالَ الأربعةَ التي تُحيط بالجميع مما
ينْساح أو يعوم أو يمشي أو يطير وجميعِ ما ينتقل عن أوَّليَّةِ خَلقه وما يبقى على
الطّبائع الأُوَل من صُورته وعَمّا يتنازَعُه من شِبه الحيوان أو ما يخالِفُ فيه
جميعَ الحيوان وعن القول في شدَّة قلبه وأسْرِه وفي جرأته على ما هو أعظمُ بدَناً
وأشدُّ كلَباً وأحدُّ أظفاراً وعن الإخبار عن خصاله المذمومة وأموره المحمودة وعن
القول في لَوْنه وجِلده وشعره ولحمه وشحمه وعظمه وبَوْله ونَجْوه وعن لسانه وفمه
وعن أذنه وعينه وعن خرطومه وغُرموله وعن مَقاتِلهِ وموضع سلاحه وعن أدوائه ودوائه
وعن القول في أنيابه وسائر أسنانه وسائر عظامه وفرْقِ ما بين عِظامه وعظام غيره
وعن مَوَاضع عجزه وقوّته والقَوْل في ألبانها وضُروعها وعدد أخْلافها وأماكن ذلك
منها وعن سياحتها ومشْيها وحُضْرها وسْرعتها وخِفَّة وطئها ولين ظهورها وإلذاذ
راكبها وعن ثباتِ خُفِّها في الوَحل والرَّمل وفي الحدَر والصَّعْداء وعن أمْن
راكبها من العِثار .
وكيف حالها عند اهتياجها واغتلامِها وعن سكونها وانقضاء
هَيَجانها عند حملها
وعن
طرَبها وطاعتها لسُوَّاسها وفهمِها لما يُراد منها وكيف حِدّةُ نَظَرها والفَهمُ
الذي يُرَى في طَرْفِها )
مع الوقار والنُّبل والإطراق والسُّكون وَلِمَ اجتمعت
الملوكُ عَرَبُها وعجمُها وأحمرُها وأسودُها على اقتنائها والتزيُّنِ بها والفخر
بكثرة ما تهيَّأ لهم منها حتى صارت عندهم من أكرم الهدايا وأشْرَف الألطاف وحتى صار
اتخاذُها مُرُوءةً وعَتاداً وعُدّة ودليلاً على أنّ مُقْتَنِيَها صاحبُ حرب .
وفي تفضيل خصال الفيل على خصال البعير وفي أيِّ مكانٍ
يكون أنفع في الحرب من الفَرس وأصبَرَ عند القتال من النَّمر وأقْتلَ للأسد من
الجاموس وأكلَبَ من الببر إذا تعرَّم وأشدَّ من الكرْكَدَّنِ إذا اغتلم حتى لا
يبلُغه مقدارُ ما يكون من تماسيح الخُلجان وخيل النِّيل وَعِقبان الهواء وأُسْدِ
الغياض .
قصيدة هاورن مولى الأزد في الفيل وقد جمع هاورنُ مولى
الأزد الذي كان يرُدُّ على الكميت ويفخر بقحطان وكان شاعرَ أهل المُوْلتان ولا
أعرف من شأنه أكثر من
اسمه وصِناعته وقد قال في صفات الفيل أشعاراً كثيرة ذكر فيها كثيراً ممّا قدَّمْنا ذِكرَه فمن ذلك قولُه : ( أليس عجيباً بأنْ خِلقةٌ ** له فِطَنُ الإنْس في جِرْم فيلِ ) وأنشدني هذا البيت صفوانُ بن صفوانَ الأنصاريّ وكان من رُواة داود بن مزيد : ( أليس عجيباً بأنْ خِلقةٌ ** له فِطَنُ الإنس في جِرْمِ فيلِ ) ( وأظرفُ مِنْ قِشَّةٍ زَولة ** بحِلْمٍ يجلُّ عن الخنشَلِيلِ ) ( وأوقصُ مختلفٌ خَلْقُهُ ** طويلُ النُّيُوب قصير النَّصِيلِ ) ( ويلقى العدُوَّ بنابٍ عظيم ** وجَوفٍ رَحيب وصوتٍ ضَئيلِ ) ( وأشبهُ شيءٍ إذا قِسْتَه ** بخنزير بَرٍّ وجاموسِ غِيلِ ) ( ويخضعُ للَّيثِ ليْثِ العَرينِ ** بأنْ ناسَبَ الهِرَّ من رأس مِيلِ ) ( ويعصِفُ بالبَبْر بعد النُّمورِ ** كما تعصف الرِّيحُ بالعندبيلِ )
( وشخصٌ تُرَى ِ يَدُه أنفَه ** فإن وصَلوه بسيفٍ صَقيلِ ) ( وأقبلَ كالطَّوْدِ هادِي الخميسِ ** بِهوْلٍ شديدٍ أمامَ الرَّعِيلِ ) ( ومرَّ يَسِيلُ كَسَيْل الأتيِّ ** بخطوٍ خفيفٍ وجِرْم ثقيلِ ) ( فإن شِمْتَه زادَ في هوله ** شناعةُ أُذْنَينِ في رأسِ غولِ ) ( وقد كنتُ أعدَدْتُ هِرًّا لهُ ** قليلَ التهيُّبِ للزَّندَبيلِ ) ( فلما أَحسَّ به في العَجاح ** أتانَا الإلهُ بفتحٍ جميلِ ) ( فطارَ وَرَاغَمَ فَيَّالَهُ ** بقلبٍ نجيبٍ وجسمٍ نبيلِ ) ( فسبحانَ خالِقهِ وحْدَه ** إلهُ الأنامِ وربُّ الفُيولِ )
احتيال هارون بالهر لهزيمة الفيل
وذكر صفوانُ بن صفوان أنّ هارون هذا خبَّأ معه هرّاً تحت حِضْنِه ومشى بسيفِه إلى الفيل وفي خرطومه السَّيف والفيالونَ يَذْمُرُونه فلما دنا منه رمى بالهرِّ في وجهه فأدَبَرَ هارباً وسنذكر الهرَّ في هذا الشِّعر كما كتبته لك .
استطراد لغوي وأمَّا قوله : بحِلم يَجِلُّ عن الخنْشليل
فقد قال الأنصاريُّ في صفة النَّخل : ( تُليصُ العِشَاءَ بأذنابها ** وفي مَدَر
الأرضِ عنها فُضُولُ ) ( ويشبعها المصُّ مصُّ الثَّرَى ** إذا جاعت الشَّاةُ
والخنْشلِيلُ ) وهذا غير قوله : ( قد علمتْ جاريةٌ عُطبولُ ** أنِّي بنَصْل السيف خنْشلِيلُ )
العندبيل وأما العَندبيل فهو طائرٌ صغيرٌ جدّاً ولذلك قال الشاعر : ( وما كان
يَوْمَ الرِّيح أوَّلَ طائرٍ **
يَرْوحَ كَرَوْحِ العَندبيل إلى الوكْرِ ) لأنَّ الرِّيح
تعصف به من صِغره فهو يعرفُ ذلك من نفسِه فإذا قويت الرِّيح دخلَ جُحْره ويقولون
عندليب وعَندبيل وكلٌّ صواب ولذلك قال هارون :
( سقط : بيت الشعر ) ( ويعصف بالببر بعد النمور ** كما تعصف الريح بالعندبيل ) وسنخبر عن تقرير ما في هذه القصيدة مفرَّقاً إذ لم نقْدِرْ عليه مجموعاً متَّصلاً ولو أمكن ذلك لكان أحسن للكِتاب وأصَحَّ لمعناه وأفهَمَ لمنْ قرَأه . ايدخل في ذكر الفيل . .
وفيه أخلاط من شعر وحديث وغير ذلك
)
قال رؤبةُ في صفة الفيل : ( أَجْرَدُ كالحِصْنِ طويلُ
النَّابَيْنْ ** مُشَرَّفُ اللَّحْيِ صغيرُ الفقْمَيْنْ ) عليه أُذْنَانِ كفضْل
الثَّوْبَيْنْ وأنشد ابنُ الأعرابيّ : ( هو البعوضةُ إنْ كلّفتَه كَرَماً **
والفيل في كلِّ أمرٍ أصلُه لُومُ ) وقال أعرابيٌّ وَوَصَف امرأةً له : لو أكلتْ
فِيلينِ لم تَخْشَ البَشَمْ وقال أعرابيُّ يصف الأكْرِياء :
( لو تركبُ البُختِيَّ مِيلاً لاَنْحَطم ** أو تركبُ الفِيلَ بها الفيلُ رَزَمْ ) ( أأرْكبُ شيطاناً ومِسْخاً وهَضبْةً ** إلا إنّ رأيي قبل ذاك مُضلَّلُ ) فقالوا له : لو علوتَه ما كانَ عندَك إلاّ كالبغْل فلما علاه صاحَ : الأرضَ الأرضَ فلما خافوا أنْ يرْمِي بنفسه وهو شيخٌ كبير أنزلوهُ فقال بعد ذلك في كلمة له : ( وما كان تحتي يومَ ذلك بَغْلةٌ ** ولكِنَّ جُلْباً مِنْ رَفِيع السَّحائبِ ) وقال بعض المتحدِثين والمملِّحين في بعض النساء : ( أرادت مرّةً بيتاً ** لها فيه تماثيلُ ) ( فلما أبصرْتَ سِتْراً ** لوجهَيْه تهاويلُ ) ( وفيه الفيلُ منقوشاً ** وفي مِشْفَرِهِ طُولُ ) ( قالت : اِنزعُوا الستر ** فلا يأكلْنيَ الفِيلُ )
وقال خلَف
بن خليفةَ الأقطع حين ذكر الأشرافَ الذين يدخلون على ابن هُبيرة : ( وقامتْ قريشٌ
قريشُ البِطاح ** مع العُصَبِ الأوَل الدَّاخِلهْ ) ( يقودهم الفِيلُ
والزَّنْدَبِيلُ ** وَذو الضِّرْسِ والشَّفَةِ المائله ) الفيل والزّنْذَبيل :
أبان والحكم ابنا عبد الملك بن بشر بن مَرْوان وذو الضِّرس : خالد بن سَلَمة المخزومي
الخطيب وهو ذو الشَّفة قتل مع يزيد بن عُمَر ابن هبيرة فيمن قتل .
وقد فَصَل خلف بن خليفة الفيلَ من الزَّنْدَبِيل ولم
يفسِّر وقد اختلفوا في ذلك وسنذكرهُ إذا جرّ سببه إن شاء اللّه تعالى . )
طرائف من اللغات والأخبار في الفيل
الفيلُ المعروف بهذا الاسم ويقال رجلٌ فِيلٌ إذا كان في رأيه فِيَالة والفِيَالة : الخطأ والفساد ويسمُّون أيضاً الرَّجل بفيل منهم فيلٌ
مولى زياد
وحاجبُه وفي أنهار الفرات بالبصرة نهر يقال له فيل بانان وموضعٌ آخر يقال له فِيلان .
وقد يعرض بقدم الإنسان ورَم جاسٍ حتَّى تعظم له قدمُه
وساقُه وصاحبُه لا يبرأ منه ويسمّي ذلك الورمُ داءَ الفيل .
ويسمَّى الرَّجُل بدَغْفَلٍ وهو ولد الفِيل ولا يسمُّونَ
بَزنْدبيل وبعض العرب يقول للذَّكر من الفيلة فِيل وللأُنثى فِيلة كما يقولون أسد
وأسدة وذئب وذئبة ولا يقولون مثل ذلك في ثعلب وضبع وأمورٍ غير ذلك إلاّ أن يكون
اسماً لإنسان .
وبعث رجلٌ من العرب بديلاً مكانَه في بعض البعوث وأنشأ
يقول : ( إذا ما اختَبَّتِ الشَّقْرَاءُ مِيلاً ** فهانَ عَلَيَّ ما لقيَ البَديلُ
) وأنشدنا الأصمعيّ : ( يفرُّون والفيل الجبان كأَنّه ** أزَبُّ خَصِيٌّ نفّرتْه
القَعاقِعُ ) قال سَلَمة بن عَيَّاش : قال لي رؤبة : ما كنت أحب أن أرى في رأيك
فِيالة .
وبالكوفة باب الفيل وبواسط باب الفيل .
ومنهم فِيلُويه وهو أبو حاتم بن فِيلُويه وكان أبو مسلم
ربَّى أبا حاتمٍ حتّى اكتهل وهُما سقَيا أبا مسلم السمّ حتى عُولج بالترياق فأفاق
فقتلهما أبو مسلم بعد ذلك وكانا على شبيهٍ بدين الخُرَّميّة .
ويقولون عنبسة الفيل وهو النحويّ وهو أحد قدماء
النحويِّين الحذّاقَ وهو عنبسةَ بن مَعْدَانَ وكان معدانُ يروض فيلاً لزياد فلما
أَنشَد عنبسةُ بنُ معدانَ هجاءَ جريرٍ للفرزدق قال الفرزدق : ( لقد كان في
مَعْدانَ والفيلِ زاجرٌ ** لغنبسةَ الرَّاوِي عَلَيَّ القصائدا ) فلمَّا تناشَدَ النّاسُ
بعد ذلك هذا الشعر قال عنبسةُ : إنَّما قال الفرزدق : لقد كان في مَعْدانَ
واللُّؤْمِ زاجرٌ فقالوا : إنَّ شيئاً فررتَ منه إلى اللُّؤْم لَنَاهِيكَ به
قُبحاً فعند ذلك سُمِّي عنبسةَ الفيل
.
وغيلان الراجز كان يقال له غيلانُ راكب الفيل كان
الحجّاج بن يوسف ربَّما حَمَلَه على الفيل )
قال أبو عبيدة : حدَّثني يونس قال : لما بنى فِيلٌ مولى
زيادٍ دارَه وحَمَّامَه بالسَّبابجة عمل طعاماً لأصحاب زياد ودعاهم إلى داره
وأدْخلهم
حمَّامَه
فلمَّا خرجوا منه غدَّاهم ثم ركِب وغَبَّر في وجوههم فقال أبو الأسود الدُّؤلي : (
لَعَمْرُ أبيكَ مَا حمّامُ كِسرى ** على الثُّلُثَينِ من حمَّام فيلِ ) وقال
الجارود بن أبي سَبرة : ( وما إرقاصنا خَلْفَ الموالي ** كَسُنّتِنا عَلَى عهدِ
الرسولِ ) وأنشد الأصمعي وغيره : ( خلافاً علينا من فَيالة رأيه ** كما
قيل قبلَ اليومِ خالفْ فَتُذْكَرا
) ويقال للرّجُل إذا عُنّف عند الرأي يراه : لِمَ
تفيِّلُ رأيَكَ وقد فَال رأي فلان
.
وحدَّثنا عبد اللّه بن بكر عن حميد عن أنس قال : قال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لمّا انتهيت إلى السّدْرَة إذا ورَقُها أمثالُ
آذانِ الفِيَلة وإذا ثمَرها أمثالُ القِلال فلما غشِيَها من أمر اللّه ما غشِيها
تحوَّلت ياقوتاً .
وقال صاحب الكيمياء في جرير بن يزيد : ( مهلاً أبا
العبَّاس رِفقاً ولا ** تكنْ خَصيمَ المَعْشَرِ الخُونِ ) ( أنت إذا ما عُدَّ أهلُ
الحِجا ** والحِلْمِ كالأحنف في سينِ
)
الفرخ
والفروج وكلُّ طائرٍ يخرج من البيض وكلُّ ولدٍ يخرج من البيض وإن لم يكن طائراً
فإنما يسمَّى فرخاً كفرخ الحمام والوزغة والعظاءَة والرقُ والسُّلحفاءِ والحُكَاء
وبنات النَّقا وشحمة الأرض والضب والحِرْذون والورل والحرباء إلا ما يخرج من بيض
الدجاج فإنه يقال له فرّوج ولا يقال له فرخ إلا أنَّ الشعراءَ يتوسَّعون في ذلك
قال شَّماخ بن أبي شداد : ( ألا مَن مبلغٌ خاقان عَنَّا ** تأمَّلْ حين يضرِبُك
الشِّتاءُ ) ( أتجعلُ في عيالك من صغيرٍ ** ومن شيخِ أضَرَّ به الفَنَاءُ ) (
فراخَ دجاجةٍ يتبعن ديكاً ** يلُذْنَ به إذا حَمِسَ الوغاءُ )
وقال الآخر : ( أحبُّ إلينا من فراخ دجاجة ** ومن ديك أنباط تنوسُ غَباغبهْ )
وإذا سمَّي أهل البصرة إنساناً بغيل فأرادوا تصغيره
قالوا فِيلويه كما يجعلون عمراً عَمرويه ومحمداً حمدويه .
وكان محمد بن إبراهيم الرّافقي الفارسُ النَّجيد قتيل
نصر بن شَبث مولى بني نصر بن معاوية له كنيتان : أبو الفيل وأبو جعفر ولم يكن
بالجزيرة أفْرَسُ من داود بن عيسى وأبي الفيل وعيسى بن منصور من ساكني الرافقة .
حمل الفيل وعمره
وذَكرَ
بعضُ الفيَّالين أنّ الفِيَلة تضعُ لِسبع سنينَ ولداً مستويَ الأسنان وأنهم يرصدون
ذلك الوقتَ من الوحشية منها ويحتالون في أخذ الولد وأن ذلك الولدَ يعيش في أيديهم
ما بين الثمانين سنةً إلى المائة وأنّ عُمر الوحشية أطولُ .
وأنّ كلَّ شيءٍ منها اليومَ بالعَسْكر إناث وأَنّ الموتَ
بالعراق إلى الذُّكورة أسرعْ وأنَّ نابَه لا يطول عندنا وأنَّهم يَعْملون من
جلودها التِّرَسَة أجودَ من جلود الجواميس ومن الخيزُران ومن الدّرق والحَجَف التي
تتخذ من جلود الإبل ومن هذه المعقَّبة المطليَّة ومن جميع ما يؤلَّف من أنواع
الخشَب والجلودِ التي قد أُطيل إنقاعها في اللَّبن ومن كلِّ تُبَّتيّ وصينيّ .
مروج الفيلة
وذكر أن لها مُروجاً وأن المروج أصلحُ لها من القرى ومواضِعَهَا من الوحش أصلحُ لها من المُروج .
فهم الفيل
وذكر رسولٌ ُ لي إلى سائسها أنه قد اتّبعها إلى دجلة
وأنّ بعض الغَوغاء صاح بها : يا حجَّام بابَك وهذا الكلام اليومَ ظاهرٌ على ألسنة
الجهَّال وأن فيلاً منها ركلَه برجله رَكلةً صكَّ بها الحائط حَتَّى خيف عليه منها
وأنه رأى منها الإنكارَ لذلك القول وأنَّ الفيّالَ كان يحثُّها على الانتقام
لَمَّا صاحَ بها .
وإذا عرفَ الكلبُ اسمه وكذلك السنّور وكذلك الشّاة
والفرس والطفل والمجنون المصْمَت الجنون وعرفت النّاقةُ فصْل ما بين حَلْ وجاهِ
وعرَف الحمارُ الصَّوتَ الذي يُلْتَمَسُ به وقوفُه والذي يلتمس به سيُره وعرف
الكلبُ مخاطبةَ الكلاَّب والبَبْغاءِ مناغاةَ المُكَلِّم له فجائزٌ أن يكون الفيلُ
بفضل فِطنته أنْ يفهم أضعافَ ذلك فإذا أمروه بضرب إنسانٍ عند ضربٍ من الكلام
استعاد ذلك وأدامَه لم ينكر أنْ يعرفَه على طول الترداد .
فائدة نجو الفيل
قالوا : وإذا احتملت المرأة شيئاً من نَجْو الفيل بعد أن يُخْلَطَ به شيءٌ من عسَل فإنها لا تَحبَل أبداً .
قالوا : ومما يؤكِّد ذلك أنّك لو علّقتَ على شجرةٍ من
نَجْوه شيئاً إنَّ تلك الشجرةَ لا تحمِلُ في قالوا : وزواني الهند يفعلن ذلك
استبقاءً للطّراء وللشّباب ولأنها إذا كانت موقوفةً على جميع الأجناس من الرِّجال
كانت أسرَعَ إلى الحبَل لأنها لا تعدَم موافقاً لطبعها وإذا حملت ووضعت مراراً
بطلت .
ضروب من الدواء وليس هذا بعجيب لأنهم يزعمون أنَّ صاحب
الحصاة إذا أَخذَ روثَ الحمار حين يَرُوثه حارّاً فعصرهَ وشرِب ماءَه أنه كثيراً
ما يبول تلك الحصاة وفي ماء روثِ الحمارِ أيضاً دواءٌ للضِّرس المأكول .
وقال الأصمعيّ : سألتُ بعضَ الأكلة ممن كان يقدَّم على
مَيْسرة التَّرَّاس : كيف تصنعُ إذا جَهَدتك الكِظَّة والعرب تقول : إذاً كنت بطيناً
فعدِّلْ نفسَك زَمناً فقال : آخذ روْثَ حمار حارّاً )
فأعصرْه وأشرب ماءه فأختلف عنه مراراً فلا أثبت أنْ
يلْحَقَ بطني بصُلْبي فأشتَهي الطّعامَ
.
والمرأة من نسائنا اليومَ إذا استُحِيضَت استفَّتْ
مثقالاً من الإثمد لأنها عندهن إذا فعلت ذلك لم تَلِد .
وأنا رأيتُ امرأة قد فعلتْ ذلك ثم ولدت .
وخُرء الكلب إذا كان الجعرُ أبيضَ اللَّوْن وكان غذاءُ
الكلب العظامَ دون اللحم فهو عجيبٌ وخرء الفار يكون شِيافاً للصِّبيان يحملونه إذا
استوكى بطنُ أحدهم وإن كان من خرء الجرذان وكان عظيماً كان الواحد منه هو الشِّياف
.
ويصلح أيضاً خُرْء الفار لداء الثَّعلب وهو القَرَع الذي
يعرض لشَعر الرَّأس .
وخرء الحمام الأحمر يصلحُ من المَبْوَلات للرَّمْل
والحصَى يُقمَحُ منه وزن درهم مع مثله من الدَّارصيني .
شعر في الفيل
وقال بعض المُحْدَثين : ( يا لحيةً طالت على نَوكها ** كأنها لحيةُ جِبريلِ )
( لوْ كانَ ما ينصَبُّ من مائها ** نَهْراً إذا طمَّ على النِّيلِ ) ( أو كان ما يقطر من دهنها ** كَيْلاً لَوَفَّى ألفَ قِنديلِ ) ( فلو ترَاها وهي قد سُرّحَتْ ** حسبْتَها بَنداً على فيلِ ) وأنشد أبو عمرو الشيبانيّ لبعض المولّدين : ( إذا تلاقَى الفُيولُ وازدحَمتْ ** فكيفَ حالُ البَعوضِ في الوَسَطِ ) ( وما الفِيلُ أحمِلُه مُوقَرا ** رَصاصاً بأثْقَلَ من معْبَد ) ( ولا قِرْمليٌّ عليه الغَبيطُ ** ينوء بِعِدْلَين من إثمِدِ ) ( وجاموسةٍ أُوقِرَتْ زِئبقاً ** بأثْقَلَ منه ولا أنْكَدِ ) وقال آخر : ( بابٌ يرى ليس له داخلٌ ** إلاّ خِراً جُمِّع في الزَّاويهْ ) ( إن جئت فالفيلُ على هامتي ** ومثله نِيطَ بأوصالِيهْ ) ووصف مرَّة بن مَحْكَان قِدراً فقال : )
( تَرمي الصُّلاةَ بنبْلٍ غير طائشةٍ ** وَفْقاً إذا آنست من تَحِتها لهبا ) ( زيَّافة مثل جوفُ الفِيل مُجفَرة ** لو يُقذَف الرَّأْلُ في حيزومها ذَهَبا ) وقال بعض الأكرِياء في امرأة كان حَملَها : ( بيضاء من رُفقةِ عِمْرَانَ الأصمّ ** لا ثَعلٌ في سِنَّها ولا قَصَمْ ) ( بَهْكنَة لو تركب الفيلَ رَزَمْ ** كأنَّها يوم تُوافي بالحرمْ ) غمَامَةٌ غرَّاءُ عَنْ غِبِّ رِهَمْ وقال رؤبةُ بن العجَّاج :
( سقط : بيت الشعر ) ( إن الردافى والكرى الأرقبا ** يكفيك درء الفيل حتى تركبا ) ثم قال : ( يشقى بي الغيرانُ حَتّى أُحْسَبا ** سِيداً مُغِيراً أو لياحاً مُغْرَبا )
ما ورد في شأن الفيل من الأمثال في كليلة ودمنة
ومما قرأه الناسُ من الأمثال في شأن الفيل التي وجدوها في كتاب كليلة ودمنة فمن ذلك قوله : أفَلاَ تَرَى أنَّ الكلب يُبصبصُ بذنبَه مِراراً حتى تُلقَى له الكِسرة وإنّ الفيلَ المغتِلم لَيعرِف قوّتَه وفضله فإذا قُدِّمَ إليه عَلَفه مُكَرّماً لم يأكلْ حتى يُمَسح ويُتملّق .
قال : وقيل في أعماله ثلاثة لا يستطيعها أحدٌ إلا
بمعونةٍ من ارتفاع هِمة وعظيم خطر منها عملُ السلطان وتجارة البحر ومناجزة العدوّ
وقالت العلماء في الرَّجُل الفاضل الرشيد : إنّه لا ينبغي أن يُرَى إلا في مكانَين
ولا يليق به غيرهما إمَّا مع الملوك مُكرَّماً وإمَّا مع النُّسَّاك متبتِّلاً
كالفيل إنما بهاؤه وجماله في مكانَين : إمَّا في برّية وحشيّاً وإما مَرْكَباً
للمُلوك .
قال : وقد قيل في أشياء ثلاثةٍ فضْلُ ما بينها متفاوِت :
فضل المقاتل على المُقاتل وفضل الفيلِ على الفيلِ وفضل العالم على العالم .
وقال في كلام آخر : فإن لم تنجَع الحيلة فهو إذاً
القَدَرُ الذي لا يُدفع فإنَّ القدرَ هو الذي يسلب الأسَدَ قوَّتَه حَتى يُدْخِله
التَّابُوت وهو الذي يَحمِل الرَّجُل الضَّعيف على ظهر الفيل المغتلِم وهو الذي
يسلِّط الحوّاء على الحَيَّة ذات الحُمَة فينزِعُ حمتَها ويلعبُ بها .
قال :
ومَن لم يرضَ من الدُّنيا بالكفَاف الذي يُغْنيه وطمحت
عيناه إلى ما فوق ذلك ولم ينظر إلى ما يتخوّف أمامه كان مثله مثل الذباب الذي ليس
يرضى بالشجر والرياحين حتى يطلب الماء الذي يسيل من أذن الفيل المغتلم فيضربه
بأُذنهِ فيهلك . )
وقال : فأقام الجملُ مع الأسد حَتى إذا كان ذاتَ يوم
توجّه الأسد نحو الصيد فلقيَه فيلٌ فقاتلَه قتالاً شديداً وأفلَتَ الأسد مُثْقَلاً
يسيل دماً قد جرحه الفيل بأنيابه فكان لايستطيع أن يطلُبَ صيداً فلبث الذئبُ
والغرابُ وابن آوى أياماً لا يجدون ما يعيشون به من فضول الأسد .
وقال : وكيف يرجو إخوانُك عندك وفاءً وكرَماً وأنتَ قد
صَنَعت بملكك الذي كَرَّمك وشَرَّفك ما صَنعتَ بل مَثلُك في ذلك كما قال التاجر :
إنَّ أرضاً يأكلُ جُِرذانها مائة مَنٍّ من حديد غيرُ مستنكَر أن تخطِف بُزاتها
الفِيَلة .
قال : وقال الجرذُ للغراب : أشد العداوةِ عداوة الجوهر
وعداوةُ الجوهر عداوتان منها عداوة متجازَية كعداوة الفيل والأسد فإنّه ربَّما قتل
الفيلُ الأسد وربَّما قتل الأسدُ الفيل ومنها عداوة إنما ضرَرُها من أحد الجانبين
على الآخر كعداوة ما بيني وبين السنّور فإنّ العداوة بيننا وقال : إن الكريم إذا
عَثَر لم يستعنْ إلا بالكريم كالفيل إذا وَحِل لم يستخرجْه إلا الفيلة .
ضروب العداوات وسنذكرُ عداوة الشيطان للإنسانِ والإنسان
للشَّيطان وهما عداوتان مختلفتان وعداوة اللّه للكافر وعداوة الكافر للّه وهاتان
العداوتان غير تينك وهما في أنفسهما مختلفتان وهما والتي قبلها مخالفة لعداوة
العقرب للإنسان وعداوةُ العقرب مخالفةٌ لعداوة الحيَّة وعداوة الإنسان لهما مخالفة
لعداوة كلٍّ منهما للإنسان وعداوة الذئب والأسد
والأسد
والإنسان خلاف عداوة العقرب والحية وعداوة النمر للأسد والأسد للنمر مخالفةٌ لجميع
ما وصفنا ومسالمة البَبر للأسد غير مسالمة الخنفساء والعقرب وشأن الحيات والوزغِ
خلافُ شأنِ الخنافس والعقارب وعداوة الإنسان خلافُ عداوة ذلك كلِّه وابن عِرْس
أشدُّ عداوة للجُرذان من السنَّور وعداوةُ البعير للبعير والبرذون للبرذون والحمار
للحمار شكل واحد وعداوة الذِّئب خلاف ذلك والشَّاةُ أشدُّ فَرَقاً منه منها من
الأسد والنمر والببر وهي أقوى عليها من الذِّئب وفَرَق الدَّجاج من ابن آوى أشدُّ
من فَرَقها من الثَّعلب والحمام أشدُّ فرَقاً من الشاهين منه من الصَّقر والبازي .
عداوات الناس وأسباب عداوات النَّاس ضروبٌ : منها
المشاكلة في الصناعة ومنها التقارُب في الجِوار ومنها التقارب في النَّسب والكثرة
مِن أسباب التّقاطع في العشيرة والقبيلة والسَّاكن عدو للمُسْكِن والفقير عدوٌّ
للغني وكذلك الماشي والراكب وكذلك الفحل والخصيّ و بَغْضاء السُّوَق موصولةٌ )
بالملوك وكذلك المعتق عن دُبُر والموصَى له بالمال
الرغيب وكذلك الوارث والموروث ولجميع هذا تفسيرٌ ولكنه يطول .
عداوات الحيوان وذكر صاحب المنطق عداوةَ الغرابِ للحمار
والنَّحويون ينشدون في ذلك قولَ الشَّاعر : ( عاديتنَا لا زِلْتَ في تَبابِ ** عَدَاوَةَ
الْحِمارِ للغُرَابِ ) ولا أدري من أينَ وقعَ هذا إليهم .
وذكر أيضاً عداوة البُوم للغراب وكذلك عصفور الشَّوك
للحمار وفي هذا كلامٌ كثيرٌ قد ذكرنا بعضه في أوَّل كتابنا هذا من الحيوان .
رجع إلى الأمثال في كليلة ودمنة ثم رجعنا إلى الإخبار عن
الأمثال .
قال : وأكيس الأقوام مَن لا يلتمس الأمرِ بالقتال ما وجد
عن القِتال مذْهباً فإن القتال إنما النفقة فيه من الأنفس
وسائر
الأشياء إنما النَّفقة فيها من الأموال فلا يكوننَّ قتال البوم من رأيك فإنّ قال :
فأجابه الجرذ فقال : إنّه رُبَّ عداوةٍ باطنةٍ ظاهرُها صداقة وهي أشدُّ ضَرَراً من
العداوة الظاهرة ومن لم يَحترسْ منها وقعَ موقِعَ الرَّجُلِ الذي يَركب نابَ الفيل
المغْتَلِم ثمَّ يغلبُه النُّعاس .
قال : واعلم أَنَّ كثيراً من العَدوّ لا يستطاع بالشدَّة
والمكابرة حتى يُصادَ بالرِّفق والملاينة كما يصاد الفيل الوحشيُّ بالفيل الأهليّ .
وقال : إنّ العُشب كما رأيتَ في اللِّينِ والضَّعف وقد
يُجْمَعُ منه الكثيرُ فيصنع منه الحبلُ القويُّ الذي يوثق به الفيل المغتلم .
قال : وقالوا : نريد أحبَّ بَنيك إليك وأكرمهم عليك
ونريد كالَ الكاتبَ صاحبَ سرِّك والسيف الذي لا يوجد مثله والفيلَ الأبيضَ الذي لا تلحقه الخيلُ الذي هو مَركبكَ في القتال ونريد الفيلين العظيمين اللذين يكونان مع الفيل الذَّكَر .
الفيلة في الحروب
وقد سمعنا في هذا الحديثِ والإخبار عن أيام القادسيَّة ويوم جسر مِهْرَان وقُسِّ النَّاطف وجَلولاء ويوم نَهاونَد بالفيل الأبقع والفيل الأسود والفيل الأبيض والناس لم يَرَوْا بالعراق فِيلاً أوبَرَ ولا فيلاً أشْعَرَ .
الفيلة
المستأنسة
والفيلة التي كانت مع الفرس حُكمُها حكمُ الفِيَلة التي
كانت عند أمير المؤمنين المنصور وعند سائر الخلفاءِ من بَعدِه وكلها جُردٌ
مُغَضّبة ولم نلْقَ أحداً رآها وحشيَّةً قبل أن تصير في القُرَى والمواضع التي
يذكرها .
تبدل حال الحيوان إذا أخرج من موطنه وقد علمنا أنّ
الطائر الصَّيود من الجوارح لو أقام في بلاده مائة عام لم يحدُثْ لمنسره زوائد
وعَيْرَ العانة إذا أقام في غيرِ بلاده احتاجَ إلى الأخذ من حافره و إلى أن
يُخْتَلَف به إلى البَيطار والطائر الوحشيّ من هذه المغنِّيات والنوائح لو أقام
عندنا دهراً طويلاً لم يُصوِّتْ إذا أخذناه وقد كُرِّز وكذلك المزاوجة والتعشيش
والتَّفريخ .
التكاثر بالفيلة
قال : وكلُّ مَلكٍ كان يصلُ إلى أن تكون عنده فِى َلة فإنّه كان لا يَدَعُ الاستكثار منها والتجمل بها والتَّهويل بمكانها عنده ولا يَدَعُ ركوبَها في الحروب وفي الأعياد وفي يوم الزِّينة .
الفيل في الشعر
وقد كانت عند حِمير والتبابعة والمقَاول والعباهلة من ملوكهم وأبي اليكسوم من ملوك الحبشة وعند ملوك سبأ مقرَّبة مكرَّمة يدلّ على ذلك الأشعارُ المعروفة والأخبار الصحيحة ألا ترى أن الأعشى ذكر مأرِب وملوك سَبأ وسَيلَ العرِم فقال :
( ففي ذاك للمؤتسي أُسْوَةٌ ** ومأرِبُ عَفَّى عليها العَرِمْ ) ( رخَامٌ بنَتْه له حِمْيَرٌ ** إذا جاء ماؤُهُمُ لم يَرِمْ ) ( فأروى الحروثَ وأعنابَها ** على ساعة ماؤهم قد قُسِمْ ) ( وطار الفُيُولُ وفَيَّالُها ** بتَيْهَاءَ فيها سَرابٌ يَطمّ ) وكان الأقيبِل القينيّ مع الحجاج يقاتل ابنَ الزُّبير فلما رأى البيتَ يُرْمَى بالمنجنيق أنشأ يقول : ( ولم أَرَ جَيْشاً غُرَّ بالحجِّ قبلنا ** ولم أرَ جيْشاً مِثْلَنَا كلُّهم خرسُ ) ( دَلَفْنَا لِبَيْتِ اللّهِ نَرْمِي سُتُورَه ** بأحجارِنَا نَهْبَ الولائد للعُرْسِ ) ( دَلَفْنَا لهمْ يَوْمَ الثلاثاءِ مِنْ مِنًى ** بجيش كصَدْرِ الفيلِ ليس له رأسُ ) فلما فزِعَ وعاذ بقبر مروان وكتبَ له عبدُ الملك كتابا إلى الحجَّاج يخبره فيه وفوَّض الأمرَ إليه قال :
( وقد علمتُ لو انَّ الْعِلْمَ يَنْفَعُني ** أَنَّ انْطِلاَقِي إلى الحجَّاج تغريرُ ) ( مُستَحْقِباً صُحُفاً تَدْمَى طَوَابعُها ** وفي الصَّحائِفِ حَيَّاتٌ مَناكيرُ )
لسان الفيل
وكلُّ
حيوانٍ في الأرض ذو لسانٍ فأصْلُ لسانِه إلى داخل وطرفه إلى خارج إلاّ الفيل فإنّ
طَرَف لسانه إلى داخل وأصله إلى خارج .
بعض خصائص الحيوان وتقول الهند : إنّ لسان الفيل مقلوب
ولولا أنّه مقلوب ثمَّ لقن الكلامَ لتكلم .
وكلُّ سمكٍ يكون في الماء العذْب فإنّ له لساناً
ودِماغاً إلاّ ما كان منها في الماء الملح فإنّه ليس لسمك البحر لسانٌ ولا دِماغ .
وكلُّ شيءٍ يأكل بالمضغ دون الابتلاع فإنّه إنما يحرِّك
فكه الأسفلَ إلاّ التمساح فإنَّه إنّما يحرِّك فكّه الأعلى .
وكلُّ ذي عينٍ من ذوات الأربع من السِّباع والبهائم
الوحشية والأهلية فإنما الأشفار لجفونها الأعالي إلاّ الإنسان فإنّ الأشفار
للأعالي والأسافل .
وكلُّ حيوانٍ ذي صَدْرٍ فإنَّه ضيِّق الصَّدْر إلاّ
الإنسانَ فإنّه واسعُ الصَّدْر
وليس لشيء من ذكورةِ جميع الحيوان وإناثها ثديٌ في صدره إلا الإنسان والفيل وقال ابن مُقبل :
ضخم الفيل وظرفه
والفيل
أضخم الحيوان وهو مع ضِخَمه أملَحُ وأظْرَف وأحْكَى وهو يفوق في ذلك كلَّ خفيفِ
الجسم رشيق الطبيعة .
وإنّما الحكاية من جميع الحيوان في الكلب والقِرد
والدُّبّ والشّاة المكّيّة وليس عند البَبْغاء إلاّ حكايةُ صورِ الأصوات فصار مع
غِلظه وضِخَمه وفخامته أرشقَ مَذهباً وأدقَّ ظرفاً وأظهَرَ طرَباً وهذا من أعجب
العَجَب وما ظنُّكم بِعِظَم خَلْقٍ ربّما كان في نَابَيْهِ أكثر من ثلاثمائة مَنّ
أعظم الحيوان في قول المتعصبين على الفيل
فقال من يعارضهُم : قد أجمعوا على أنّ أعظمَ الحيوان خَلْقاً السمكةُ والسرَطان وحكَوْا عن عِظَم بعض الحيَّات حتى ألحقوه بهما وأكثروا في تعظيم شأن التّنّين فليس لكم أنْ تَدَّعُوا للفِيل ما ادّعيتم .
رد صاحب الفيل على خصمه
قال صاحبُ
الهند والمعبِّرُ عن خصال الفيل : أمَّا الفيل وعلوّ سَمْكه وعِظم جُفْرته
واتِّساع صَهْوَته وطولُ خُرطومه وسعَةُ أذنه وكِبر غُرموله مع خِفّة وطئه وطول
عُمره وثقل حمله وقلة اكتراثهِ لِما وُضع على ظهره فقد عايَنَ ذلك من الجماعات مَن
لا يستطيعُ الردَّ عليها إلاّ جاهلٌ أو مُعاند وأمَّا ما ادّعيتم من عِظَم الحيَّة
وأنّا متى مسَحْنا طولَها وثخنها وأخذْنا وَزْنَها كانت أكثرَ من الفيل فإنّا لم
نَسْمَعْ هذا إلا في أحاديث الرقّائين وأكاذيب الحوّائين وتزيُّد البحريِّين .
وأما التنِّين فإنّما سبيلُ الإيمان به سبيلُ الإيمان
بِعَنْقَاءِ مُغْرِب وما رأيتُ مجلِساً قطُّ جَرَى فيه ذكر التنِّين إلاَّ وهم
ينكرونه
ويكذِّبون
المُخبِر عنه إلاّ أنا في الفَرْط ربَّما رأينا بعضَ الشاميِّين يزعمُ أنَّ
التِّنِّين إعصارٌ فيه نار يخرج من قِبَل البحر في بعض الزَّمان فلا يمرُّ بشيءٍ
إلاَّ أحرَقه فسمَّى ذلك ناسٌ التِّنّين ثمَّ جعَلوه في صورة حيّة .
وأما السَّرَطان فلم نرَ أحداً قط ذكرَ أنَّه عايَنَه
فإنْ كنَّا إلى قول بعض البحريِّين نرجع فقد زَعَم هؤلاء أنَّهم ربما قَرُبوا إلى
بعض جزائر البحر وفيها الغِياض والأَودية واللَّخَاقيق وأنَّهمْ في بعض ذلك
أوقدُوا ناراً عظيمة فلما وصلَتْ إلى ظهر السرطان هَاجَ بهم وبكلِّ ما عليه من
النَّبات حتَّى لم ينْجُ منهم إلا الشريد . )
وهذا الحديثُ قد طمَّ على الخرافات والتُّرَّهات وحديث
الخَلْوَة .
وأمّا السَّمك فلعمري إنَّ السمكة التي يقال لها البالُ
لفاحشةَ العظم وقد عاينوا ذلك عياناً وقتلوه يقيناً ولكن أحَسِبوا أَنَّ
الشَّأن
في البال على ما ذكرتم فهل علمتم أن فيه من الحسِّ والمعرفة واللّقَن والحكاية
والطَّرَبِ وحسن المَواتاة وشدَّة القتال والتمهُّد تحتَ الملوك وغير ذلك من
الخصال كما وجدنا ذلك وأكثر منه في الفيل .
وهل رغبتْ في صيده الملوكُ واحتالت له التجار أو تمنَّى
الظّفَرَ بأجزائه بعض الأطبَّاء وهل يَصلح لدواءٍ أو غذاءٍ أو لبْس إنّما غاية
البحريِّين أنْ يسلَمُوا من عبثه إن هجموا عليه نائماً أو غافلاً حتّى ينفر ويفزع
وينبّه بقَرْع العصا واصطكاك الخشب
.
وإنما قَدَّمْنا خصالَ الفيل على خِصال الحيوان الذي في
كفِّه ومنقاره الصنعةُ العجيبة أو يَكون فيه من طريف المعرفة وغريب الحس وثقوب
البصر أَو بعض ما فيه من الجمال والحُسْن ومن التفاريج ومن التَّحاسين والوشي
والتلاوين بالتأليف العجيب والتَّنضيد
الغريب أو
بعض ما في حنجرته من الأصوات الملحَّنة والمخارج الموزونة والأغاني الدَّاخلة في
الإيقاع الخارجة من سبيل الخطأ ممَّا يجمع الطَّرَب والشّجا ومما يفوق النوائح
ويروق كلَّ مغنّ حتى يُضرب بحسن تخريجه وصفاء صوتِه وشجَا مخرَجه المثلُ حتى
يشبَّه به صوتُ المزمار والوَتر .
وأما بعض ما يُعرف بالمكر والحِيَل والكَيْس والرَّوغان
وبالفِطنة وبِالخديعة والرِّفق والتكسُّب والعلم بما يُعِيشُه والحذَرِ ممّا
يُعْطِبُه وتأتِّيه لذلك وحِذقه به وأمّا بعضُ ما يكون في طريق الثِّقافة يوم
الثِّقافة والبصر بالمشاولة والصَّبر على المطاولة والعزم والرَّوغان والكرِّ
والجَوَلان ووضْع تلك التدابير في مواضعها حتى لا تردُّ له طعنة ولا تخطئ له وثْبة
وأما بعضُ ما يُعرَف بالنَّظر في العاقبة وبإِحكام شأن المعيشة والأخذ لنفسه
بالثقة وبالتقدُّم في حال المُهْلة والادِّخار ليوم الحاجة والأجناسُ التي تدَّخر
لأنفسها ليوم العجْز عن
الطلب
والتكسُّب فَمِثْلُ الذَّرَّة والنملة والجُرَذ والفأرة وكنحو العنكبوت والنَّحل .
فإذا كان ليس للفيل إلا عِظَمه وإن كان العِظَم قد يدخل
في باب من أبواب المفاخرة فلا ينبغي لأحد أن يُنَاهِد به الأبدانَ التي لها الخصال
الشّريفة ويناضلَ به ذواتِ المفاخر العظيمة فما ظنُّكَ ببدنٍ قد جمع مع العِظَم من
الخصال الشريفة ما يُفنِي الطَّواميرَ الكثيرة ويستغرق الأَجلاد الواسعة وقد علمت
أنَّ مِنْ جَهْلِ هذه السمكة بما يُعِيشُها ويُصْلِحُها أنَّها شديدةُ الطّلب
والشَّهوة )
لأكل العَنبر والعنبرُ أقتَلُ للبال من الدِّفلَى
للدوابّ فإذا أصابوه ميِّتاً استخرجوا من جَوفه عنبراً كثيراً فاسداً .
وما فيه من النفْع إلاّ أنّ دهنَه يصْلُح لتمرينِ سُفن
البحريين .
تعصب غانم الهندي على الفيل
فسمِعنِي غانمٌ العبد يوماً وأنا أحكِي هذا الكلامَ وكان منْ أَمْوَق الناس وأرْقَعهم رَقاعةً مع تِيهِ شَدِيدٍ وعُجْب ورِضاً عن نفسه وسُخط على النَّاس فمِن حُمْقه أنه هنديٌّ وهو يتعصَّب على الفيل فقال لي : ما تقول الهند في الحوت الذي يحمل الأرض أليس أعمَّ نفعاً وأعْلَى أمراً قلت
له : يا هالكُ إنَّ مدارَ هذا
الكلام إنما يقع على الأقسام الأربعة من بين جميع الحيوان المذكورة في الماء وفي
الأرض وفي الهواء كالذي ينساح من أجناس الحيَّات والدِّيدان وكالذي يمشي من
الدوابّ والنَّاس وكالذي يَطير مِن أحرار الطير وبغاثها وخَشاشها وهَمَجها وكالذي
يعوم كالسَّمك وكلِّ ما يعايش السمك
.
فأمَّا الحوت الذي تكون الأرض على ظهره فقد علمْنا أَنَّ
في الملائكة مَن هو أعظمُ من هذا الحوت مراراً ولولا مكانُ مَن قد حَضَرَنا لكان
ممن لا يستأهِلُ الجواب وهذا مقدارُ معرفته .
قوة الفيل
قالوا :
والفيل أقوى مِن جميع الحيوان إنْ حُمِّل الأثْقال ومن قوة عظْمه وعصَبِه أنّه
يمرُّ خلفَ القاعد مع عِظَم بَدَنه فلا يشعر بوطئه ولايُحسُّ بممَرِّه لاحتمال بعض
بدَنه لبعض وهذه أعجوبةٌ أخرى .
وليس في حوامل إناث الحيوان أطولُ مدَّة حبَل من الفيل
والكركَدَّن
فإنه مذكورٌ في هذا الباب والفيلُ يزيد عليه في قول بعضهم .
فأمَّا الهِنْدُ ففتنتُهم بالكركدَّن أشدُّ مِن فِتنتهم
بالفيل .
فأما ما كان دون ذلك من أجناس الحيوان فأطولُها حملاً
الحافر والخفّ ولا يزيدان على السّنَة إلا أن تُسحَب الأنثى وتُجرَّ أيَّاماً
فأمَّا الظِّلف فعلى ضربين فما كان منها من البقر فإنّ مدَّة حَمْلها وحمل النساء
تسعة أشهر وما كان من الغنم فإنّ حملها خمسةُ أشهر .
وقد ذكرنا حال أجناس الحيوان في ذلك فيما سلف من كتابنا
هذا .
صولة الفيل
قالوا :
والفيلة هَوْلُها في العين فاحْذَر أنْ تتخذ ظهورها كالمناظر والمسالح والأرصاد .
وللفيل قتالٌ وضرب بخرطومه وخَبْطٌ بقوائمه وكانت
الأكاسرة ربما قتلت الرَّجلَ بوَطْءِ الفيلة وكانت قد درّبت على ذلك وعُلِّمَتْه
فإذا أَلقوا إليها الرّجل تركت العلَف وقصدَتْ نحوه فداسَتْه ولذلك أنشد
العباس بن يعقوب العامريّ لناهِض بن ثومة العامري قوله : ( أنا الشَّاعرُ الخطَّارُ مِن دون عامرٍ ** وذو الضَّغْم إذْ بعضُ المحامِين ناهشُ ) وأنشد الأصمعي وأبو عمرو لتميم بن مقبل : ( بني عامرٍ ما تأمُرُون بشاعر ** تَخَيَّرَ آياتِ الكتاب هِجائيا ) ( أأعفُو كما يعفُو الكريمُ فإنّني ** أرَى الشَّعب فيما بينَنا متدانِيا ) ( أمَ اخْبِطُ خبْطَ الفيل هامةَ رَأسِه ** بِجَرْدٍ فلا أُبقي مِن الرأس باقيا ) بعض من رمي تحت أرجل الفيلة وكانت الأكاسرة وهي الكُسُور تؤدِّبها وتعوِّدها وطْءَ الناس وخَبْطهم إذا أُلقِيَ تحت قوائمها بعض أهلِ الجنايات فكان ممنْ رُمِيَ
به تحتَ أرجل الفِيَلة النُّعمان بن المنذر وقال في ذلك الشاعر : ) ( إنّ ذا التّاجِ لا أبا لَكَ أضْحَى ** وَذرَى بَيْتِهِ بِجَوْزِ الفُيُولِ ) ( إِنّ كِسْرَى عَدَا على الملك النُّعْ ** مَانِ حَتَّى سقاه أمَّ البَليلِ ) كتاب ملك الصين وذكر الهيثم بن عديٍّ عن أبي يعقوب الثَّقفيّ عن عبد الملك بن عمير قال : رأيت في ديوان معاوية بعد موته كتاباً مِنْ ملك الصين فيه : من ملك الصِّين الذي على مَرْبِطه ألفُ فيل وبُنيت دارُه بلبِن الذهب والفضة والذي تخدمه بناتُ ألفِ ملكٍ والذي له نهرانِ يسقيان الألُوّة إلى قالوا : ولمَّا أراد كِسرى قتلَ زيوشت المغنِّي لقتله فهلبذ المغني وأمر أن يرمى به تحت الفيلة وقال : قتلتَ أحسنَ النّاس غِنَاءً وأجودَهم إمتاعاً للملِك حسداً له فلمّا سحبوه نحوالفيلة التفت إلى كسرى وقال : إذا قتلتُ زيوشت المُغني وقد قتل زيوشت فهلبذ فمن يُطربك فقال كسرى : المدة التي بقيت لك هي التي أنطقَتْكَ خلُّوا سبيله .
تأديب الهند الفيلة
وقال صفوان بن صفوان الأنصاريّ وكان عند داود بن يزيد بالمولتان : الهند تؤدّب الفيلة بأنواع من التّأديب وبضروب من التقويم فمنها آدابُ الحروب حتى ربَّما رَبَطُوا السَّيف الهُذَام الرَّغيب الشَّديد المتن الحديد الغَرْب التّام الطول الطَّويل السِّيلان في طرَف خُرطوم الفيل وعلموه كيف يضرب به قُدُماً يميناً وشمالاً وكيف يرفعُه بخرطومه حتى يكونَ فوقَ رؤوس الفَيَّالين القعودِ على ظهره .
شعر هارون في الفيل
قال : وأنشدني هارون بن فلان المولى مولى الأزد قصيدته التي ذكر فيها خروجَه في الحرب إلى فيلٍ في هذه الصفة فمشَى إليه فلما كان حيثُ ينالُه السَّيفُ وثَبَ وَثْبَةً أعجَلَه بها عن الضَّربة ولصق بصدْر الفيل وتعلّق بأُصول نابَيه وهما عندهم قرناه فجال به الفيلُ
جوْلة كاد يحطِمُه مِن شدَّة ما جال به وكان رجلاً شدِيد الخَلْق رابط الجأش قال : فاعتمدتُ وأنا في تلك الحال وأصولُ الأنياب جُوف فانقلعا من أصلِهما وأدبَرَ الفيلُ وصار القرنان في يَدَيَّ وكانت الهزيمة وغَنِم المسلمون غنائمَ كثيرة وقلت في ذلك : ( مشيتُ إليه وادعاً متمهِّلا ** وقد وصَلُوا خُرطومَه بحُسَامِ ) ( فقلتُ لِنفسي : إنّه الفيلُ ضاربٌ ** بأبيضَ مِن ماءِ الحديد هُذَامِ ) ( فإنْ تَنْكلي عنْه فعذْرُكِ واضحٌ ** لَدَى كلِّ منخُوب الفُؤَادِ عَبامِ ) ( وعندَ شُجاع القومِ أكلفُ فاحمٌ ** كظُلمة لَيْلٍ جُلِّلت بقَتامِ ) ( ولما رأيتُ السيفَ في رأسِ هضبةٍ ** كما لاحَ برقٌ من خلالِ غمامِ ) ( فناهَشْتُه حَتى لَصِقتُ بصدْره ** فلما هوى لازَمْتُ أيَّ لِزامِ ) ( وَعذْتُ بِقَرْنَيْهِ أُرِيدُ لَبَانَهُ ** وذلك مِن عاداتِ كلِّ محامِي ) ( فجَال وهِجِّيراهُ صوتُ مُخَضْرَمٍ ** وَأُبْتُ بقرْنَيْ يَذبُلٍ وشَمامِ ) وقال هارون : ( ولمَّا أتاني أنّهُم يَعقِدُونه ** بقائمِ سَيفٍ فاضِل الطُّول والعَرضِ )
( وحين رأيتُ السَّيفَ يَهْتَزُّ قائِماً ** ويَلمَعُ لَمْعَ الصُّبْح بالبَلَدِ المفْضِي ) ( وصارَ كمِخراقٍ بِكَفِّ حَزَوَّرٍ ** يُصَرِّفه في الرَّفْع طوراً وفي الخَفْضِِ ) ( فأقبلَ يَفْري كلَّ شيءٍ سَما لَهُ ** وصرتُ كأَنِّي فَوقَ مَزْلقَةٍ دَحْضِ ) ( وأهوي لجارِي فاغتنمْتُ ذُهولهُ ** فلاذَ بقرنيه أخو ثقةٍ محضِ ) ( فجال وجَالَ القَرْن في كفِّ ماجدٍ ** كثيرِ مِراسِ الحرب مجتنبِ الخفْضِ ) ( فطاحَ وَوَلّى هارباً لا يَهيده ** رطانةُ هِنديٍّ برفعٍ ولا خفضِ )
نابا الفيل
والهندُ تزعمُ أنّ نابَي الفِيل يخرجان مستبطِنين حتى يخرِقا الحنك ويخرجا أعقَفين وإنما يجعَلهما نابين مَن لا يفهمُ الأمور قالوا : والدَّليل على ذلك أنّ لهما أصلين في موضع مخارج القرون يُوجَد ذلك عند سَلْخ جلده ولأنّ القرن لا يكون إلاّ مصْمت الأعلى مجوَّف الأسفل وكذلك صفةُ هذا الذي يسمِّيه مَن لا علم له ناباً ومع ذلك إنّا لا نجد الفيل يعضّ كعضِّ الأسد للأكل ولا كعضِّ الجمل الصَّؤُول
للقتل ولا
كعضِّ الأفعى لإخراج السمّ ولا تراه يصنع به ويستعمله إلاّ على شبيهٍ بما تستعمله
ذوات القرن عند القِتال والغضب .
فقال لهم بعضُ من يردُّ عليهم : أمَّا قولكم إنّ القرنَ
لا يكون إلاّ مجوَّفَ الأصل فهذا قرنُ الأيِّل مُصمَت من أوَّله إلى آخره وهو ينصل
في كلِّ سنة فإذا نبتَ حديثاً لم يظهَرْ حتى يستحكِم في يُبسه وصَلابته وإذا علم
أنه قد بلغ ذلك ظهَرَ وأكثرُ القُرُونِ الجُوفِ يكون في أجوافها قرونٌ وليس ذلك
لقرن الفِيل .
قالوا : ولم نجد هذا القرنَ في لون القُرون ووجدناه
بسائر أسنانه وأضراسه أشبهَ للبياض واليبس وليس كذلك صفةُ القرون .
وتقول الهند : فم الأيِّل صغير وهو أفقَم ولا يجوز أن
يكون مثلُ ذلك اللَّحي والفكِّ ينبُتُ فيه ومنه نابان يكون فيهما ثلاثمائة مَنّ
وقد رأيتُ قروناً كثيرة الأجناس بِيضاً وبُرْشاً وصُهْباً وهذه أيضاً من أعاجيب
الفيل .
وقرن الكركَدَّن أغلظُ من مقدار ذراع وليس طولُه على قدر
غِلَظه وهو أصلب وأكرم مِن قرني الفيل
.
أعضاء التناسل لدى الحيوان ويقال : إنّ أكبر أُيور
الحيوان أيْر الفيل وأصغَرَها قضيبُ الظبي وقضيب البطّ لا يذكر مع هذه الأشكال
وليس شيءٌ على قَدْره ومقدار جسمه أعظمُ أيراً من البغل .
وقد علمنا أنّ للضب أيرَين وكذلك الحِرذَون
والسَّقَنْقُور وعرفنا مقدارَ ذلك ولكنَّه لا يدخل في هذا الباب لضَعفٍ لا يخفَى .
خرطوم الفيل
ولو لم يكن من أعاجيب الفيل إلاّ خرطومُه الذي هو أنفه وهو يدُه وبه يوصِل الطعامَ والشَّرَابَ إلى جوفه وهو شيءٌ بَيْنَ الغُضروف واللحم والعصبِ وبه يقاتِل ويضرِب ومنه يصيح وليس صياحُه في مقدارِ جرْم بدنه ويضرِبُ به الأرضَ ويرفعِه في السَّماء ويصرِّفه كيف شاء وهو مَقتلٌ من مقاتله والهند تربِط في طرَفه سيفاً شديدَ المتْن فيقاتِلُ به مع ما في ذلك من التهويل على من عايَنه .
سباحة الفيل والجاموس والبعير
وهو مع
عِظم بدَنه جيِّد السِّباحة إلاّ أنه يخرج خرطومه ويرفعُه في الهواء صُعُداً لأنّه
أنفه ألا ترى أنّ الجاموسَ يغيب جميعُ بدنِه في الماء إلاّ منخريه .
والبعير قبيح السِّباحة : لأنه لا يسبح إلاَّ على جنبه
فهو في ذلك بطيءٌ ثقيل والبعير مما يُخايَر بينه وبين الفيل فلذلك ذكرناه .
وقد علمنا أنَّ الإنسان يغرق في الماءِ ما لم يتعلَّم
السِّباحة فأمّا الفَرس الأعسرُ والقِرد فإنَّهما يغرقان البتَّة والعقرب تقُومُ
وسطَ الماءِ لا طافيةً ولا لازقة بالأرض .
أشراف السباع وساداتها وأشراف السِّباع وساداتها وكبارها
ورؤساؤها ثلاثة : الكَرْكدَّن والفِيل والجاموس قال : ولعلَّ بعضَ مَن اعتاد
الاعتراض على الكتب
يقول :
وأينَ الخيل والإبل وفيها من خصال الشَّرَف والمنافع والغَناء في السَّفر والحَضَر
وفي الحرْب والسّلم وفي الزِّينة والبهاء وفي العُدَّة والعتاد ما ليس عند
الكركدَّنِ ولا عندَ الفيل ولا عند الجاموس .
قال القوم : ليس إلى هذا الباب ذَهبْنا ولا إليه قصدنَا
ولا ذلك البابُ ممَّا يجوز أَن نُدخله في هذا الباب ولكنَّا ذَهبْنا إلى المحاماة
والدَّفع عن الأنفس والقتال دون الأولاد وإلى الامتناع من الأضداد بالحيلة اللطيفة
وبالبطش الشديد وليس عند الخيل والإبل إذا صافت الأُسد والنُّمور والبُبُور ما عند
الجاموس والفِيل فأمّا الكركَدَّن فإن كلَّ شيء من الحيوان يقصِّر عن غايته
التقصيرَ الفاحش .
إنكار الكركدن والعنقاء وما أكثر مَن ينكر أن يكون في
الدنيا حيوانٌ يسمّى الكَرْكدَّن ويزعمون أنَّ هذا وعَنْقاءَ مُغْرِِبٍ )
سواء وإنْ كانوا يرون صُورة العَنقاء مصوَّرَةً في بُسُط
الملوك واسمها عندهم بالفارسيَّة سِيمَرْكْ كأنه قال : هو وحدَه ثلاثون طائراً
لأنَّ قولهم بالفارسية سي هو ثلاثون
بالعربية
ومرغ بالفارسيَّة هو الطائر بالعربية والعرب إذا أخبرت عن هلاك شيءٍ وبطلانه قالت
: حلّقت به في الجوِّ عنقاءُ مغرب وفي بعض الحديث : أنّ بعضَ الأمم سألوا نبيَّهم
وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفعل كذا وتفعل كذا أو تلقي في فم العنقاء اللِّجام
وتردَّ اليومَ أمسِ .
شعر في العنقاء قال أبو السّريّ الشُّميطي وهو مَعْدان
المكفوف المديبريّ : ( يا سَمِيّ النبيِّ والصادقَ الوَع ** دِ وَجَدَّ الصبيِّ ذي
الخَلخالِ ) ( صاحب التُّومة التي لم يشِنْها ** بعد حَرْسٍ مَثاقبُ اللآلِ ) (
مَهَدتْه العنقاءُ وهي عقيمٌ ** رُبَّ مهدٍ يكون فوقَ الهلالِ )
( يومَ تُصِغي له النَّعامة
والأحْنا ** شُ طُرّاً لِشدّة الزَّلزالِ ) فأهل هذه النِّحلةُ يثبتون العنقاءَ
ويزعمون أنها عقيم .
وقال زُرارة بن أعْيَن مولى بني أسعد بن همام وهو رئيس
الشميطيَّة وذكر هذا الصبي الذي تكفُله العنقاء فقال : ( ولكنّه ساعَى بأمٍّ وجَدّةٍ ** وقال سَيكفِيني
الشقيقُ المقرّبُ ) ( وآخِرُ برهاناتِه قلبُ يومكم ** وإلجامُه العنقاءَ في العين أعجبُ )
( يَصِيفُ بسَاباطٍ ويشتُو بآمِد
** وذلك سرٌّ لو علمناه معجب ) ( أماعَ له الكِبريتَ
والبحرُ جامدٌ ** ومَلَّكَه الأبراجَ والشَّمْسُ تُجْنَبُ ) ( فيومئذٍ قامت شماط
بقدرها ** وقام عسِيب القفر يُثْني وَيخْطُبُ ) ( وقام صبيٌّ دَرْدَقٌ في قِماطِهِ ** عليهم بأصناف
اللِّسَانَيْنِ مُعْربُ )